د. سامي عبد العال - ماذا عن الخلاص السياسي؟

أظهرت الأزمات المتعاقبة على أوطان العرب ( بحثاً فوضوياً ) عن مُخلِّص. حتى باتت الشعوب تجأر بأعلى صوتها إلى المجهول أحياناً دوم مجيبٍ. وهو بحث تكمُن داخله نوازع ( ذات صبغة دينيةٍ كما يقول العنوان ) تدفع نحو أيةِ قوى وإنْ كانت مُدمرةً. فهناك تطّلع مُطلق إلى شخصيات ودول ( داخلية وخارجية ) مثلما يتطلّع الناسُ إلى أقدار السماء، وينتظرونها بالدعاء والتضرع إلى الله. ويجري الحال السياسي بهذا الغموض المقدس، كأنَّه من جنس الطقوس اللاهوتية، حيث جعل فكرة ( الخلاص ) هي المسيطرة على الأجواء العامة. فكما كان التخلف معجوناً بالجوانب الميتافيزيقية ويتكئ عليها( لأن كل تخلف هو ممارسة معينة للماوراء )، كان لابد أنْ يأتي حل المشاكل تعويلاً على فكرة الخلاص دون وعي.

باتَ الخلاصُ في هذا الإطار خارجياً ميتافيزيقيا يتعلّق بمن يستطيع الوقوف بجانب الدول العربية خيراً وشراً، بناءً وتدميراً. رغم أنَّ هذا في الماضي القريب كان أساس التبعية والانسحاق أمام دول الغرب طوال عقود. مما جَرّ برامجَ وسياسات اقتصادية لا تراعي المصالح الوطنيةً وتخدمُ من أدناها إلى أعلاها مآرب القوى الكبرى. لأنَّ دورات الأموال (ومعها دورات السياسة ) سيتم تعميدها داخل( البئر الدولي ذاته ) بقطع النظر عن قضايا الشعوب والتنمية الداخلية للمجتمعات.

على حين أنَّه في السياسة لا يجب أنْ يكون الأمر مماثلاً لذلك، لأنَّ هناك فارقاً بين السياسة والدين بهذا الصدد. ذلك أنَّ طلّب العون في السياسة يتوقف على معرفة طبيعة القوى التي تلجأ إليها الشعوب والأنظمة الحاكمة. ويجب أنْ يكون التعاون على أساس المشاركة لا الإنسحاق من أول وهلة. ولكن عندما ترتمي الأنظمة تحت مظلة دول استعمارية واضحة الأطماع، فإنَّ الوضع قد فاق حدود التمييز بين التعاون مع الآخر والتآمر على الذات. وكأنَّ المؤامرة في هذا السياق قد جُلبت إلى حدود الذات. وهنا قمة السخرية التي تدعو إلى الرثاء والاندهاش: أننا كنا طوال الوقت( شُعوباً وأنظمةً ) نطلق اللعنة تلو اللعنة على المؤامرات الخارجية.. فإذا بنا نتآمر على أنفسنا بكل عزم وتصميم!!

الكلبية السياسية
تفتقد فلسفة الأخلاق في تراثنا الإنساني إلى أي ميدانٍ نقدم فيه هذا التوصيف السابق. إلاَّ حينما تتسع ( المذاهب الكلبية ) لمثل هذا النوع من التيه الغريزي الأخلاقي والسياسي. لأنّ هذا الخلط والتكالب على أي مخلِّص أمر غير مفهوم حتى على مستواه المباشر. كما أنَّ هناك عوامل وحالات( سياسية ودينية ) تتداخل في تكريسه استعصاءً على الحل. مثل افقار الشعوب بفعل فاعلٍّ من جنس الدولة، ومثل استخدام وسائل الاعلام للتلاعب بمشاعر الجماهير وابتلاع احلامها، ومثل بناء جدار عازل حول السلطة من الأغنياء وأصحاب الحظوة أحالَ دون تداولها، ومثل اعتبار المجتمع غنيمة محجوزةً سلفاً لفئات دون أخرى، وأخيراً مثل اعتبار الحياة صراعاً يتم خلاله تجريد المواطنين من أي سلاح إلاَّ الركض وراء الغرائز الأولية.

