1- من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور :
عن « الواحديين « أو أصحاب القصيدة الواحدة
صباح الخير،
لم يعد مبلغ عشرة آلاف درهم يعني شيئا ذا بال في زمننا هذا، ولكن يبدو أنه كان مبلغا محترما في زمن هارون الرشيد.
ما دفعني إلى إبداء هذه الملاحظة هو خبر طريف رواه أبو الفرج الأصبهاني ، في كتاب الأغاني . فقد ذكرَ أن الخليفة هارون الرشيد رَصَدَ عشرةَ آلاف درهم لمَنْ يقرأ له داليةَ الشاعر الأسود بن يَعْفر بأكملها. و مطلع هذه الدالية هو:
نامَ الخَليُّ وما أحسُّ رقادي = والهَمُّ مُحَتضِرٌ لديَّ وسادي
ولا شك أن هناك اليوم، بين معاصرينا، منْ يَحفظ هذه القصيدةَ الرائعة من أولها إلى آخرها، لكنْ مَنْ ذا الذي سيعطيه شيكا بمليون سنتيم، مكافأةً له على ذلك؟
وعلى أية حال، فالقصيدة من مختار أشعار العرب، وقائلها معدود ضمن كبار الشعراء. وقد وضعه ابنُ سلام الجمحي في الطبقة الخامسة من فحول الجاهلية، ثم بدا كأنه أحسَّ بالذنب بسبب ذلك التصنيف المجحف، فقال : « كان الأسود شاعرا فحلاً، وكان يُكثر من التنقل في العَرَب ، يُجاورهم فيَذمُّ ويَحْمَد، وله في ذلك أشعار، وله واحدة رائعة طويلة، لاحقة بأجْوَد الشعر، لو كان شفعها بمثلها لكُنّا قدَّمْناه على مرتبته، وهي:
نام الخليُّ وما أحسُّ رقادي = و الهمُّ محتضرٌ لديَّ وسادي
ثم يقول ابنُ سلام بعد ذلك: « و له شعر جيد ولا كهذه...»
وهذه الدالية العجيبة هي القصيدة الرابعة والأربعون ضمن المفضليات، كما لا يخفى عليك . وفيها يشير الأسْوَد بن يَعْفُر إلى عماه بتعبير عجيب هو:
و منَ الحوادثِ، لا أبا لك، أنني = ضُربَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ
وفيها يَنْعتُ الموتَ بِــ(ذي الأعواد)، حين يَقول:
ولقدْ علمْتُ سوى الذي نَبَّأتِني = أنَّ السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ
ونقرأ في اللسان : « ذو الأعواد هو الموت، وعنى بالأعواد ما يُحمل عليه الميت، ذلك أن البوادي لا جنائز لهم ، فهم يضمُّون عُوداً إلى عُود ويَحملون الميتَ عليها .» وهناك من يذهب غير هذا المذهب في شرح (ذي الأعواد). ولكنني أميل شخصيا إلى هذا المعنى بالذات...
إثر ذلك يصف الشاعر كيف أن الموت ينتظره أو يتربص به، بل يَرْقُبُه هناك بأعلى الجبل، ثم يضرب المثل بالسابقين الذين لقوا المصيرَ نفسَه فيقول:
جَرَت الرياحُ على مَكان ديارهمْ = فكأنّما كانوا على ميعاد
ثم إنه يَذكر شبابَه وأيامَ اللهو والشرب ، ويصف القيان وكيف يمشين بالأرفاد (أي بالأقداح الكبيرة، كما يقول الشراح):
والبيض تمشي كالبدور وكالدُّمى = ونواعمٌ يمشينَ بالأرْفاد
يَنْطقْنَ معروفاً وهُنَّ نواعمٌ = بيضُ الوجوه رقيقة الأكباد
ورغم أن للأسْوَد بن يعفر قصائد أخرى، فلم يكن القدماء يَروون له سوى هذه الدالية. بل إنهم كانوا يَعدّونه ضمن أصحاب القصيدة الواحدة، ولذلك قال عنه ابنُ سلام: « وله واحدة رائعة طويلة...»
ويا صديقي العزيز، لا أخفيك أني كثير الإعجاب (بأصحاب القصيدة الواحدة) في الشعر العربي... بأولئك الشعراء الرائعين، الهامشيين أو المهمشين، الذين اشتهر كل واحد منهم بقصيدة واحدة، تقول الكثير عن شاعريته العميقة وعن نفسيته المبلبلة وحياته المضطربة وعن مواجهته الشجاعة للموت أو القتل، في نهاية المطاف... أذكر من هؤلاء (الواحديين) عبد يغوث الحارثي:
ألا لا تَلوماني كفى اللومَ ما بيا = و ما لكما في اللوم خيرٌ و لا ليا
وكعب الغَنَويّ:
تَقول ابنةُ العبسيّ: قد شبْتَ بعدنا = و كل امرئ بعد الشباب يَشيبُ
ومالك بن الريب:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً = بجنْب الغضا أزْجي القلاصَ النواجيا
وآخرين كثيرين مثل العوام بن عقبة ، وسوار بن المضرب ، والأحيمر السعدي ، وغيرهم من الذين بقوا خارج التاريخ الرسمي للأدب و خارج المقررات الرسمية ...
***
- 2 - من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط :
هذه القصيدة هي علتي....
صديقي العزيز سي عبد القادر.
(أصحاب القصيدة الواحدة) موضوع طريف ولذيذ في الوقت نفسه. أصحاب الواحدة هم الذين اشتهروا، كما أشرتَ صديقي، بقصيدة واحدة أساسا. وهذا طبعا لا يعني أنهم لم يقولوا شعرا آخر. فلصاحبك الأسود بن يعفر مفضلية أخرى هي المفضلية 125، التي يقول مطلعها:
قد أصبح الحبل من أسماء مصروما = بعد ائتلاف وحب كان مكتوما
ولكنها لا تصل في شعريتها وفكرها وروحها إلى الدالية التي اشتهر بها. وأحب أن أقف قليلا عند البيت الذي وقفت عنده صديقي، وهو قوله:
ولقد علمتُ سوى الذي نبأتِني = أن السبيل سبيل ذي الأعواد
وأنا أتفق معك كليا في الشرح الذي اخترته لــ (ذي الأعواد)، ولكني أحب أن أشركك معي في تأمل الشرح الآخر. إذ يورد الأنباري - شارح المفضليات - عن أبي عبيدة ، أن « ذا الأعواد « هو جد أكثم بن صيفي . وقد كان معمرا، وكان من أعز أهل زمانه، فاتُّخذت له قبة على سرير، فلم يكن خائف يأتيها إلا أمن، ولا ذليل إلا عز، ولا جائع إلا شبع. فيقول الشاعر: « لو أغفل الموتُ أحدا لأغفل ذا الأعواد. «
لا يهمني هذا الشرح، وهو فيما أعتقد مصنوع، ولكن ما يهمني هو ظاهرة غريبة في التراث الأدبي العربي. فلا يكاد يوجد اسم غريب ولا مثل ولا كلمة أو عبارة غامضة، إلا خلقوا لها قصة تفسرها. أي خيال محلق خلاق هذا! وأين منه خيالنا الحديث الكسيح ؟ لقد كانت الحياة سهلة مع هذا الخيال. ما أن يجد العربي مشكلة مع شيء صعب أو غامض أو معقد حتى يخلق له قصة تفسره فيرتاح. وقد يكون للعبارة الواحدة تفاسير متعددة ، وقصص وتأويلات يقبلونها جميعا ويرتاحون. وما إن اتصلوا بالإغريق وبالعقل الإغريقي الذي يطلب الحقيقة، ويطلب المعنى الواحد للحقيقة حتى بدأ العرب يتعسون. فطريق العقل لا يصل، و:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله = وأخو الخيال مع الشقاوة ينعم
وكما تقول فيروز ياصديقي (شو بيبقى ياحبيبي/ شو بيبقى من السهر/ شو بيبقى من الليل من الحب من الحكي/ من الضحك من البكي /شو بيبقى يا حبيبي/ يبيبقى ( قصص صغيرة)، عم بتشردها الريح...
ولنعد إلى أصحاب لقصيدة الواحدة، أو « الواحديين « بتعبيرك الجميل، فإنني أحب من ( الواحدات ) قصائد رائعة ، منها عينية ابن زريق الشهيرة:
لا تعذليه فإن العذل يولعهُ= قد قلتِ حقا ولكن ليس يسمعهُ
ما آب من سفر إلا وأزعجه = عزم ٌ إلى سفر بالرغم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل = مُوَكّلٌ بفضاء الله يذرعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا = بالكرخ من فلَك الأزرار مطلعه
ودعتُه وبودي لو يودعني = صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه = وللضرورات حال لا تشفعه
أُعطيتُ ملكا فلم أُحسنْ سياستَه = وكل من لا يسوس الملكَ يُخلعُه ...
ومنها عينية سويد بن أبي كاهل اليشكري:
بسطت رابعةُ الحبل لنا = فوصلنا الحبل منها ما اتسعْ
وهي عين من عيون الشعر الخالدة، وتتطلب مجالا خاصا للحديث.
ومنها اليتيمة. تلك القصيدة التي نسجوا حولها وحول قائلها حكايات وأساطير. ونُسبتْ لأكثر من خمسة عشر شاعرا ، منهم صاحبنا القديم ذو الرمة نفسه. ونٌقلَ عن المبرد أنه قال: هذه القصيدة هي علتي. ونسبت إلى العصر الجاهلي تارة والأموي تارة والعباسي أخرى. ولكن اسمها الشهير الذي لا يتغير هو (اليتيمة). ومطلعها:
هل بالطلول لسائل ردُّ = أم هل لها بتكلمٍ عهدُ
ومنها:
لهفي على دعد وما حفلت = إلا بحرِّ تلهفي دعدُ
بيضاءُ قد لبس الأديمُ أديمَ الـــــــ = ــحسن فهو لجلدها جلدُ
فالوجه مثل الصبح مبيض = والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسُنا = والضدُّ يُظهر حسنَه الضدُّ
وكأنها وَسْنى إذا نظرتْ = أو مدنف لما يُفقْ بعدُ
وبها أبيات إيروتيكية نادرة ، منها:
ولها هَنٌ رابٍ مجسَّتُه = ضَيْقُ المسالك حرُّه وقْدُ
فإذا طعنتَ طعنتَ في لبد = وإذا سللتَ يكاد ينسدُّ
سلام على الواحدات والواحديين...
***
- 3 - من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور :
أحاديث تبقى و الفتى غير خالد...
