مصطفى نصر - أيها الشعراء أفتوني في أمري

اكتشفت مكتبة البلدية مبكرا، ذهبت إليها وأنا طفل صغير، فقد قرأت يوميات نائب في الأرياف وواسلاماه وبعض كتب المنفلوطي، خاصة روايته المترجمة في سبيل التاج قبل الآلتحاق بالتعليم الإعدادي.
وواظبت على قراءة كتب جبران خليل جبران الذي عشقته وأعجبت به كسارد وكشاعر وكرسام أيضا، وكنت أدون أرقام الكتب من الأدراج الخاصة باسم المؤلف، وفوجئت بجمال لغة أبو فراس الحمداني، وقلت لمن حولي إنه أشعر من المتنبي، ومن شدة إعجابي بشعره، نقله في كراسة عندي، واندهشت لأن المتنبي نال الشهرة والحظوة أكثر منه.
وأعجبت بشعر حافظ إبراهيم، فأعطيت لنفسي الحق لكي أفتي وأقول رأيي الذي يخالف رأي الجميع – تقريبا – بإنه أشعر من شوقي.
لكن بعد سنوات طويلة عاد لي رشدي، واكتشفت أن رأيي في أبي فراس الحمداني وحافظ إبراهيم الدافع إليه هو قلة خبرتي وضعف ثقافتي، فما زلت أرى أن أبا فراس الحمداني، موهبته أعلى من موهبة المتنبي، لكنه انشغل بالحروب والسياسة عن الشعر، بينما اعطى المتنبي للشعر كل شيء، فاستحق بأن يفوز عليه، وحافظ أخذته دورة الحياة القاسية، ولقمة العيش المرة، فشغلت وقته وعطلته على أن يطوف بين نواحي الشعر الكثيرة كما طاف شوقي الغني، فعندما قرأت مذكرات سكرتير أحمد شوقي- أمير الشعراء- تمنيت أن أكون في ثراء شوقي، فقد أعانته حالته المالية المزدهرة على أن يكتب ما يريد، فكتب في مجالات متعددة. بينما حافظ إبراهيم في حاجة إلى وظيفته لينفق على أسرته، فلم يعط لشعره العناية الكافية، ولم يهتم بجمعه ونشره. ويحكي الدكتور محمد الدسوقي – سكرتير طه حسين في كتابه: " طه حسين يتحدث عن أعلام عصره ":
وقد أنشدنا حافظ إبراهيم في جمع من الأدباء والساسة قصيدة مطلعها:
قد مر عام يا أميم وعام وابن الكنانة في حماه يضام
وكانت القصيدة نقدا لاذعا للحياة السياسية في البلاد، فقلت لحافظ:
لماذا لا تنشر هذه القصيدة؟
فقال: أخاف أن أحال على المعاش.
ويقول طه حسين في هذا الكتاب: لقد قاسى حافظ كثيرا في حياته وكان الأمام محمد عبده يعطف عليه ويعطيه كل شهر مبلغا من المال، كما كان يعطف عليه كذلك سعد زغلول.
رجل يعيش في هذه الظروف الصعبة؛ فكيف سيفكر في الشعر وفي جمعه ونشره، وأولاده في انتظار المال الذي سيشترون به الطعام والكساء؟! فعباس محمود العقاد مثلا، لو كان غنيا لأعطى للمكتبة العربية أكثر مما أعطى.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى