-1-
باريس 8/10/1985
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة
أخيراً، بعد انقطاع طويل، وكأنه الدهر، بدأتْ طلائع أخبارك تصل، فكونك الآن في صنعاء معنى ذلك أنه سُمح لك أخيراً بالسفر والعمل، وبالتالي إمكانية أن نتواصل، إذ بعد أن أرسلت إليك رسالتين خلال الفترة الماضية، ولم أتلق رداً، قدرت أنهما لم تصلا، أو أن الظروف غير مواتية للكتابة.
لقد أبلغني ماهر أنه التقاك في صنعاء، وأنك تعمل في الجامعة، أرجو أن تكون مرتاحاً وبصحة جيدة، كما أرجو أن تتاح لك الفرصة لمواصلة أبحاثك ودراساتك، ونشر الجاهز منها، وربما تتيح لك اليمن أيضاً إمكانيات جديدة للبحث والدراسة والكتابة.
سبق لي أن زرت اليمن مرة واحدة ، عام1979، وهناك اكتشفت الجغرافيا أكثر من أي مكان آخر. هذا البلد، بتضاريسه، بنوع النباتات، بأشكال المعمار، بالطقس، يختلف كثيراً عن أية منطقة عربية أخرى، وربما يساعد هذا الاختلاف على اكتشاف الأشياء من جديد، اكتشاف ما حولنا واكتشاف أنفسنا. هكذا أحس في حالات مماثلة، وهذا الإحساس عامل مهم وعامل مساعد على الكتابة، ولذلك أرجو أن يحرضك لتعويض ما فات من فرص وأوقات.
بالنسبة لي بدأت أملّ الإقامة هنا، نتيجة عوامل عديدة، أبرزها الشعور بالغربة، إضافة إلى صعوبة تأمين تكاليف المعيشة، ولذلك يفترض أن أفكر بالانتقال، طبيعي لن يحصل شيء قبل الصيف القادم، لكن يجب أن أستعد ولو نفسياً.
أواصل كتابة الجزء الثالث من مدن الملح، وقد سميته تقاسيم الليل والنهار، وهذا الاسم الجغرافي – التاريخي، استوحيته من بعض قراءات كتب الرحلات، وأعتقد أنني لو كنت في مكان آخر، قريباً من مكتبتي على التحديد، لكتبت هذا الجزء بشكل أفضل، إذ أفكر أن أضمّن مقتبسات وإشارات معينة، لكن باعتبار هذا الأمر متعذر في الوقت الحاضر، فيجب أن أعتمد على ما لدي من مواد أولية، وأن أكيفه ضمن الظروف والإمكانيات المتاحة.
لا أدري إذا أتيحت لك الفرصة للاطلاع على الجزءين الأول والثاني من مدن الملح، إذا اطلعت فأنا متلهف لأن أسمع رأيك، لأنه سيكون ذا فائدة كبيرة بالنسبة لي في صياغة الجزء الثالث وتدارك بعض النواقص والأخطاء التي لم أفطن لها في الجزءين السابقين. أقول هذا دون مجاملة، إذ لا زلت أتذكر تلك المناقشات الخصبة حول شؤون الكتابة وشجونها، والتي جرت بيننا عدة مرات، وبالتالي كانت ذات تأثير في صياغات وأفكار لاحقة.
لدي ، من بقايا أيام سابقة، عدة مشاريع كتابية مؤجلة، وبي لهفة قوية أن أعود إليها في أقرب فرصة، خاصة وأن الإنسان يرى الحياة تتسرب وتهرب بسرعة، وكثير من الأشياء المؤجلة إذا لم تتابع بهمة عالية تنتهي إلى النسيان، ولا أريد لبعض المشاريع ذلك.
هذا ما لدي الآن، وما عدا ذلك التسكع في المدينة القارة: باريس، والضياع في متاحفها وشوارعها. ورغبة مكبلة في إقامة صلات ، خاصة مع أنماط معينة من عرب المهجر، الذين لا يفعلون شيئاً سوى اغتيال الوقت وتبذير الحياة وكأن هذا هو الهدف.
ربما جئت إلى صنعاء في شباط القادم لحضور ندوة حول موضوع الوحدة العربية، فإذا تسنى لي المجيء سوف تتاح لنا الفرصة لأن نلتقي ولأن نتحدث طويلاً.
في الختام ، إلى أن أسمع منك أو أن نلتقي تقبل تحياتي وأشواقي.
عبدالرحمن منيف
عنواني:
A. Mounif
10 rue de la Belle Feuille
Boulogne 92/00- France
ملاحظة: إذا توفر لك عنوان بريدي أكثر دقة ابعث به إلي، شكراً.
عبدالرحمن منيف
* * *
-2-
باريس 25/12/1985
أخي العزيز شاكر
تحيات أخوية حارة
بسرور تلقيت رسالتك وعرفت بعضاً من أخبارك، أرجو أن تستمر اتصالاتنا، وأن تتاح من الإمكانية لأن نلتقي. بخصوص الندوة التي كان يفترض أن أحضرها في صنعاء خلال النصف الثاني من شهر شباط، يبدو أنها تأجلت إلى وقت لاحق، لقد عرفت ذلك أمس عرضاً، وفيما إذا تبلغت بأخبار محددة سوف أشعرك بها. كنت أتمنى المجيء وأن نلتقي مرة أخرى. لكن يبدو أنه لن يكون في ذلك الموعد.
أخباري، كماذ كرت لك في رسالتي السابقة، يستغرقني تماماً هذه الأيام إنجاز الجزء الثالث من مدن الملح، أعمل عليه بصورة متواصلة ويومية، وأتوقع أن أنتهي منه في الربيع، وبعدها أريد أن أعطي نفسي أجازة طويلة، لكي أتخلص من آثار الضغط ، لأعود من جديد إلى بعض الروايات التي خططت لها في وقت سابق، ومشتاق أن أعالجها بطريقة مختلفة عن مدن الملح. هناك عدد من القضايا التي يجب ان تُعالج روائياً، لأن الرواية أقدر من غيرها على المعالجة والتأثير في بعض الأمور، فعسى أن تتاح لي الفرصة في وقت غير بعيد.
أخي العزيز
أتوقع أن أسمع أخبارك بتفصيل أوسع، وأتوقع أن "الإجازة" الإجبارية الطويلة بين التقاعد والعودة من جديد للعمل قد أتاحت لك الفرصة لإنجاز بعض الدراسات، خاصة وأن الدراسات الجغرافية تحتاج إلى جيش من الباحثين، وفيها من الكنوز الكثير الذي لم يكتشف بعد.
لقد اشتركت مؤخراً، ومن جديد بالمجلة الجغرافية الأميركية، إذ انقطعت عني منذ تركت بغداد، إلى أن جددت الاشتراك أخيراًً، وسوف تبدأ تصلني بدءاً من مطلع العام الجديد. ولدي رغبة في قراءات في هذا المجال، وقد نمى إلي أن الجمعية الجغرافية في الكويت أصدرت بعض الدراسات المهمة، سوف أحاول الاتصال بها والحصول على بعض مطبوعاتها.
لو توفر عدد من الباحثين للالتفات إلى ما هو موجود في المكتبة الشرقية والمكتبة الوطنية في باريس حول الرحلات لظهرت آثار كثيرة مهمة، لكن يبدو أن معظم باحثينا تشغلهم أمور أخرى! وعلى فكرة فإن معظم المكتبات تخصص هنا أجزاء هامة إلى كتب الرحلات، وهناك مكتبات لا تحوي سوى هذا النوع من الكتب!
أخي الكريم
قرأت أخيراً عن كاتب يمني اسمه زيد مطيع دماج كتب رواية مهمة اسمها الرهينة، أكون شاكراً إذا أرسلتها إليّ، فيما إذا كانت متوفرة في سوق صنعاء.
هذا ما لدي الآن، وسوف أبقى على اتصال بك، وأرجو أن أسمع أخبارك الطيبة وتقبل شكري وتقديري مع خالص الود.
عبدالرحمن منيف
***
-3-
باريس 18/3/1986
أخي العزيز شاكر
تحيات أخوية حارة
حسناً فعلت أنك ذهبت إلى الهند، هذه القارة الكبيرة والغامضة، والمليئة بالأسرار والحضارة، لقد قرأت قبل بضع سنوات رواية عن الهند، كنت أثناء قراءتها أشم رائحة البخور وأحس بحرارة الشمس، وكنت أتجول في بومباي بكثير من الخوف.
هذه القارة، رغم قربها وقرابتها منا، لا نعرفها جيداً، أو بالأحرى ننظر إليها بعيون الآخرين، كم أشتاق أن أصلها وأقضي فيها وقتاً مناسباً، إذا وجدت لديك الرغبة لأن تكتب إليّ بعض التفاصيل والانطباعات فإن هذا مما يشجعني على أن أفكر جدياً بالوصول إلى هناك.
في الوقت الذي كانت الهند تضج بالشمس كانت أيامنا هنا شديدة البرودة و البؤس. لقد صدف في كل السنين السابقة أنني لم أكن أكتب خلال فصل الشتاء، فالشتاء هنا لا يعني البرودة وحدها، إنه أيضاً القتام، العتمة المبكرة، تداخل النور والظلمة، قصر النهارات، وأخيراً حالة من الضجر تربك العقل والعواطف. اضطررت هذه السنة للعمل في هذا الفصل، ولم أكن أبداً راضياً عن العمل، أوقفته أكثر من مرة، عدت إليه أكثر من مرة، ولم أجد الدوزان إلا في الأيام الأخيرة، بعد أن تراجعت البرودة والعتمة والنهارات القصيرة، وأعتقد أنني سأستمر في العمل بوتيرة أفضل من السابق.
أسعدني، إلى أقصى حد، رأيك في مدن الملح. أشعر أني قد تلقيت المكافأة وأكثر منها، خاصة وأعرف مدى صرامتك وتشددك، وأن العمل، بعد أن يكتب، يستقل عن كاتبه، ويصبح للآخرين رأي فيه يوازي رأي كاتبه. أن يكون رأيك هكذا يدفعني لأن أنجز "تقاسيم الليل والنهار" بنفس المستوى، لأتفرغ، حسب اقتراحك أيضاً، إلى روايات قصيرة وساخنة ولدي منها الكثير: أفكار مكتملة، وشخصيات تنتظر، وحياة لا تزال أصداؤها تضج حولنا: من اللجوء السياسي إلى الديكتاتور إلى السجن مرة أخرى، وغيرها من الموضوعات. فقط أريد أن أنتهي من "التقاسيم" وسأحاول ان يكون ذلك في أقرب فرصة.
الرسالة التي أرسلتها من الهند وصلت. وكذلك رواية الرهينة. أما بخصوص زيارة اليمن، فعلى الرغم من وجود الرغبة، فإنني أفضل تلبية هذه الدعوة في وقت آخر، في نهاية السنة أو في السنة القادمة، وإني إذ أشكرك جزيل الشكر على تأكيد الدعوة أكون شاكراً إذا بلغت الدكتور المقالح امتناني وتقديري لدعوته الكريمة، وإني سأكون راغباً وقادراً على تلبيتها في وقت لاحق. أما بخصوص صديقنا المشترك، الدكتور الزعبي، فقد كسبت بوجوده إلى جانبك صديقاً عزيزاً وإنساناً شهماً. فقد افتقدت أخباره بعد أن غادر الجزائر، وكان ذلك قبل بضع سنين، رغم أني سألت بعض الأصدقاء عنه. الآن، في صنعاء، فقد آن لهذا الفارس أن يستريح قليللاً، قبل أن يواصل رحلة لا تنتهي.
قبل عشرين سنة، تقريباً، كنت واحداً من البدو الرحل، كنت أنتقل من مكان إلى آخر بحثاً عن كلأ العصر الحديث، الحرية، وكنت واحداً من القلائل الذين يعانون من مشكلة جواز السفر، الآن، وبعد مرور هذه السنين، وبدل أن يملأ الكلأ الأرض العربية كلها نجد أن التصحر هو الذي عم، وأصبح السيد المطلق!
الآن آلاف، عشرات الآلاف، وفي كل مكان، في الأرض العربية وفي الديار الأجنبية، يبحثون عن الكلأ والماء، عن الحرية وجواز السفر، وقد لامني بعض الأصدقاء، حين كتبت الأشجار واغتيال مرزوق، لأن مسألة جواز السفر كان أحد الأقانيم الأساسية في تلك الرواية. ماذا أصبح الحال الآن؟ وكيف سيكون غداً؟
أخي العزيز شاكر. هذا ما لدي، أو ما رأيت أن أكتبه في هذه الرسالة، راجياً أن نبقى على اتصال، كما أرجو من إنجازات علمية (وحبّذا أدبية أيضاً) خاصة وأن لديك الكثير لتقوله، وربما كونك في مكان بعيد بعض الشيء يتيح لك الكتابة أفضل من أوقات سابقة. وإلى أن أسمع منك تقبل مودتي الخالصة وتحياتي الحارة، مع رجاء إبلاغ الأصدقاء تحياتي وتقديري.
عبدالرحمن منيف
* * *
-4-
باريس 7/11/1986
أخي العزيز شاكر
تحيات أخوية حارة
كنت متلهفاً لسماع أخبارك ومعرفة أوضاعك، وقد جاءت رسالتك لكي تجيب على بعض الأسئلة والتساؤلات، خاصة فيما يتعلق بعدد من الكتب والدراسات التي أنجزتها خلال الفترة الماضية، أو تريد إعادة طبع بعض ما نفد. إن فرصة وجودك في صنعاء سوف تتيح لك عمل الكثير، وكل ما أتمناه أن تضع برنامجاً، وأن تحاول تنفيذ هذا البرنامج ، وأتمنى أيضاً ألا تكون التواريخ، أو المدى الذي تضعه لنفسك، لإنجاز هذه الأعمال كما أفعل. إذ يصادف في أحيان كثيرة أن آخذ عيّنية في فترة عمل أكون فيها متأرقاً وأواصل الليل والنهار، وأعتبرها مقياساً، ومن هنا أخيّب أمل بعض الأصدقاء، ففي الوقت الذي ينتظرون إنجاز العمل أكون أحبو على أعتابه، أو لم أمدد إليه يدي منذ فترة طويلة. لا أريد أن أقنع أحداً أو أن أبرر كسلي، لكن الظروف بعض الأحيان أقوى من الإرادة والرغبة معاً، خاصة في مثل الظروف التي نحياها أو نعمل في أجوائها. الآن لا أقوى على تحديد موعد جديد لإنجاز التقاسيم، لأن ظروفي من الاضطراب والتداخل إلى درجة يفترض خلالها ألا أكتب، وإلا بدت كتابتي شديدة القلق، متغيرة، وربما سوداوية. لست خائفاً، إذ أعرف أن تأخير شهور يمكن تداركه في أسابيع قليلة، خاصة إذا كنت في ظروف نفسية غير قلقة.
تقول في رسالتك أنه يجب عليّ أن أتحمل مسؤولية (ولم تقل وزر) الخيار الذي اخترته، ولا أكتمك ، لأنني لم أندم أبداً، وأعتقد أنني لن أندم. الشيء السهل يذهب بنفس السهولة، أما ما يتم الوصول إليه بتعب، وعبر القناعة والتحدي، فإنه الأكثر لذة في النهاية، وهو الباقي. ولذلك لست آسفاً أو نادماً، وسوف أواصل المشوار إلى نهايته، مهما كانت الصعوبات. وأعتقد أيضاً أنّ أغلب الصعوبات انتهت أو في طريقها إلى الانتهاء. أما أولئك الذين يملكون صحفاً هنا فإنهم "يستأجرون" البغال التي ترضي راكبيها، الذين يدفعون، وأنا لم أفكر أن أصبح بغلاً من بغال السلطان، ولذلك لم يقترب مني أحد، وأعتقد أن الإمكانية في الوصول إلى صاحب مجلة شريف يرضى أن أكتب عنده إمكانية محدودة، وإذا توفر فلابد أن يكون مفلساً وبالتالي يحمّلني عبئاً إضافياً!
الذين نريدهم أو نريد أن نكون معهم، غير قادرين على المساعدة. صحيح أنهم يرحبون لكنهم ، في النتيجة، غير قادرين على أن يكونوا معك في هذه الأوروبا – الحوت. الحوت الأوروبي يأكل حتى أولاده. هذه المدنية العصرية مدمرة. لا تعرف الرحمة أو الشفقة، لا تعرف الإنسان بملامحه، تعرف الرقم، رقم الإنسان ورصيده أو ما يمكن أن يأتي به من رصيد.
المهم سوف أغادر القارة الأوروبية خلال أسبوعين من الآن، بعد أن نقلت الأطفال للإقامة في دمشق، وسوف ألتحق بهم في نهاية الشتاء، وخلال هذه الفترة، إذا واتت الظروف. لابد أن أنجز التقاسيم، وبعد ذلك سوف أتحرك، وهنا أطلب إليك مرة أخرى أن تكتب لي عن الهند، إذ أفكر بالذهاب إلى هناك لقضاء بضعة شهور، أو ربما السفر إلى أميركا اللاتينية، لأن لي هناك صديقاً يلحّ عليّ أن أذهب لأقضي عنده بضعة شهور.
كانت تجربة فرنسا مفيدة ومهمة، لقد اكتسبت خبرة وأفكاراً، وأتيحت لي الفرصة لإعادة النظر بأمور كثيرة، خاصة الكتابة، كما أنجزت معظم مدن الملح هنا. ربما كتبت عن هذه التجربة في وقت لاحق، أما الآن فسوف أتركها غير آسف، وكان يجب أن أفعل ذلك ولأكثر من سبب.
إذا تعذر عليك الكتابة إلى دمشق فلا بأس أن ترسل إليّ الكتب التي ستصدر لك وأعتقد أنها ستصل. عنواني هناك بدائي، وربما حاولت الحصول على صندوق بريد، لكن العنوان مبدئياً سيكون: دمشق – المزة – مطار، فيلات غربية – شارع الأكثم بن صيفي رقم 336 ب.
أتوقع أن أسمع أخبارك، وأن تكون الأخبار جيدة، وإلى أن أسمع منك أو إلى أن نلتقي تقبل تحياتي الحارة، وإلى القريب العاجل، مع كل تقديري.
عبدالرحمن منيف
***
-5-
باريس 8/10/1988
أخي العزيز شاكر
تحياتي أخوية حارة
كتبت إليك في مطلع الصيف وانتظرت، ثم سافرت وغبت فترة طويلة، وحين عدت وجدت بطاقتك من الولايات المتحدة. لا أدري إن كانت باريس إحدى محطات سفرك في الذهاب أو العودة، ولم أجد مبرراً ألا نلتقي، لكن يبدو أن غيابي، أو ربما سفرك القصير أو عملك جعلك ألا تخطط وتخبرني بالأمر مبكراً. أرجو أن تكون السفرات القادمة أكثر حظاً وتتيح لنا اللقاء.
أخي العزيز
يبدو أن إقامتي في فرنسا توشك أن تنتهي، فقد تزايدت الصعوبات والأعباء المادية والنفسية، الأمر الذي يضطرني للبحث عن "منفى" آخر. ربما بقيت حتى نهاية العام لكي أنتهي أولاً من التقاسيم وثانياً لكي اجد البديل المناسب. لقد أبقيت الأولاد في سورية وألحقتهم بالمدرسة هناك وجئت لكي أصفي أوراقي وأوضاعي وأرتب أموري للخطوة القادمة. لست بعد متأكداً، ولكني أنوي أن أفعل. وسوف أكتب إليك من هنا، ثم فيما بعد من المحطة اللاحقة.
لم يتسنّ لي مواصلة العمل في "التقاسيم" خلال الصيف، وأنت تعرف أن الصيف في بلادنا يحول بين الإنسان والعمل، خاصة إذا ترافق أيضاً مع انشغالات وهموم أخرى. أتوقع أن أبدأ العمل الآن، وأن أواصله بهمة كبيرة لكي أنتهي في حدود نهاية العام، فعسى أن تتوافق الرغبة مع الإمكانية مع الظروف. لا أريدأن أنتهي من العمل بنزق، أو نتيجة الضرورة الملحة، خاصة وأني أريد لهذا الجزء أن يكون خاتمة مؤقتة، لكن مناسبة، على أمل أن أواصل العمل، في وقت لاحق طبعاً، على جزء رابع، لكن بعد أن أنصرف إلى أعمال أخرى كنت قد أجلتها من قبل.
لدي عدة مشروعات مؤجلة منذ أيام بغداد، وبعض الأحيان تزاحم "التقاسيم" ودائماً أحاول نسيانها، لكن لا أقوى على مقاومتها طويلاً، ولابد من الالتفات إليها في فترة قريبة، وهذا ما أحاول أن أخطط له في المرحلة القادمة، السنتين أو الثلاث السنوات القادمة.
يسرني أن أخبرك أن ثلاث روايات لي تترجم الآن إلى الإنكليزية: النهايات، شرق المتوسط ومدن الملح. الأخيرة تم الاتفاق على نشرها في نيويورك، عن طريق أبرز دور النشر، ويحتمل أن تظهر في خريف السنة القادمة. أما النهايات وشرق المتوسط فلم يستقر الرأي على الدور التي ستتولى نشرها، لكن أعتقد أن الأمر لن يكون صعباً. ترجمة مدن الملح يشكل بالنسبة لي حماية، وربما موارد مالية، وهي ضرورية في المرحلة الراهنة.
لا أدري ماذا فعلت خلال الفترة الماضية، أتوقع أن تكون قد أنجزت بعض الدراسات والأبحاث، أكون شاكراً إذا أطلعتني على ما أنجزته وعلى ما تهيئ له في المستقبل القادم.
هذا ما لدي الآن، و أرجو أن نبقى على اتصال وأن أسمع أخبارك، مع كامل الود والتقدير، وإلى رسالة قريبة قادمة مع مودتي.
عبدالرحمن منيف
***
-6-
دمشق 12/12/1989
أخي العزيز الدكتور شاكر
تحيات أخوية حارة
بسرور بالغ استلمت رسالتك والكتابين، شكراً جزيلاً، وأرجو أن تكون بداية جديدة لعلاقات بعد هذا الانقطاع الطويل، خاصة وأن لدينا الكثير لنتبادل الرأي حوله ونناقشه، وفي هذه الفترة بالذات، حيث يتعرض كل شيء لإعصار مجنون، وينكسر اليقين الذي كان سائداً لفترات طويلة.
أعتقد أن المرحلة الراهنة بحاجة تأملات وعميقة لكي نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ففي خضم الدوي الذي يصم الآذان، والسرعة الخارقة التي تتغير فيها المعالم والوجود والأفكار والمفاهيم، والاختلاط المرعب بين المواقف والأشياء، لم تعد المسلمات القديمة، والأساليب التي كانت سائدة كافية لتفسير هذا الذي يجري، خاصة وأن الآلة الإعلامية الضاغطة لا تترك للإنسان فسحة لكي يعيد ترتيب الأمور، وتمييزها. إننا في عصر خطر جداً، والخطأ في مثل هذا العصر مدمر وقاتل، ويبدو أن العالم الثالث ، بمجموعه، ومنطقتنا بالذات، ستدفع الثمن.
في ظل هذا المناخ يتساءل الإنسان عن جدوى الكتابة، خاصة وأن ما كان صحيحاً إلى ما قبل لحظة، أو ممكناً، لم يعد كذلك في اللحظة التالية، هذا أولاً، وثانياً كيف يستطيع كتّاب العالم الثالث ومفكروه أن يوصلوا أصواتهم ويعرضوا "سلعهم" في هذا المزاد المصنع والتي تغطى فيه أساليب الترويج الشديدة الإتقان والتي تحاصر الإنسان في كل خطوة من خطواته؟
إن العالم الذي نعيش فيه الآن ليس فقط يختلف عن عالم الأمس، وإنما يتغير في كل لحظة، ويشبه ماء النهر تماماً. إذ يندفع بقوة للأمام ولا يتوقف لحظة واحدة ليتساءل. وهنا تكمن الحيرة.
هل يمكن أن نجاري الآخرين ، أو هل يجب أن نجاريهم؟ إنه سؤال مقلق تماماً، لكن ما يغري ، إذا كان هناك من عزاء، أننا لسنا قادرين على ذلك، نتيجة الفرق الكمي ، والذي قد يتحول إلى فرق نوعي، ونتيجة حالة العطالة العميقة والطويلة التي لبستنا خلال عصور وأجيال، مما تترك لنا هامشاً لأن نستمر كما نحن، وبالتالي لأن نمارس حياتنا كما كنا نفعل من قبل، وكأن لا شيء يحدث حولنا!
قد يكون مبكراً طرح مثل هذه الأسئلة، أو تفجير الهموم، في الوقت الذي يجب بذل أقصى الجهد من أجل اكتشاف نقاط قوة أو القوة التي تجعلنا أقدر على تحمل صدمة العصر، ومن أجل أن نسند بعضنا كأفراد، بعد أن انهارت الإطارات، وأصبح كل واحد مضطراً على انتزاع أشواكه بيديه لكن هذا ما نملكه، وهذا ما نستطيعه، وعلينا أن نعيد اكتشاف الأرض التي نقف عليها، والناس الذين يحيطون بنا، لعلنا في نهاية النفق، نجد ضوءاً أو صيغة ما للإنقاذ.
أخي العزيز
لا أعرف لماذا اخترت هذه البداية في اول رسالة، في الوقت الذي يجب عليّ أن أسألك عن أ؛والك ومشاريعك، وفي الوقت الذي يجب أن أعبّر عن فرحي لأنك استعدت الثقة بالكلمة وبدأت بإعادة الطبع ، لتشرع مرة أخرى، ومن جديد، وبعد التجارب الكبيرة والانتقال، في الكتابة من جديد، وفي الحقل الذي خلقت من أجله. أتمنى أن أسمع أخبارك بالتفصيل، وأن نتبادل الخبرات والأفكار، فلعلنا، معاً، نستطيع أن نفعل شيئاً.
بالنسبة لي: بعد أن انتهيت من مدن الملح، بأجزائها الخمسة، أعطيت نفسي إجازة ، وشرعت بقراءات متعددة، إضافة إلى اهتمام خاص بالآثار (لا أعرف لماذا أو ماذا يعني؟!) إذ زرت مناطق عديدة، واكتشفت في نفسي ميلاً لأن أعرف أكثر حول التاريخ القديم! أحس في نفسي خلال هذه الفترة رغبة لا تقاوم من أجل العودة ، مرة أخرى، إلى شرق المتوسط، والكتابة في نفس الموضوع، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات الرائعة التي حصلت منذ تاريخ كتابة تلك الرواية (1972) والآن! إذا استقر رأيي على هذا الموضوع فسوف أشرع فيه من مطلع العام الجديد، أي خلال أسابيع قليلة.
كان بودي أن أرفق الأجزاء الثلاثة الأخيرة مع هذه الرسالة، لكن البريد الفرعي في المنطقة التي أسكن فيها لا يستلم المطبوعات، وهذا يقتضي مراجعة البريد المركزي، وهذا ما سوف أفعله خلال الأيام القادمة، وأرجو أن تصلك في أقرب فرصة، وقد يكون لنا حديث بعد أن تقرأها.
عنواني لم يتغير لكن موزع البريد يؤثر الراحة، ولذلك إذا لم يكن للإنسان صندوق فإن رسائله تتأخر أو تضيع، وهذا ما دعاني لأخذ صندوق هنا، وهو (9828) مزة – دمشق ، ولذلك آسف أن رسائلك السابقة لم تصل.
في ختام هذه الرسالة المشوشة تقبل تحياتي الحارة ، وآمل ان نبقى على اتصال خلال الفترة القادمة، راجياً لك كل الصحة والإنتاج الذي ترضى عنه، مع مودتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-7-
دمشق 12/3/1990
أخي الكريم الدكتور شاكر
تحيات أخوية حارة
كنت، خلال الأسبوع الفائت، على مرمى عصا من صنعاء، كما يقولون، وودت لو نلتقي، لكن أشغال الندوة، صبحاً وليلاً، لم تترك لي فرصة، إضافة إلى معرفتي أن الأمر لا يمكن أن يلخص أو يقتصر على بضعة ساعات يمكن أن أقضيها في صنعاء، لذا آثرت أن أمرّ مرور اللصوص من قربكم، دون أن أتحرش بكم، على أمل أن أجيء خصيصاً إلى صنعاء ولقضاء أيام عديدة!
لقد حمّلت العديدين ممن التقيتهم في الندوة، وكانوا عائدين إلى الشمال تحيات كثيرة إليك، آمل أن يكون بعضها قد وصل! طبيعي هذا لا يعفيني من المسؤولية، وحتى من التقصير، لكن "الهم" الذي كان يملؤني هو ضرورة العودة بسرعة لمواصلة العمل في الرواية الجديدة التي بدأتها منذ مطلع العام، والتي تدور حول الموضوع إياه: القهر، والذي يشغلني تماماً ، خاصة في هذه الفترة. لكن ما كدت أعود حتى وجدت برقية تنتظرني، وتطلب أن أسافر إلى تونس للمشاركة في ندوة تلفزيونية تبث من القاهرة وتونس معاً حول الرواية العربية ومستقبلها، ووجدت نفسي مضطراً أن أستعد للسفر، هذا إضافة إلى مجموعة من الأعباء الصغيرة والمسافرين الطارئين، الأمر الذي يجعلني لا أدخل عالم الرواية من جديد، ولفترة غير قصيرة.
إن إحدى مشكلات الكتابة في بلادنا أن لا أحد يعترف بعمله، أقصد أنهم يعتبرون عمله يمكن أن يؤدى فقط في أوقات الفراغ، وبالتالي يفترضون أنه يمكن أن يتوقف عن العمل، أو أن يعود إليه عندما يريد، ما عليه إلا أن يمد أمامه الأوراق البيضاء ويبدأ، ولهذا فإن وقت فراغهم هو بالضرورة وقت فراغ الكاتب، ومما يحبونه وما يثير شهيتهم هو ما يحبه الكاتب ويشتهيه ، وحين ينتهون ويريدون العودة إلى "أعمالهم" الجدية، يوافقون، وضمناً، على أن يعود الكاتب إلى بحثه وتسويد الصفحات!
هذه المشكلة أخذت تقلقني خلال الفترة الأخيرة، ولذا لا أعرف كيف أتصرف مع الكثيرين، لأن أية صرامة في التعامل يمكن أن يساء فهمها وتعتبر مجرد "بوزات" كما أن الاستجابة لرغبات الآخرين معناها : تمزيق الأعصاب وعدم القدرةعلى مواصلة العمل بحماسة ، ولهذا لابد من البحث عن معادلة ما فنأجل إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
لا أعرف لماذا انسقت للحديث بهذا الاتجاه، علماً بأن رغبتي كانت الحديث عن هذه الزيارة السريعة لعدن، ورسم صورة عن المكان والمناخ والناس والأشياء، والتي أراها لأول مرة. لكن رحلة تونس ، الإلزامية، والضرورية معاً، تجعل من الصعب أن أكون هادئاً، لأن معناها أن أقضي أسبوعين ، وربما أكثر في حالة عطلة، وبالتالي انتظار ظرف موات لبداية جديدة!
أخي العزيز
هل رسمت صورة متشائمة حول شروط عمل الكاتب ، والفرق بين ما يطمح إليه وما يحققه؟ أرجو أن يكون ذلك، ولكن ذلك الهاجس أن الحياة قصيرة، ربما، وأن هناك أشياء كثيرة يجب ان تقال، دفعني لقول ما قلته. ومع ذلك فالجانب الآخر مليء بالتجارب والفخار وإمكانية قياس أثر الكلمة، وبالتالي وصول الرسالة، وهذا لا غنى عنه لأي كاتب، أو بالأحرى ما يحتاجه الكاتب حاجة ماسة!
لقد تأخرت في الكتابة إليك، وكنت أتوقع أن أتبادل معك أحاديث أخرى في هذه الرسالة. لكن هذا ما وجدته الآن، ربما بتأثير المناخ المحيط، وآمل ان أكتب إليك في وقت قريب. وربما بطريقة أخرى.
تحياتي الحارة وأشواقي الكثيرة، وآمل ان أسمع منك قريباً،
مع كل الود.
عبدالرحمن منيف
* * *
-8-
دمشق 17 نيسان 1990
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق أكثر
استلمت رسالتك وسررت بها. وأن تكون قد تحمّلت هذه العقوبة كاملة: "مدن الملح"، وصبرت على قراءتها حتى النهاية، خاصة في جو السرعة الذي يميز عصرنا ومثقفينا، فتلك مأثرة أعتز بها.
أريد أن أجازف بفكرة لا أدري مدى صحتها: إن عصرنا العربي بحاجة ماسة إلى روايات كبيرة، وما لم توجد وتكتب هذه الروايات فسيبقى عصراً ناقصاً، لكن بالمقابل إنّ إنساننا العربي أصيب بعطب كبير، إذ لم يعد صبوراً أو قادراً على التعامل مع الأمور الكبيرة والجدية، هذا لا يعني أن الرواية بعدد صفحاتها، ولكن بموضوعها، بالأمور التي تطرحها. ومن هنا فنحن بحاجة إلى روايات "كبيرة". طبيعي لن أتورط ، مرة أخرى، كما قالت أيضاً تلك الإنكليزية ، مس بل، ساخرة، أنها لن تنصب ملكاً، بعد أن تعبت في تنصيب فيصل، وكذلك لن أتورط في رواية مثل مدن الملح، تمشياً مع طبيعة العصر وحاجاته. لكن ماذا نفعل في أمر الروايات المنتظرة ، الجامحة، الحارقة؟
الأمر، كما يبدو لي، شديد الصعوبة والتعقيد، لكن لكل صعوبة حلاً، وهذا ما وجدته، أو ما أفترضه. فشرق المتوسط رواية فترة؛ والفترة الثانية، المصنّعة، المتطورة، "الحشارية" تحتاج إلى روايتها، ولذلك يجب أن تكتب من قبل روائي ما، إذا لم أكن أنا فلابد أن يكتبها آخر، لكن باعتباري شاهداً على هذه المرحلة فلابد أن أدلي بشهادتي، وهذا ما حاولت أن أفعله خلال الفترة السابقة
لكن ... وهذه اللكن، والتي تشبه حتى سيبويه، من جملة الصفات السيئة التي أتمتع بها. إن طريقة الكتابة التي سيطرت عليّ: إما أن أحتشد للكتابة كلية، أو أن لا أكتب. وما حصل أني بعد السفرتين، الأولى لعدن، والثانية لتونس، وجدت نفسي أحتاج إلى جهد مضاعف، كما تقول عرافة أورك لجلجامش، وربما عشر مرات، من أجل أن أستعيد نفسي والحالة لكي أعود للموضوع ، بلهفة ، بقوة، بعتو، من أجل أن أقول ما أعرفه، وما يجب أن يقال. بعد هاتين السفرتين، ولأني أستعد الآن لسفرة جديدة، أجد نفسي موزعاً وحائراً. لا أستطيع أن أدخل "المعبد" ولا أستطيع الخروج منه، ولذلك تراني مزعجاً، متعباً، لنفسي، ولغيري.
الآن، وبرجلين من طين، أستعد للسفر إلى ألمانيا، فالإبداع العربي يحتاج إلى مدافعين، هذا ما أقوله لنفسي ، في محاولة للتحريض، من أجل المشاركة في الندوة التي تتعلق بالإبداع العربي، وهذا ما أحاول أن أقتنع به، خاصة وأن هناك عدداً من الأصدقاء ألحّوا علي وطلبوا مني المشاركة. لكن الرحلة إلى ألمانيا تقود إلى فرنسا، وفرنسا مثل المعشوقة في مرحلة معينة من العمر لا يمكن أن تنسى. وهذا يقتضي أن أزورها ، أن أستعيد فيها ذكريات وكأس نبيذ، إضافة إلى الخصومة!
ومثلما ذكرت لك في الرسالة الماضية، كيف يمكن أن أكتب ضمن هذا التوزع والتشتت؟ وكيف يمكن أن يتعايش الإنسان مع الآخرين في قطار الأنفاق أو في مطار من المطارات؟ وماذا تفيد الطرافة، أو المعرفة السريعة العارضة في جو مليء بالألغام والصراخ والأنين؟
إنني الآن أشعر بالقسوة على الآخرين، أو محاولة حرمانهم من المتع الصغيرة والمشروعة، وأحس أن الكتابة هي متعة من نوع ما، وإلا لا حاجة لها، وكذلك السيجارة والكأس وما يشبهها من الأمور، ولذلك لا أعرف كيف أريد كل هذه الأشياء لنفسي وأحرّمها على الآخرين؟
ربما من جملة الأمور التي تجعلني متردداً هاجس الانصراف إلى الكتابة، لأنه وحده يجعلني أتوازن مع هذا العالم الشديد الاضطراب والتغير، "لكن ليس كل ما يريده المرء يدركه"
الدعوة الكريمة من الدكتور المقالح مقبولة، لكن ليس الآن، لأني إذا لم أكتب رواية جديدة، فسوف أكون في حالة نفسية مزرية، وعليه فأنا أقترح أن تكون الدعوة في الخريف القادم، ولابد من الآن، وحتى ذلك التاريخ، أن أنجز "شرق المتوسط.. مرة أخرى" ، وأريد أن أجعلها رسالتي الجديدة في عالم شديد التغير وسريع. وأرجو أن تتاح لي هذه الفرصة، خاصة وأني سأعتزل ، مثل خلد، بعد عودتي، لكي أنصرف بالكامل.
مقالة الدكتور المقالح جميلة وهامة، وما فعلته أنا، وما فعلته أنت، لا يزيد عن كونه الشرارة الصغيرة في هذا المناخ المعبأ والقابل للاشتعال في كل لحظة. ليس عبث أو لوم، وأعتبر أن رسائلنا زادنا الأخير في هذه الحياة المليئة بالنكد والصعوبات والتحديات، فإذا كانت رسالتي حادة فقد كانت استجابة لما يدور في رؤوسنا كلنا.
تحياتي الحارة، وآمل أن أسمع منك وأن أكتب إليك، مع تحياتي الحارة إلى الدكتور المقالح وإلى الأصدقاء الآخرين، ولا تنس الزعبي، مع كل المودة والشوق.
عبدالرحمن منيف
***
-9-
27/6/1990
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق
بسرور تلقيت رسالتك، وعرفت بعضاً من أخبارك، وإني إذ أكتب إليك الآن آمل ان تصل رسالتي قبل أن تغادر في رحلة الصيف، والتي أرجو أن تكون ممتعة ومفيدة. فهذه الأميركا، لعنة العصر، يجب أن تعرف أكثر، ومن الداخل. إنها قارة مخيفة ، وناسها بمقدار ما يبدون طيبين فإنهم مغامرون وقساة، وهذا ما يجعلهم مختلفين كثيراً عن ناس القارة القديمة. إنهم يحملون في دمائهم أرواح القراصنة والقتلة، ويحملون أيضاً أحلام الأطفال وسذاجتهم، إلى كمّ هائل من رغبة الاكتشاف والخوف والتوجس من الآخر، ولذلك فهم يحصنون أنفسهم بدروع خارجية: بالمال، بالقوة، بالفخامة، لأنهم غير واثقين بالمقدار الكافي، وغير مطمئنين للمستقبل أيضاً. إن شراهتهم غير المحدودة دليل على جوع قديم ورغبتهم في السيطرة والاستحواذ تؤكد أنهم يريدون التعويض عما كانوا يفتقدون إليه!
أتسائل بعض الأحيان: ماذا لو تأخر خروج العرب من إسبانيا مائة سنة أخرى، وماذا لو كان العرب ضمن الذين قدر لهم الوصول إلى هناك؟
طبيعي لا يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه، وبالتالي، ربما، لا يتغير شيء، لأن العرب خرجوا من إسبانيا قبل أن يخرجوا منها، فقد كانوا في مرحلة تراجع، وكانوا خلال المائة سنة الأخيرة من إقامتهم فيها يدافعون عن آخر القلاع، ويحاولون، قدر المستطاع، تأخير إعلان ساعة الوفاة. وبشر من هذا النوع وبهذه الوضعية لا يستطيعون أن يفتحوا عالماً جديداً كأميركا. لكن أتساءل مرة أخرى هل وصل إلى أميركا سوى هؤلاء الذين كان يراد التخلص منهم ودفعهم إلى ما وراء المحيط؟ ألا يحتمل أن يكون العرب من هؤلاء؟ ولو افترضنا أنهم كانوا معهم، أو على رأسهم ، هل يتغير شيء؟
هكذا وقعت الأحداث، ولذلك لا فائدة من إعادة تشكيل التاريخ ضمن دوافع الرغبة، لأن الواقع أقوى وأشد صلابة من جميع الرغبات، ولهذا أصبحت أميركا هكذا، ويبدو أن ابن خلدون كان على حق وهو يشير إلى صعود الدول وانهيارها، ولذلك يجب ان تكتمل الدورة وأن تصل إلى نهايتها. والآن، كما يبدو، ذروة العصر الأميركي، وهذا ما نلمسه بدءاً من طريقة النطق إلى مفردات الحياة اليومية الصغيرة، ويبدو أن العرب مغرمون بالأقوياء، ليس من أجل أن يكونوا أقوياء مثلهم. وإنما لكي يخدموهم، ولكي يكونوا عبيداً لهم.
أخي العزيز
آسف لهذا الاستطراد، أو لهذا التجاوز، فقد كان أولى بي أن أسمع منك، بعد أن تقضي في رحلتك وقتاً كافاياًً تستطيع خلاله أن تكتشف، من جديد ، هذا المجتمع، وبالتالي نستفيد شيئاً جديداً، بدل أن نبقى ندور في دوامة الأفكار القديمة والأحلام. هكذا كان يفترض. لكن يبدو أن حرارة الجو، ومونديال إيطاليا أثرا عليّ، وجعلاني أسترسل هكذا، وأصادر على المطلوب سلفاً.
أخي، سوف أ بقى هذا الصيف هنا، خاصة بعد أن استنفدت عطلتي ما بين ألمانيا وفرنسا. وهذه العطلة كانت مريحة ومفيدة، ولذلك سوف أنصرف بكليتي للعمل، وآمل ان أنتهي مع بداية الخريف، و عندها سأكون جاهزاً لزيارة صنعاء.
في الختام تقبل مودتي وتحياتي الحارة، وأرجو أن تبلغ الدكتور المقالح شكري وتقديري وإلى اللقاء، وعلى أمل أن أسمع منك، مع تحياتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-10-
الأول من نيسان 1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وحارة
آخر رسالة كتبتها إليك في أول تموز الماضي، قبل سفرك إلى الولايات المتحدة، وتوقعت أن تجيبني على تلك الرسالة قبل السفر، أو على الأقل بعد عودتك؛ وهاقد مرت شهور طويلة، حافلة، ولم أسمع صوتك. أقدر بعض الأسباب. لكن، مع ذلك، كنت أمني نفسي أن أسمع صوتك مهما كان حزيناً ومثقلاً. والآن أجد ضرورة لأن أبادر. طبيعي كان أفضل لو قدر لنا أن نلتقي، أن نتحدث طويلاً، وفي كل القضايا، منذ أن خلق الله الأرض ، ثم الإنسان، إلى أن أصبح إنساننا مثل ما نراه الآنّ لكن باعتبار أن لقاء مثل هذا صعب وبعيد، على الأقل في الوقت الحاضر، فلا أقل من كلمات نتبادلها، مع معرفتنا أن مثل هذه الكلمات ستكون عاجزة رثة، وربما لا تقوى شيئاً. خاصة وأن ما حدث خلال الشهور الماضية أكبر من أن تحيط به الكلمات، ولم نستطع أن نستوعب بعد. إنه كابوس ثقيل أسود، مليء بالنتوءات والخفايا. ولذلك لا يمكن أن يقال ، أن يلخص، وهذا ما يجعل وقعه أصعب.
أقدر ، بداية، أنك موزع ومشتت ، وربما متعب، بحكم المكان، فبين أن تكون جغرافياً ، في مكان ويكون قلبك وفكرك في أماكن أخرى، وبين أن تكون رؤيتك للأشياء من خلال العينين فإنك تراها من خلال الأذنين، ومن خلال تلك الآلة الصماء، الراديو، التي تقول كل شيء ولا تقول شيئاً في نفس الوقت، وبين أن تؤمل أمراً ما يحدث ، كالمعجزة، في اللحظة الأخيرة، تتهادى الحجارة المسحورة لتردم كل شيء.
لقد كانت فترة شديدة الصعوبة، أقدر وأحس، وربما أعرف، لكن ما دام غيرنا الذي يقرر لنا كيف يجب أن تكون، وهو وحده الذي يفرض، فإننا الآن في حالة أشد صعوبة من السابق، لأننا غادرنا الوهم أو دخلنا فيه من جديد، وهذا ما يجعل الأمور مختلفة عن السابق.
وأعرف كيف أقول الأشياء، أو أية أشياء يجب أن تقال الآن. وهذا ما يزيدنا حيرة ويلجم ألسنتنا.
أعتقد أنه لم يتم لجيل على مر التاريخ أن يكون مثل جيلنا، أن نكون شهوداً على أخطر ما وقع في التاريخ: قيام الإمبراطوريات وانهيارها؛ نهوض الأحلام ثم انكسارها؛ انفتاح أبواب المستقبل أمامنا ثم انسدادها وغيابها؛ وآلاف الوقائع والمشاهد الأخرى. كل ذلك وقع أمام أنظارنا، رأيناه، لمسناه، تذوقنا لحظات الأمر ثم مرارة الخيبة. أي جيل في التاريخ عاش هذا الكم الهائل من الأحداث والوقائع والأحلام والهزائم؟
لايزال الجرح ساخناً، ولذلك يفترض أن لا يتحدث الإنسان كثيراً قبل أن يلملم نفسه ويداوي جراحه، ولذلك أترك الكثير الآن، إلى أن نقوى على أن نجري حديثاً موزوناً أقل انفعالاً وألماً.
الشيء الوحيد الذي أنقذني خلال الفترة الماضية أنني انكببت على العمل كما لم أفعل من قبل. كان خلاصي الوحيد، واستطعت أن أنجز رواية جديدة، هي امتداد لشرق المتوسط، وقد أعطيتها أيضاً نفس التسمية تقريباً، إذ سميتها: "الآن... هنا، أو، شرق المتوسط مرة أخرى" ويفترض أن تصدر خلال شهرين، وأبعد تقدير في منتصف حزيران، وحالما تصدر سوف أرسلها إليك.
وماذا أيضاً؟
مشتاق أن أسمع أخبارك ، وأن أعرف في أية حالة أنت، وماذا تعمل الآن، وما هي مشاريعك للمستقبل. أرجو أن لا تتأخر في الكتابة إليّ.
أفكر بالسفر، وربما أسافر في شهر مارس القادم ، لا أعرف كم ستطول السفرة، ولكن عليّ مراجعة الطبيب، وأيضاً للاستراحة، ولكن حتى ذلك التاريخ آمل ان تبقى على اتصال.
وكما ذكرت في بداية الرسالة: لا أريد من الكتابة الآن سوى أن أطمئن عليك وأن أسمع أخبارك، ولأشعرك أيضاً أنني لا زلت حياً، وربما قوياً أيضاً، وإلى أن تكتب إليّ أرجو أن تكون في صحة جيدة، وكذلك العائلة والأهل جميعاً والأصدقاء، ولا تنس أن تبلغ تحياتي للدكتور المقالح وأيضاً الزعبي. مع عميق مودتي.
عبدالرحمن منيف
***
-11-
دمشق 19/5/1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وحارة
حين بعثت إليك برسالتي السابقة لم أكن متأكداً أنك لازلت في صنعاء، بعثت بها مغامرة، أما بعد أن تلقيت الجواب فقد فرحت (ألا زلنا قادرين على الفرح؟) وبدا لي أن الدنيا لا تخلو من الجزر الخضراء والبشر واحتمال الفرح أيضاً. سلاحنا الأخير أن نظل متفائلين ، وأن نحاول. نعرف أن الأمر ليس سهلاً أو ممكناً، لكنه يستحق المحاولة!
الكتابة في السياسة (وحياتنا كلها سياسة) ليست مأمونة، فعين الرقيب الحولاء تصبح، وهي تقرأ رسائل الحالمين أمثالنا، عشرة على عشرة، وترتب على كل كلمة جملة من النتائج، الأمر الذي يعرض المرسل والمرسل إليه إلى متاعب وربما مخاطر هو في غنى عنها، ويجعل الشرطة الداخلية والخارجية تستنفر. وتتحول الكلمة، أية كلمة، إلى مسلّة لا يعرف الإنسان كيف يفرزها أو كيف يتخلص منها. إن حق المراسلة المكفول بشرعة الأمم لا نملكه ولا نقوى على ممارسته، وهذا يجعل رسائلنا أقرب إلى لسان العصفورة كما يقولون، فما بالك؟ إذا حاول الإنسان أن يقول رأيه وقناعاته في أمور حساسة؟
إن إحدى مشاكلنا مع الكلمة أننا نحوّلها إلى نقيضها، أن نحلّلها بكمّ هائل من الظلال والبقارع (البراقع) ولذلك غالباً ما نتكلم أكثر من لغة، أو أننا لا نفهم ما يقال على حقيقته، وهذا إذا كان يغني الفن ويعطيه تفسيرات كثيرة ومختلفة، فإنه في أمور أخرى يخلق إرباكاً لا يلبث أن يحوّل اللغة إلى مجموعة من الألغاز، ويصبح التفاهم صعباً أو متعذراً. وربما هذا ما ساد، خاصة في اللغة السياسية، بحيث أن الكثيرين يتكلمون ولكنهم لا يقولون شيئاً، أو أنهم يتكلمون ويصعب إيجاد القواسم المشتركة بينك وبينهم. وهكذا تتحول اللغة إلى مجموعة من الأشراك بدل أن تكون جسوراً أو طرقاً عريضة للتفاهم مع الآخر!
الأمر من جوانب عديدة، شديد العسر وبالغ الصعوبة، ويفوّت بالتالي إمكانية الوصول إلى الحد الأدنى المطلوب من التفاهم.
نتحدث عن كتابك حول كردستان، الأفكار والحلول المقترحة منذ ثلاثين سنة، والتي تناقش اليوم. لا أريد أن أكون متشائماً وأقول: أن ما يقال الآن يشير ولا يقول، وأن الحديث لا زال متلعثماً وبعيداً. وتتحدث أيضاً حول التساؤلات، لكن ما يحز في القلب: أننا لا نقرأ إلا ما نريد أن نقرأه في الكلمات لا الكلمات ذاتها، وأننا نفهمها حسب رغباتنا وأهوائنا لا على حقيقتها ودلالتها الصحيحة، ولذلك فإن لغة الصم لا تزال هي السائدة.
إنني الآن مربك أكثر من أية فترة سابقة، إذ رغم وضوح الكثير من الأفكار والصور والاحتمالات، ووصولي إلى قناعات وأحكام تكاد تكون نهائية، إلا أنني عاجز أو غير قادر على التعبير عنها كما أريد، لأن السلاسل والإحراجات، وايضاً الأسى، يجعل لأشياء كثيرة مذاقاً مراً، ويجعل لها منظوراً مختلفاً عما هو سائد، ومن هنا فالإنسان إما أن يصمت أو أن يموه، أو أن يلجأ إلى الفن بكل ما فيه من مكر ومواربة وتخييل.
خلال أسابيع قليلة سوف أرسل لك روايتي الجديدة – القديمة، لأن موضوعها بمقدار ما هو حاليّّ وعصري وضاغط فإنه قديم ومستمر وكلي في حياتنا. لا أدري إن جرؤت على قول ما كنت أو ما يجب ان أقوله أم أنني انسقت في التيار المتواطئ إياه فدفنت الجروح والأخاديد لعلها تجد يوماً طريقة في الوصول إلى حلول من نوع ما!
وهل الشرطة الذين صببت عليهم نقمتي هم الجلادين أم الضحايا، وهل نحاول إخفاء الجلادين الحقيقيين حين نستعير النسخ والأقزام والأبواق لكي نرى صورتنا فيها ومن خلالها، وهل هؤلاء هم المسؤولون أم مجرد أدوات؟
لقد ضربت الطينة بالعجينة، كما يقولون، واستخرجت من الصلال والصلصال الميت شيئاً افترضت أنه يملك حياة. هل أتوهم؟ أحلم، لا أعرف.
والعاصفة التي مرت.. هل يمكن لعاصفة مثلها أن تمر دون أن تقلب الكون كله؟ والناس هناك ، في الحلّة والناصرية وعشرات الأماكن الأخرى.. هل لا زالوا هم نفس البشر قبل وبعد العاصفة؟
إن في القلب جروحاً لا أتصور أن أحداً، شعباً، غيرنا قادر على احتمالها والاستمرار. وأن هذا بذاته يحتاج إلى الكثير من التأمل والدراسة والمقارنة، بهدف معرفة نقاط القوة والضعف في بشر من هذا النوع، وبالتالي الوصول إلى المعادلات التي تجعل الموت في النهاية هادئاً وطبيعياً، وإنسانياً أيضاً، لمثل هذا النوع من الكائنات الحية!
أخي العزيز
لا أريدأن أزيد الهموم أو أن أفتح الجروح، لكن ما نعيشه اليوم يستعصي على الفهم أو التكيف معه، وبالتالي لا يمكن السكوت عليه أو إقراره، مع أنه الحقيقة الوحيدة الكلية والشاملة، ومها حاول أن يهرب الإنسان فلابد أن يصطدم بالظلمة والجدار والوحل، ولا بد أن يسقط.
لقد علمونا طوال سنين طويلة أن نصمت، أن نؤمن بالآخرة، بالحياة الباقية، والنتيجة أننا وصلنا إلى شيء واحد: الصمت، أو إلى اللالغة، وهكذا أخذنا ندور في نفس اللغة لا نغادرها. أكثر من ذلك نشعر بالغبطة في هذا الدوران الأبله.
قد أكون متعباً أكثر مما ينبغي أو أكثر مما أحتمل . وعلّي ، للتخلص من هذا ا لوضع، أن أسافر. لم أقرر بعد، ولا أعرف متى أو إلى أين، ولكني سأحاول. أعرف أن السفر ليس حلاً، ولا دواءً، ولكنه مثل المخدر أو الأسبرين، لعل الإنسان خلاله او بعده يتمالك نفسه من جديد، ويحاول أن يضع أولويات من نوع أكثر ملاءمة وأكثر فائدة.
سأحاول استعمال هذا الاسبرين خلال فترة أرجو ألا تطول، ولولا بعض الالتزامات التي أراها ضرورية لبدأت فوراً.
وماذا أيضاً؟
كان يفترض في أن أكتب بطريقة مختلفة، إذ أعرف ما يثقل قلبك وفكرك، وبالتالي كان يجب ان أكون أقل أنانية، لكن بعد أن قرأت رسالتك، وبعدأن جلت في الأفق لم (أجد) غير هذه الطريقة!
من جملة المشاكل التي أواجهها أن اللغة ماكرة وملعونة، ومورّطة أيضاً. حبذا لو كنت قادراً على استعمال أداة أخرى. إن اللغات الأخرى، خارج اللغة، أكثر قدرة على التوصيل والدلالة، لكن يبدو أن الإنسان، بعد سن معينة، غير قادر على التعلم. ماذا لو كانت أداتنا الإزميل أو السكين أو حتى المحراث؟ ربما كنا أكثر سعادة وأكثر حرية لكن!
أخي
أرجو المعذرة، وقد رغبت من خلال هذه الرسالة أن أتكلم، وها أنا قد فعلت، ولذلك فإن هذه "التقاسيم" فاصل بين وصلتين ، قبل وبعد، وأرجو ألا تطول هذه التقاسيم وأن لا تستبد، وإلى أن أسمع منك تقبل تحياتي الحارة، وآمل ان تكون بصحة جيدة، وأن تكون متفائلاً أكثر مني، مع عميق مودتي، ولا تنس أن تبلغ الأصدقاء تحياتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-12-
دمشق 15/10/1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق أكثر
لا أدري بعد هذا الانقطاع الطويل الذي يفرض نفسه مرة أخرى كيف أعاود الكلام. كان بودي أن نبقى على اتصال مستمر، أن نتحدث ، أن نهذي، لكي لا نصاب بالخرس أو بالجنون، خاصة وأن كل ما حولنا يحرض على الصمت والجنون معاً، لكن يبدو أن ظروفي، ظروفنا، جعلت الكلام أصعب من الصمت، وجعلت التأمل أبلغ من الهذيان، وجعلت الجنون اللغة السائدة والمفهومة.
كان بودي أن أكتب قبل بضعة شهور، لكن ما حصل في بداية هذه السنة الملعونة، أمرضني. مرضت جدياً، وأصبحت في حالة لا أدري كيف، وفي لحظة ضرورية، ومناسبة ربما، قررت أن أتوقف عن المرض، أو عن استمراره، وأن أعود سيرتي الأولى؛ كانت القضية صعبة، لكني، في لحظة مواتية، استطعت أن أضع حداً للمرض، أن أوقفه، وافترضت أن الكتابة ترياقاً أو حلاً، وهذا ما حصل جزء منه، وإن كانت الكتابة مرض آخر. الحرب والرواية أمرضاني، جعلاني إنساناً آخر، وبعد أن أنجزت (تصور قسوة وبؤس كلمة انجزت!) هاتين المهمتين ، (وتصور مرة أخرى وكأن لي علاقة بالمهمة الأولى؟!) بدأت أتماثل للشفاء، أو أن أعود سيرتي الأولى. لا أعرف إلى متى سوف تستمر الأحوال مواتية ويبقى الإنسان قادراً على المقاومة والاستمرار، لكن هذا ما حصل حتى الآن.
في محاولة للعلاج سافرت، لكن السفر زاد وضعي سوءاً: من أين نهرب وإلى ماذا نهرب، ورجعت خائباً، وبدأت تلك الدورة الطاحنة من الأسئلة والتساؤلات، لم أصل، وما أظنني سأصل، لكني أنجزت الرواية وطبعت، وقد طلبت من دار النشر أن ترسل لك نسخة، أعتقد أنها ستفعل، ومن خلالها سوف تكتشف أية معاناة تستبد بروحي وجسدي، وأية احتمالات إيجابية أنتظر!
لقد كانت الفترة الماضية شديدة الصعوبة، وربما لا تشابهها إلا أيام حزيران الستة، الستمائة ، الست آلاف، والمستمرة حتى الآن. أشعر بشوق إلى بغداد لا يوصف، وأشعر برغبة أن أكون قريباً من البشر هناك، لأن أية مشاركة، على البعد، غير مجدية، ولا تعبر . طبيعي أعرف كم من الحماقات ارتكبت، وكم من القسوة ميّزَت الذين هناك من الذين يتخذون القرار، وأعرف أيضاً لماذا أصبحت كربلاء في العراق، ولماذا حصل الطوفان، لكن كل شيء بعد فوات الأوان، بعد أن حصلت كربلاء مرة أخرى، وبعد أن طغى الطوفان ولا يزال هناك.
كنت أحاول، في فترة معينة، تفسير حزن الغناء العراقي، اعتبرت الطبيعة سبباً بقسوتها، بين الحر وا لبرد، واعتبرت الفيضان، وملوحة الأرض، وكون العراق ممراً ومعبراً، لكن يبدو لي أن هناك، بالإضافة إلى كل ذلك: لعنة الآلهة وجنون القادة، وربما أشياء أخرى! وتظل الأسئلة تدور، وتدور معها الأيام، دون أمل وبلا أفق، ولا أعرف إلى متى.
أحاول، قدر الإمكان، أن أبدو هادئاً وعادياً، لكن البراكين التي في داخلي لا تهدأ ولا تتوقف. أحاول أن أقول بعض الأشياء، أكتب، أفكر، أحلم، لكن في اللحظة التالية أفيق على الكابوس: كل شيء تدمر، أصبحنا في العراء، لا إمكانية منظورة بحل من أي نوع، وأصل إلى نتيجة وحيدة: الكتابة، أكتب، لكني لست واثقاً ولا أملك أي يقين، لأن الطاحونة مستمرة في الدوران. عالمنا قاسٍ وشقي، الأقوياء يأخذون حقهم وحق غيرهم وكل ما يريدون، والضعفاء يدفنون مختارين أو مضطرين، ولا أمل في حل قريب!
ربما أثقلت عليك وحملتك فوق أحمالك كلها، ولا أعرف لماذا أفعل ذلك، كنت أود لو كنت أكثر هدوءاً وأكثر رصانة وأن نتحدث عن أشياء مفيدة، لكن يبدو أن مزاجي في واد آخر، وبالتالي أترك نفسي، وأترك لنفسي الحديث بهذه الطريقة. إنها أيام صعبة، قاسية، هل يمكن للكلمة أن تفعل شيئاً؟ إنه السؤال الأبدي الذي لا يفارقني لحظة واحدة. لا أعرف له جواباً مؤكداً، لكن لا أطيق أن أسلّم أو أتراجع. ربما كان الطريق الذي أسير فيه ذا اتجاه واحد، وعلّي أن أواصل حتى النهاية، دون التفكير بالتوقف أو بالتراجع، وهذا ما سأحاوله أياً كانت النتائج.
أخي العزيز
كان بودي أن أسألك عن أحوالك والأهل ، عن الأصدقاء والديار، عن الحلة والجوار، لكن يبدو أن هذا الفيض أخذني وجرني، كما تجر مياه الفيضان كل شيء، وهكذا حُملت على موجة من أمواج الفيضان وقلت الذي قلت، ولأني متعب ومحبط، وربما أكثر سلكت هذا الطريق.
وماذا أيضاً؟
أكتب هذه الرسالة لأعاود من خلالها الاتصال، ولأقول لك أني لازلت أمارس الحياة والكتابة والتأمل والحزن ، والحيرة أيضاً.
أكتب إليك لكي أبقى وأرغب أن نبقى على اتصال، وإلى أن أسمع منك تقبل تحياتي الحارة وأشواقي الكثيرة.
عبدالرحمن منيف
* * *
-13-
8/12/1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق أكثر
لم تبق إلا أسابيع قليلة وتنقضي هذه السنة الكشرة، والتي ستترك في أرواحنا ندوباً لا تمحى ولا تنتهي، وإذا كان الصينيون يتفاءلون ويتشاءمون بالسنين، ويعطونها أسماء وأوصافاً، ويرتبون مواليدهم على أساس هذه السنين، لكي يوفروا لهم أقصى سعادة ممكنة على هذه الأرض، فإن السنة التي توشك أن تغادرنا الآن لابد أن تظل معنا تقوم وتنام لعدة أجيال لاحقة، كما هو حال 67، مع فارق أساسي: كنا أكثر غباءً في السنة الأخيرة مما كنا في 67، لأن الفخ الذي نُصب لنا لم يكن مموهاً ولم يكن مفاجئاً، وهكذا اندفعنا مثل الثيران لكي ندخل في تلك الحلقة الجهنمية، والتي حوّلت المنطقة بأسرها إلى بيوت من الشمع تذوب وتتساقط شهراً بعد شهر، سنة وراء سنة، خاصة وأن الشهية الأميركية مفتوحة ولا تعرف التوقف أو الشبع، وهكذا فإن الويلات التي ستأتي ستكون أكبر مما مضى، وسوف تترافق فيها الضربة مع المذلة، والعجز مع الحسرة، أو كما قال الرسول: حشف وسوء كيل!
رسالتك حول معاناة الناس هناك تثير الأسئلة والشجون والمرارة. هل يعقل أن يضطر الجميع لاحتمال خطأ إنسان فرد، وهل يبلغ الجنون بواحد أن يورط الجميع؟( ) وهل أن الآخر، الأميركان، كانوا بحاجة إلى ذريعة لكي يجربوا كل قوتهم وكل أسلحتهم الحديثة؟ إن في الأمر ما يستعصي على الفهم والإدراك، خاصة بعد الذي حدث في الاتحاد السوفياتي، وكيف يمكن لفأر أن يهدم السد العظيم. إن المنطق الذي خضعنا له طوال العقود الماضية ملئ بالثغرات والعيوب، وكنا أشبه بالذين لم يروا عري الملك إلى أن جاء الطفل واكتشف كل شيء. لقد كان البناء يبدو لنا ، للجميع، وحتى للأعداء، أكبر من أن يطاله البصر، وأرسخ من الجبال، وأقوى الأشياء كلها، ثم فجأة، ودون مقدمات من أي نوع، لا يبقى حجر فوق حجر، وينهار المعبد فوق رؤوس المصلين. إن في الأمر ما يستعصي على التفسير، وذلك الصديق الذي كان يرد على الكثيرين، ويقول: لا يمكن تفسير التاريخ بطريقة بوليسية، أو نتيجة المؤامرات، لا أعرف ماذا يمكن أن يقول الآن وقد تكشف هذا التاريخ عن قصة بوليسية من نوع التريسو. نعم هذا ما أحسه في أمور عديدة، وكأن يداً خفية تلبد في مكان معتم تحرك كل شيء!
قد تكون مثل هذه الأحاسيس نتيجة قوة الضربة أو شدة الصدمة، وبالتالي عجز الإنسان عن تفسير ما حصل، وإلى أن يعود الإنسان إلى شيء من التوازن، وبعد أن تبتعد الأحداث إلى مسافة تمكّن من الرؤية، وبعد أن تنكشف أمور كانت أسراراً، ربما نستطيع عندئذ أن نعيد ترتيب الأمور ووضعها في خانات محددة ثم إلى (أن) نعطيها أوصافها الحقيقية، وحتى ذلك التاريخ سيبقى الأسى ناشراً أعلامه فوق رؤوسنا، وستبقى الرؤية غائمة أو مموهة، وسنبقى ضائعين ندور بحيرة في نفس الدائرة.
أخي الكريم
لا أعرف ماذا أردت أن أقول، خاصة وأن القضايا والهموم تزدحم في العقل والقلب وتتشابك إلى درجة يحار معها الإنسان كيف يتكلم أو ماذا يجب أن يقول، خاصة في ظل الرقابة والقمع وكم الأفواه، أكثر من ذلك: كثيراً ما فكرت بضرورة اختراع لغة جديدة، لغة ليس من السهر حل رموزها، وتبقى مستعصية على الذين لا تحبهم أو لا تثق بهم، لأن اللغة المتداولة، السائدة، فسدت وفقدت الكلمات معانيها، وتتجول في الأسواق بملابس رثة وبطريقة بائسة، لكن لغة مثل التي يتمناها الإنسان متعذرة، على الأقل الآن، وهذا ما يجعلني أندفع، وبقوة، إلى الرواية، لعلّي أستطيع أن أخلق من خلالها عالماً موازياً لهذا الواقع السوريالي الذي لا يمكن أن يفهمه أو يتعاطف معه حتى برتون أو دالي . أعرف أن الكثير مما أكتبه مشوش ولا يشي بما أريد، لكن باعتباره خيالي، ويمكن أن يقرأ بأشكال متعددة ، فإنه يحمل معه تبريره، وبالتالي يعوض، ولو جزئياً، عن اللغة التي أحلم بها.
سوف أهيئ نفسي ، بدءاً من مطلع العام، إلى رواية جديدة ، لا أعرف، حتى الآن، ماهي أو كيف ستكون، ولكن يجب أن أفعل قبل أن تنفجر مرارتي وأقع نتيجة كل ما يجري.
يقول صديق يعيش حالياً في كندا، وبعد أن تابع الفيلم الأميركي الطويل: "لا يمكن مواجهة لمرحلة الحالية إلا بالهذيان"، وهذا ما أمارسه الآن، لأن المنطق لم يعد مجدياً أو كافياً لتفسير ما يجري الآن" وإذا كانت لكل إنسان وسيلته في المواجهة ، على الأقل في محاولة تجنب الموت
أو الجنون، فأعتقد أن الهذيان أو ما يشبهه من الأدوية المسكنة،
وربما النافعة، على الأقل في المرحلة الأولى، حتى إذا استعاد الإنسان قدرته على النظر بهدوء إلى الأشياء، واسترد بعضاً من قوته،
عندئذ يمكن أن يتعامل مع ما يجري بقابلية أكبر على التفسير أو التبرير، تمهيداً لاتخاذ اتجاه، أو وجهة، وقد تساعده ا لشمس أو النجوم على اختيارها!
كان يفترض أن أكتب لكي أخفف عنك بعضاً من الهموم التي تلقى، خاصة وأن يديك في النار، كما يقولون، أكثر مني، لكن، ودون قصد وجدت نفسي أهذي، ربما استعداداً لرواية جديدة، تكون صورة من صور الهذيان الجماعي، أو مثلما يفعل لاعبو كرة القدم الاحتياط حين يسخنون أنفسهم إذا هيأوا أنفسهم أو هيأهم المدرب للحلول محل المتعبين أو المصابين.
أخي الكريم
كتبت كثيراً، ولم أكتب شيئاً، وربما كنت بحاجة إلى هذه الكتابة لعلي أريح نفسي، وهذا ما فعلته، وإلى أن أسمع منك تقبل تحياتي الحارة، ولا تنس تحية الأصدقاء.
عبدالرحمن منيف
* * *
-14-
17/1/1992
أخي العزيز شاكر
تحيات حارة
استلمت رسالتكم وعرفت بعضاً من أخبارك، بما في ذلك احتمال زيارتك للأهل خلال الشهر القادم. آمل أن تكون الأحوال أفضل من قبل، وأن تطمئن، كما آمل أن أسمع أخبارك باستمرار.
هذه الرسالة رسالة عمل، إذا صحّ التعبير. إذ أريد منك أن تشاركنا في إبداء الرأي حول سقوط الاتحاد السوفياتي، لماذا وماذا يعني لك وماذا تتوقع بالنسبة للمستقبل. الرأي المطلوب قد يكون على شكل انطباعات ذاتية أو أية صيغة ترتأيها مناسبة، والمهم أيضاً أن تبعث بها إليّ قبل سفرك أو أثناء وجودك في عمان، أو أن تضمن وصولها إليّ قبل نهاية شهر شباط. خاصة وأن مساهمتك، ضمن المجموعة المنتقاة، ستكون هامة.
لا أعرف ما إذا حدثتك عن العدد الخاص الذي سنصدره من "قضايا وشهادات" حول الولايات المتحدة في هذا العام، وحبذا لو تتاح لك الفرصة للمشاركة. إذا لم أفعل فإن الخطأ يقع عليّ أيضاً. سأحاول تدارك هذه الأخطاء، وسوف أبعث إليك العدد الأخير على الأقل، كما سأرسل المخطط الموضوع لعدد الولايات المتحدة، فإذا بدا لك أن هناك من يود المشاركة في العدد المذكور من المتخصصين والأساتذة، فإنه يكون خيراً على خير، وحبذا لو تشعرني بالأمر وبالعناوين المقترحة.
أرسلت اليوم رسالة إلى الدكتور المقالح طالباً منه أيضاً المشاركة في إبداء الرأي حول سقوط الاتحاد السوفياتي، كما أرسلنا رسائل مماثلة إلى عدد من أساتذة عدن، وأتوقع أن يكون الكتاب مجموعة شهادات المثقفين على حدث كبير، وأن يتمتع بأهمية ومصداقية في هذا الظرف الصعب.
حالما تصلني نسخ من كتابي الجديد: "الديمقراطية أولاً... الديمقراطية دائماً" سوف أرسل واحدة منه إليك.
أرفق طياً الرسالة دون ظرف ، وآمل أن أسمع منك قريباً، وتقبل مودتي وتحياتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-15-
13/4/1992
أخي الكريم
تحيات حارة وأشواق كثيرة
تلقيت رسالتك قبل فترة طويلة، وتلقيت الدراسة – الشهادة أيضاً. كان بودي أن أكتب قبل الآن، لكن لتوقعي أنك على سفر فقد أجّلت الكتابة بعض الوقت.
آمل أن تكون بصحة جيدة، كما آمل أن تكون زيارتك للأهل قد طمئنتك بعض الشيء.
التقيت أخيراً ببعض الأصدقاء العائدين من كوبا، وذكروا لي بعضاً من أخبارك، وصلتهم معك بما في ذلك المقيل . لقد قضينا سهرة مفيدة تعرفت من خلالهم على بعض قضايا اليمن ، وحول الأوجاع والهموم أيضاً آمل أن نظل على تواصل، وربما حاولت المجيء في زيارة عند حدود نهاية العام، خاصة وأني اعتذرت أكثر من مرة.
أخي العزيز
أكتب هذه الرسالة في زحمة الاستعداد للسفر إلى لندن، ولذلك أعتذر عن قصرها أولاً، وأعتذر أيضاً لكونها تتعلق بطلب يخص اثنين من أقربائي تقدما لجامعة صنعاء أملاً بفرصة عمل، الأول اسمه قاسم سلمان قاسم، دكتوراه في الفيزياء وله خدمة عشر سنوات في الجامعة التكنولوجية والثاني ماجستير، وفي المرحلة الأخيرة من الدكتوراه، لكنه توقف مؤقتاً نتيجة الظروف الراهنة في الكويت وهو مختص في قراءة ومعالجة الصور ، وله خدمة 4 سنوات في البحث العلمي وسنوات أخرى في الجامعة والثاني يقيم حالياً في عمان واسمه سعيد علي أمين. وقد تقدما بأوراقهما عن طريق صديق يمني، وأعتقد ربما نتيجة إعلان من الجامعة عن حاجتها لمثل هذه الاختصاصات. أكون شاكراً إذا استطعت المساعدة عن طريق الصديق الدكتور عبدالعزيز أو الجامعة مباشرة، ولا أريد أن أثقل عليك في الحديث عن الضرورة والتفاصيل.
سوف أغيب في هذه السفرة ثلاثة اسابيع، أعود بعدها إلى دمشق من أجل الانغماس في الكتابة؛ إذا توفر لك جواب قبل عودتي فعنوان قريبي سعد علي أمين – مكتب الرازي، شارع الجليل المتفرع من دوار فراس، بواسطة يوسف الجمعان – عمان الأردن.
معذرة مرة أخرى بطبيعة هذه الرسالة، وسوف أحاول الكتابة إليك من أول محطة مناسبة وحتى ذلك الوقت لك تحياتي ومودتي، رجاء أن تبلغ الاخوان سلامي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-16-
دمشق 6/9/1992
أخي العزيز شاكر
تحياتي الحارة
وصلت رسائلك الثلاث في يوم واحد، وقبل أيام فقط!
كان بودي أن أكتب إليك قبل هذا الوقت، ولكن قدّرت أن فترة الصيف لابد تحملك إلى مكان من الأمكنة، وبالتالي لابد أن تكون بعيداً عن صنعاء، وعليه فقد أرجأت الكتابة. والآن، وقد أوشكت السنة الدراسية أن تبتدئ، يمكن أن نواصل الحديث الذي بدأناه منذ سنوات، أن نتبادل الهموم والأفكار... والأحلام أيضاً، خاصة في ظل الجو الكابوسي الذي نعيشه الآن، والذي لم أتصور ، لم أتخيل أننا يمكن أن نصل إليه. إن أوضاعنا الآن تشبه تلك الدمية الروسية التي تتوالد نفسها على شكل مسوخ تصغر مرة بعد أخرى إلى أن تتلاشى. ماذا بقي للروائي أن يكتبه؟ إن هذا السؤال يتحداني باستمرار في ظل مسرح اللامعقول الذي نعيشه كل يوم، كل ساعة. لقد فاق الواقع كل خيال وتجاوزه بحيث لم يبق للروائي ما يفعله، وبالتالي لابد من اختراع وسائل تعبير تتجاوز الرواية والخيال في محاولة لقراءة ما يجري!
إنه العصر الأميركي بامتياز، وهذا العصر ليس كالعصور التي سبقته، أو يمكن أن تتلوه، إنه متحدٍ وشديد الوقاحة وكامل العري، يريد الجميع مثالاً له، ولكن على شكل تلك الدمية، وفي مراحلها الأخيرة، وكل من يحاول قول لا لابد أن يحذف، أن يكسر ، أن يكون أمثولة، ولذلك ترى وتسمع تلك العربدة التي تملأ الدنيا وتصم الأذان، لكي يخاف الجميع، لكي يتأدبوا، ويبدو أن هذه السياسة نجحت حتى الآن ، خاصة على مستوى الأنظمة ، وكل واحد يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في هذا الطابور الأميركي الطويل، لكن ...