مساء الخير سي أحمد
تذكرني قصيدة فيروز (شو بيبقى من الليل)، التي تحدثتَ عنها في رسالتك، بتلك الميمية الرائعة لأبي تمام، التي يقول فيها:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها = فكأنها وكأنهمْ أحلامُ
وياصديقي العزيز، كم تمنيتُ لو سمعتُ بيتَ أبي تمام هذا، تُغَنّيه فيروز بصوتها المدهش ، حتى أطربَ لهُ كما طربَ ابن معروف، قاضي القضاة، حين سمعَ عُلَيّة تغني بصوتها الشجيّ، منْ شعر عمر بن أبي ربيعة:
أنيري مكانَ البدر إنْ أفلَ البدْرُ = وقومي مقام الشمس ما استأخرَ الفجرُ
أو كما طربَ الشيخ الصالح المقرئ الكنانيّ لصوت المغنّية « صبابة « وهي تردد:
بلى إنّ هذا الدهرَ فرّقَ بيننا = وأيّ جميعٍ لا يفَرّقهُ الدهرُ؟
أو كما طربَ ابن مياس لغناء «حبابة « :
و صافحْتُ مَنْ لاقيتُ في البيت غَيْرَها = وكُلُّ الهوى منّي لمَنْ لا أصافحُ
و هذه (نماذج) من الطرب استقيتُها، كما لا يخفى عليك ، من كتاب (الإمتاع و المؤانسة) لأبي حيان التوحيدي. وأود أن أضيف إليها (نموذجا) آخرَ من كتاب الأغاني، حيث يصف الأصبهاني كيف طربَ الخليفة العباسي موسى الهادي، حين سمع إبراهيم الموصلي يغني رائيةَ أبي صخر الهذلي:
لليلى بذات الجيش دارٌ عرفْتُها = وأخرى بذات البين آياتها سَطْرُ
فقد روى أبو الفرج أن الخليفة كان يشقّ جزءا من ردائه مع كل مقطع من القصيدة، إلى أنْ مزق رداءه كلّه من شدة الطرب. وصاحبُ هذه الرائية - أبو صخر الهذلي- معدود ضمن (أصحاب القصيدة الواحدة)، مع أن له شعرا آخر كثيرا، في مدح الأمويين على الخصوص. وفي رائيته هذه نجد تلك الأبيات الرائعة التي أعجبَ بها الناس منذ القديم:
أمَا والذي أبكى وأضحكَ والذي = أماتَ وأحيا والذي أمْرُهُ الأمْرُ
لقد ترَكَتْني أحسد الوحشَ أنْ أرى = أليفين منها لا يَرُوعهما النّفْرُ
فما هو إلا أنْ أراها فُجاءةً = فأبْهَت لا عرْفٌ لديّ ولا نكْرُ
وفيها كذلك هذا البيت الذي لا أعرف له مثيلا في الشعر القديم:
عجبتُ لسعْي الدهر بيني وبينها = فلما انقضى ما بيننا سكنَ الدهْرُ
ومن أبيات الرائية كذلك:
فيا حبّذا الأحياء ما دُمْت حيّةً = ويا حبذا الأموات إنْ ضَمّك القبّرُ
ومن القدماء من يرى أن هذه الرائية هي أحسن قصائد الغزل في الشعر العربي. ومهما يكن فقد جعلتْ أبا صخر الهذلي يحتل مرتبة رفيعة ضمن (الواحديين)...
ومن « الواحديين « الذين تغنى المغنون بشعرهم هناك (ماني الموسْوِس)، الذي كان مختل العقل ولكنه كان ذا شاعرية رفيعة، كما لا يخفى عليك يا صديقي. وقد غنى صباح فخري من (واحدته) الأبياتَ التالية:
لمّا أناخوا قُبيل الصبح عِيسَهُمُ = ورَحَّلُوها وسارتْ بالدجى الإبلُ
وودّعتْ ببَنانٍ عقْدها عَنَمٌ = ناديتُ: لا حملَتْ رجْلاك يا جمَلُ
يا حاديَ العيس عرّجْ كي أودعَهُمْ = يا حاديَ العيس في ترحالك الأجلُ
والقصيدة من عيون الشعر العربي، ببساطتها وجمال لغتها وحسن سبكها، من مثل قوله:
لمّا علمتُ بأنّ القومَ قد رَحَلوا = وراهبُ الدير بالناقوس مشتغلُ
وقوله:
يُبْكى علينا ولا نبْكي على أحَدٍ = أنَحْنُ أغْلَظُ أكباداً أمِ الإبلُ ؟
ومن « الواحدات « التي يتمنى الواحدُ منا لو سمعها بصوت غنائي عذب، هناك بائية كعْب الغَنَويّ التي نظمها في رثاء أخيه، والتي يقول في تَقولُ ابنةُ العبسيِّ : قدْ شبْتَ بعْدَنا = و كلُّ امرئ بعد الشباب يَشيبُ
ومن أبياتها الرائعة:
أخي كان يَكْفيني وكان يُعينُني = على نائباتِ الدهرِ حينَ تَنُوبُ
ومنها:
حليف الندى يَدْعو الندى فيجيبهُ = سريعاً ويَدْعوه الندى فيجيبُ
ومنها هذان البيتان اللذان يجمعان بين السذاجة والعمق:
لقدْ أفسدَ الموتُ الحياةَ ، و قد أتى = على يومه عِلْقٌ عليَّ حبيبُ
فإنْ تكُنِ الأيامُ أحْسَنَّ مَرّةً = إليّ فقد عادتْ لهنَّ ذنوبُ
أوَ ليست الأيام تُحسن إلينا بعض الشيء ثم تعود فلا تُبقي على شيء... وهو ما يعود بنا إلى نقطة البداية، أي إلى أغنية فيروز:
« شو بيبقى من الليل/ من الحب من الحكي/ من الضحك من البكي...؟»
***
- 4 - من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط:
هذه النارُ نارُ ليلى فَميلوا ...
صديقي العزيز،
أنا معك في إعجابك برائية أبي صخر. بل إني أعتبرها واحدة الواحدات، أو (إحدى الإِحَد)، كما يقول الراجز القديم:
عدُّونيَ الثعلبَ عند العددِ = حتى استثاروا بيَ إحدى الإِحدِ
ورغم أنهم يستعملون عبارة (إحدى الإحد) بمعنى إحدى الدواهي ، فلن نبعد كثيرا عن رائية أبي صخر، التي يقول محمد مظلوم- في كتابه (أصحاب الواحدة) - إنهم كانوا يسمونها (الموت الأحمر). وهي ليست داهية فقط، بل (دويهية)، على طريقة لبيد في تصغير العظيم. والذين يعتبرونها أحسن قصائد الغزل العربي معذورون. وبيت قصيدها، في نظري، هو البيت الذي أفردتَه بين أبيات الشعر العربي غيرَ معارَض:
عجبتُ لسعي الدهر بيني وبينها = فلما انقضى ما بيننا سكن الدهرُ
وأنا أتصور الآن ذلك العاشق المعشوق، الذي يعيش كل وقته مستثارا مشغولا، لا يجد وقتا ولا راحة ولا تقر به أرض أو تستقر فوقه سماء، فإذا انقضى العشق هدأت النفس وطال الوقت وخمد الحس، فكأن الدهر ساكن لا يتحرك. أليس هذا بعجيب؟
ثم ما رأيك ياصديقي في هذه الواحدة النادرة الغريبة: لامية أبي محمد المرتضى الشهرزوري التي يتحدث فيها عن نار غريبة ليست كنيران الشعر العربي التي نعرفها. يقول في مطلعها:
لمعتْ نارهمْ وقد عسعس الليـــ = ـــــلُ وملّ الحادي وحار الدليلُ
فتأملتُها وفكري من البيــ = ــن عليل ولحْظُ عيني كليل
ثم قابلتُها وقلتُ لصحبي = هذه النار نار ليلى فميلوا
إلى أن يقول في آخرها:
نارنا هذه تضيء لمن يســ ْ= ــــــري بليل لكنها لا تُنيل
منتهى الحظ ما تزود منه الـــــ = ــلَّحظُ ، والمدركون ذاك قليل
... فوقفنا كما عهدتَ حيارى = كل عزم من دونها مخذول
ندفع الوقتَ بالرجاء وناهـيــــ = ــــــــك بقلب غذاؤه التعليل
كلما ذاق كأسَ يأس مرير = جاء كأسٌ من الرجا معسولُ
هذه حالُنا وماوصل العلـــــ = ـــمُ إليه، وكل حال تحولُ
وياصديقي العزيز ، هل ترى هذه النار؟ أما أنا فأراها. ولكنني لا أعرفها. هل هي نار الصوفية؟ نار الفلاسفة؟ نار الحب؟ نار النور؟ أم هي نار الأحلام؟ يراها كل واحد حسب حلمه، والأحلام بصمات لا تتشابه ولا تتكرر...
***
- 5 - من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور:
رُبَّ نارٍ بتُّ أرقبُها ...
مساء الخير سي أحمد
يا لهذه النار التي وصفها الشاعر الشهرزوري في لاميته الرائعة!
إني لأتساءل معك: أية نار هي هذه التي يتحدث عنها الشاعر بقوله:
لمَعَتْ نارُهُمْ و قد عَسْعَسَ الليلُ = ومَلَّ الحادي وحار الدليلُ
هل هي نار الصوفية؟ نار الفلاسفة؟ نار الحب؟ نار النور؟ نار الأحلام؟
هل هي نارٌ (باشْلارية)، نسبة إلى العالم والفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، صاحب المؤلف الشهير عن (النار في التحليل النفسي)؟ لقد ربطَ هذا العالم والفيلسوف الفرنسي بين النار وكيمياء الحلم . وما اللامية التي نتحدث عنها، يا صديقي، سوى بلورة فنية فريدة لكيمياء الحلم....
كيف نتخيل هذه النارَ إذن، حين نقرأ قول الشاعر عنها:
ثم قابلْتُها و قلتُ لصحْبي= هذه النارُ نارُ ليلى فميلوا
هل هي تستعر مثل (نار مجوس) التي وصفها كل من امرئ القيس والحارث بن التوأم اليشكريّ ، في قصيدتهما الرائية المشتركة:
أحارِ أريكَ بَرْقاً هبَّ وهْناً= كنارِ مجوسَ تَسْتَعرُ اسْتعارا
أرقْتُ له و نام أبو شريح = إذا ما قلتُ قد هَدَأ استطارا
ثم من هي ليلى هذه التي يتحدث عنها الشاعر الشهرزوري في لاميته البديعة؟
هناك شعراء آخرون، رأوا هم أيضاً (نارَ ليلى) ووصفوها في قصائدهم. فمنهم المجنون ومنهم الشماخ بن ضرار. أما الشاعر الذي خلّدَتْهُ أبياته عن النار، فهو عدي بن زيد العبادي، الذي قال:
يا لُبَينى أوقدي النارا = إنّ مَنْ تَهوين قد حارا
رُبَّ نارٍ بتُّ أرْقُبُها = تقضم الهنديَّ و الغارا
ولها ظبْيٌ يؤجّجُها = عاقدٌ في الخصْر زنّارا
ويُحكى أن معاوية بن أبي سفيان قد طرب لهذا الشعر حين سمع ابنَ صياد يغنيه وقال «لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان ...»
ويا صديقي العزيز، لقد تساءل شيخ المعرة في (الفصول والغايات) عن (نيران) هؤلاء الشعراء وعن كنهها، وتحدث الجاحظ قبله عن جوانب مختلفة تتعلق بالنار، وذكرَ فيما ذكَر قصةَ رجل يُدعى سهم بن الحارث ، أشعل نارا في الليل فجاءته الجن، فقال في ذلك بيته العجيب:
أتَوْا ناري فقلتُ: منُونَ أنتمْ = فقالوا: الجنُّ، قلتُ: عمُوا ظلاما!
وتحدث الجاحظ كذلك عن النار التي يراها المرء ولا حقيقة لها و هي تُسمى (نار الحُباحب).
وجاء ذكْرها في شعر النابغة (ويوقدْنَ بالصّفّاح نارَ الحُباحبِ)
وقد بيّنْتَ في رسالة سابقة، يا صديقي، كيف أن القدماء كانوا إذا إذا استعصى عليهم فهْمُ شيء ما، ابتدعوا له قصة تفسره وتعفيهم من عناء التفكير فيه. وذلك ما فعلوه مع (نار الحباحب)، إذ زعموا - وما أكثر ما كانوا يزعمون!- أن الحباحب اسمُ رجُل، وأن هذا الرجل كان بخيلا، لا يوقد ناراً بليل، كراهية أن يلقاها من ينتفع بها. وكان إذا احتاج إلى إيقادها أوقدها، فإن هو أبصر مستضيئا بها أطفأها!
وتحدث الثعالبي، من جهته، في « ثمار القلوب «، عن نار غريبة حقا، هي نار الحَرَّتَيْن ، التي قال فيها الشاعر:
ونار الحَرّتَين لها زفيرٌ= يصمُّ لهوله الرجل السميعُ
وهي النار التي كانوا يسمونها نار خالد بن سنان، وكانت ببلاد عبس. فإذا كان الليل فهي نار تسطع في السماء وربما تأتي على كل شيء فتحرقه، وإذا كان النهار فإنما هي دخان يفور، ويورد الثعالبي أخبارا عن هذه النار، هي أقرب ما تكون إلى الأساطير...
