«حبيبتي ماما»
أكتب إليك وأنا جالس في شرفة الفندق.. وبحيرة «لوجانو» تحت قدمي، وجبل على يميني وجبل آخر على يساري، وبين أحضاني أشجار رائعة طرز الخريف أوراقها باللون الأحمر والأصفر والأخضر، ولكني في هذه اللحظة لا أرى البحيرة ولا الجبال،ولا الأشجار، ولا الخريف..
أراك أنت وحدكِ، أراكِ في قلبي؛ وأراك في عيني.. أراك جميلة وعظيمة.. أجمل وأعظم من كل ما في أوروبا..
إن الله لم يخلق شيئاً أجمل من أمي، ولا أعظم من أمي..
وكنت أراك جميلة طول عمري.. وما زلت حتى اليوم أراك بضفائر طويلة في لون الذهب، وبشرتك في لون اللبن المخلوط بعصير الورد، وعينيك في لون الربيع تنبضان بالحياة والحنان.. وشفتيك فيهما رحمة وكبرياء.. ورأسك مرفوعاً دائماً.. رأساً أقوى من الشر.. رأس ملاك.. كنت دائماً أراك ملاكاً. ولكني لم أكن مقتنعاً بعظمتك كما أنا مقتنع الآن.. كنت في صباي لا أستطيع أن أقدر لماذا أنت عظيمة؟.. ماذا فعلت حتى تكوني عظيمة.. إنك مشهورة.. وإنك ناجحة.. نجحت في المسرح، ونجحت في الصحافة، ولكن ليس كل المشهورين عظماء.. وليس كل الناجحين عظماء.. فلماذا أنت عظيمة.. ما سر عظمتك؟!
هكذا كنت أتساءل في صباي.. ثم كبرت.. وتوليت العمل.. ودخلت معركة الحياة.. فبدأت عظمتك تتكشف لي.. وعن طريق تجاربي في محيط البشر والعمل وبقدر ما عانيت وتعبت حتى أكون إنساناً ناجحاً.. أستطيع أن أقدر عظمتك وأصل إلى سرها.. وأن الإنسان العظيم هو الذي يستطيع أن ينجح وأن يصل إلى القمة محتفظاً بكبريائه ومبادئه وبساطته.. وهذا هو أنت يا أعظم الناس.. لقد نجحت من دون أن تؤذي أحداً.. ومن دون أن تفقدي طبيعتك السمحة البسيطة.
ما زلت تضحكين كطفلة، وما زلت تتحدثين كصبية لم تنزل بعد إلى زحام الحياة، وما زلت تعاملين الناس في تواضع وسذاجة، كأنك لست صاحبة أعنف معارك سياسية خاضتها الصحافة المصرية.. وما زالت ترضيك الأشياء الصغيرة التي تحمل معاني إنسانية كبيرة.. وردة أو كلمة حلوة وتترفعين عن الأشياء المادية مهما كبرت ما دامت لا تحمل معنى كريماً.
كلما كبرت ازددت اقتناعاً بأني لا أستطيع الاستغناء عنك أبداً في العمل، وأنك لو تركتني وحدي فلن أستطيع أن أفعل شيئاً وهذا الإحساس يجعلني أخاف.. أخاف المستقبل، مستقبلي، فلا تتركيني أبداً.. أرجوك لا تتركيني أبداً.. إنني أعيش وأعمل بأنفاسك وبوجودك..
ماذا أهديك؟
هل تقبلين أن تكون هديتي حديثاً عن نفسي؟!
سأحدثك عن نفسي إذن.. سأحدثك عن ابنك.. لأنني لم أحاول قبل اليوم أن أحدثك عن شيء إلا وقطع حديثنا جرس التليفون أو دخول الأستاذ عارف أو الأستاذ عبدالسلام.