هل يمكن لمثل هذه العربدة أن تستمر، أن تسيطر؟ الدلائل المباشرة تقول نعم، تقول أنه ممكن، لكن من أخطاء التاريخ أن نقيس كل شيء على الراهن، على الظاهر، وأن نعتبر القوة المادية وحدها يمكن أن تروّض الجميع. صحيح أنه قد تأد الكثير من الأحلام، وتجعل التفكير شاقاً وملتبساً، لكن القوة وحدها لا تصنع الحضارة ولا تكوّن قناعات الناس وضمائرهم، وبالتالي فإن خطرها الوحيد في عرقلة المسارات وتعقيدها، وربما شيء من هذا مطلوب بالنسبة لنا نحن العرب. علينا أن ننتقل من الحالة البسيطة إلى الحالة المركبة، من معادلة المجهول الواحد إلى معادلة المجاهيل المتعددة، لأن طبيعة الحياة المعاصرة تفرض ذلك، وبالتالي فإن العقل البدوي الثاوي داخل كل منا يجب أن ينتهي، أن يستبدل بعقل آخر مختلف، وإلا فإن الانقراض، وبمعناه المادي، سيكون مصير هذه الأمة.
إن العرب، يا صاحبي، بموقعهم الجغرافي، بتاريخهم، برسالتهم السماوية، شعب مزعج لأنفسهم وللآخرين، وبالتالي لا يمكن أن تبقى الأمور في حالة مترددة أو حائرة، كما أن اللون الرمادي لا يمكن أن يبقى اللون السائد، ومن هنا لابد للآخرين أن يعالجوا وضعهم إذا عجزوا هم عن معالجته، وهذا ما يجري الآن، لكن معالجة من هذا النوع يمكن أن تحوز وتمشي بالنسبة لشعوب أخرى، أما هذا الشعب المزعج فإما أن يكون شريكاً حقيقياً أو ينتهي. وما يجري الآن محاولة لإنهائه، خاصة وأن أميركا وإسرائيل لا يمكن أن يهدأ لهم بال إذا ظلت الأمور حائرة هكذا، أو كانت تندس بين رمادي ورمادي آخر، دون أن تتحول إلى شيء آخر، وإلى لون واضح من ألوان الطيف الشمسي!
التفتيت.. التفتيت.. التفتيت هو ما يراد للمنطقة، لكل قطر، لكل حالة، وقد لا أبالغ إذا قلت لكل شخص، ينام الإنسان على قناعة ويستيقظ على غيرها، على نقيضها، هذا ما يراد الوصول إليه، ويبدو أننا نساعدهم، حتى الآن، في تطبيق هذه السياسة، وكما ترى وأينما التفت، سيرك عربي من المحيط إلى الخليج، ولكن دون متفرجين، دون تشويق، ولابد أن تقوّض الخيمة في لحظة ما، لكي يشاد بدلاً عنها شيء أكثر جدارة وأقدر على الخدمة، وهذا ما يحاولون الوصول إليه وبسرعة!
هذا هو العصر الأميركي في نهاية القرن، ويبدو أن قرننا الذي بدأ بالنفط يختتم سنواته الأخيرة بنفس المصيبة، وكما يقول هيكل في كتابه الأخير يراد أن يكون القرن القادم قرناً للنفط أيضاً، فمن يسيطر عليه يسيطر على العالم!
لكن ما بال العالم، كل العالم، وقد أصبح مخصياً هكذا؟ أين هي الأفكار والأحلام التي ملأت النصف الأول من هذا القرن؟ أين هي الثوابت التي تشكل أفقاً أو احتمالاً للمستقبل؟ ما هذا الذي يجري في أنحاء متعددة من الأرض، وكأن الكثيرين كانوا ينتظرون اللحظة التي يغفو فيها الضمير، يتعب، لكي يتحولوا إلى وحوش مرة أخرى؟ ماذا يجري في يوغسلافيا وأفغانستان وأذربيجان وأماكن أخرى كثيرة من العالم؟ أين كانت تلك الأحقاد والحسابات والشطارات مخبئة؟
أكاد في لحظات كثيرة لا أصدق، وأعتبر أن ما يجري مجرد كابوس ، لابد أن ينتهي وبسرعة، لكن في لحظات أخرى أعتبر أن كل ما تعلمناه كان بسيطاً ساذجاً، وأن قوانين الحياة أقسى وأكثر تعقيداً مما افترضنا أو رغبنا، وبالتالي لابد أن ندفع الآن ثمن جهلنا وبساطتنا، وبلاهتنا أيضاً، وعلينا أيضاً أن نرتفع ونبلغ من الآن سن الرشد ، وإلا لاعذر لأحد، ولا يمكن الدفاع عن البلاهة أو تبريرها.
هل هناك حاجة لأن أستمر في كتابة الرواية، وإذا فعلت، لماذا وما هي النتائج التي أريد الوصول إليها أو يمكن أن تتحقق؟
إنني أطرح هذا السؤال على نفسي بشكل جدي ، وأحار في الإجابة، خاصة وأن الكثير مما يقال ويكتب وكأنه غناء في البرية، صراخ في أودية الشيطان، أوهام نعلل أنفسنا بها لكي نكمل مشوارنا على هذه الأرض، ونقنع أنفسنا أننا حاولنا، أننا فعلنا شيئاً في هذه الحياة.
لا أدري، وأكثر من أية فترة سابقة لا أدري ، لكن يبدو أن من شب على شيء شاب عليه، خاصة وأننا لم نعد نصلح لعمل آخر، لإعادة تأهيل، لإعادة صقل، فاتنا هذا الأمر، وعلينا أن نداري أوهامنا أو حقائقنا الصغيرة، وأن نستبقي مساحة للحلم، وعلينا أن نحاول أيضاً، لعل فيما هو آت يحمل إلينا إمكانية انتهاء هذا الكابوس – العصر الأميركي.
لقد تحدثت أكثر مما يجب ، في محاولة لأن تبقى الأمور أكثر وضوحاً، على الأقل بالنسبة لي، ويبدو أننا ، في فترة معينة، نهوى أن نرى الجانب السلبي في الصورة، وأن نهجو ونندب. وقد تكون الأمور أكثر سوءاً أو أكثر إيجابية، لكن كالاسطوانات المشروخة نعلق في أماكن معينة ونظل ندور حول أنفسنا إلى أن تأتي قوة وتحركنا من هذه المواقع، وعندها نكتشف أن الأشياء لم تكن على تلك الصورة.
أخي شاكر
كانت لدي الرغبة أن أحدثك بأمور أخرى، لكن وجدت نفسي مدفوعاً ومحمولاً على هذه المقامات الحزينة، ويبدو أنني أسرفت، فاعذرني.
وماذا أخيراً؟
شهادتك حول سقوط الاتحاد السوفياتي وصلت، وسوف يصدر العدد الخاص بهذا الموضوع في فترة الخريف، وقبل نهاية العام. أما شهادة الدكتور المقالح فقد ضاعت بين المطارات.
سيصدر لي كتاب عن دار الفارابي بعنوان الكاتب والمنفى، ويفترض أن يصدر هذا الشهر، سأرسله إليك. انشغلت خلال الفترة الماضية بعدة مقالات اضطررت لكتابتها.
الرواية مؤجلة لبعض الوقت، ولا أعرف متى أبدأ أو ماذا أكتب.
في الختام تقبل تحياتي ومودتي، وآمل أن تكتب لي سريعاً لكي أطمأن عليك وتحياتي إلى الأصدقاء.
عبدالرحمن منيف
* * *
- 17-
دمشق 19/10/1992
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة
بعد انقطاع طويل سمعت صوتك من جديد، ففرحت، وإذا كنت لا أزال مشتاقاً لأخبارك. آمل ان تكون بصحة جيدة وأحوال مقبولة.
تلقيت دعوة الدكتور المقالح بحضور ندوة الشهر الماضي، ولكني اعتذرت لضيق الوقت ولعدم إلمامي بالموضوع المطروح. آمل أن أتمكن من زيارتكم في وقت لاحق. كما آمل أن نبقى على اتصال خلال الفترات القادمة.
لا أعرف لماذا تراودني فكرة الكتابة عن بغداد الخمسينات. الفكرة تلحّ كثيراً، وإن كانت لا تزال غائمة ولا أدري كيف سأتعامل معها. لو كان تحت يدي ديوان ملا عبود الكرخي أو مجموعة الأغاني السائدة في تلك الفترة لساعدت في تحريضي. أحس في بعض الأحيان، أن المسألة تحتاج إلى قدْح للزناد، الشرارة الأولى الصغيرة يبدأ بعد ذلك عالم فسيح متكامل. قرأت كمّاً لابأس به عن تلك الفترة، ولا زلت أقرأ، وهذه القراءات بهدف تغذية الذاكرة واستعادة الأحداث، وربما انكسار موجة الحرارة واستمرار هذا الانفعال يساعدان على الدخول إلى هذا العالم. هذا ما أتأمله وما أحاوله، وعسى أن تكون النتائج مرضية.
المناخ العام قاسٍ ويولد الإحباط، والأفق يكاد يكون مسدوداً، لكن يجب أن نحاول، خاصةً على مستوى الثقافة، إذ ربما استطعنا شيئاً يكون احتمالاً للمستقبل.
أبعث إليك مع الصديق الدكتور عمر ياجي كتاباً صدر لي مؤخراً، آمل أن تجد فيه ما يستحق عناء القراءة. كما أعتقد أنك ستأنس بهذا الصديق السوداني الذي يقيم منذ بضعة سنوات معنا في دمشق، ولقد أرسلت معه نسخة من الكتاب إلى الدكتور عبدالعزيز المقالح، حبذا لو تفضلت بإيصاله مشكوراً. كما يوجد في صنعاء حالياً صديق كريم هو الدكتور عصام الزعيم، وسوف يبقى في اليمن مدة سنتين وقد يصبح صديقاً لك إذا تعرفت عليه.
في الختام تقبل تحياتي الحارة وأشواقي الكثيرة، وسوف أكتب إليك مستقبلاً.
ملاحظة: بخصوص طلب العمل الخاص بقريبي أرجو اعتبار الموضوع منتهياً، لأن بريطانيا وافقت على عودته إلى لندن، وهو الآن يعد للدكتوراه.
عبدالرحمن منيف
* * *
-18-
دمشق 30/3/1993
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة وأشواق كثيرة
لا أعرف لماذا تأخرت في الكتابة، إذ رغم أني لم أكتب إليك مباشرة، فقد كنتُ في أجواء أنت تعرفها معرفة جيدة، كنت في أجواء تنصيب فيصل، ومع النقيب في العشرينات الأولى، ثم أبحرت مع السعدون، وتوقفت عند الهاشمي ياسين، ثم بكر صدقي، وعرفت تفاصيل إضافية عن "مقتل" فيصل ثم غازي وبكر، وكيف قتلوا. أما الفيضانات التي بدأت منذ مطلع القرن وحتى عام 954 فقد شغلتني كثيراً، ورأيت فيها أحد مظاهر الحياة هناك.
أصبحت أكوام الكتب التي تتناول جعفر أبو التمّن والحصري والسعدون ومشتاق ونوري وضاري وبكر، وغيرهم كثير، حصاراً لا يمكن الإفلات منه، حصاراً كنت أتمنى منذ وقت طويل أن أستفيد منه في عمل. كيف سيكون هذا العمل؟ متى! لا أدري. ولكني أحس أن هذا الإدمان الذي استغرقني لابد أن تكون له نتائج. أحاول الآن أن أبحث عن الأغاني والبستات، وكل ماله صلة بأيام تبدأ منذ الحرب العالمية الأولى، ولا أعرف إلى أين ستمتد. قرأت أخيراً المميّز، وقبلها العلاف، وأدرس بدقة خارطة المدنية المعذبة، كيف كانت وما طرأ عليها؛ قرأت حسين جميل في مذكراته وشوكت والجادرجي، وأحاول أن أصل إلى أي مصدر جديد يمكن أن يغذي الذاكرة ويعطيها مدى إضافياً، ولابد أن اصل إلى شيء ما. لا أعرف ما هو تماماً، أو كيف سيتم التعامل معه، ولكني الآن مملوء بهذا الشيء الخاص، الاستثنائي، الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئاً. ان الكتابة في هذا الموضوع تشكل تحدياً أساسياً بالنسبة لي لم أحس بمثله في أي يوم سابق، إنه ينعش ويقهر، يستفز ويبعث ذكريات منذ أيام جلجامش، يقول الأشياء بصمت فضّاح، ويعد ببضاعة ليست موجودة في أي مكان آخر في هذا العالم.
إنني الآن مسكون بشيء واحد : الرافدين.
قرأت تاريخ الفيضانات ، الشرائع، الملاح، أسجل ملاحظات. أكتب هنا وهناك أفكاراً، لكن كيف ستجد سياقها، حياتها، طريقها الخاصة في التعبير: لا أعرف. لقد غرقت كما غرقت بغداد خلف السدة عام 1954، وكنت شاهداً، وكنت مسحوراً بكل ما أرى وأسمع وأعيش. الملاحة، الحزن، عبود الكرخي، وسليمه الملاية، أبو حلق الذهب وفتيات الملاهي، سينما روكسي وكبة الموصل، الرأي العام وجواهري تلك الأيام ، وغانم الأعظمية، جسر الشهداء وجسر الأعظمية، الميدان بكل ما يعنيه في الانتفاضة وما سيؤول إليه. ملهى شهرزاد والجواهري، صديقة الملاية وزهور حسين وعفيفة اسكندر، حسن خيركه والأعظمي، وألياس خضر وداود اللمبجي، مطعم العاصمة وسوق الراي، ابن سمينة ومقهى الدفاع، شارع المتبني والمربعة، البرازيلية ومقهى السويسرية، حسين مروان والجماجم التي تتحول إلى منافض سجائر عند البياتي، السياب، والشناشيل؛ أحاول، قدر الإمكان ، أن أجمع، أن أستعيد أن أركّب ، أن أغير، أن أعيد تشكيل العالم. كل ذلك، وحتى الآن، في القراءة والخيال، أما كيف ينتهي الأمر، فلا أعرف.
وحتى لو لم ينته الأمر إلى نتيجة محددة ، يكفي أني الآن أقرأ بنهم، أجمع ما يمكن جمعه، أحاول استعادة مرحلة تاريخية، لكن من جملة الأمور التي تشغلني: الحزن: الأبواب؛ الشرائع، الديكتاتور، النعومة القاتلة، الحساسية التي تتجاوز المرض؛ القسوة التي تتحدى الله والكون والطبيعة. إن في هذه المفردات والأفكار والمفردات ما يبعث على التحدي، وإعادة التساؤل ثم التفكير بضرورة ترتيب الكون ضمن نسق جديد. كيف؟ لماذا؟ لا أعرف.
لماذا اخترت حقل الألغام هذا في الوقت الذي يفترض أن يكون هناك آخرون أكثر صلة، وربما كفاءة مني؟ لا أستطيع أن أقدم إجابة واضحة أو كاملة، علماً في نفس الوقت أني تحديت الكثيرين أن يمدوا رؤوسهم، أن يدخلوا هذا العالم، لكن لم يفعلوا، كما أفترض، حتى الآن.
النجف وحدها تضع مائة رواية أهم وأخط في "مائة عام من العزلة". قلت ذلك مائة مرة، لكن لا أعرف لماذا لم يتصد أحد. قلت ان الفيضان وحده ملحمة متحركة، كانت منذ نوح وحتى الآن، لكن أحداً لم يتصد للموضوع. الحزن، هذا الخطر الداهم والدائم، لماذا هو هكذا وبهذا المقدار ولم أصل لأي جواب. الحب والقسوة في نفس الوقت. الرهافة التي تصل درجة الذوبان والحدة التي تصل إلى درجة استعمال موسى الحلاقة في القتل؛ الغرام السابح في ربيع لا يأتي، والانتظار الذي لا ينتهي في نفس الوقت الذي يعرّف الإنسان عما هو متاح بحثاً عن المستحيل، والصبر الذي يوازي أو يتفوق على كل شيء،ومع ذلك السطح المستوي المتموج الفارق في عصور قديمة ثم يطفو في لحظة وكأنه ربيع لا ينتهي، علماً بأن خريفاً قاسياً دائماً ، ولا ينتهي هو كل ما ينتظر.
المهم. أخي شاكر، غرقت في بحيرة "الشيطان". غرقت في بحر الرمال. كلّي تصميم أن أخوض في هذه البحيرة، في هذا البحر، لا أعرف كيف ستكون الرحلة، ماذا ستكون نتائجها، متى سيتم اجتيازها، إذا أجيزت، وكيف.. لا أعرف. المهم أني غرقت، وإذا كان الإنسان يستطيع أن يقول، مجازاً، أن هناك غرقاً جميلاً، فهذا الذي أعيشه، لقد استطعت أن أستعيد مرحلة، مراحل، تاريخية كاملة. وهذه تمدني بالقوة والتحدي في آن معاً، و تقول لي: هنا تكتشف الإمكانيات والقدرة والرغبة، والقول الآخر، أو هنا يكون الموت والعجز والانتهاء.
كان بودي ان أتكلم بطريقة أخرى، أن أبحث معك ضمن ورقة عمل أوضح وأكمل وأكثر فائدة لكني ما دمت قد غرقت، وما دمت قد أخذت اتجاهاً فأعتقد أن أية نصائح لابدأن تكون متأخرة. وفي حالات من هذا النوع، حين نكتشف أننا غير قادرين على أن نمنع أو نغيّر، يطيب لنا أن نرى التحدي.
أنا الآن في هذه الحالة. لقد بدأت قبل شهور طويلة، وإن كانت هذه الأمنية مضمرة، كامنة، وكنت أود لو أن الآخرين قاموا بها، لكن إزاء عدم الوصول أو عدم التوفيق، بين ما هو حاصل وما هو مطلوب، كان لابد من خوض هذه التجربة. يقول يسوع: اللهم لا تدخلني التجربة. وأقول: اللهم عجل، أدخلني، ادفعني بقوة لكل هذه التجربة. ومثلما قلت: كيف ستكون، ماذا سيتمخض عنها، متي: لا أعرف، المهم، وهذا يشكل متعة، أني دخلت، غرقت، لقد أبعدت كل شيء، وأحس حين أضطر لعمل آخر أني مسروق أو ملاحق، وبالتالي فأنا مأخوذ إلى أقصى حد بهذه الحالة.
هل أمي هي السبب؟
لا أريد أن أتسرع وأقول بالإيجاب. ولا أريد أن أقول ما نعانيه، وبعد تلك الأيام الشتائية القاسية، وبعد الانهيار الذي حصل على مستوى الخلية.
ليس المهم ان نستخرج قوانين جديدة، أو نظريات جديدة. المهم أن نرصد الحالة، المزاج النفسي، الدوران حول الذات والآخر في نفس الوقت، لعل شيئاً ما، ولا أعرف ما هو ، الذي يتمخض.
قلت في بداية هذه الرسالة أني لم أكتب، وأكثر انتظرت أن تكتب، وبين الانتظار والانتظار مرت الأيام، وأجد أنني لا أعرف ماذا أقول أو كيف أقوله، وهذا يشكل تحدياً إضافياً.
أخي شاكر
هذه رسالة إليك... إليك. ليست للمقيل أو لأحد ، أو لآخر، ولذلك ، وما دام الموضوع مجرد فكرة أو رغبة فلتبق بيننا. هذا أولاً، وثانياً: إذا رأيت أن هناك موضوعاً، كتاباً، فكرة شخصاً، يمكن أن يكون مفيداً في هذه الرحلة المجهولة فلا تتردد في أن تلفت نظري إليه.
آسف أني تأخرت، وبانتظار أن أسمع منك تقبل تحياتي وهذياني ورغباتي وأحلامي وإلى لقاء، بشكل ما، في وقت غير بعيد، مع مودتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
- 19-
دمشق 28/5/1993
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة
استلمت رسالتك قبل فترة، وكان بودي الإجابة في حينها، لكن بعض الأسفار والأعباء اضطرتني للتأجيل، أرجو المعذرة.
العدد الخاص بسقوط الاتحاد السوفياتي، والذي تأخر أكثر مما يجب، على وشك الانتهاء، وسوف يصدر في منتصف الصيف. كان بودنا أن يصدر العدد في وقت مبكر، لكن يبدو أن مزاج المثقفين العرب معكّر إلى درجة أن الكثيرين اعتذروا أو تأخروا، الأمر الذي اضطرنا للانتظار فترة إضافية، وإلى اختصار أو تجاوز بعض الأفراد والحالات. الأمر ملفت للنظر ويدلك على حالة أو ظاهرة للثقافة في مرحلتها الراهنة، ويمكن من خلالها قياس الاهتمامات والهموم، أو المزاج النفسي الذي يخيم على المثقفين في الفترة الراهنة. كان بودنا أن يكون العدد أكثر اتساعاً وتنوعاً ، وأيضاً شهادة، لكن...
نحضّر الآن لأعداد أخرى: المرأة، سمير أمين، الموجة السلفية.
إن العمل في مجلة، خاصة الآن، يشبه العمل في قطع الحجارة، لأن كل مثقف، تقريباً في وضع يختلف عن الآخر، ولأن حجم العدم لم يبق شيئاً كما كان، إضافة إلى هموم الحياة اليومية ومتطلباتها في ظل مرحلة استهلاكية شديدة القسوة والحقارة معاً. لا يمكن أن أطلب من مثقف أن يكتب في موضوع معين إذا كانت موضوعات أخرى تشغله وتحتل جل وقته واهتمامه؛ ولا يمكن أن يطلب من مثقف أن يكتب في موضوع إذا كانت موضوعات أخرى تشكّل مصدر رزقه وتتطلب منه أن يركض لكي يؤمن الحد الأدنى من متطلبات الحياة. إضافة إلى أن البوصلة ضاعت بالنسبة للكثيرين.
يبدو لي أن ما حصل في الفترة الأخيرة كان كبيراً وخطيراً، ليس فقط على مستوى المنطقة أو العالم. وإنما على مستوى الفكر والقناعات والأولويات، وبالتالي فقد أصبح الكثيرون في حالة من الضياع والحيرة. وأيضاً الغرق في أمور جديدة لم تكن في البال. قد تتطلب هذه الأمور فترة إضافية. وقد تستغرق جيلاً، لكي يعود التوازن، ويعاد ترتيب الأولويات. وإلى ذلك الوقت ستبقى الأمور في حالة من القلق والحيرة، وربما أشياء اخرى ستبقى في حالة من السيولة والرخاوة إلى أن يقيّض لها أن تتصلب. المهم أن فترة الانتظار ستكون شديدة القسوة،
والطول أيضاً.
وهل يستطيع الروائي أن يكتب في ظل هذه الحالة؟ أشعر أن هناك حاجة وضرورة، ولكن أشعر أيضاً، أن المهمة ليست سهلة، ولذلك فلا بد من التأمل والانتقاء والحذر، ولابد من محاولة اختيار الموضوعات الأكثر أهمية وضرورة.
لازال الموضوع الذي حدثتك عنه شاغلي الأول والأساسي، واعتبار أنه من الاتساع والأهمية إلى درجة كبيرة، فلابد من مزيد من القراءة والتحضير، ولابد من استكمال الموضوع في جميع جوانبه.
إن رهاني الأساسي أن أكتب رواية تتناسب مع الموضوع، مع "أرض السواد"، وكم بي رغبة لو يستطاع لي استكمال الشروط الأساسية، بما في ذلك زيارة الأماكن، والاتصال ببعض الأشخاص، وتذوق الأشياء وشم روائحها تارة أخرى. أعرف أن الأمر صعب، لكنه ضروري، وهذا ما يجعلني متردداً بعض الشيء وانتظار ما لا يأتي!
التقيت أخيراً بالبياتي في عمان، وكذلك جبرا، وشاكر حسن، والتقيت ببعض الفنانين في هولندا وبلجيكا ولندن. هذه اللقاءات تغني ذاكرتي، تحرضها، لكن تبقى هناك بعض الفجوات، أحاول ردمها، أتغلب عليها بشكل أو آخر. آمل، وأحاول، ولابد أن أصل إلى معادلة من نوع ما، وفي وقت غير بعيد.
أتوقع أن أبدأ الكتابة في الخريف القادم، وربما الكتابة تحرضني، تجعلني في مواجهة حقيقة وكاملة مع الأشياء، وهذه بذاتها تخلق شروطها ضروراتها، وتعرف أننا نعمل في أتعس وأصعب الشروط، حتى في شؤون الفن!
أخي الكريم
أكتب إليك هذه الرسالة السريعة فقط لكي أحييك، ولكي أجعلك بالصورة التي أعيشها وأعاني منها في نفس الوقت، وآمل أن تكون النتائج مقنعة، ولا أقول مرضية، لأننا فقدنا الرضا منذ وقت طويل، وأصبحنا "نلعب" في الوقت الضائع، أوا لوقت المضاف، وبالتالي فإننا نحاول تحريض أنبل وأقوى ما فينا لكي نتغلب على أعتى وأصعب الظروف التي تواجهنا.
لا حاجة للشكوى أكثر مما ينبغي، ولا حاجة لانتظار مثالية للعمل. المهم أن نعمل بالظروف والشروط والمساحة. شرط أن نفعل أحسن وأفضل ما نستطيع.
وإلى أن ألتقي معك في رسالة قادمة ، تقبل كل تحياتي.
عبدالرحمن منيف
.
باريس 8/10/1985
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة
أخيراً، بعد انقطاع طويل، وكأنه الدهر، بدأتْ طلائع أخبارك تصل، فكونك الآن في صنعاء معنى ذلك أنه سُمح لك أخيراً بالسفر والعمل، وبالتالي إمكانية أن نتواصل، إذ بعد أن أرسلت إليك رسالتين خلال الفترة الماضية، ولم أتلق رداً، قدرت أنهما لم تصلا، أو أن الظروف غير مواتية للكتابة.
لقد أبلغني ماهر أنه التقاك في صنعاء، وأنك تعمل في الجامعة، أرجو أن تكون مرتاحاً وبصحة جيدة، كما أرجو أن تتاح لك الفرصة لمواصلة أبحاثك ودراساتك، ونشر الجاهز منها، وربما تتيح لك اليمن أيضاً إمكانيات جديدة للبحث والدراسة والكتابة.
سبق لي أن زرت اليمن مرة واحدة ، عام1979، وهناك اكتشفت الجغرافيا أكثر من أي مكان آخر. هذا البلد، بتضاريسه، بنوع النباتات، بأشكال المعمار، بالطقس، يختلف كثيراً عن أية منطقة عربية أخرى، وربما يساعد هذا الاختلاف على اكتشاف الأشياء من جديد، اكتشاف ما حولنا واكتشاف أنفسنا. هكذا أحس في حالات مماثلة، وهذا الإحساس عامل مهم وعامل مساعد على الكتابة، ولذلك أرجو أن يحرضك لتعويض ما فات من فرص وأوقات.
بالنسبة لي بدأت أملّ الإقامة هنا، نتيجة عوامل عديدة، أبرزها الشعور بالغربة، إضافة إلى صعوبة تأمين تكاليف المعيشة، ولذلك يفترض أن أفكر بالانتقال، طبيعي لن يحصل شيء قبل الصيف القادم، لكن يجب أن أستعد ولو نفسياً.
أواصل كتابة الجزء الثالث من مدن الملح، وقد سميته تقاسيم الليل والنهار، وهذا الاسم الجغرافي – التاريخي، استوحيته من بعض قراءات كتب الرحلات، وأعتقد أنني لو كنت في مكان آخر، قريباً من مكتبتي على التحديد، لكتبت هذا الجزء بشكل أفضل، إذ أفكر أن أضمّن مقتبسات وإشارات معينة، لكن باعتبار هذا الأمر متعذر في الوقت الحاضر، فيجب أن أعتمد على ما لدي من مواد أولية، وأن أكيفه ضمن الظروف والإمكانيات المتاحة.
لا أدري إذا أتيحت لك الفرصة للاطلاع على الجزءين الأول والثاني من مدن الملح، إذا اطلعت فأنا متلهف لأن أسمع رأيك، لأنه سيكون ذا فائدة كبيرة بالنسبة لي في صياغة الجزء الثالث وتدارك بعض النواقص والأخطاء التي لم أفطن لها في الجزءين السابقين. أقول هذا دون مجاملة، إذ لا زلت أتذكر تلك المناقشات الخصبة حول شؤون الكتابة وشجونها، والتي جرت بيننا عدة مرات، وبالتالي كانت ذات تأثير في صياغات وأفكار لاحقة.
لدي ، من بقايا أيام سابقة، عدة مشاريع كتابية مؤجلة، وبي لهفة قوية أن أعود إليها في أقرب فرصة، خاصة وأن الإنسان يرى الحياة تتسرب وتهرب بسرعة، وكثير من الأشياء المؤجلة إذا لم تتابع بهمة عالية تنتهي إلى النسيان، ولا أريد لبعض المشاريع ذلك.
هذا ما لدي الآن، وما عدا ذلك التسكع في المدينة القارة: باريس، والضياع في متاحفها وشوارعها. ورغبة مكبلة في إقامة صلات ، خاصة مع أنماط معينة من عرب المهجر، الذين لا يفعلون شيئاً سوى اغتيال الوقت وتبذير الحياة وكأن هذا هو الهدف.
ربما جئت إلى صنعاء في شباط القادم لحضور ندوة حول موضوع الوحدة العربية، فإذا تسنى لي المجيء سوف تتاح لنا الفرصة لأن نلتقي ولأن نتحدث طويلاً.
في الختام ، إلى أن أسمع منك أو أن نلتقي تقبل تحياتي وأشواقي.
عبدالرحمن منيف
عنواني:
A. Mounif
10 rue de la Belle Feuille
Boulogne 92/00- France
ملاحظة: إذا توفر لك عنوان بريدي أكثر دقة ابعث به إلي، شكراً.
عبدالرحمن منيف
* * *
-2-
باريس 25/12/1985
أخي العزيز شاكر
تحيات أخوية حارة
بسرور تلقيت رسالتك وعرفت بعضاً من أخبارك، أرجو أن تستمر اتصالاتنا، وأن تتاح من الإمكانية لأن نلتقي. بخصوص الندوة التي كان يفترض أن أحضرها في صنعاء خلال النصف الثاني من شهر شباط، يبدو أنها تأجلت إلى وقت لاحق، لقد عرفت ذلك أمس عرضاً، وفيما إذا تبلغت بأخبار محددة سوف أشعرك بها. كنت أتمنى المجيء وأن نلتقي مرة أخرى. لكن يبدو أنه لن يكون في ذلك الموعد.
أخباري، كماذ كرت لك في رسالتي السابقة، يستغرقني تماماً هذه الأيام إنجاز الجزء الثالث من مدن الملح، أعمل عليه بصورة متواصلة ويومية، وأتوقع أن أنتهي منه في الربيع، وبعدها أريد أن أعطي نفسي أجازة طويلة، لكي أتخلص من آثار الضغط ، لأعود من جديد إلى بعض الروايات التي خططت لها في وقت سابق، ومشتاق أن أعالجها بطريقة مختلفة عن مدن الملح. هناك عدد من القضايا التي يجب ان تُعالج روائياً، لأن الرواية أقدر من غيرها على المعالجة والتأثير في بعض الأمور، فعسى أن تتاح لي الفرصة في وقت غير بعيد.
أخي العزيز
أتوقع أن أسمع أخبارك بتفصيل أوسع، وأتوقع أن "الإجازة" الإجبارية الطويلة بين التقاعد والعودة من جديد للعمل قد أتاحت لك الفرصة لإنجاز بعض الدراسات، خاصة وأن الدراسات الجغرافية تحتاج إلى جيش من الباحثين، وفيها من الكنوز الكثير الذي لم يكتشف بعد.
لقد اشتركت مؤخراً، ومن جديد بالمجلة الجغرافية الأميركية، إذ انقطعت عني منذ تركت بغداد، إلى أن جددت الاشتراك أخيراًً، وسوف تبدأ تصلني بدءاً من مطلع العام الجديد. ولدي رغبة في قراءات في هذا المجال، وقد نمى إلي أن الجمعية الجغرافية في الكويت أصدرت بعض الدراسات المهمة، سوف أحاول الاتصال بها والحصول على بعض مطبوعاتها.
لو توفر عدد من الباحثين للالتفات إلى ما هو موجود في المكتبة الشرقية والمكتبة الوطنية في باريس حول الرحلات لظهرت آثار كثيرة مهمة، لكن يبدو أن معظم باحثينا تشغلهم أمور أخرى! وعلى فكرة فإن معظم المكتبات تخصص هنا أجزاء هامة إلى كتب الرحلات، وهناك مكتبات لا تحوي سوى هذا النوع من الكتب!
أخي الكريم
قرأت أخيراً عن كاتب يمني اسمه زيد مطيع دماج كتب رواية مهمة اسمها الرهينة، أكون شاكراً إذا أرسلتها إليّ، فيما إذا كانت متوفرة في سوق صنعاء.
هذا ما لدي الآن، وسوف أبقى على اتصال بك، وأرجو أن أسمع أخبارك الطيبة وتقبل شكري وتقديري مع خالص الود.
عبدالرحمن منيف
***
-3-
باريس 18/3/1986
أخي العزيز شاكر
تحيات أخوية حارة
حسناً فعلت أنك ذهبت إلى الهند، هذه القارة الكبيرة والغامضة، والمليئة بالأسرار والحضارة، لقد قرأت قبل بضع سنوات رواية عن الهند، كنت أثناء قراءتها أشم رائحة البخور وأحس بحرارة الشمس، وكنت أتجول في بومباي بكثير من الخوف.
هذه القارة، رغم قربها وقرابتها منا، لا نعرفها جيداً، أو بالأحرى ننظر إليها بعيون الآخرين، كم أشتاق أن أصلها وأقضي فيها وقتاً مناسباً، إذا وجدت لديك الرغبة لأن تكتب إليّ بعض التفاصيل والانطباعات فإن هذا مما يشجعني على أن أفكر جدياً بالوصول إلى هناك.
في الوقت الذي كانت الهند تضج بالشمس كانت أيامنا هنا شديدة البرودة و البؤس. لقد صدف في كل السنين السابقة أنني لم أكن أكتب خلال فصل الشتاء، فالشتاء هنا لا يعني البرودة وحدها، إنه أيضاً القتام، العتمة المبكرة، تداخل النور والظلمة، قصر النهارات، وأخيراً حالة من الضجر تربك العقل والعواطف. اضطررت هذه السنة للعمل في هذا الفصل، ولم أكن أبداً راضياً عن العمل، أوقفته أكثر من مرة، عدت إليه أكثر من مرة، ولم أجد الدوزان إلا في الأيام الأخيرة، بعد أن تراجعت البرودة والعتمة والنهارات القصيرة، وأعتقد أنني سأستمر في العمل بوتيرة أفضل من السابق.
أسعدني، إلى أقصى حد، رأيك في مدن الملح. أشعر أني قد تلقيت المكافأة وأكثر منها، خاصة وأعرف مدى صرامتك وتشددك، وأن العمل، بعد أن يكتب، يستقل عن كاتبه، ويصبح للآخرين رأي فيه يوازي رأي كاتبه. أن يكون رأيك هكذا يدفعني لأن أنجز "تقاسيم الليل والنهار" بنفس المستوى، لأتفرغ، حسب اقتراحك أيضاً، إلى روايات قصيرة وساخنة ولدي منها الكثير: أفكار مكتملة، وشخصيات تنتظر، وحياة لا تزال أصداؤها تضج حولنا: من اللجوء السياسي إلى الديكتاتور إلى السجن مرة أخرى، وغيرها من الموضوعات. فقط أريد أن أنتهي من "التقاسيم" وسأحاول ان يكون ذلك في أقرب فرصة.
الرسالة التي أرسلتها من الهند وصلت. وكذلك رواية الرهينة. أما بخصوص زيارة اليمن، فعلى الرغم من وجود الرغبة، فإنني أفضل تلبية هذه الدعوة في وقت آخر، في نهاية السنة أو في السنة القادمة، وإني إذ أشكرك جزيل الشكر على تأكيد الدعوة أكون شاكراً إذا بلغت الدكتور المقالح امتناني وتقديري لدعوته الكريمة، وإني سأكون راغباً وقادراً على تلبيتها في وقت لاحق. أما بخصوص صديقنا المشترك، الدكتور الزعبي، فقد كسبت بوجوده إلى جانبك صديقاً عزيزاً وإنساناً شهماً. فقد افتقدت أخباره بعد أن غادر الجزائر، وكان ذلك قبل بضع سنين، رغم أني سألت بعض الأصدقاء عنه. الآن، في صنعاء، فقد آن لهذا الفارس أن يستريح قليللاً، قبل أن يواصل رحلة لا تنتهي.
قبل عشرين سنة، تقريباً، كنت واحداً من البدو الرحل، كنت أنتقل من مكان إلى آخر بحثاً عن كلأ العصر الحديث، الحرية، وكنت واحداً من القلائل الذين يعانون من مشكلة جواز السفر، الآن، وبعد مرور هذه السنين، وبدل أن يملأ الكلأ الأرض العربية كلها نجد أن التصحر هو الذي عم، وأصبح السيد المطلق!
الآن آلاف، عشرات الآلاف، وفي كل مكان، في الأرض العربية وفي الديار الأجنبية، يبحثون عن الكلأ والماء، عن الحرية وجواز السفر، وقد لامني بعض الأصدقاء، حين كتبت الأشجار واغتيال مرزوق، لأن مسألة جواز السفر كان أحد الأقانيم الأساسية في تلك الرواية. ماذا أصبح الحال الآن؟ وكيف سيكون غداً؟
أخي العزيز شاكر. هذا ما لدي، أو ما رأيت أن أكتبه في هذه الرسالة، راجياً أن نبقى على اتصال، كما أرجو من إنجازات علمية (وحبّذا أدبية أيضاً) خاصة وأن لديك الكثير لتقوله، وربما كونك في مكان بعيد بعض الشيء يتيح لك الكتابة أفضل من أوقات سابقة. وإلى أن أسمع منك تقبل مودتي الخالصة وتحياتي الحارة، مع رجاء إبلاغ الأصدقاء تحياتي وتقديري.
عبدالرحمن منيف
* * *
-4-
باريس 7/11/1986
أخي العزيز شاكر
تحيات أخوية حارة
كنت متلهفاً لسماع أخبارك ومعرفة أوضاعك، وقد جاءت رسالتك لكي تجيب على بعض الأسئلة والتساؤلات، خاصة فيما يتعلق بعدد من الكتب والدراسات التي أنجزتها خلال الفترة الماضية، أو تريد إعادة طبع بعض ما نفد. إن فرصة وجودك في صنعاء سوف تتيح لك عمل الكثير، وكل ما أتمناه أن تضع برنامجاً، وأن تحاول تنفيذ هذا البرنامج ، وأتمنى أيضاً ألا تكون التواريخ، أو المدى الذي تضعه لنفسك، لإنجاز هذه الأعمال كما أفعل. إذ يصادف في أحيان كثيرة أن آخذ عيّنية في فترة عمل أكون فيها متأرقاً وأواصل الليل والنهار، وأعتبرها مقياساً، ومن هنا أخيّب أمل بعض الأصدقاء، ففي الوقت الذي ينتظرون إنجاز العمل أكون أحبو على أعتابه، أو لم أمدد إليه يدي منذ فترة طويلة. لا أريد أن أقنع أحداً أو أن أبرر كسلي، لكن الظروف بعض الأحيان أقوى من الإرادة والرغبة معاً، خاصة في مثل الظروف التي نحياها أو نعمل في أجوائها. الآن لا أقوى على تحديد موعد جديد لإنجاز التقاسيم، لأن ظروفي من الاضطراب والتداخل إلى درجة يفترض خلالها ألا أكتب، وإلا بدت كتابتي شديدة القلق، متغيرة، وربما سوداوية. لست خائفاً، إذ أعرف أن تأخير شهور يمكن تداركه في أسابيع قليلة، خاصة إذا كنت في ظروف نفسية غير قلقة.
تقول في رسالتك أنه يجب عليّ أن أتحمل مسؤولية (ولم تقل وزر) الخيار الذي اخترته، ولا أكتمك ، لأنني لم أندم أبداً، وأعتقد أنني لن أندم. الشيء السهل يذهب بنفس السهولة، أما ما يتم الوصول إليه بتعب، وعبر القناعة والتحدي، فإنه الأكثر لذة في النهاية، وهو الباقي. ولذلك لست آسفاً أو نادماً، وسوف أواصل المشوار إلى نهايته، مهما كانت الصعوبات. وأعتقد أيضاً أنّ أغلب الصعوبات انتهت أو في طريقها إلى الانتهاء. أما أولئك الذين يملكون صحفاً هنا فإنهم "يستأجرون" البغال التي ترضي راكبيها، الذين يدفعون، وأنا لم أفكر أن أصبح بغلاً من بغال السلطان، ولذلك لم يقترب مني أحد، وأعتقد أن الإمكانية في الوصول إلى صاحب مجلة شريف يرضى أن أكتب عنده إمكانية محدودة، وإذا توفر فلابد أن يكون مفلساً وبالتالي يحمّلني عبئاً إضافياً!
الذين نريدهم أو نريد أن نكون معهم، غير قادرين على المساعدة. صحيح أنهم يرحبون لكنهم ، في النتيجة، غير قادرين على أن يكونوا معك في هذه الأوروبا – الحوت. الحوت الأوروبي يأكل حتى أولاده. هذه المدنية العصرية مدمرة. لا تعرف الرحمة أو الشفقة، لا تعرف الإنسان بملامحه، تعرف الرقم، رقم الإنسان ورصيده أو ما يمكن أن يأتي به من رصيد.
المهم سوف أغادر القارة الأوروبية خلال أسبوعين من الآن، بعد أن نقلت الأطفال للإقامة في دمشق، وسوف ألتحق بهم في نهاية الشتاء، وخلال هذه الفترة، إذا واتت الظروف. لابد أن أنجز التقاسيم، وبعد ذلك سوف أتحرك، وهنا أطلب إليك مرة أخرى أن تكتب لي عن الهند، إذ أفكر بالذهاب إلى هناك لقضاء بضعة شهور، أو ربما السفر إلى أميركا اللاتينية، لأن لي هناك صديقاً يلحّ عليّ أن أذهب لأقضي عنده بضعة شهور.
كانت تجربة فرنسا مفيدة ومهمة، لقد اكتسبت خبرة وأفكاراً، وأتيحت لي الفرصة لإعادة النظر بأمور كثيرة، خاصة الكتابة، كما أنجزت معظم مدن الملح هنا. ربما كتبت عن هذه التجربة في وقت لاحق، أما الآن فسوف أتركها غير آسف، وكان يجب أن أفعل ذلك ولأكثر من سبب.
إذا تعذر عليك الكتابة إلى دمشق فلا بأس أن ترسل إليّ الكتب التي ستصدر لك وأعتقد أنها ستصل. عنواني هناك بدائي، وربما حاولت الحصول على صندوق بريد، لكن العنوان مبدئياً سيكون: دمشق – المزة – مطار، فيلات غربية – شارع الأكثم بن صيفي رقم 336 ب.
أتوقع أن أسمع أخبارك، وأن تكون الأخبار جيدة، وإلى أن أسمع منك أو إلى أن نلتقي تقبل تحياتي الحارة، وإلى القريب العاجل، مع كل تقديري.
عبدالرحمن منيف
***
-5-
باريس 8/10/1988
أخي العزيز شاكر
تحياتي أخوية حارة
كتبت إليك في مطلع الصيف وانتظرت، ثم سافرت وغبت فترة طويلة، وحين عدت وجدت بطاقتك من الولايات المتحدة. لا أدري إن كانت باريس إحدى محطات سفرك في الذهاب أو العودة، ولم أجد مبرراً ألا نلتقي، لكن يبدو أن غيابي، أو ربما سفرك القصير أو عملك جعلك ألا تخطط وتخبرني بالأمر مبكراً. أرجو أن تكون السفرات القادمة أكثر حظاً وتتيح لنا اللقاء.
أخي العزيز
يبدو أن إقامتي في فرنسا توشك أن تنتهي، فقد تزايدت الصعوبات والأعباء المادية والنفسية، الأمر الذي يضطرني للبحث عن "منفى" آخر. ربما بقيت حتى نهاية العام لكي أنتهي أولاً من التقاسيم وثانياً لكي اجد البديل المناسب. لقد أبقيت الأولاد في سورية وألحقتهم بالمدرسة هناك وجئت لكي أصفي أوراقي وأوضاعي وأرتب أموري للخطوة القادمة. لست بعد متأكداً، ولكني أنوي أن أفعل. وسوف أكتب إليك من هنا، ثم فيما بعد من المحطة اللاحقة.
لم يتسنّ لي مواصلة العمل في "التقاسيم" خلال الصيف، وأنت تعرف أن الصيف في بلادنا يحول بين الإنسان والعمل، خاصة إذا ترافق أيضاً مع انشغالات وهموم أخرى. أتوقع أن أبدأ العمل الآن، وأن أواصله بهمة كبيرة لكي أنتهي في حدود نهاية العام، فعسى أن تتوافق الرغبة مع الإمكانية مع الظروف. لا أريدأن أنتهي من العمل بنزق، أو نتيجة الضرورة الملحة، خاصة وأني أريد لهذا الجزء أن يكون خاتمة مؤقتة، لكن مناسبة، على أمل أن أواصل العمل، في وقت لاحق طبعاً، على جزء رابع، لكن بعد أن أنصرف إلى أعمال أخرى كنت قد أجلتها من قبل.
لدي عدة مشروعات مؤجلة منذ أيام بغداد، وبعض الأحيان تزاحم "التقاسيم" ودائماً أحاول نسيانها، لكن لا أقوى على مقاومتها طويلاً، ولابد من الالتفات إليها في فترة قريبة، وهذا ما أحاول أن أخطط له في المرحلة القادمة، السنتين أو الثلاث السنوات القادمة.
يسرني أن أخبرك أن ثلاث روايات لي تترجم الآن إلى الإنكليزية: النهايات، شرق المتوسط ومدن الملح. الأخيرة تم الاتفاق على نشرها في نيويورك، عن طريق أبرز دور النشر، ويحتمل أن تظهر في خريف السنة القادمة. أما النهايات وشرق المتوسط فلم يستقر الرأي على الدور التي ستتولى نشرها، لكن أعتقد أن الأمر لن يكون صعباً. ترجمة مدن الملح يشكل بالنسبة لي حماية، وربما موارد مالية، وهي ضرورية في المرحلة الراهنة.
لا أدري ماذا فعلت خلال الفترة الماضية، أتوقع أن تكون قد أنجزت بعض الدراسات والأبحاث، أكون شاكراً إذا أطلعتني على ما أنجزته وعلى ما تهيئ له في المستقبل القادم.
هذا ما لدي الآن، و أرجو أن نبقى على اتصال وأن أسمع أخبارك، مع كامل الود والتقدير، وإلى رسالة قريبة قادمة مع مودتي.
عبدالرحمن منيف
***
-6-
دمشق 12/12/1989
أخي العزيز الدكتور شاكر
تحيات أخوية حارة
بسرور بالغ استلمت رسالتك والكتابين، شكراً جزيلاً، وأرجو أن تكون بداية جديدة لعلاقات بعد هذا الانقطاع الطويل، خاصة وأن لدينا الكثير لنتبادل الرأي حوله ونناقشه، وفي هذه الفترة بالذات، حيث يتعرض كل شيء لإعصار مجنون، وينكسر اليقين الذي كان سائداً لفترات طويلة.
أعتقد أن المرحلة الراهنة بحاجة تأملات وعميقة لكي نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ففي خضم الدوي الذي يصم الآذان، والسرعة الخارقة التي تتغير فيها المعالم والوجود والأفكار والمفاهيم، والاختلاط المرعب بين المواقف والأشياء، لم تعد المسلمات القديمة، والأساليب التي كانت سائدة كافية لتفسير هذا الذي يجري، خاصة وأن الآلة الإعلامية الضاغطة لا تترك للإنسان فسحة لكي يعيد ترتيب الأمور، وتمييزها. إننا في عصر خطر جداً، والخطأ في مثل هذا العصر مدمر وقاتل، ويبدو أن العالم الثالث ، بمجموعه، ومنطقتنا بالذات، ستدفع الثمن.
في ظل هذا المناخ يتساءل الإنسان عن جدوى الكتابة، خاصة وأن ما كان صحيحاً إلى ما قبل لحظة، أو ممكناً، لم يعد كذلك في اللحظة التالية، هذا أولاً، وثانياً كيف يستطيع كتّاب العالم الثالث ومفكروه أن يوصلوا أصواتهم ويعرضوا "سلعهم" في هذا المزاد المصنع والتي تغطى فيه أساليب الترويج الشديدة الإتقان والتي تحاصر الإنسان في كل خطوة من خطواته؟
إن العالم الذي نعيش فيه الآن ليس فقط يختلف عن عالم الأمس، وإنما يتغير في كل لحظة، ويشبه ماء النهر تماماً. إذ يندفع بقوة للأمام ولا يتوقف لحظة واحدة ليتساءل. وهنا تكمن الحيرة.
هل يمكن أن نجاري الآخرين ، أو هل يجب أن نجاريهم؟ إنه سؤال مقلق تماماً، لكن ما يغري ، إذا كان هناك من عزاء، أننا لسنا قادرين على ذلك، نتيجة الفرق الكمي ، والذي قد يتحول إلى فرق نوعي، ونتيجة حالة العطالة العميقة والطويلة التي لبستنا خلال عصور وأجيال، مما تترك لنا هامشاً لأن نستمر كما نحن، وبالتالي لأن نمارس حياتنا كما كنا نفعل من قبل، وكأن لا شيء يحدث حولنا!
قد يكون مبكراً طرح مثل هذه الأسئلة، أو تفجير الهموم، في الوقت الذي يجب بذل أقصى الجهد من أجل اكتشاف نقاط قوة أو القوة التي تجعلنا أقدر على تحمل صدمة العصر، ومن أجل أن نسند بعضنا كأفراد، بعد أن انهارت الإطارات، وأصبح كل واحد مضطراً على انتزاع أشواكه بيديه لكن هذا ما نملكه، وهذا ما نستطيعه، وعلينا أن نعيد اكتشاف الأرض التي نقف عليها، والناس الذين يحيطون بنا، لعلنا في نهاية النفق، نجد ضوءاً أو صيغة ما للإنقاذ.
أخي العزيز
لا أعرف لماذا اخترت هذه البداية في اول رسالة، في الوقت الذي يجب عليّ أن أسألك عن أ؛والك ومشاريعك، وفي الوقت الذي يجب أن أعبّر عن فرحي لأنك استعدت الثقة بالكلمة وبدأت بإعادة الطبع ، لتشرع مرة أخرى، ومن جديد، وبعد التجارب الكبيرة والانتقال، في الكتابة من جديد، وفي الحقل الذي خلقت من أجله. أتمنى أن أسمع أخبارك بالتفصيل، وأن نتبادل الخبرات والأفكار، فلعلنا، معاً، نستطيع أن نفعل شيئاً.
بالنسبة لي: بعد أن انتهيت من مدن الملح، بأجزائها الخمسة، أعطيت نفسي إجازة ، وشرعت بقراءات متعددة، إضافة إلى اهتمام خاص بالآثار (لا أعرف لماذا أو ماذا يعني؟!) إذ زرت مناطق عديدة، واكتشفت في نفسي ميلاً لأن أعرف أكثر حول التاريخ القديم! أحس في نفسي خلال هذه الفترة رغبة لا تقاوم من أجل العودة ، مرة أخرى، إلى شرق المتوسط، والكتابة في نفس الموضوع، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات الرائعة التي حصلت منذ تاريخ كتابة تلك الرواية (1972) والآن! إذا استقر رأيي على هذا الموضوع فسوف أشرع فيه من مطلع العام الجديد، أي خلال أسابيع قليلة.
كان بودي أن أرفق الأجزاء الثلاثة الأخيرة مع هذه الرسالة، لكن البريد الفرعي في المنطقة التي أسكن فيها لا يستلم المطبوعات، وهذا يقتضي مراجعة البريد المركزي، وهذا ما سوف أفعله خلال الأيام القادمة، وأرجو أن تصلك في أقرب فرصة، وقد يكون لنا حديث بعد أن تقرأها.
عنواني لم يتغير لكن موزع البريد يؤثر الراحة، ولذلك إذا لم يكن للإنسان صندوق فإن رسائله تتأخر أو تضيع، وهذا ما دعاني لأخذ صندوق هنا، وهو (9828) مزة – دمشق ، ولذلك آسف أن رسائلك السابقة لم تصل.
في ختام هذه الرسالة المشوشة تقبل تحياتي الحارة ، وآمل ان نبقى على اتصال خلال الفترة القادمة، راجياً لك كل الصحة والإنتاج الذي ترضى عنه، مع مودتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-7-
دمشق 12/3/1990
أخي الكريم الدكتور شاكر
تحيات أخوية حارة
كنت، خلال الأسبوع الفائت، على مرمى عصا من صنعاء، كما يقولون، وودت لو نلتقي، لكن أشغال الندوة، صبحاً وليلاً، لم تترك لي فرصة، إضافة إلى معرفتي أن الأمر لا يمكن أن يلخص أو يقتصر على بضعة ساعات يمكن أن أقضيها في صنعاء، لذا آثرت أن أمرّ مرور اللصوص من قربكم، دون أن أتحرش بكم، على أمل أن أجيء خصيصاً إلى صنعاء ولقضاء أيام عديدة!
لقد حمّلت العديدين ممن التقيتهم في الندوة، وكانوا عائدين إلى الشمال تحيات كثيرة إليك، آمل أن يكون بعضها قد وصل! طبيعي هذا لا يعفيني من المسؤولية، وحتى من التقصير، لكن "الهم" الذي كان يملؤني هو ضرورة العودة بسرعة لمواصلة العمل في الرواية الجديدة التي بدأتها منذ مطلع العام، والتي تدور حول الموضوع إياه: القهر، والذي يشغلني تماماً ، خاصة في هذه الفترة. لكن ما كدت أعود حتى وجدت برقية تنتظرني، وتطلب أن أسافر إلى تونس للمشاركة في ندوة تلفزيونية تبث من القاهرة وتونس معاً حول الرواية العربية ومستقبلها، ووجدت نفسي مضطراً أن أستعد للسفر، هذا إضافة إلى مجموعة من الأعباء الصغيرة والمسافرين الطارئين، الأمر الذي يجعلني لا أدخل عالم الرواية من جديد، ولفترة غير قصيرة.
إن إحدى مشكلات الكتابة في بلادنا أن لا أحد يعترف بعمله، أقصد أنهم يعتبرون عمله يمكن أن يؤدى فقط في أوقات الفراغ، وبالتالي يفترضون أنه يمكن أن يتوقف عن العمل، أو أن يعود إليه عندما يريد، ما عليه إلا أن يمد أمامه الأوراق البيضاء ويبدأ، ولهذا فإن وقت فراغهم هو بالضرورة وقت فراغ الكاتب، ومما يحبونه وما يثير شهيتهم هو ما يحبه الكاتب ويشتهيه ، وحين ينتهون ويريدون العودة إلى "أعمالهم" الجدية، يوافقون، وضمناً، على أن يعود الكاتب إلى بحثه وتسويد الصفحات!
هذه المشكلة أخذت تقلقني خلال الفترة الأخيرة، ولذا لا أعرف كيف أتصرف مع الكثيرين، لأن أية صرامة في التعامل يمكن أن يساء فهمها وتعتبر مجرد "بوزات" كما أن الاستجابة لرغبات الآخرين معناها : تمزيق الأعصاب وعدم القدرةعلى مواصلة العمل بحماسة ، ولهذا لابد من البحث عن معادلة ما فنأجل إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
لا أعرف لماذا انسقت للحديث بهذا الاتجاه، علماً بأن رغبتي كانت الحديث عن هذه الزيارة السريعة لعدن، ورسم صورة عن المكان والمناخ والناس والأشياء، والتي أراها لأول مرة. لكن رحلة تونس ، الإلزامية، والضرورية معاً، تجعل من الصعب أن أكون هادئاً، لأن معناها أن أقضي أسبوعين ، وربما أكثر في حالة عطلة، وبالتالي انتظار ظرف موات لبداية جديدة!
أخي العزيز
هل رسمت صورة متشائمة حول شروط عمل الكاتب ، والفرق بين ما يطمح إليه وما يحققه؟ أرجو أن يكون ذلك، ولكن ذلك الهاجس أن الحياة قصيرة، ربما، وأن هناك أشياء كثيرة يجب ان تقال، دفعني لقول ما قلته. ومع ذلك فالجانب الآخر مليء بالتجارب والفخار وإمكانية قياس أثر الكلمة، وبالتالي وصول الرسالة، وهذا لا غنى عنه لأي كاتب، أو بالأحرى ما يحتاجه الكاتب حاجة ماسة!
لقد تأخرت في الكتابة إليك، وكنت أتوقع أن أتبادل معك أحاديث أخرى في هذه الرسالة. لكن هذا ما وجدته الآن، ربما بتأثير المناخ المحيط، وآمل ان أكتب إليك في وقت قريب. وربما بطريقة أخرى.
تحياتي الحارة وأشواقي الكثيرة، وآمل ان أسمع منك قريباً،
مع كل الود.
عبدالرحمن منيف
* * *
-8-
دمشق 17 نيسان 1990
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق أكثر
استلمت رسالتك وسررت بها. وأن تكون قد تحمّلت هذه العقوبة كاملة: "مدن الملح"، وصبرت على قراءتها حتى النهاية، خاصة في جو السرعة الذي يميز عصرنا ومثقفينا، فتلك مأثرة أعتز بها.
أريد أن أجازف بفكرة لا أدري مدى صحتها: إن عصرنا العربي بحاجة ماسة إلى روايات كبيرة، وما لم توجد وتكتب هذه الروايات فسيبقى عصراً ناقصاً، لكن بالمقابل إنّ إنساننا العربي أصيب بعطب كبير، إذ لم يعد صبوراً أو قادراً على التعامل مع الأمور الكبيرة والجدية، هذا لا يعني أن الرواية بعدد صفحاتها، ولكن بموضوعها، بالأمور التي تطرحها. ومن هنا فنحن بحاجة إلى روايات "كبيرة". طبيعي لن أتورط ، مرة أخرى، كما قالت أيضاً تلك الإنكليزية ، مس بل، ساخرة، أنها لن تنصب ملكاً، بعد أن تعبت في تنصيب فيصل، وكذلك لن أتورط في رواية مثل مدن الملح، تمشياً مع طبيعة العصر وحاجاته. لكن ماذا نفعل في أمر الروايات المنتظرة ، الجامحة، الحارقة؟
الأمر، كما يبدو لي، شديد الصعوبة والتعقيد، لكن لكل صعوبة حلاً، وهذا ما وجدته، أو ما أفترضه. فشرق المتوسط رواية فترة؛ والفترة الثانية، المصنّعة، المتطورة، "الحشارية" تحتاج إلى روايتها، ولذلك يجب أن تكتب من قبل روائي ما، إذا لم أكن أنا فلابد أن يكتبها آخر، لكن باعتباري شاهداً على هذه المرحلة فلابد أن أدلي بشهادتي، وهذا ما حاولت أن أفعله خلال الفترة السابقة
لكن ... وهذه اللكن، والتي تشبه حتى سيبويه، من جملة الصفات السيئة التي أتمتع بها. إن طريقة الكتابة التي سيطرت عليّ: إما أن أحتشد للكتابة كلية، أو أن لا أكتب. وما حصل أني بعد السفرتين، الأولى لعدن، والثانية لتونس، وجدت نفسي أحتاج إلى جهد مضاعف، كما تقول عرافة أورك لجلجامش، وربما عشر مرات، من أجل أن أستعيد نفسي والحالة لكي أعود للموضوع ، بلهفة ، بقوة، بعتو، من أجل أن أقول ما أعرفه، وما يجب أن يقال. بعد هاتين السفرتين، ولأني أستعد الآن لسفرة جديدة، أجد نفسي موزعاً وحائراً. لا أستطيع أن أدخل "المعبد" ولا أستطيع الخروج منه، ولذلك تراني مزعجاً، متعباً، لنفسي، ولغيري.
الآن، وبرجلين من طين، أستعد للسفر إلى ألمانيا، فالإبداع العربي يحتاج إلى مدافعين، هذا ما أقوله لنفسي ، في محاولة للتحريض، من أجل المشاركة في الندوة التي تتعلق بالإبداع العربي، وهذا ما أحاول أن أقتنع به، خاصة وأن هناك عدداً من الأصدقاء ألحّوا علي وطلبوا مني المشاركة. لكن الرحلة إلى ألمانيا تقود إلى فرنسا، وفرنسا مثل المعشوقة في مرحلة معينة من العمر لا يمكن أن تنسى. وهذا يقتضي أن أزورها ، أن أستعيد فيها ذكريات وكأس نبيذ، إضافة إلى الخصومة!
ومثلما ذكرت لك في الرسالة الماضية، كيف يمكن أن أكتب ضمن هذا التوزع والتشتت؟ وكيف يمكن أن يتعايش الإنسان مع الآخرين في قطار الأنفاق أو في مطار من المطارات؟ وماذا تفيد الطرافة، أو المعرفة السريعة العارضة في جو مليء بالألغام والصراخ والأنين؟
إنني الآن أشعر بالقسوة على الآخرين، أو محاولة حرمانهم من المتع الصغيرة والمشروعة، وأحس أن الكتابة هي متعة من نوع ما، وإلا لا حاجة لها، وكذلك السيجارة والكأس وما يشبهها من الأمور، ولذلك لا أعرف كيف أريد كل هذه الأشياء لنفسي وأحرّمها على الآخرين؟
ربما من جملة الأمور التي تجعلني متردداً هاجس الانصراف إلى الكتابة، لأنه وحده يجعلني أتوازن مع هذا العالم الشديد الاضطراب والتغير، "لكن ليس كل ما يريده المرء يدركه"
الدعوة الكريمة من الدكتور المقالح مقبولة، لكن ليس الآن، لأني إذا لم أكتب رواية جديدة، فسوف أكون في حالة نفسية مزرية، وعليه فأنا أقترح أن تكون الدعوة في الخريف القادم، ولابد من الآن، وحتى ذلك التاريخ، أن أنجز "شرق المتوسط.. مرة أخرى" ، وأريد أن أجعلها رسالتي الجديدة في عالم شديد التغير وسريع. وأرجو أن تتاح لي هذه الفرصة، خاصة وأني سأعتزل ، مثل خلد، بعد عودتي، لكي أنصرف بالكامل.
مقالة الدكتور المقالح جميلة وهامة، وما فعلته أنا، وما فعلته أنت، لا يزيد عن كونه الشرارة الصغيرة في هذا المناخ المعبأ والقابل للاشتعال في كل لحظة. ليس عبث أو لوم، وأعتبر أن رسائلنا زادنا الأخير في هذه الحياة المليئة بالنكد والصعوبات والتحديات، فإذا كانت رسالتي حادة فقد كانت استجابة لما يدور في رؤوسنا كلنا.
تحياتي الحارة، وآمل أن أسمع منك وأن أكتب إليك، مع تحياتي الحارة إلى الدكتور المقالح وإلى الأصدقاء الآخرين، ولا تنس الزعبي، مع كل المودة والشوق.
عبدالرحمن منيف
***
-9-
27/6/1990
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق
بسرور تلقيت رسالتك، وعرفت بعضاً من أخبارك، وإني إذ أكتب إليك الآن آمل ان تصل رسالتي قبل أن تغادر في رحلة الصيف، والتي أرجو أن تكون ممتعة ومفيدة. فهذه الأميركا، لعنة العصر، يجب أن تعرف أكثر، ومن الداخل. إنها قارة مخيفة ، وناسها بمقدار ما يبدون طيبين فإنهم مغامرون وقساة، وهذا ما يجعلهم مختلفين كثيراً عن ناس القارة القديمة. إنهم يحملون في دمائهم أرواح القراصنة والقتلة، ويحملون أيضاً أحلام الأطفال وسذاجتهم، إلى كمّ هائل من رغبة الاكتشاف والخوف والتوجس من الآخر، ولذلك فهم يحصنون أنفسهم بدروع خارجية: بالمال، بالقوة، بالفخامة، لأنهم غير واثقين بالمقدار الكافي، وغير مطمئنين للمستقبل أيضاً. إن شراهتهم غير المحدودة دليل على جوع قديم ورغبتهم في السيطرة والاستحواذ تؤكد أنهم يريدون التعويض عما كانوا يفتقدون إليه!
أتسائل بعض الأحيان: ماذا لو تأخر خروج العرب من إسبانيا مائة سنة أخرى، وماذا لو كان العرب ضمن الذين قدر لهم الوصول إلى هناك؟
طبيعي لا يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه، وبالتالي، ربما، لا يتغير شيء، لأن العرب خرجوا من إسبانيا قبل أن يخرجوا منها، فقد كانوا في مرحلة تراجع، وكانوا خلال المائة سنة الأخيرة من إقامتهم فيها يدافعون عن آخر القلاع، ويحاولون، قدر المستطاع، تأخير إعلان ساعة الوفاة. وبشر من هذا النوع وبهذه الوضعية لا يستطيعون أن يفتحوا عالماً جديداً كأميركا. لكن أتساءل مرة أخرى هل وصل إلى أميركا سوى هؤلاء الذين كان يراد التخلص منهم ودفعهم إلى ما وراء المحيط؟ ألا يحتمل أن يكون العرب من هؤلاء؟ ولو افترضنا أنهم كانوا معهم، أو على رأسهم ، هل يتغير شيء؟
هكذا وقعت الأحداث، ولذلك لا فائدة من إعادة تشكيل التاريخ ضمن دوافع الرغبة، لأن الواقع أقوى وأشد صلابة من جميع الرغبات، ولهذا أصبحت أميركا هكذا، ويبدو أن ابن خلدون كان على حق وهو يشير إلى صعود الدول وانهيارها، ولذلك يجب ان تكتمل الدورة وأن تصل إلى نهايتها. والآن، كما يبدو، ذروة العصر الأميركي، وهذا ما نلمسه بدءاً من طريقة النطق إلى مفردات الحياة اليومية الصغيرة، ويبدو أن العرب مغرمون بالأقوياء، ليس من أجل أن يكونوا أقوياء مثلهم. وإنما لكي يخدموهم، ولكي يكونوا عبيداً لهم.
أخي العزيز
آسف لهذا الاستطراد، أو لهذا التجاوز، فقد كان أولى بي أن أسمع منك، بعد أن تقضي في رحلتك وقتاً كافاياًً تستطيع خلاله أن تكتشف، من جديد ، هذا المجتمع، وبالتالي نستفيد شيئاً جديداً، بدل أن نبقى ندور في دوامة الأفكار القديمة والأحلام. هكذا كان يفترض. لكن يبدو أن حرارة الجو، ومونديال إيطاليا أثرا عليّ، وجعلاني أسترسل هكذا، وأصادر على المطلوب سلفاً.
أخي، سوف أ بقى هذا الصيف هنا، خاصة بعد أن استنفدت عطلتي ما بين ألمانيا وفرنسا. وهذه العطلة كانت مريحة ومفيدة، ولذلك سوف أنصرف بكليتي للعمل، وآمل ان أنتهي مع بداية الخريف، و عندها سأكون جاهزاً لزيارة صنعاء.
في الختام تقبل مودتي وتحياتي الحارة، وأرجو أن تبلغ الدكتور المقالح شكري وتقديري وإلى اللقاء، وعلى أمل أن أسمع منك، مع تحياتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-10-
الأول من نيسان 1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وحارة
آخر رسالة كتبتها إليك في أول تموز الماضي، قبل سفرك إلى الولايات المتحدة، وتوقعت أن تجيبني على تلك الرسالة قبل السفر، أو على الأقل بعد عودتك؛ وهاقد مرت شهور طويلة، حافلة، ولم أسمع صوتك. أقدر بعض الأسباب. لكن، مع ذلك، كنت أمني نفسي أن أسمع صوتك مهما كان حزيناً ومثقلاً. والآن أجد ضرورة لأن أبادر. طبيعي كان أفضل لو قدر لنا أن نلتقي، أن نتحدث طويلاً، وفي كل القضايا، منذ أن خلق الله الأرض ، ثم الإنسان، إلى أن أصبح إنساننا مثل ما نراه الآنّ لكن باعتبار أن لقاء مثل هذا صعب وبعيد، على الأقل في الوقت الحاضر، فلا أقل من كلمات نتبادلها، مع معرفتنا أن مثل هذه الكلمات ستكون عاجزة رثة، وربما لا تقوى شيئاً. خاصة وأن ما حدث خلال الشهور الماضية أكبر من أن تحيط به الكلمات، ولم نستطع أن نستوعب بعد. إنه كابوس ثقيل أسود، مليء بالنتوءات والخفايا. ولذلك لا يمكن أن يقال ، أن يلخص، وهذا ما يجعل وقعه أصعب.
أقدر ، بداية، أنك موزع ومشتت ، وربما متعب، بحكم المكان، فبين أن تكون جغرافياً ، في مكان ويكون قلبك وفكرك في أماكن أخرى، وبين أن تكون رؤيتك للأشياء من خلال العينين فإنك تراها من خلال الأذنين، ومن خلال تلك الآلة الصماء، الراديو، التي تقول كل شيء ولا تقول شيئاً في نفس الوقت، وبين أن تؤمل أمراً ما يحدث ، كالمعجزة، في اللحظة الأخيرة، تتهادى الحجارة المسحورة لتردم كل شيء.
لقد كانت فترة شديدة الصعوبة، أقدر وأحس، وربما أعرف، لكن ما دام غيرنا الذي يقرر لنا كيف يجب أن تكون، وهو وحده الذي يفرض، فإننا الآن في حالة أشد صعوبة من السابق، لأننا غادرنا الوهم أو دخلنا فيه من جديد، وهذا ما يجعل الأمور مختلفة عن السابق.
وأعرف كيف أقول الأشياء، أو أية أشياء يجب أن تقال الآن. وهذا ما يزيدنا حيرة ويلجم ألسنتنا.
أعتقد أنه لم يتم لجيل على مر التاريخ أن يكون مثل جيلنا، أن نكون شهوداً على أخطر ما وقع في التاريخ: قيام الإمبراطوريات وانهيارها؛ نهوض الأحلام ثم انكسارها؛ انفتاح أبواب المستقبل أمامنا ثم انسدادها وغيابها؛ وآلاف الوقائع والمشاهد الأخرى. كل ذلك وقع أمام أنظارنا، رأيناه، لمسناه، تذوقنا لحظات الأمر ثم مرارة الخيبة. أي جيل في التاريخ عاش هذا الكم الهائل من الأحداث والوقائع والأحلام والهزائم؟
لايزال الجرح ساخناً، ولذلك يفترض أن لا يتحدث الإنسان كثيراً قبل أن يلملم نفسه ويداوي جراحه، ولذلك أترك الكثير الآن، إلى أن نقوى على أن نجري حديثاً موزوناً أقل انفعالاً وألماً.
الشيء الوحيد الذي أنقذني خلال الفترة الماضية أنني انكببت على العمل كما لم أفعل من قبل. كان خلاصي الوحيد، واستطعت أن أنجز رواية جديدة، هي امتداد لشرق المتوسط، وقد أعطيتها أيضاً نفس التسمية تقريباً، إذ سميتها: "الآن... هنا، أو، شرق المتوسط مرة أخرى" ويفترض أن تصدر خلال شهرين، وأبعد تقدير في منتصف حزيران، وحالما تصدر سوف أرسلها إليك.
وماذا أيضاً؟
مشتاق أن أسمع أخبارك ، وأن أعرف في أية حالة أنت، وماذا تعمل الآن، وما هي مشاريعك للمستقبل. أرجو أن لا تتأخر في الكتابة إليّ.
أفكر بالسفر، وربما أسافر في شهر مارس القادم ، لا أعرف كم ستطول السفرة، ولكن عليّ مراجعة الطبيب، وأيضاً للاستراحة، ولكن حتى ذلك التاريخ آمل ان تبقى على اتصال.
وكما ذكرت في بداية الرسالة: لا أريد من الكتابة الآن سوى أن أطمئن عليك وأن أسمع أخبارك، ولأشعرك أيضاً أنني لا زلت حياً، وربما قوياً أيضاً، وإلى أن تكتب إليّ أرجو أن تكون في صحة جيدة، وكذلك العائلة والأهل جميعاً والأصدقاء، ولا تنس أن تبلغ تحياتي للدكتور المقالح وأيضاً الزعبي. مع عميق مودتي.
عبدالرحمن منيف
***
-11-
دمشق 19/5/1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وحارة
حين بعثت إليك برسالتي السابقة لم أكن متأكداً أنك لازلت في صنعاء، بعثت بها مغامرة، أما بعد أن تلقيت الجواب فقد فرحت (ألا زلنا قادرين على الفرح؟) وبدا لي أن الدنيا لا تخلو من الجزر الخضراء والبشر واحتمال الفرح أيضاً. سلاحنا الأخير أن نظل متفائلين ، وأن نحاول. نعرف أن الأمر ليس سهلاً أو ممكناً، لكنه يستحق المحاولة!
الكتابة في السياسة (وحياتنا كلها سياسة) ليست مأمونة، فعين الرقيب الحولاء تصبح، وهي تقرأ رسائل الحالمين أمثالنا، عشرة على عشرة، وترتب على كل كلمة جملة من النتائج، الأمر الذي يعرض المرسل والمرسل إليه إلى متاعب وربما مخاطر هو في غنى عنها، ويجعل الشرطة الداخلية والخارجية تستنفر. وتتحول الكلمة، أية كلمة، إلى مسلّة لا يعرف الإنسان كيف يفرزها أو كيف يتخلص منها. إن حق المراسلة المكفول بشرعة الأمم لا نملكه ولا نقوى على ممارسته، وهذا يجعل رسائلنا أقرب إلى لسان العصفورة كما يقولون، فما بالك؟ إذا حاول الإنسان أن يقول رأيه وقناعاته في أمور حساسة؟
إن إحدى مشاكلنا مع الكلمة أننا نحوّلها إلى نقيضها، أن نحلّلها بكمّ هائل من الظلال والبقارع (البراقع) ولذلك غالباً ما نتكلم أكثر من لغة، أو أننا لا نفهم ما يقال على حقيقته، وهذا إذا كان يغني الفن ويعطيه تفسيرات كثيرة ومختلفة، فإنه في أمور أخرى يخلق إرباكاً لا يلبث أن يحوّل اللغة إلى مجموعة من الألغاز، ويصبح التفاهم صعباً أو متعذراً. وربما هذا ما ساد، خاصة في اللغة السياسية، بحيث أن الكثيرين يتكلمون ولكنهم لا يقولون شيئاً، أو أنهم يتكلمون ويصعب إيجاد القواسم المشتركة بينك وبينهم. وهكذا تتحول اللغة إلى مجموعة من الأشراك بدل أن تكون جسوراً أو طرقاً عريضة للتفاهم مع الآخر!
الأمر من جوانب عديدة، شديد العسر وبالغ الصعوبة، ويفوّت بالتالي إمكانية الوصول إلى الحد الأدنى المطلوب من التفاهم.
نتحدث عن كتابك حول كردستان، الأفكار والحلول المقترحة منذ ثلاثين سنة، والتي تناقش اليوم. لا أريد أن أكون متشائماً وأقول: أن ما يقال الآن يشير ولا يقول، وأن الحديث لا زال متلعثماً وبعيداً. وتتحدث أيضاً حول التساؤلات، لكن ما يحز في القلب: أننا لا نقرأ إلا ما نريد أن نقرأه في الكلمات لا الكلمات ذاتها، وأننا نفهمها حسب رغباتنا وأهوائنا لا على حقيقتها ودلالتها الصحيحة، ولذلك فإن لغة الصم لا تزال هي السائدة.
إنني الآن مربك أكثر من أية فترة سابقة، إذ رغم وضوح الكثير من الأفكار والصور والاحتمالات، ووصولي إلى قناعات وأحكام تكاد تكون نهائية، إلا أنني عاجز أو غير قادر على التعبير عنها كما أريد، لأن السلاسل والإحراجات، وايضاً الأسى، يجعل لأشياء كثيرة مذاقاً مراً، ويجعل لها منظوراً مختلفاً عما هو سائد، ومن هنا فالإنسان إما أن يصمت أو أن يموه، أو أن يلجأ إلى الفن بكل ما فيه من مكر ومواربة وتخييل.
خلال أسابيع قليلة سوف أرسل لك روايتي الجديدة – القديمة، لأن موضوعها بمقدار ما هو حاليّّ وعصري وضاغط فإنه قديم ومستمر وكلي في حياتنا. لا أدري إن جرؤت على قول ما كنت أو ما يجب ان أقوله أم أنني انسقت في التيار المتواطئ إياه فدفنت الجروح والأخاديد لعلها تجد يوماً طريقة في الوصول إلى حلول من نوع ما!
وهل الشرطة الذين صببت عليهم نقمتي هم الجلادين أم الضحايا، وهل نحاول إخفاء الجلادين الحقيقيين حين نستعير النسخ والأقزام والأبواق لكي نرى صورتنا فيها ومن خلالها، وهل هؤلاء هم المسؤولون أم مجرد أدوات؟
لقد ضربت الطينة بالعجينة، كما يقولون، واستخرجت من الصلال والصلصال الميت شيئاً افترضت أنه يملك حياة. هل أتوهم؟ أحلم، لا أعرف.
والعاصفة التي مرت.. هل يمكن لعاصفة مثلها أن تمر دون أن تقلب الكون كله؟ والناس هناك ، في الحلّة والناصرية وعشرات الأماكن الأخرى.. هل لا زالوا هم نفس البشر قبل وبعد العاصفة؟
إن في القلب جروحاً لا أتصور أن أحداً، شعباً، غيرنا قادر على احتمالها والاستمرار. وأن هذا بذاته يحتاج إلى الكثير من التأمل والدراسة والمقارنة، بهدف معرفة نقاط القوة والضعف في بشر من هذا النوع، وبالتالي الوصول إلى المعادلات التي تجعل الموت في النهاية هادئاً وطبيعياً، وإنسانياً أيضاً، لمثل هذا النوع من الكائنات الحية!
أخي العزيز
لا أريدأن أزيد الهموم أو أن أفتح الجروح، لكن ما نعيشه اليوم يستعصي على الفهم أو التكيف معه، وبالتالي لا يمكن السكوت عليه أو إقراره، مع أنه الحقيقة الوحيدة الكلية والشاملة، ومها حاول أن يهرب الإنسان فلابد أن يصطدم بالظلمة والجدار والوحل، ولا بد أن يسقط.
لقد علمونا طوال سنين طويلة أن نصمت، أن نؤمن بالآخرة، بالحياة الباقية، والنتيجة أننا وصلنا إلى شيء واحد: الصمت، أو إلى اللالغة، وهكذا أخذنا ندور في نفس اللغة لا نغادرها. أكثر من ذلك نشعر بالغبطة في هذا الدوران الأبله.
قد أكون متعباً أكثر مما ينبغي أو أكثر مما أحتمل . وعلّي ، للتخلص من هذا ا لوضع، أن أسافر. لم أقرر بعد، ولا أعرف متى أو إلى أين، ولكني سأحاول. أعرف أن السفر ليس حلاً، ولا دواءً، ولكنه مثل المخدر أو الأسبرين، لعل الإنسان خلاله او بعده يتمالك نفسه من جديد، ويحاول أن يضع أولويات من نوع أكثر ملاءمة وأكثر فائدة.
سأحاول استعمال هذا الاسبرين خلال فترة أرجو ألا تطول، ولولا بعض الالتزامات التي أراها ضرورية لبدأت فوراً.
وماذا أيضاً؟
كان يفترض في أن أكتب بطريقة مختلفة، إذ أعرف ما يثقل قلبك وفكرك، وبالتالي كان يجب ان أكون أقل أنانية، لكن بعد أن قرأت رسالتك، وبعدأن جلت في الأفق لم (أجد) غير هذه الطريقة!
من جملة المشاكل التي أواجهها أن اللغة ماكرة وملعونة، ومورّطة أيضاً. حبذا لو كنت قادراً على استعمال أداة أخرى. إن اللغات الأخرى، خارج اللغة، أكثر قدرة على التوصيل والدلالة، لكن يبدو أن الإنسان، بعد سن معينة، غير قادر على التعلم. ماذا لو كانت أداتنا الإزميل أو السكين أو حتى المحراث؟ ربما كنا أكثر سعادة وأكثر حرية لكن!
أخي
أرجو المعذرة، وقد رغبت من خلال هذه الرسالة أن أتكلم، وها أنا قد فعلت، ولذلك فإن هذه "التقاسيم" فاصل بين وصلتين ، قبل وبعد، وأرجو ألا تطول هذه التقاسيم وأن لا تستبد، وإلى أن أسمع منك تقبل تحياتي الحارة، وآمل ان تكون بصحة جيدة، وأن تكون متفائلاً أكثر مني، مع عميق مودتي، ولا تنس أن تبلغ الأصدقاء تحياتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-12-
دمشق 15/10/1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق أكثر
لا أدري بعد هذا الانقطاع الطويل الذي يفرض نفسه مرة أخرى كيف أعاود الكلام. كان بودي أن نبقى على اتصال مستمر، أن نتحدث ، أن نهذي، لكي لا نصاب بالخرس أو بالجنون، خاصة وأن كل ما حولنا يحرض على الصمت والجنون معاً، لكن يبدو أن ظروفي، ظروفنا، جعلت الكلام أصعب من الصمت، وجعلت التأمل أبلغ من الهذيان، وجعلت الجنون اللغة السائدة والمفهومة.
كان بودي أن أكتب قبل بضعة شهور، لكن ما حصل في بداية هذه السنة الملعونة، أمرضني. مرضت جدياً، وأصبحت في حالة لا أدري كيف، وفي لحظة ضرورية، ومناسبة ربما، قررت أن أتوقف عن المرض، أو عن استمراره، وأن أعود سيرتي الأولى؛ كانت القضية صعبة، لكني، في لحظة مواتية، استطعت أن أضع حداً للمرض، أن أوقفه، وافترضت أن الكتابة ترياقاً أو حلاً، وهذا ما حصل جزء منه، وإن كانت الكتابة مرض آخر. الحرب والرواية أمرضاني، جعلاني إنساناً آخر، وبعد أن أنجزت (تصور قسوة وبؤس كلمة انجزت!) هاتين المهمتين ، (وتصور مرة أخرى وكأن لي علاقة بالمهمة الأولى؟!) بدأت أتماثل للشفاء، أو أن أعود سيرتي الأولى. لا أعرف إلى متى سوف تستمر الأحوال مواتية ويبقى الإنسان قادراً على المقاومة والاستمرار، لكن هذا ما حصل حتى الآن.
في محاولة للعلاج سافرت، لكن السفر زاد وضعي سوءاً: من أين نهرب وإلى ماذا نهرب، ورجعت خائباً، وبدأت تلك الدورة الطاحنة من الأسئلة والتساؤلات، لم أصل، وما أظنني سأصل، لكني أنجزت الرواية وطبعت، وقد طلبت من دار النشر أن ترسل لك نسخة، أعتقد أنها ستفعل، ومن خلالها سوف تكتشف أية معاناة تستبد بروحي وجسدي، وأية احتمالات إيجابية أنتظر!
لقد كانت الفترة الماضية شديدة الصعوبة، وربما لا تشابهها إلا أيام حزيران الستة، الستمائة ، الست آلاف، والمستمرة حتى الآن. أشعر بشوق إلى بغداد لا يوصف، وأشعر برغبة أن أكون قريباً من البشر هناك، لأن أية مشاركة، على البعد، غير مجدية، ولا تعبر . طبيعي أعرف كم من الحماقات ارتكبت، وكم من القسوة ميّزَت الذين هناك من الذين يتخذون القرار، وأعرف أيضاً لماذا أصبحت كربلاء في العراق، ولماذا حصل الطوفان، لكن كل شيء بعد فوات الأوان، بعد أن حصلت كربلاء مرة أخرى، وبعد أن طغى الطوفان ولا يزال هناك.
كنت أحاول، في فترة معينة، تفسير حزن الغناء العراقي، اعتبرت الطبيعة سبباً بقسوتها، بين الحر وا لبرد، واعتبرت الفيضان، وملوحة الأرض، وكون العراق ممراً ومعبراً، لكن يبدو لي أن هناك، بالإضافة إلى كل ذلك: لعنة الآلهة وجنون القادة، وربما أشياء أخرى! وتظل الأسئلة تدور، وتدور معها الأيام، دون أمل وبلا أفق، ولا أعرف إلى متى.
أحاول، قدر الإمكان، أن أبدو هادئاً وعادياً، لكن البراكين التي في داخلي لا تهدأ ولا تتوقف. أحاول أن أقول بعض الأشياء، أكتب، أفكر، أحلم، لكن في اللحظة التالية أفيق على الكابوس: كل شيء تدمر، أصبحنا في العراء، لا إمكانية منظورة بحل من أي نوع، وأصل إلى نتيجة وحيدة: الكتابة، أكتب، لكني لست واثقاً ولا أملك أي يقين، لأن الطاحونة مستمرة في الدوران. عالمنا قاسٍ وشقي، الأقوياء يأخذون حقهم وحق غيرهم وكل ما يريدون، والضعفاء يدفنون مختارين أو مضطرين، ولا أمل في حل قريب!
ربما أثقلت عليك وحملتك فوق أحمالك كلها، ولا أعرف لماذا أفعل ذلك، كنت أود لو كنت أكثر هدوءاً وأكثر رصانة وأن نتحدث عن أشياء مفيدة، لكن يبدو أن مزاجي في واد آخر، وبالتالي أترك نفسي، وأترك لنفسي الحديث بهذه الطريقة. إنها أيام صعبة، قاسية، هل يمكن للكلمة أن تفعل شيئاً؟ إنه السؤال الأبدي الذي لا يفارقني لحظة واحدة. لا أعرف له جواباً مؤكداً، لكن لا أطيق أن أسلّم أو أتراجع. ربما كان الطريق الذي أسير فيه ذا اتجاه واحد، وعلّي أن أواصل حتى النهاية، دون التفكير بالتوقف أو بالتراجع، وهذا ما سأحاوله أياً كانت النتائج.
أخي العزيز
كان بودي أن أسألك عن أحوالك والأهل ، عن الأصدقاء والديار، عن الحلة والجوار، لكن يبدو أن هذا الفيض أخذني وجرني، كما تجر مياه الفيضان كل شيء، وهكذا حُملت على موجة من أمواج الفيضان وقلت الذي قلت، ولأني متعب ومحبط، وربما أكثر سلكت هذا الطريق.
وماذا أيضاً؟
أكتب هذه الرسالة لأعاود من خلالها الاتصال، ولأقول لك أني لازلت أمارس الحياة والكتابة والتأمل والحزن ، والحيرة أيضاً.
أكتب إليك لكي أبقى وأرغب أن نبقى على اتصال، وإلى أن أسمع منك تقبل تحياتي الحارة وأشواقي الكثيرة.
عبدالرحمن منيف
* * *
-13-
8/12/1991
أخي العزيز شاكر
تحيات كثيرة وأشواق أكثر
لم تبق إلا أسابيع قليلة وتنقضي هذه السنة الكشرة، والتي ستترك في أرواحنا ندوباً لا تمحى ولا تنتهي، وإذا كان الصينيون يتفاءلون ويتشاءمون بالسنين، ويعطونها أسماء وأوصافاً، ويرتبون مواليدهم على أساس هذه السنين، لكي يوفروا لهم أقصى سعادة ممكنة على هذه الأرض، فإن السنة التي توشك أن تغادرنا الآن لابد أن تظل معنا تقوم وتنام لعدة أجيال لاحقة، كما هو حال 67، مع فارق أساسي: كنا أكثر غباءً في السنة الأخيرة مما كنا في 67، لأن الفخ الذي نُصب لنا لم يكن مموهاً ولم يكن مفاجئاً، وهكذا اندفعنا مثل الثيران لكي ندخل في تلك الحلقة الجهنمية، والتي حوّلت المنطقة بأسرها إلى بيوت من الشمع تذوب وتتساقط شهراً بعد شهر، سنة وراء سنة، خاصة وأن الشهية الأميركية مفتوحة ولا تعرف التوقف أو الشبع، وهكذا فإن الويلات التي ستأتي ستكون أكبر مما مضى، وسوف تترافق فيها الضربة مع المذلة، والعجز مع الحسرة، أو كما قال الرسول: حشف وسوء كيل!
رسالتك حول معاناة الناس هناك تثير الأسئلة والشجون والمرارة. هل يعقل أن يضطر الجميع لاحتمال خطأ إنسان فرد، وهل يبلغ الجنون بواحد أن يورط الجميع؟( ) وهل أن الآخر، الأميركان، كانوا بحاجة إلى ذريعة لكي يجربوا كل قوتهم وكل أسلحتهم الحديثة؟ إن في الأمر ما يستعصي على الفهم والإدراك، خاصة بعد الذي حدث في الاتحاد السوفياتي، وكيف يمكن لفأر أن يهدم السد العظيم. إن المنطق الذي خضعنا له طوال العقود الماضية ملئ بالثغرات والعيوب، وكنا أشبه بالذين لم يروا عري الملك إلى أن جاء الطفل واكتشف كل شيء. لقد كان البناء يبدو لنا ، للجميع، وحتى للأعداء، أكبر من أن يطاله البصر، وأرسخ من الجبال، وأقوى الأشياء كلها، ثم فجأة، ودون مقدمات من أي نوع، لا يبقى حجر فوق حجر، وينهار المعبد فوق رؤوس المصلين. إن في الأمر ما يستعصي على التفسير، وذلك الصديق الذي كان يرد على الكثيرين، ويقول: لا يمكن تفسير التاريخ بطريقة بوليسية، أو نتيجة المؤامرات، لا أعرف ماذا يمكن أن يقول الآن وقد تكشف هذا التاريخ عن قصة بوليسية من نوع التريسو. نعم هذا ما أحسه في أمور عديدة، وكأن يداً خفية تلبد في مكان معتم تحرك كل شيء!
قد تكون مثل هذه الأحاسيس نتيجة قوة الضربة أو شدة الصدمة، وبالتالي عجز الإنسان عن تفسير ما حصل، وإلى أن يعود الإنسان إلى شيء من التوازن، وبعد أن تبتعد الأحداث إلى مسافة تمكّن من الرؤية، وبعد أن تنكشف أمور كانت أسراراً، ربما نستطيع عندئذ أن نعيد ترتيب الأمور ووضعها في خانات محددة ثم إلى (أن) نعطيها أوصافها الحقيقية، وحتى ذلك التاريخ سيبقى الأسى ناشراً أعلامه فوق رؤوسنا، وستبقى الرؤية غائمة أو مموهة، وسنبقى ضائعين ندور بحيرة في نفس الدائرة.
أخي الكريم
لا أعرف ماذا أردت أن أقول، خاصة وأن القضايا والهموم تزدحم في العقل والقلب وتتشابك إلى درجة يحار معها الإنسان كيف يتكلم أو ماذا يجب أن يقول، خاصة في ظل الرقابة والقمع وكم الأفواه، أكثر من ذلك: كثيراً ما فكرت بضرورة اختراع لغة جديدة، لغة ليس من السهر حل رموزها، وتبقى مستعصية على الذين لا تحبهم أو لا تثق بهم، لأن اللغة المتداولة، السائدة، فسدت وفقدت الكلمات معانيها، وتتجول في الأسواق بملابس رثة وبطريقة بائسة، لكن لغة مثل التي يتمناها الإنسان متعذرة، على الأقل الآن، وهذا ما يجعلني أندفع، وبقوة، إلى الرواية، لعلّي أستطيع أن أخلق من خلالها عالماً موازياً لهذا الواقع السوريالي الذي لا يمكن أن يفهمه أو يتعاطف معه حتى برتون أو دالي . أعرف أن الكثير مما أكتبه مشوش ولا يشي بما أريد، لكن باعتباره خيالي، ويمكن أن يقرأ بأشكال متعددة ، فإنه يحمل معه تبريره، وبالتالي يعوض، ولو جزئياً، عن اللغة التي أحلم بها.
سوف أهيئ نفسي ، بدءاً من مطلع العام، إلى رواية جديدة ، لا أعرف، حتى الآن، ماهي أو كيف ستكون، ولكن يجب أن أفعل قبل أن تنفجر مرارتي وأقع نتيجة كل ما يجري.
يقول صديق يعيش حالياً في كندا، وبعد أن تابع الفيلم الأميركي الطويل: "لا يمكن مواجهة لمرحلة الحالية إلا بالهذيان"، وهذا ما أمارسه الآن، لأن المنطق لم يعد مجدياً أو كافياً لتفسير ما يجري الآن" وإذا كانت لكل إنسان وسيلته في المواجهة ، على الأقل في محاولة تجنب الموت
أو الجنون، فأعتقد أن الهذيان أو ما يشبهه من الأدوية المسكنة،
وربما النافعة، على الأقل في المرحلة الأولى، حتى إذا استعاد الإنسان قدرته على النظر بهدوء إلى الأشياء، واسترد بعضاً من قوته،
عندئذ يمكن أن يتعامل مع ما يجري بقابلية أكبر على التفسير أو التبرير، تمهيداً لاتخاذ اتجاه، أو وجهة، وقد تساعده ا لشمس أو النجوم على اختيارها!
كان يفترض أن أكتب لكي أخفف عنك بعضاً من الهموم التي تلقى، خاصة وأن يديك في النار، كما يقولون، أكثر مني، لكن، ودون قصد وجدت نفسي أهذي، ربما استعداداً لرواية جديدة، تكون صورة من صور الهذيان الجماعي، أو مثلما يفعل لاعبو كرة القدم الاحتياط حين يسخنون أنفسهم إذا هيأوا أنفسهم أو هيأهم المدرب للحلول محل المتعبين أو المصابين.
أخي الكريم
كتبت كثيراً، ولم أكتب شيئاً، وربما كنت بحاجة إلى هذه الكتابة لعلي أريح نفسي، وهذا ما فعلته، وإلى أن أسمع منك تقبل تحياتي الحارة، ولا تنس تحية الأصدقاء.
عبدالرحمن منيف
* * *
-14-
17/1/1992
أخي العزيز شاكر
تحيات حارة
استلمت رسالتكم وعرفت بعضاً من أخبارك، بما في ذلك احتمال زيارتك للأهل خلال الشهر القادم. آمل أن تكون الأحوال أفضل من قبل، وأن تطمئن، كما آمل أن أسمع أخبارك باستمرار.
هذه الرسالة رسالة عمل، إذا صحّ التعبير. إذ أريد منك أن تشاركنا في إبداء الرأي حول سقوط الاتحاد السوفياتي، لماذا وماذا يعني لك وماذا تتوقع بالنسبة للمستقبل. الرأي المطلوب قد يكون على شكل انطباعات ذاتية أو أية صيغة ترتأيها مناسبة، والمهم أيضاً أن تبعث بها إليّ قبل سفرك أو أثناء وجودك في عمان، أو أن تضمن وصولها إليّ قبل نهاية شهر شباط. خاصة وأن مساهمتك، ضمن المجموعة المنتقاة، ستكون هامة.
لا أعرف ما إذا حدثتك عن العدد الخاص الذي سنصدره من "قضايا وشهادات" حول الولايات المتحدة في هذا العام، وحبذا لو تتاح لك الفرصة للمشاركة. إذا لم أفعل فإن الخطأ يقع عليّ أيضاً. سأحاول تدارك هذه الأخطاء، وسوف أبعث إليك العدد الأخير على الأقل، كما سأرسل المخطط الموضوع لعدد الولايات المتحدة، فإذا بدا لك أن هناك من يود المشاركة في العدد المذكور من المتخصصين والأساتذة، فإنه يكون خيراً على خير، وحبذا لو تشعرني بالأمر وبالعناوين المقترحة.
أرسلت اليوم رسالة إلى الدكتور المقالح طالباً منه أيضاً المشاركة في إبداء الرأي حول سقوط الاتحاد السوفياتي، كما أرسلنا رسائل مماثلة إلى عدد من أساتذة عدن، وأتوقع أن يكون الكتاب مجموعة شهادات المثقفين على حدث كبير، وأن يتمتع بأهمية ومصداقية في هذا الظرف الصعب.
حالما تصلني نسخ من كتابي الجديد: "الديمقراطية أولاً... الديمقراطية دائماً" سوف أرسل واحدة منه إليك.
أرفق طياً الرسالة دون ظرف ، وآمل أن أسمع منك قريباً، وتقبل مودتي وتحياتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-15-
13/4/1992
أخي الكريم
تحيات حارة وأشواق كثيرة
تلقيت رسالتك قبل فترة طويلة، وتلقيت الدراسة – الشهادة أيضاً. كان بودي أن أكتب قبل الآن، لكن لتوقعي أنك على سفر فقد أجّلت الكتابة بعض الوقت.
آمل أن تكون بصحة جيدة، كما آمل أن تكون زيارتك للأهل قد طمئنتك بعض الشيء.
التقيت أخيراً ببعض الأصدقاء العائدين من كوبا، وذكروا لي بعضاً من أخبارك، وصلتهم معك بما في ذلك المقيل . لقد قضينا سهرة مفيدة تعرفت من خلالهم على بعض قضايا اليمن ، وحول الأوجاع والهموم أيضاً آمل أن نظل على تواصل، وربما حاولت المجيء في زيارة عند حدود نهاية العام، خاصة وأني اعتذرت أكثر من مرة.
أخي العزيز
أكتب هذه الرسالة في زحمة الاستعداد للسفر إلى لندن، ولذلك أعتذر عن قصرها أولاً، وأعتذر أيضاً لكونها تتعلق بطلب يخص اثنين من أقربائي تقدما لجامعة صنعاء أملاً بفرصة عمل، الأول اسمه قاسم سلمان قاسم، دكتوراه في الفيزياء وله خدمة عشر سنوات في الجامعة التكنولوجية والثاني ماجستير، وفي المرحلة الأخيرة من الدكتوراه، لكنه توقف مؤقتاً نتيجة الظروف الراهنة في الكويت وهو مختص في قراءة ومعالجة الصور ، وله خدمة 4 سنوات في البحث العلمي وسنوات أخرى في الجامعة والثاني يقيم حالياً في عمان واسمه سعيد علي أمين. وقد تقدما بأوراقهما عن طريق صديق يمني، وأعتقد ربما نتيجة إعلان من الجامعة عن حاجتها لمثل هذه الاختصاصات. أكون شاكراً إذا استطعت المساعدة عن طريق الصديق الدكتور عبدالعزيز أو الجامعة مباشرة، ولا أريد أن أثقل عليك في الحديث عن الضرورة والتفاصيل.
سوف أغيب في هذه السفرة ثلاثة اسابيع، أعود بعدها إلى دمشق من أجل الانغماس في الكتابة؛ إذا توفر لك جواب قبل عودتي فعنوان قريبي سعد علي أمين – مكتب الرازي، شارع الجليل المتفرع من دوار فراس، بواسطة يوسف الجمعان – عمان الأردن.
معذرة مرة أخرى بطبيعة هذه الرسالة، وسوف أحاول الكتابة إليك من أول محطة مناسبة وحتى ذلك الوقت لك تحياتي ومودتي، رجاء أن تبلغ الاخوان سلامي.
عبدالرحمن منيف
* * *
-16-
دمشق 6/9/1992
أخي العزيز شاكر
تحياتي الحارة
وصلت رسائلك الثلاث في يوم واحد، وقبل أيام فقط!
كان بودي أن أكتب إليك قبل هذا الوقت، ولكن قدّرت أن فترة الصيف لابد تحملك إلى مكان من الأمكنة، وبالتالي لابد أن تكون بعيداً عن صنعاء، وعليه فقد أرجأت الكتابة. والآن، وقد أوشكت السنة الدراسية أن تبتدئ، يمكن أن نواصل الحديث الذي بدأناه منذ سنوات، أن نتبادل الهموم والأفكار... والأحلام أيضاً، خاصة في ظل الجو الكابوسي الذي نعيشه الآن، والذي لم أتصور ، لم أتخيل أننا يمكن أن نصل إليه. إن أوضاعنا الآن تشبه تلك الدمية الروسية التي تتوالد نفسها على شكل مسوخ تصغر مرة بعد أخرى إلى أن تتلاشى. ماذا بقي للروائي أن يكتبه؟ إن هذا السؤال يتحداني باستمرار في ظل مسرح اللامعقول الذي نعيشه كل يوم، كل ساعة. لقد فاق الواقع كل خيال وتجاوزه بحيث لم يبق للروائي ما يفعله، وبالتالي لابد من اختراع وسائل تعبير تتجاوز الرواية والخيال في محاولة لقراءة ما يجري!
إنه العصر الأميركي بامتياز، وهذا العصر ليس كالعصور التي سبقته، أو يمكن أن تتلوه، إنه متحدٍ وشديد الوقاحة وكامل العري، يريد الجميع مثالاً له، ولكن على شكل تلك الدمية، وفي مراحلها الأخيرة، وكل من يحاول قول لا لابد أن يحذف، أن يكسر ، أن يكون أمثولة، ولذلك ترى وتسمع تلك العربدة التي تملأ الدنيا وتصم الأذان، لكي يخاف الجميع، لكي يتأدبوا، ويبدو أن هذه السياسة نجحت حتى الآن ، خاصة على مستوى الأنظمة ، وكل واحد يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في هذا الطابور الأميركي الطويل، لكن ...
هل يمكن لمثل هذه العربدة أن تستمر، أن تسيطر؟ الدلائل المباشرة تقول نعم، تقول أنه ممكن، لكن من أخطاء التاريخ أن نقيس كل شيء على الراهن، على الظاهر، وأن نعتبر القوة المادية وحدها يمكن أن تروّض الجميع. صحيح أنه قد تأد الكثير من الأحلام، وتجعل التفكير شاقاً وملتبساً، لكن القوة وحدها لا تصنع الحضارة ولا تكوّن قناعات الناس وضمائرهم، وبالتالي فإن خطرها الوحيد في عرقلة المسارات وتعقيدها، وربما شيء من هذا مطلوب بالنسبة لنا نحن العرب. علينا أن ننتقل من الحالة البسيطة إلى الحالة المركبة، من معادلة المجهول الواحد إلى معادلة المجاهيل المتعددة، لأن طبيعة الحياة المعاصرة تفرض ذلك، وبالتالي فإن العقل البدوي الثاوي داخل كل منا يجب أن ينتهي، أن يستبدل بعقل آخر مختلف، وإلا فإن الانقراض، وبمعناه المادي، سيكون مصير هذه الأمة.
إن العرب، يا صاحبي، بموقعهم الجغرافي، بتاريخهم، برسالتهم السماوية، شعب مزعج لأنفسهم وللآخرين، وبالتالي لا يمكن أن تبقى الأمور في حالة مترددة أو حائرة، كما أن اللون الرمادي لا يمكن أن يبقى اللون السائد، ومن هنا لابد للآخرين أن يعالجوا وضعهم إذا عجزوا هم عن معالجته، وهذا ما يجري الآن، لكن معالجة من هذا النوع يمكن أن تحوز وتمشي بالنسبة لشعوب أخرى، أما هذا الشعب المزعج فإما أن يكون شريكاً حقيقياً أو ينتهي. وما يجري الآن محاولة لإنهائه، خاصة وأن أميركا وإسرائيل لا يمكن أن يهدأ لهم بال إذا ظلت الأمور حائرة هكذا، أو كانت تندس بين رمادي ورمادي آخر، دون أن تتحول إلى شيء آخر، وإلى لون واضح من ألوان الطيف الشمسي!
التفتيت.. التفتيت.. التفتيت هو ما يراد للمنطقة، لكل قطر، لكل حالة، وقد لا أبالغ إذا قلت لكل شخص، ينام الإنسان على قناعة ويستيقظ على غيرها، على نقيضها، هذا ما يراد الوصول إليه، ويبدو أننا نساعدهم، حتى الآن، في تطبيق هذه السياسة، وكما ترى وأينما التفت، سيرك عربي من المحيط إلى الخليج، ولكن دون متفرجين، دون تشويق، ولابد أن تقوّض الخيمة في لحظة ما، لكي يشاد بدلاً عنها شيء أكثر جدارة وأقدر على الخدمة، وهذا ما يحاولون الوصول إليه وبسرعة!
هذا هو العصر الأميركي في نهاية القرن، ويبدو أن قرننا الذي بدأ بالنفط يختتم سنواته الأخيرة بنفس المصيبة، وكما يقول هيكل في كتابه الأخير يراد أن يكون القرن القادم قرناً للنفط أيضاً، فمن يسيطر عليه يسيطر على العالم!
لكن ما بال العالم، كل العالم، وقد أصبح مخصياً هكذا؟ أين هي الأفكار والأحلام التي ملأت النصف الأول من هذا القرن؟ أين هي الثوابت التي تشكل أفقاً أو احتمالاً للمستقبل؟ ما هذا الذي يجري في أنحاء متعددة من الأرض، وكأن الكثيرين كانوا ينتظرون اللحظة التي يغفو فيها الضمير، يتعب، لكي يتحولوا إلى وحوش مرة أخرى؟ ماذا يجري في يوغسلافيا وأفغانستان وأذربيجان وأماكن أخرى كثيرة من العالم؟ أين كانت تلك الأحقاد والحسابات والشطارات مخبئة؟
أكاد في لحظات كثيرة لا أصدق، وأعتبر أن ما يجري مجرد كابوس ، لابد أن ينتهي وبسرعة، لكن في لحظات أخرى أعتبر أن كل ما تعلمناه كان بسيطاً ساذجاً، وأن قوانين الحياة أقسى وأكثر تعقيداً مما افترضنا أو رغبنا، وبالتالي لابد أن ندفع الآن ثمن جهلنا وبساطتنا، وبلاهتنا أيضاً، وعلينا أيضاً أن نرتفع ونبلغ من الآن سن الرشد ، وإلا لاعذر لأحد، ولا يمكن الدفاع عن البلاهة أو تبريرها.
هل هناك حاجة لأن أستمر في كتابة الرواية، وإذا فعلت، لماذا وما هي النتائج التي أريد الوصول إليها أو يمكن أن تتحقق؟
إنني أطرح هذا السؤال على نفسي بشكل جدي ، وأحار في الإجابة، خاصة وأن الكثير مما يقال ويكتب وكأنه غناء في البرية، صراخ في أودية الشيطان، أوهام نعلل أنفسنا بها لكي نكمل مشوارنا على هذه الأرض، ونقنع أنفسنا أننا حاولنا، أننا فعلنا شيئاً في هذه الحياة.
لا أدري، وأكثر من أية فترة سابقة لا أدري ، لكن يبدو أن من شب على شيء شاب عليه، خاصة وأننا لم نعد نصلح لعمل آخر، لإعادة تأهيل، لإعادة صقل، فاتنا هذا الأمر، وعلينا أن نداري أوهامنا أو حقائقنا الصغيرة، وأن نستبقي مساحة للحلم، وعلينا أن نحاول أيضاً، لعل فيما هو آت يحمل إلينا إمكانية انتهاء هذا الكابوس – العصر الأميركي.
لقد تحدثت أكثر مما يجب ، في محاولة لأن تبقى الأمور أكثر وضوحاً، على الأقل بالنسبة لي، ويبدو أننا ، في فترة معينة، نهوى أن نرى الجانب السلبي في الصورة، وأن نهجو ونندب. وقد تكون الأمور أكثر سوءاً أو أكثر إيجابية، لكن كالاسطوانات المشروخة نعلق في أماكن معينة ونظل ندور حول أنفسنا إلى أن تأتي قوة وتحركنا من هذه المواقع، وعندها نكتشف أن الأشياء لم تكن على تلك الصورة.
أخي شاكر
كانت لدي الرغبة أن أحدثك بأمور أخرى، لكن وجدت نفسي مدفوعاً ومحمولاً على هذه المقامات الحزينة، ويبدو أنني أسرفت، فاعذرني.
وماذا أخيراً؟
شهادتك حول سقوط الاتحاد السوفياتي وصلت، وسوف يصدر العدد الخاص بهذا الموضوع في فترة الخريف، وقبل نهاية العام. أما شهادة الدكتور المقالح فقد ضاعت بين المطارات.
سيصدر لي كتاب عن دار الفارابي بعنوان الكاتب والمنفى، ويفترض أن يصدر هذا الشهر، سأرسله إليك. انشغلت خلال الفترة الماضية بعدة مقالات اضطررت لكتابتها.
الرواية مؤجلة لبعض الوقت، ولا أعرف متى أبدأ أو ماذا أكتب.
في الختام تقبل تحياتي ومودتي، وآمل أن تكتب لي سريعاً لكي أطمأن عليك وتحياتي إلى الأصدقاء.
عبدالرحمن منيف
* * *
- 17-
دمشق 19/10/1992
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة
بعد انقطاع طويل سمعت صوتك من جديد، ففرحت، وإذا كنت لا أزال مشتاقاً لأخبارك. آمل ان تكون بصحة جيدة وأحوال مقبولة.
تلقيت دعوة الدكتور المقالح بحضور ندوة الشهر الماضي، ولكني اعتذرت لضيق الوقت ولعدم إلمامي بالموضوع المطروح. آمل أن أتمكن من زيارتكم في وقت لاحق. كما آمل أن نبقى على اتصال خلال الفترات القادمة.
لا أعرف لماذا تراودني فكرة الكتابة عن بغداد الخمسينات. الفكرة تلحّ كثيراً، وإن كانت لا تزال غائمة ولا أدري كيف سأتعامل معها. لو كان تحت يدي ديوان ملا عبود الكرخي أو مجموعة الأغاني السائدة في تلك الفترة لساعدت في تحريضي. أحس في بعض الأحيان، أن المسألة تحتاج إلى قدْح للزناد، الشرارة الأولى الصغيرة يبدأ بعد ذلك عالم فسيح متكامل. قرأت كمّاً لابأس به عن تلك الفترة، ولا زلت أقرأ، وهذه القراءات بهدف تغذية الذاكرة واستعادة الأحداث، وربما انكسار موجة الحرارة واستمرار هذا الانفعال يساعدان على الدخول إلى هذا العالم. هذا ما أتأمله وما أحاوله، وعسى أن تكون النتائج مرضية.
المناخ العام قاسٍ ويولد الإحباط، والأفق يكاد يكون مسدوداً، لكن يجب أن نحاول، خاصةً على مستوى الثقافة، إذ ربما استطعنا شيئاً يكون احتمالاً للمستقبل.
أبعث إليك مع الصديق الدكتور عمر ياجي كتاباً صدر لي مؤخراً، آمل أن تجد فيه ما يستحق عناء القراءة. كما أعتقد أنك ستأنس بهذا الصديق السوداني الذي يقيم منذ بضعة سنوات معنا في دمشق، ولقد أرسلت معه نسخة من الكتاب إلى الدكتور عبدالعزيز المقالح، حبذا لو تفضلت بإيصاله مشكوراً. كما يوجد في صنعاء حالياً صديق كريم هو الدكتور عصام الزعيم، وسوف يبقى في اليمن مدة سنتين وقد يصبح صديقاً لك إذا تعرفت عليه.
في الختام تقبل تحياتي الحارة وأشواقي الكثيرة، وسوف أكتب إليك مستقبلاً.
ملاحظة: بخصوص طلب العمل الخاص بقريبي أرجو اعتبار الموضوع منتهياً، لأن بريطانيا وافقت على عودته إلى لندن، وهو الآن يعد للدكتوراه.
عبدالرحمن منيف
* * *
-18-
دمشق 30/3/1993
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة وأشواق كثيرة
لا أعرف لماذا تأخرت في الكتابة، إذ رغم أني لم أكتب إليك مباشرة، فقد كنتُ في أجواء أنت تعرفها معرفة جيدة، كنت في أجواء تنصيب فيصل، ومع النقيب في العشرينات الأولى، ثم أبحرت مع السعدون، وتوقفت عند الهاشمي ياسين، ثم بكر صدقي، وعرفت تفاصيل إضافية عن "مقتل" فيصل ثم غازي وبكر، وكيف قتلوا. أما الفيضانات التي بدأت منذ مطلع القرن وحتى عام 954 فقد شغلتني كثيراً، ورأيت فيها أحد مظاهر الحياة هناك.
أصبحت أكوام الكتب التي تتناول جعفر أبو التمّن والحصري والسعدون ومشتاق ونوري وضاري وبكر، وغيرهم كثير، حصاراً لا يمكن الإفلات منه، حصاراً كنت أتمنى منذ وقت طويل أن أستفيد منه في عمل. كيف سيكون هذا العمل؟ متى! لا أدري. ولكني أحس أن هذا الإدمان الذي استغرقني لابد أن تكون له نتائج. أحاول الآن أن أبحث عن الأغاني والبستات، وكل ماله صلة بأيام تبدأ منذ الحرب العالمية الأولى، ولا أعرف إلى أين ستمتد. قرأت أخيراً المميّز، وقبلها العلاف، وأدرس بدقة خارطة المدنية المعذبة، كيف كانت وما طرأ عليها؛ قرأت حسين جميل في مذكراته وشوكت والجادرجي، وأحاول أن أصل إلى أي مصدر جديد يمكن أن يغذي الذاكرة ويعطيها مدى إضافياً، ولابد أن اصل إلى شيء ما. لا أعرف ما هو تماماً، أو كيف سيتم التعامل معه، ولكني الآن مملوء بهذا الشيء الخاص، الاستثنائي، الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئاً. ان الكتابة في هذا الموضوع تشكل تحدياً أساسياً بالنسبة لي لم أحس بمثله في أي يوم سابق، إنه ينعش ويقهر، يستفز ويبعث ذكريات منذ أيام جلجامش، يقول الأشياء بصمت فضّاح، ويعد ببضاعة ليست موجودة في أي مكان آخر في هذا العالم.
إنني الآن مسكون بشيء واحد : الرافدين.
قرأت تاريخ الفيضانات ، الشرائع، الملاح، أسجل ملاحظات. أكتب هنا وهناك أفكاراً، لكن كيف ستجد سياقها، حياتها، طريقها الخاصة في التعبير: لا أعرف. لقد غرقت كما غرقت بغداد خلف السدة عام 1954، وكنت شاهداً، وكنت مسحوراً بكل ما أرى وأسمع وأعيش. الملاحة، الحزن، عبود الكرخي، وسليمه الملاية، أبو حلق الذهب وفتيات الملاهي، سينما روكسي وكبة الموصل، الرأي العام وجواهري تلك الأيام ، وغانم الأعظمية، جسر الشهداء وجسر الأعظمية، الميدان بكل ما يعنيه في الانتفاضة وما سيؤول إليه. ملهى شهرزاد والجواهري، صديقة الملاية وزهور حسين وعفيفة اسكندر، حسن خيركه والأعظمي، وألياس خضر وداود اللمبجي، مطعم العاصمة وسوق الراي، ابن سمينة ومقهى الدفاع، شارع المتبني والمربعة، البرازيلية ومقهى السويسرية، حسين مروان والجماجم التي تتحول إلى منافض سجائر عند البياتي، السياب، والشناشيل؛ أحاول، قدر الإمكان ، أن أجمع، أن أستعيد أن أركّب ، أن أغير، أن أعيد تشكيل العالم. كل ذلك، وحتى الآن، في القراءة والخيال، أما كيف ينتهي الأمر، فلا أعرف.
وحتى لو لم ينته الأمر إلى نتيجة محددة ، يكفي أني الآن أقرأ بنهم، أجمع ما يمكن جمعه، أحاول استعادة مرحلة تاريخية، لكن من جملة الأمور التي تشغلني: الحزن: الأبواب؛ الشرائع، الديكتاتور، النعومة القاتلة، الحساسية التي تتجاوز المرض؛ القسوة التي تتحدى الله والكون والطبيعة. إن في هذه المفردات والأفكار والمفردات ما يبعث على التحدي، وإعادة التساؤل ثم التفكير بضرورة ترتيب الكون ضمن نسق جديد. كيف؟ لماذا؟ لا أعرف.
لماذا اخترت حقل الألغام هذا في الوقت الذي يفترض أن يكون هناك آخرون أكثر صلة، وربما كفاءة مني؟ لا أستطيع أن أقدم إجابة واضحة أو كاملة، علماً في نفس الوقت أني تحديت الكثيرين أن يمدوا رؤوسهم، أن يدخلوا هذا العالم، لكن لم يفعلوا، كما أفترض، حتى الآن.
النجف وحدها تضع مائة رواية أهم وأخط في "مائة عام من العزلة". قلت ذلك مائة مرة، لكن لا أعرف لماذا لم يتصد أحد. قلت ان الفيضان وحده ملحمة متحركة، كانت منذ نوح وحتى الآن، لكن أحداً لم يتصد للموضوع. الحزن، هذا الخطر الداهم والدائم، لماذا هو هكذا وبهذا المقدار ولم أصل لأي جواب. الحب والقسوة في نفس الوقت. الرهافة التي تصل درجة الذوبان والحدة التي تصل إلى درجة استعمال موسى الحلاقة في القتل؛ الغرام السابح في ربيع لا يأتي، والانتظار الذي لا ينتهي في نفس الوقت الذي يعرّف الإنسان عما هو متاح بحثاً عن المستحيل، والصبر الذي يوازي أو يتفوق على كل شيء،ومع ذلك السطح المستوي المتموج الفارق في عصور قديمة ثم يطفو في لحظة وكأنه ربيع لا ينتهي، علماً بأن خريفاً قاسياً دائماً ، ولا ينتهي هو كل ما ينتظر.
المهم. أخي شاكر، غرقت في بحيرة "الشيطان". غرقت في بحر الرمال. كلّي تصميم أن أخوض في هذه البحيرة، في هذا البحر، لا أعرف كيف ستكون الرحلة، ماذا ستكون نتائجها، متى سيتم اجتيازها، إذا أجيزت، وكيف.. لا أعرف. المهم أني غرقت، وإذا كان الإنسان يستطيع أن يقول، مجازاً، أن هناك غرقاً جميلاً، فهذا الذي أعيشه، لقد استطعت أن أستعيد مرحلة، مراحل، تاريخية كاملة. وهذه تمدني بالقوة والتحدي في آن معاً، و تقول لي: هنا تكتشف الإمكانيات والقدرة والرغبة، والقول الآخر، أو هنا يكون الموت والعجز والانتهاء.
كان بودي ان أتكلم بطريقة أخرى، أن أبحث معك ضمن ورقة عمل أوضح وأكمل وأكثر فائدة لكني ما دمت قد غرقت، وما دمت قد أخذت اتجاهاً فأعتقد أن أية نصائح لابدأن تكون متأخرة. وفي حالات من هذا النوع، حين نكتشف أننا غير قادرين على أن نمنع أو نغيّر، يطيب لنا أن نرى التحدي.
أنا الآن في هذه الحالة. لقد بدأت قبل شهور طويلة، وإن كانت هذه الأمنية مضمرة، كامنة، وكنت أود لو أن الآخرين قاموا بها، لكن إزاء عدم الوصول أو عدم التوفيق، بين ما هو حاصل وما هو مطلوب، كان لابد من خوض هذه التجربة. يقول يسوع: اللهم لا تدخلني التجربة. وأقول: اللهم عجل، أدخلني، ادفعني بقوة لكل هذه التجربة. ومثلما قلت: كيف ستكون، ماذا سيتمخض عنها، متي: لا أعرف، المهم، وهذا يشكل متعة، أني دخلت، غرقت، لقد أبعدت كل شيء، وأحس حين أضطر لعمل آخر أني مسروق أو ملاحق، وبالتالي فأنا مأخوذ إلى أقصى حد بهذه الحالة.
هل أمي هي السبب؟
لا أريد أن أتسرع وأقول بالإيجاب. ولا أريد أن أقول ما نعانيه، وبعد تلك الأيام الشتائية القاسية، وبعد الانهيار الذي حصل على مستوى الخلية.
ليس المهم ان نستخرج قوانين جديدة، أو نظريات جديدة. المهم أن نرصد الحالة، المزاج النفسي، الدوران حول الذات والآخر في نفس الوقت، لعل شيئاً ما، ولا أعرف ما هو ، الذي يتمخض.
قلت في بداية هذه الرسالة أني لم أكتب، وأكثر انتظرت أن تكتب، وبين الانتظار والانتظار مرت الأيام، وأجد أنني لا أعرف ماذا أقول أو كيف أقوله، وهذا يشكل تحدياً إضافياً.
أخي شاكر
هذه رسالة إليك... إليك. ليست للمقيل أو لأحد ، أو لآخر، ولذلك ، وما دام الموضوع مجرد فكرة أو رغبة فلتبق بيننا. هذا أولاً، وثانياً: إذا رأيت أن هناك موضوعاً، كتاباً، فكرة شخصاً، يمكن أن يكون مفيداً في هذه الرحلة المجهولة فلا تتردد في أن تلفت نظري إليه.
آسف أني تأخرت، وبانتظار أن أسمع منك تقبل تحياتي وهذياني ورغباتي وأحلامي وإلى لقاء، بشكل ما، في وقت غير بعيد، مع مودتي.
عبدالرحمن منيف
* * *
- 19-
دمشق 28/5/1993
أخي العزيز شاكر
تحياتي الأخوية الحارة
استلمت رسالتك قبل فترة، وكان بودي الإجابة في حينها، لكن بعض الأسفار والأعباء اضطرتني للتأجيل، أرجو المعذرة.
العدد الخاص بسقوط الاتحاد السوفياتي، والذي تأخر أكثر مما يجب، على وشك الانتهاء، وسوف يصدر في منتصف الصيف. كان بودنا أن يصدر العدد في وقت مبكر، لكن يبدو أن مزاج المثقفين العرب معكّر إلى درجة أن الكثيرين اعتذروا أو تأخروا، الأمر الذي اضطرنا للانتظار فترة إضافية، وإلى اختصار أو تجاوز بعض الأفراد والحالات. الأمر ملفت للنظر ويدلك على حالة أو ظاهرة للثقافة في مرحلتها الراهنة، ويمكن من خلالها قياس الاهتمامات والهموم، أو المزاج النفسي الذي يخيم على المثقفين في الفترة الراهنة. كان بودنا أن يكون العدد أكثر اتساعاً وتنوعاً ، وأيضاً شهادة، لكن...
نحضّر الآن لأعداد أخرى: المرأة، سمير أمين، الموجة السلفية.
إن العمل في مجلة، خاصة الآن، يشبه العمل في قطع الحجارة، لأن كل مثقف، تقريباً في وضع يختلف عن الآخر، ولأن حجم العدم لم يبق شيئاً كما كان، إضافة إلى هموم الحياة اليومية ومتطلباتها في ظل مرحلة استهلاكية شديدة القسوة والحقارة معاً. لا يمكن أن أطلب من مثقف أن يكتب في موضوع معين إذا كانت موضوعات أخرى تشغله وتحتل جل وقته واهتمامه؛ ولا يمكن أن يطلب من مثقف أن يكتب في موضوع إذا كانت موضوعات أخرى تشكّل مصدر رزقه وتتطلب منه أن يركض لكي يؤمن الحد الأدنى من متطلبات الحياة. إضافة إلى أن البوصلة ضاعت بالنسبة للكثيرين.
يبدو لي أن ما حصل في الفترة الأخيرة كان كبيراً وخطيراً، ليس فقط على مستوى المنطقة أو العالم. وإنما على مستوى الفكر والقناعات والأولويات، وبالتالي فقد أصبح الكثيرون في حالة من الضياع والحيرة. وأيضاً الغرق في أمور جديدة لم تكن في البال. قد تتطلب هذه الأمور فترة إضافية. وقد تستغرق جيلاً، لكي يعود التوازن، ويعاد ترتيب الأولويات. وإلى ذلك الوقت ستبقى الأمور في حالة من القلق والحيرة، وربما أشياء اخرى ستبقى في حالة من السيولة والرخاوة إلى أن يقيّض لها أن تتصلب. المهم أن فترة الانتظار ستكون شديدة القسوة،
والطول أيضاً.
وهل يستطيع الروائي أن يكتب في ظل هذه الحالة؟ أشعر أن هناك حاجة وضرورة، ولكن أشعر أيضاً، أن المهمة ليست سهلة، ولذلك فلا بد من التأمل والانتقاء والحذر، ولابد من محاولة اختيار الموضوعات الأكثر أهمية وضرورة.
لازال الموضوع الذي حدثتك عنه شاغلي الأول والأساسي، واعتبار أنه من الاتساع والأهمية إلى درجة كبيرة، فلابد من مزيد من القراءة والتحضير، ولابد من استكمال الموضوع في جميع جوانبه.
إن رهاني الأساسي أن أكتب رواية تتناسب مع الموضوع، مع "أرض السواد"، وكم بي رغبة لو يستطاع لي استكمال الشروط الأساسية، بما في ذلك زيارة الأماكن، والاتصال ببعض الأشخاص، وتذوق الأشياء وشم روائحها تارة أخرى. أعرف أن الأمر صعب، لكنه ضروري، وهذا ما يجعلني متردداً بعض الشيء وانتظار ما لا يأتي!
التقيت أخيراً بالبياتي في عمان، وكذلك جبرا، وشاكر حسن، والتقيت ببعض الفنانين في هولندا وبلجيكا ولندن. هذه اللقاءات تغني ذاكرتي، تحرضها، لكن تبقى هناك بعض الفجوات، أحاول ردمها، أتغلب عليها بشكل أو آخر. آمل، وأحاول، ولابد أن أصل إلى معادلة من نوع ما، وفي وقت غير بعيد.
أتوقع أن أبدأ الكتابة في الخريف القادم، وربما الكتابة تحرضني، تجعلني في مواجهة حقيقة وكاملة مع الأشياء، وهذه بذاتها تخلق شروطها ضروراتها، وتعرف أننا نعمل في أتعس وأصعب الشروط، حتى في شؤون الفن!
أخي الكريم
أكتب إليك هذه الرسالة السريعة فقط لكي أحييك، ولكي أجعلك بالصورة التي أعيشها وأعاني منها في نفس الوقت، وآمل أن تكون النتائج مقنعة، ولا أقول مرضية، لأننا فقدنا الرضا منذ وقت طويل، وأصبحنا "نلعب" في الوقت الضائع، أوا لوقت المضاف، وبالتالي فإننا نحاول تحريض أنبل وأقوى ما فينا لكي نتغلب على أعتى وأصعب الظروف التي تواجهنا.
لا حاجة للشكوى أكثر مما ينبغي، ولا حاجة لانتظار مثالية للعمل. المهم أن نعمل بالظروف والشروط والمساحة. شرط أن نفعل أحسن وأفضل ما نستطيع.
وإلى أن ألتقي معك في رسالة قادمة ، تقبل كل تحياتي.
عبدالرحمن منيف
.