11/29/2013
* الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الإشتراكي
ـ الجمعة 29 نونبر 2013 العدد
عن « الواحديين « أو أصحاب القصيدة الواحدة
صباح الخير،
لم يعد مبلغ عشرة آلاف درهم يعني شيئا ذا بال في زمننا هذا، ولكن يبدو أنه كان مبلغا محترما في زمن هارون الرشيد.
ما دفعني إلى إبداء هذه الملاحظة هو خبر طريف رواه أبو الفرج الأصبهاني ، في كتاب الأغاني . فقد ذكرَ أن الخليفة هارون الرشيد رَصَدَ عشرةَ آلاف درهم لمَنْ يقرأ له داليةَ الشاعر الأسود بن يَعْفر بأكملها. و مطلع هذه الدالية هو:
نامَ الخَليُّ وما أحسُّ رقادي = والهَمُّ مُحَتضِرٌ لديَّ وسادي
ولا شك أن هناك اليوم، بين معاصرينا، منْ يَحفظ هذه القصيدةَ الرائعة من أولها إلى آخرها، لكنْ مَنْ ذا الذي سيعطيه شيكا بمليون سنتيم، مكافأةً له على ذلك؟
وعلى أية حال، فالقصيدة من مختار أشعار العرب، وقائلها معدود ضمن كبار الشعراء. وقد وضعه ابنُ سلام الجمحي في الطبقة الخامسة من فحول الجاهلية، ثم بدا كأنه أحسَّ بالذنب بسبب ذلك التصنيف المجحف، فقال : « كان الأسود شاعرا فحلاً، وكان يُكثر من التنقل في العَرَب ، يُجاورهم فيَذمُّ ويَحْمَد، وله في ذلك أشعار، وله واحدة رائعة طويلة، لاحقة بأجْوَد الشعر، لو كان شفعها بمثلها لكُنّا قدَّمْناه على مرتبته، وهي:
نام الخليُّ وما أحسُّ رقادي = و الهمُّ محتضرٌ لديَّ وسادي
ثم يقول ابنُ سلام بعد ذلك: « و له شعر جيد ولا كهذه...»
وهذه الدالية العجيبة هي القصيدة الرابعة والأربعون ضمن المفضليات، كما لا يخفى عليك . وفيها يشير الأسْوَد بن يَعْفُر إلى عماه بتعبير عجيب هو:
و منَ الحوادثِ، لا أبا لك، أنني = ضُربَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ
وفيها يَنْعتُ الموتَ بِــ(ذي الأعواد)، حين يَقول:
ولقدْ علمْتُ سوى الذي نَبَّأتِني = أنَّ السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ
ونقرأ في اللسان : « ذو الأعواد هو الموت، وعنى بالأعواد ما يُحمل عليه الميت، ذلك أن البوادي لا جنائز لهم ، فهم يضمُّون عُوداً إلى عُود ويَحملون الميتَ عليها .» وهناك من يذهب غير هذا المذهب في شرح (ذي الأعواد). ولكنني أميل شخصيا إلى هذا المعنى بالذات...
إثر ذلك يصف الشاعر كيف أن الموت ينتظره أو يتربص به، بل يَرْقُبُه هناك بأعلى الجبل، ثم يضرب المثل بالسابقين الذين لقوا المصيرَ نفسَه فيقول:
جَرَت الرياحُ على مَكان ديارهمْ = فكأنّما كانوا على ميعاد
ثم إنه يَذكر شبابَه وأيامَ اللهو والشرب ، ويصف القيان وكيف يمشين بالأرفاد (أي بالأقداح الكبيرة، كما يقول الشراح):
والبيض تمشي كالبدور وكالدُّمى = ونواعمٌ يمشينَ بالأرْفاد
يَنْطقْنَ معروفاً وهُنَّ نواعمٌ = بيضُ الوجوه رقيقة الأكباد
ورغم أن للأسْوَد بن يعفر قصائد أخرى، فلم يكن القدماء يَروون له سوى هذه الدالية. بل إنهم كانوا يَعدّونه ضمن أصحاب القصيدة الواحدة، ولذلك قال عنه ابنُ سلام: « وله واحدة رائعة طويلة...»
ويا صديقي العزيز، لا أخفيك أني كثير الإعجاب (بأصحاب القصيدة الواحدة) في الشعر العربي... بأولئك الشعراء الرائعين، الهامشيين أو المهمشين، الذين اشتهر كل واحد منهم بقصيدة واحدة، تقول الكثير عن شاعريته العميقة وعن نفسيته المبلبلة وحياته المضطربة وعن مواجهته الشجاعة للموت أو القتل، في نهاية المطاف... أذكر من هؤلاء (الواحديين) عبد يغوث الحارثي:
ألا لا تَلوماني كفى اللومَ ما بيا = و ما لكما في اللوم خيرٌ و لا ليا
وكعب الغَنَويّ:
تَقول ابنةُ العبسيّ: قد شبْتَ بعدنا = و كل امرئ بعد الشباب يَشيبُ
ومالك بن الريب:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً = بجنْب الغضا أزْجي القلاصَ النواجيا
وآخرين كثيرين مثل العوام بن عقبة ، وسوار بن المضرب ، والأحيمر السعدي ، وغيرهم من الذين بقوا خارج التاريخ الرسمي للأدب و خارج المقررات الرسمية ...
***
- 2 - من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط :
هذه القصيدة هي علتي....
صديقي العزيز سي عبد القادر.
(أصحاب القصيدة الواحدة) موضوع طريف ولذيذ في الوقت نفسه. أصحاب الواحدة هم الذين اشتهروا، كما أشرتَ صديقي، بقصيدة واحدة أساسا. وهذا طبعا لا يعني أنهم لم يقولوا شعرا آخر. فلصاحبك الأسود بن يعفر مفضلية أخرى هي المفضلية 125، التي يقول مطلعها:
قد أصبح الحبل من أسماء مصروما = بعد ائتلاف وحب كان مكتوما
ولكنها لا تصل في شعريتها وفكرها وروحها إلى الدالية التي اشتهر بها. وأحب أن أقف قليلا عند البيت الذي وقفت عنده صديقي، وهو قوله:
ولقد علمتُ سوى الذي نبأتِني = أن السبيل سبيل ذي الأعواد
وأنا أتفق معك كليا في الشرح الذي اخترته لــ (ذي الأعواد)، ولكني أحب أن أشركك معي في تأمل الشرح الآخر. إذ يورد الأنباري - شارح المفضليات - عن أبي عبيدة ، أن « ذا الأعواد « هو جد أكثم بن صيفي . وقد كان معمرا، وكان من أعز أهل زمانه، فاتُّخذت له قبة على سرير، فلم يكن خائف يأتيها إلا أمن، ولا ذليل إلا عز، ولا جائع إلا شبع. فيقول الشاعر: « لو أغفل الموتُ أحدا لأغفل ذا الأعواد. «
لا يهمني هذا الشرح، وهو فيما أعتقد مصنوع، ولكن ما يهمني هو ظاهرة غريبة في التراث الأدبي العربي. فلا يكاد يوجد اسم غريب ولا مثل ولا كلمة أو عبارة غامضة، إلا خلقوا لها قصة تفسرها. أي خيال محلق خلاق هذا! وأين منه خيالنا الحديث الكسيح ؟ لقد كانت الحياة سهلة مع هذا الخيال. ما أن يجد العربي مشكلة مع شيء صعب أو غامض أو معقد حتى يخلق له قصة تفسره فيرتاح. وقد يكون للعبارة الواحدة تفاسير متعددة ، وقصص وتأويلات يقبلونها جميعا ويرتاحون. وما إن اتصلوا بالإغريق وبالعقل الإغريقي الذي يطلب الحقيقة، ويطلب المعنى الواحد للحقيقة حتى بدأ العرب يتعسون. فطريق العقل لا يصل، و:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله = وأخو الخيال مع الشقاوة ينعم
وكما تقول فيروز ياصديقي (شو بيبقى ياحبيبي/ شو بيبقى من السهر/ شو بيبقى من الليل من الحب من الحكي/ من الضحك من البكي /شو بيبقى يا حبيبي/ يبيبقى ( قصص صغيرة)، عم بتشردها الريح...
ولنعد إلى أصحاب لقصيدة الواحدة، أو « الواحديين « بتعبيرك الجميل، فإنني أحب من ( الواحدات ) قصائد رائعة ، منها عينية ابن زريق الشهيرة:
لا تعذليه فإن العذل يولعهُ= قد قلتِ حقا ولكن ليس يسمعهُ
ما آب من سفر إلا وأزعجه = عزم ٌ إلى سفر بالرغم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل = مُوَكّلٌ بفضاء الله يذرعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا = بالكرخ من فلَك الأزرار مطلعه
ودعتُه وبودي لو يودعني = صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه = وللضرورات حال لا تشفعه
أُعطيتُ ملكا فلم أُحسنْ سياستَه = وكل من لا يسوس الملكَ يُخلعُه ...
ومنها عينية سويد بن أبي كاهل اليشكري:
بسطت رابعةُ الحبل لنا = فوصلنا الحبل منها ما اتسعْ
وهي عين من عيون الشعر الخالدة، وتتطلب مجالا خاصا للحديث.
ومنها اليتيمة. تلك القصيدة التي نسجوا حولها وحول قائلها حكايات وأساطير. ونُسبتْ لأكثر من خمسة عشر شاعرا ، منهم صاحبنا القديم ذو الرمة نفسه. ونٌقلَ عن المبرد أنه قال: هذه القصيدة هي علتي. ونسبت إلى العصر الجاهلي تارة والأموي تارة والعباسي أخرى. ولكن اسمها الشهير الذي لا يتغير هو (اليتيمة). ومطلعها:
هل بالطلول لسائل ردُّ = أم هل لها بتكلمٍ عهدُ
ومنها:
لهفي على دعد وما حفلت = إلا بحرِّ تلهفي دعدُ
بيضاءُ قد لبس الأديمُ أديمَ الـــــــ = ــحسن فهو لجلدها جلدُ
فالوجه مثل الصبح مبيض = والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسُنا = والضدُّ يُظهر حسنَه الضدُّ
وكأنها وَسْنى إذا نظرتْ = أو مدنف لما يُفقْ بعدُ
وبها أبيات إيروتيكية نادرة ، منها:
ولها هَنٌ رابٍ مجسَّتُه = ضَيْقُ المسالك حرُّه وقْدُ
فإذا طعنتَ طعنتَ في لبد = وإذا سللتَ يكاد ينسدُّ
سلام على الواحدات والواحديين...
***
- 3 - من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور :
أحاديث تبقى و الفتى غير خالد...
مساء الخير سي أحمد
تذكرني قصيدة فيروز (شو بيبقى من الليل)، التي تحدثتَ عنها في رسالتك، بتلك الميمية الرائعة لأبي تمام، التي يقول فيها:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها = فكأنها وكأنهمْ أحلامُ
وياصديقي العزيز، كم تمنيتُ لو سمعتُ بيتَ أبي تمام هذا، تُغَنّيه فيروز بصوتها المدهش ، حتى أطربَ لهُ كما طربَ ابن معروف، قاضي القضاة، حين سمعَ عُلَيّة تغني بصوتها الشجيّ، منْ شعر عمر بن أبي ربيعة:
أنيري مكانَ البدر إنْ أفلَ البدْرُ = وقومي مقام الشمس ما استأخرَ الفجرُ
أو كما طربَ الشيخ الصالح المقرئ الكنانيّ لصوت المغنّية « صبابة « وهي تردد:
بلى إنّ هذا الدهرَ فرّقَ بيننا = وأيّ جميعٍ لا يفَرّقهُ الدهرُ؟
أو كما طربَ ابن مياس لغناء «حبابة « :
و صافحْتُ مَنْ لاقيتُ في البيت غَيْرَها = وكُلُّ الهوى منّي لمَنْ لا أصافحُ
و هذه (نماذج) من الطرب استقيتُها، كما لا يخفى عليك ، من كتاب (الإمتاع و المؤانسة) لأبي حيان التوحيدي. وأود أن أضيف إليها (نموذجا) آخرَ من كتاب الأغاني، حيث يصف الأصبهاني كيف طربَ الخليفة العباسي موسى الهادي، حين سمع إبراهيم الموصلي يغني رائيةَ أبي صخر الهذلي:
لليلى بذات الجيش دارٌ عرفْتُها = وأخرى بذات البين آياتها سَطْرُ
فقد روى أبو الفرج أن الخليفة كان يشقّ جزءا من ردائه مع كل مقطع من القصيدة، إلى أنْ مزق رداءه كلّه من شدة الطرب. وصاحبُ هذه الرائية - أبو صخر الهذلي- معدود ضمن (أصحاب القصيدة الواحدة)، مع أن له شعرا آخر كثيرا، في مدح الأمويين على الخصوص. وفي رائيته هذه نجد تلك الأبيات الرائعة التي أعجبَ بها الناس منذ القديم:
أمَا والذي أبكى وأضحكَ والذي = أماتَ وأحيا والذي أمْرُهُ الأمْرُ
لقد ترَكَتْني أحسد الوحشَ أنْ أرى = أليفين منها لا يَرُوعهما النّفْرُ
فما هو إلا أنْ أراها فُجاءةً = فأبْهَت لا عرْفٌ لديّ ولا نكْرُ
وفيها كذلك هذا البيت الذي لا أعرف له مثيلا في الشعر القديم:
عجبتُ لسعْي الدهر بيني وبينها = فلما انقضى ما بيننا سكنَ الدهْرُ
ومن أبيات الرائية كذلك:
فيا حبّذا الأحياء ما دُمْت حيّةً = ويا حبذا الأموات إنْ ضَمّك القبّرُ
ومن القدماء من يرى أن هذه الرائية هي أحسن قصائد الغزل في الشعر العربي. ومهما يكن فقد جعلتْ أبا صخر الهذلي يحتل مرتبة رفيعة ضمن (الواحديين)...
ومن « الواحديين « الذين تغنى المغنون بشعرهم هناك (ماني الموسْوِس)، الذي كان مختل العقل ولكنه كان ذا شاعرية رفيعة، كما لا يخفى عليك يا صديقي. وقد غنى صباح فخري من (واحدته) الأبياتَ التالية:
لمّا أناخوا قُبيل الصبح عِيسَهُمُ = ورَحَّلُوها وسارتْ بالدجى الإبلُ
وودّعتْ ببَنانٍ عقْدها عَنَمٌ = ناديتُ: لا حملَتْ رجْلاك يا جمَلُ
يا حاديَ العيس عرّجْ كي أودعَهُمْ = يا حاديَ العيس في ترحالك الأجلُ
والقصيدة من عيون الشعر العربي، ببساطتها وجمال لغتها وحسن سبكها، من مثل قوله:
لمّا علمتُ بأنّ القومَ قد رَحَلوا = وراهبُ الدير بالناقوس مشتغلُ
وقوله:
يُبْكى علينا ولا نبْكي على أحَدٍ = أنَحْنُ أغْلَظُ أكباداً أمِ الإبلُ ؟
ومن « الواحدات « التي يتمنى الواحدُ منا لو سمعها بصوت غنائي عذب، هناك بائية كعْب الغَنَويّ التي نظمها في رثاء أخيه، والتي يقول في تَقولُ ابنةُ العبسيِّ : قدْ شبْتَ بعْدَنا = و كلُّ امرئ بعد الشباب يَشيبُ
ومن أبياتها الرائعة:
أخي كان يَكْفيني وكان يُعينُني = على نائباتِ الدهرِ حينَ تَنُوبُ
ومنها:
حليف الندى يَدْعو الندى فيجيبهُ = سريعاً ويَدْعوه الندى فيجيبُ
ومنها هذان البيتان اللذان يجمعان بين السذاجة والعمق:
لقدْ أفسدَ الموتُ الحياةَ ، و قد أتى = على يومه عِلْقٌ عليَّ حبيبُ
فإنْ تكُنِ الأيامُ أحْسَنَّ مَرّةً = إليّ فقد عادتْ لهنَّ ذنوبُ
أوَ ليست الأيام تُحسن إلينا بعض الشيء ثم تعود فلا تُبقي على شيء... وهو ما يعود بنا إلى نقطة البداية، أي إلى أغنية فيروز:
« شو بيبقى من الليل/ من الحب من الحكي/ من الضحك من البكي...؟»
***
- 4 - من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط:
هذه النارُ نارُ ليلى فَميلوا ...
صديقي العزيز،
أنا معك في إعجابك برائية أبي صخر. بل إني أعتبرها واحدة الواحدات، أو (إحدى الإِحَد)، كما يقول الراجز القديم:
عدُّونيَ الثعلبَ عند العددِ = حتى استثاروا بيَ إحدى الإِحدِ
ورغم أنهم يستعملون عبارة (إحدى الإحد) بمعنى إحدى الدواهي ، فلن نبعد كثيرا عن رائية أبي صخر، التي يقول محمد مظلوم- في كتابه (أصحاب الواحدة) - إنهم كانوا يسمونها (الموت الأحمر). وهي ليست داهية فقط، بل (دويهية)، على طريقة لبيد في تصغير العظيم. والذين يعتبرونها أحسن قصائد الغزل العربي معذورون. وبيت قصيدها، في نظري، هو البيت الذي أفردتَه بين أبيات الشعر العربي غيرَ معارَض:
عجبتُ لسعي الدهر بيني وبينها = فلما انقضى ما بيننا سكن الدهرُ
وأنا أتصور الآن ذلك العاشق المعشوق، الذي يعيش كل وقته مستثارا مشغولا، لا يجد وقتا ولا راحة ولا تقر به أرض أو تستقر فوقه سماء، فإذا انقضى العشق هدأت النفس وطال الوقت وخمد الحس، فكأن الدهر ساكن لا يتحرك. أليس هذا بعجيب؟
ثم ما رأيك ياصديقي في هذه الواحدة النادرة الغريبة: لامية أبي محمد المرتضى الشهرزوري التي يتحدث فيها عن نار غريبة ليست كنيران الشعر العربي التي نعرفها. يقول في مطلعها:
لمعتْ نارهمْ وقد عسعس الليـــ = ـــــلُ وملّ الحادي وحار الدليلُ
فتأملتُها وفكري من البيــ = ــن عليل ولحْظُ عيني كليل
ثم قابلتُها وقلتُ لصحبي = هذه النار نار ليلى فميلوا
إلى أن يقول في آخرها:
نارنا هذه تضيء لمن يســ ْ= ــــــري بليل لكنها لا تُنيل
منتهى الحظ ما تزود منه الـــــ = ــلَّحظُ ، والمدركون ذاك قليل
... فوقفنا كما عهدتَ حيارى = كل عزم من دونها مخذول
ندفع الوقتَ بالرجاء وناهـيــــ = ــــــــك بقلب غذاؤه التعليل
كلما ذاق كأسَ يأس مرير = جاء كأسٌ من الرجا معسولُ
هذه حالُنا وماوصل العلـــــ = ـــمُ إليه، وكل حال تحولُ
وياصديقي العزيز ، هل ترى هذه النار؟ أما أنا فأراها. ولكنني لا أعرفها. هل هي نار الصوفية؟ نار الفلاسفة؟ نار الحب؟ نار النور؟ أم هي نار الأحلام؟ يراها كل واحد حسب حلمه، والأحلام بصمات لا تتشابه ولا تتكرر...
***
- 5 - من عبد القادر وساط إلى أحمد بوزفور:
رُبَّ نارٍ بتُّ أرقبُها ...
مساء الخير سي أحمد
يا لهذه النار التي وصفها الشاعر الشهرزوري في لاميته الرائعة!
إني لأتساءل معك: أية نار هي هذه التي يتحدث عنها الشاعر بقوله:
لمَعَتْ نارُهُمْ و قد عَسْعَسَ الليلُ = ومَلَّ الحادي وحار الدليلُ
هل هي نار الصوفية؟ نار الفلاسفة؟ نار الحب؟ نار النور؟ نار الأحلام؟
هل هي نارٌ (باشْلارية)، نسبة إلى العالم والفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، صاحب المؤلف الشهير عن (النار في التحليل النفسي)؟ لقد ربطَ هذا العالم والفيلسوف الفرنسي بين النار وكيمياء الحلم . وما اللامية التي نتحدث عنها، يا صديقي، سوى بلورة فنية فريدة لكيمياء الحلم....
كيف نتخيل هذه النارَ إذن، حين نقرأ قول الشاعر عنها:
ثم قابلْتُها و قلتُ لصحْبي= هذه النارُ نارُ ليلى فميلوا
هل هي تستعر مثل (نار مجوس) التي وصفها كل من امرئ القيس والحارث بن التوأم اليشكريّ ، في قصيدتهما الرائية المشتركة:
أحارِ أريكَ بَرْقاً هبَّ وهْناً= كنارِ مجوسَ تَسْتَعرُ اسْتعارا
أرقْتُ له و نام أبو شريح = إذا ما قلتُ قد هَدَأ استطارا
ثم من هي ليلى هذه التي يتحدث عنها الشاعر الشهرزوري في لاميته البديعة؟
هناك شعراء آخرون، رأوا هم أيضاً (نارَ ليلى) ووصفوها في قصائدهم. فمنهم المجنون ومنهم الشماخ بن ضرار. أما الشاعر الذي خلّدَتْهُ أبياته عن النار، فهو عدي بن زيد العبادي، الذي قال:
يا لُبَينى أوقدي النارا = إنّ مَنْ تَهوين قد حارا
رُبَّ نارٍ بتُّ أرْقُبُها = تقضم الهنديَّ و الغارا
ولها ظبْيٌ يؤجّجُها = عاقدٌ في الخصْر زنّارا
ويُحكى أن معاوية بن أبي سفيان قد طرب لهذا الشعر حين سمع ابنَ صياد يغنيه وقال «لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان ...»
ويا صديقي العزيز، لقد تساءل شيخ المعرة في (الفصول والغايات) عن (نيران) هؤلاء الشعراء وعن كنهها، وتحدث الجاحظ قبله عن جوانب مختلفة تتعلق بالنار، وذكرَ فيما ذكَر قصةَ رجل يُدعى سهم بن الحارث ، أشعل نارا في الليل فجاءته الجن، فقال في ذلك بيته العجيب:
أتَوْا ناري فقلتُ: منُونَ أنتمْ = فقالوا: الجنُّ، قلتُ: عمُوا ظلاما!
وتحدث الجاحظ كذلك عن النار التي يراها المرء ولا حقيقة لها و هي تُسمى (نار الحُباحب).
وجاء ذكْرها في شعر النابغة (ويوقدْنَ بالصّفّاح نارَ الحُباحبِ)
وقد بيّنْتَ في رسالة سابقة، يا صديقي، كيف أن القدماء كانوا إذا إذا استعصى عليهم فهْمُ شيء ما، ابتدعوا له قصة تفسره وتعفيهم من عناء التفكير فيه. وذلك ما فعلوه مع (نار الحباحب)، إذ زعموا - وما أكثر ما كانوا يزعمون!- أن الحباحب اسمُ رجُل، وأن هذا الرجل كان بخيلا، لا يوقد ناراً بليل، كراهية أن يلقاها من ينتفع بها. وكان إذا احتاج إلى إيقادها أوقدها، فإن هو أبصر مستضيئا بها أطفأها!
وتحدث الثعالبي، من جهته، في « ثمار القلوب «، عن نار غريبة حقا، هي نار الحَرَّتَيْن ، التي قال فيها الشاعر:
ونار الحَرّتَين لها زفيرٌ= يصمُّ لهوله الرجل السميعُ
وهي النار التي كانوا يسمونها نار خالد بن سنان، وكانت ببلاد عبس. فإذا كان الليل فهي نار تسطع في السماء وربما تأتي على كل شيء فتحرقه، وإذا كان النهار فإنما هي دخان يفور، ويورد الثعالبي أخبارا عن هذه النار، هي أقرب ما تكون إلى الأساطير...
11/29/2013
* الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الإشتراكي
ـ الجمعة 29 نونبر 2013 العدد