إنك تعتقدين أنني ورثت طباعي وأخلاقي عن والدي.. وهذا ليس صحيحاً للأسف.. فإن أهم ما يميزه هو قناعته ورضاه عن نفسه.. وأنا لست قنوعاً ولا راضياً عن نفسي ولو كنت.. لكنت سعيداً وما تعذبت. أنا شيء آخر.. إنني لا أعرف ماذا أريد.. هل أريد أن أكون سياسياً أم أديباً.. هل أريد أن أكون صاحب عمل أم مجرد كاتب، هل أريد أن أخوض معارك أم أنجو من المعارك وابتعد عنها. أريد أن أكون مليونيراً، أم أريد أن أكون إنساناً بسيطاً لا يحمل هم الملايين، ولأنني لا أعرف ماذا أريد فأنا غير راض عن تصرفاتي التي تتخبط وتتعارض.. ويبدو أثرها في حياتي وعملي وفي معاملة الناس.. والنتيجة أنني لست سعيداً فالسعادة في أن أكون ما أريد. إنني إنسان خجول وهذا الخجل مرده أني أخاف الفشل إلى حد كبير.. إلى حد الجبن، وهذه الطبيعة تبدو في حياتي العامة كلها وفي عملي.. إن في رأسي مشروعات كثيرة كبيرة، ولكني لا أقدم على تنفيذها خوفاً من الفشل.
ولكن هناك شيئاً واحداً يحميني من هذا الضعف وهو أني أعرف تماماً ماذا تريدين أنت.. (كلام غير واضح). ولأني أحب أمي فإنني أفعل ما تريده.. إنها تريد دار روزاليوسف داراً صحافية قوية.. وهذا ما سأفعله وما أقسم عليه، بل هذا هو الخط الوحيد الثابت المستقيم الذي يحدد حياتي وأهدافي.
محتاج إلى أن أقبلك كثيراً.. كثيراً جداً.. محتاج إلى أن أضع رأسي على صدرك وأنام.
أحبك
إحسان
***
في 19/7/1947
ولدي إحسان
قبلاتي لك. سبق أن كتبت لك بعنوانك في باريس، إنني متعبة وأصارحك أنني الآن في حال لا تمكنني من مواصلة العمل في هذا الجو، وهذا الحال الذي يضطرني كثيراً إلى الحضور إلى الإدارة صباحاً ومساءً، كما أن الحالة السياسية المصرية خاصة في مراحل المفاوضات الأخيرة، وكذلك انتقال مصر إلى حالة جديدة، كل هذا يتطلب وجودك الآن في المجلة.
ولقد جاءني اليوم خطاب منك تقول فيه إنك اتفقت مع إحدى الصحافيات الإنجليزيات على كتابة مقال أسبوعي للمجلة نظير ثمانية جنيهات على المقال الواحد نشر أم لم ينشر وطلبت مني أن أوافيك بعقد بيني وبين هذه السيدة لتوقع عليه، وهذا الطلب يمكنني التحدث فيه حين حضورك، فالحالة المالية الآن لا تسمح بصرف مثل هذا المبلغ أسبوعياً.
شاهدت مع لولا (زوجة إحسان) صورة جديدة لك فحمدت الله أنك في صحة جيدة وفي الوقت نفسه أيقنت أنك «ولد خسران» لا تهتم بإرسال صورة لوالدتك. أما أختك ميمي فإذا لم تكتب لك خطاباً مطولاً فهذا عائد إلى تبلبل أفكارها بشأن الزواج.. والحمد لله قد تزوجت من شخص أخلاقه توافق أخلاقها والعكس بالعكس، والمهم في الموضوع وكما أعتقد أن هذا يهمك أن تكون في معيشتها الجديدة متفقة مع الشخص الذي اختارته زوجاً لها والاستعداد قائم الآن من والد ووالدة العريس لعمل شقة لهما ومن حسابهما الخاص.
أما مسألة المائة جنيه فهناك مفاوضات ومباحثات وجهود لإعادتها إلى جيبك وإلا..
قبلاتي لك
والدتك روز 19/7/1947.
****
ولدى إحسان
أخذت خطابك وأنا مبسوطة من جوابك خالص ولكنك لم تخبرنى إذا كنت راجع تحضر إلى هنا ولا لأ وكمان لم تخبرنى إذا كنت انتقلت.. من فضلك لازم تخبرنى حالاً، وبلغنى أن والدك رايح يجى هنا مع أحمد بك صادق لماذا لا تحضر مصر.. أختك ميمى عاوزة تشوفك..
بلغ سلامى إلى باب وتيتا.. قبلاتى".
أكتب إليك وأنا جالس في شرفة الفندق.. وبحيرة «لوجانو» تحت قدمي، وجبل على يميني وجبل آخر على يساري، وبين أحضاني أشجار رائعة طرز الخريف أوراقها باللون الأحمر والأصفر والأخضر، ولكني في هذه اللحظة لا أرى البحيرة ولا الجبال،ولا الأشجار، ولا الخريف..
أراك أنت وحدكِ، أراكِ في قلبي؛ وأراك في عيني.. أراك جميلة وعظيمة.. أجمل وأعظم من كل ما في أوروبا..
إن الله لم يخلق شيئاً أجمل من أمي، ولا أعظم من أمي..
وكنت أراك جميلة طول عمري.. وما زلت حتى اليوم أراك بضفائر طويلة في لون الذهب، وبشرتك في لون اللبن المخلوط بعصير الورد، وعينيك في لون الربيع تنبضان بالحياة والحنان.. وشفتيك فيهما رحمة وكبرياء.. ورأسك مرفوعاً دائماً.. رأساً أقوى من الشر.. رأس ملاك.. كنت دائماً أراك ملاكاً. ولكني لم أكن مقتنعاً بعظمتك كما أنا مقتنع الآن.. كنت في صباي لا أستطيع أن أقدر لماذا أنت عظيمة؟.. ماذا فعلت حتى تكوني عظيمة.. إنك مشهورة.. وإنك ناجحة.. نجحت في المسرح، ونجحت في الصحافة، ولكن ليس كل المشهورين عظماء.. وليس كل الناجحين عظماء.. فلماذا أنت عظيمة.. ما سر عظمتك؟!
هكذا كنت أتساءل في صباي.. ثم كبرت.. وتوليت العمل.. ودخلت معركة الحياة.. فبدأت عظمتك تتكشف لي.. وعن طريق تجاربي في محيط البشر والعمل وبقدر ما عانيت وتعبت حتى أكون إنساناً ناجحاً.. أستطيع أن أقدر عظمتك وأصل إلى سرها.. وأن الإنسان العظيم هو الذي يستطيع أن ينجح وأن يصل إلى القمة محتفظاً بكبريائه ومبادئه وبساطته.. وهذا هو أنت يا أعظم الناس.. لقد نجحت من دون أن تؤذي أحداً.. ومن دون أن تفقدي طبيعتك السمحة البسيطة.
ما زلت تضحكين كطفلة، وما زلت تتحدثين كصبية لم تنزل بعد إلى زحام الحياة، وما زلت تعاملين الناس في تواضع وسذاجة، كأنك لست صاحبة أعنف معارك سياسية خاضتها الصحافة المصرية.. وما زالت ترضيك الأشياء الصغيرة التي تحمل معاني إنسانية كبيرة.. وردة أو كلمة حلوة وتترفعين عن الأشياء المادية مهما كبرت ما دامت لا تحمل معنى كريماً.
كلما كبرت ازددت اقتناعاً بأني لا أستطيع الاستغناء عنك أبداً في العمل، وأنك لو تركتني وحدي فلن أستطيع أن أفعل شيئاً وهذا الإحساس يجعلني أخاف.. أخاف المستقبل، مستقبلي، فلا تتركيني أبداً.. أرجوك لا تتركيني أبداً.. إنني أعيش وأعمل بأنفاسك وبوجودك..
ماذا أهديك؟
هل تقبلين أن تكون هديتي حديثاً عن نفسي؟!
سأحدثك عن نفسي إذن.. سأحدثك عن ابنك.. لأنني لم أحاول قبل اليوم أن أحدثك عن شيء إلا وقطع حديثنا جرس التليفون أو دخول الأستاذ عارف أو الأستاذ عبدالسلام.
إنك تعتقدين أنني ورثت طباعي وأخلاقي عن والدي.. وهذا ليس صحيحاً للأسف.. فإن أهم ما يميزه هو قناعته ورضاه عن نفسه.. وأنا لست قنوعاً ولا راضياً عن نفسي ولو كنت.. لكنت سعيداً وما تعذبت. أنا شيء آخر.. إنني لا أعرف ماذا أريد.. هل أريد أن أكون سياسياً أم أديباً.. هل أريد أن أكون صاحب عمل أم مجرد كاتب، هل أريد أن أخوض معارك أم أنجو من المعارك وابتعد عنها. أريد أن أكون مليونيراً، أم أريد أن أكون إنساناً بسيطاً لا يحمل هم الملايين، ولأنني لا أعرف ماذا أريد فأنا غير راض عن تصرفاتي التي تتخبط وتتعارض.. ويبدو أثرها في حياتي وعملي وفي معاملة الناس.. والنتيجة أنني لست سعيداً فالسعادة في أن أكون ما أريد. إنني إنسان خجول وهذا الخجل مرده أني أخاف الفشل إلى حد كبير.. إلى حد الجبن، وهذه الطبيعة تبدو في حياتي العامة كلها وفي عملي.. إن في رأسي مشروعات كثيرة كبيرة، ولكني لا أقدم على تنفيذها خوفاً من الفشل.
ولكن هناك شيئاً واحداً يحميني من هذا الضعف وهو أني أعرف تماماً ماذا تريدين أنت.. (كلام غير واضح). ولأني أحب أمي فإنني أفعل ما تريده.. إنها تريد دار روزاليوسف داراً صحافية قوية.. وهذا ما سأفعله وما أقسم عليه، بل هذا هو الخط الوحيد الثابت المستقيم الذي يحدد حياتي وأهدافي.
محتاج إلى أن أقبلك كثيراً.. كثيراً جداً.. محتاج إلى أن أضع رأسي على صدرك وأنام.
أحبك
إحسان
***
في 19/7/1947
ولدي إحسان
قبلاتي لك. سبق أن كتبت لك بعنوانك في باريس، إنني متعبة وأصارحك أنني الآن في حال لا تمكنني من مواصلة العمل في هذا الجو، وهذا الحال الذي يضطرني كثيراً إلى الحضور إلى الإدارة صباحاً ومساءً، كما أن الحالة السياسية المصرية خاصة في مراحل المفاوضات الأخيرة، وكذلك انتقال مصر إلى حالة جديدة، كل هذا يتطلب وجودك الآن في المجلة.
ولقد جاءني اليوم خطاب منك تقول فيه إنك اتفقت مع إحدى الصحافيات الإنجليزيات على كتابة مقال أسبوعي للمجلة نظير ثمانية جنيهات على المقال الواحد نشر أم لم ينشر وطلبت مني أن أوافيك بعقد بيني وبين هذه السيدة لتوقع عليه، وهذا الطلب يمكنني التحدث فيه حين حضورك، فالحالة المالية الآن لا تسمح بصرف مثل هذا المبلغ أسبوعياً.
شاهدت مع لولا (زوجة إحسان) صورة جديدة لك فحمدت الله أنك في صحة جيدة وفي الوقت نفسه أيقنت أنك «ولد خسران» لا تهتم بإرسال صورة لوالدتك. أما أختك ميمي فإذا لم تكتب لك خطاباً مطولاً فهذا عائد إلى تبلبل أفكارها بشأن الزواج.. والحمد لله قد تزوجت من شخص أخلاقه توافق أخلاقها والعكس بالعكس، والمهم في الموضوع وكما أعتقد أن هذا يهمك أن تكون في معيشتها الجديدة متفقة مع الشخص الذي اختارته زوجاً لها والاستعداد قائم الآن من والد ووالدة العريس لعمل شقة لهما ومن حسابهما الخاص.
أما مسألة المائة جنيه فهناك مفاوضات ومباحثات وجهود لإعادتها إلى جيبك وإلا..
قبلاتي لك
والدتك روز 19/7/1947.
****
ولدى إحسان
أخذت خطابك وأنا مبسوطة من جوابك خالص ولكنك لم تخبرنى إذا كنت راجع تحضر إلى هنا ولا لأ وكمان لم تخبرنى إذا كنت انتقلت.. من فضلك لازم تخبرنى حالاً، وبلغنى أن والدك رايح يجى هنا مع أحمد بك صادق لماذا لا تحضر مصر.. أختك ميمى عاوزة تشوفك..
بلغ سلامى إلى باب وتيتا.. قبلاتى".