تمثل أنظمة هذه الدول العربية اسماء سياسية هلامية ( جمهورية كذا .. مملكة كذا .. إمارة كذا..) دون محتوى حقيقي. أسماء جارية على غرار أداة التشبيه كأن(أي كأنها دول بملء الكلمة وهي غير ذلك تماماً)، مما جعل الشعوب بلا وظيفة إلاَّ النباح المتواصل حول مصالحها وحقوقها كظاهرة صوتية. حيث ينشغل جميع المواطنين بآلية التعبير عن فقرهم وعوزهم في البرامج التليفزيونية والاعلان عن مظاهر السخط العام. تحولت سماوات بعض الدول العربية إلى برامج ليلية ضخمة باسم " التوك شو" talk shows . ورغم بلوغ جميع الكلام عنان السماء، كأكوام وأرتال من الحوارات والصراخ والعبارات، إلاَّ أنها لا تكاد تُسمع أحداً، إنما البطل هو الكلام في كلام وراء كلام من أطراف تفشل أمام الواقع ولا تؤثر فيه.

الوضع السياسي المتخلف ليس مرحلة ولا نظاماً بعينهما كما قد يخمن البعض. فالعقدة أكبر من ذلك بكثير، إنها تكوين تاريخي ضخم وممتد منذ مئات السنوات ويوظف كافة الإكراهات والمواقف لصالحه بشكلٍّ شامل. فالحال السياسي يعكس الاعتقاد الديني وتأويلاته الخادمة له، والاعتقاد الديني بدوره مسكون بسلطة إجتماعية غالبة ضمن العادات والتقاليد، ثمَّ إن السلطة الإجتماعية مشبعة بثقافة كابحة لأفاق الحركة والحرية. والأخيرة تُعدُّ وتعجن وتغذي الممارسات السلطوية الظاهرة على السطح. وهذه الممارسات من فورها تعيد انتاج الهيمنة على الأعمال والعلاقات الاجتماعية التي تصل إلى أدنى الأفراد وأقصاهم. وهكذا سرعان ما تحدد هذه الأعمال آفاق الفهم العام للمسائل والقضايا في كافة المجالات. بحيث لا ندري ماذا وراء هذا الوضع ... ومن أي جانبٍ يمكن فهمه ... وإلى أي اتجاه سيكون طرح المشكلات الطارئة والمزمنة وكيفية علاجها. فالأمر قد شكَّل دائرةً تؤدي إلى بعضها البعض ولا تسمح بالخروج من خطوطها.

و" الكلبية السياسة " في العالم العربي نوع من الفعل الغرائزي في شكل دول وهيئات وجامعات ومؤسسات، الولاء كل الولاء فيها للنباح على ما يملأ الأرصدة ويشبع الشهوات ويضخم الجيوب، كلبية من نوع خاص تقتات على أحلام البسطاء ولا ترضى بديلاً عن كسر عظامهم وسحق كيانهم بالجملة. لقد أضحى هذا التخلف له المنطق الأساسي في إدارة الحياة. ولهذا سيكون من مكره التاريخي ( أي التخلف ) استغلال موارد الدين وأصوله دفعاً بظواهره على أنها حقيقية ولا غنى عنها. ونحن نعرف أنَّ رأي ابن خلدون: " الحكم لدى العرب لا يتم إلاَّ بنبوةٍ أو ملك عضوض"، يعني من بين ما يعنيه وجود أرضية دينية تبرر السلطة وتتحكم فيها. وبالتالي قد تُوضع السلطة فوق التاريخ تعلقاً بميتافيزيقا لها صورها في الاعتقاد والإيمان.

وانطلاقاً من أنَّ ذلك يلقي بنقْع ( بآثار) مفاهيم الميتافيزيقا على السطح في الأوضاع السياسية، إذ أنَّ قراءة المَشاهد دالة على تحويل المفاهيم اللاهوتية إلى غايات سياسية وطريقة عمل. بمعنى أن حقب الشحن اللاهوتي بأفكارها حول المعتقدات طالما لاترتهن بالتعددية والانفتاح، فإنها تعيد إفراز مشكلاتها الإنسانية على مستوى جمعي من أكثر الجوانب تأثيراً في الفهم والوعي والسلوك. وليس أكثر من الدين تأثيراً في هذه الجوانب مجتمعة معاً. ينطبق ذلك على السلطة التي ترفع شعارات دينية( الممالك والإمارات ) أو التي تعتبر ديمقراطية ومدنية( الجمهوريات ).

إنَّ العلاقة بالإله من حيث هو( أعظم قوة عليا ) تسمح بأن تبث الجماعات البشرية عبرها غايات وأسباب تنظيمها. وبدلاً من أن تغدو علاقة قائمة على التحرر والإيمان بحكم تنوع البشر، فإنها تكرس حالة من (انعدام القرار الجمعي). نظراً لفرض معتقد واحد وفهم مطلق لقضايا الدين الاسلامي وهو الأمر الذي انسحب على أمور السياسة. ولذلك مع ضعف أنظمة الدولة العربية، ستكون هي ذاتها بمثابة ( القرار الجمعي ) الأبرز الذي يُصادر لحساب دول خارجية( أو ما يعرف بالتبعية السياسية ). ومن ثم يغدو التعلق الفردي بفكرة الاله متجلياً باستبداد الحاكم وزبانيته وعشيرته من جهة، وبإلقاء كيان دولة في دائرة التبعيات السياسية من جهة أخرى. والغريب أنَّ رجال الحكم لا يرون غضاضةً( ولا أدنى خيانة في ذلك) أن يصبحوا باكراً بين أحضان المجتمعات، ثم يناموا متأخراً بين أذرع القوى الدولية الطامعة في الشعوب ذاتها.

عقدةُ الخلاص
الحاكم يعد نفسه إلهاً صغيراً بموجب فرض الواقع فرضاً، بينما يعتبر الشعوب عبيداً لا رفض لهم ولا قبول. وبالمنطق ذاته الذي يرى نظام دولته ضرورياً لبقائه المقدس يحرك مجمل هذه الدولة نحو القوة الخارجية بالمضمون اللاهوتي نفسه. وذلك في مراوحة سياسية تكرر جميع المعاني الخاصة بالتعلق والاعتماد تجاه المقدس. فالشعوب تلهث وراء خلاصٍ من حكامها من ناحية وكذلك يهرول الحاكم بدولته في فلك عالمي من ناحية أخرى ... كيف نخرج من تلك الدائرية التي استغرقت أجيالاً وأجيالاً ؟!

لعلَّ الخلاص السياسي عقدة جامعة للأفكار السياسية والدينية على السواء. وهما الاثنان (الحكام والشعوب ) يحاوران بعضهما البعض استناداً إلى فكرة الإله. ولذلك لن يكون هناك مجتمع حر دون تفكيك مفاهيم الإله المصادرة والمحتكرة لصالح الحكام. والمدهش أنهما يفهمان المشكلة بصمت مريب دون حل. لأن طقوس الدين وخطاباته تحولت إلى مسكنات تخدر قوى الصراع وتجنب الطرفين الاصطدام المباشر. وحتى إذا ظهرت أعراض أزمة، فسرعان ما يكون سبب المشكلة هو العلاج ( الحاكم نفسه هو النقمة والنعمة ). وليس أكثر نكاية من أن يتجرَّع الإنسان السم الزعاف على أنَّه العلاج الشافي وهو يعلم. ولذلك غالباً ما يتم الاعتماد المتبادل بين الدين والسياسة ويتم جُماع الأمر بتوقف أحوال العالم العربي على قوى دولية أيضاً. لأنَّ القوالب الذهنية تتبادل المواقع في حدود الثقافة من الدين إلى السياسة والعكس. هؤلاءبدورهم يتمسكون بالحكام والحكام يتمسكون بالقوى الدولية، لأن الذهنية واحدة في حقيقة الأمر.

والدليل أنَّه مع أزمة الخليج الأخيرة ( المعروفة بحصار قطر من بعض الدول العربية ) كانت المحاولات لفك شفرات القضايا بين قطر وجيرانها تمر عبر الدول الخارجية. فتذهب الواحدة بعد الأخرى إلى كعبة البيت الأبيض ليتم إقرارها وغربلتها لتأتي إلى رعاياها ثانية. وللإله السياسي القابع هناك حرية القص والحذف والزيادة والإضافة والقلب والتخليط. ولربما له حرية صياغة السيناريوهات من البدء. ودعك من فكرة رفض العرب للمبادرات الأمريكية لحلحلة القضايا في وقتها. فهذا مجرد هامش لا قيمة له على متن أصلي: أنَّ الخلاص مدفُوع الثمن في كل الأحوال. فالتعاون الأمريكي مع الدول العربية يُترجم في شكل إتاوات جارية بكل فروض الطاعة السياسية ونوافلها. كما أنَّ أية علاقة ستكون متبوعة ضمنياً بإخضاع الشعوب المقهورة إلى بارئها الأمريكي أو الأوروبي.

وفي هذا السياق، دائماً ما يردد العرب مقولة ( مع أمريكا ذلك أفضل، فهي الجنة الموعودة). هذا الترديد الذي قد يكون صمتاً أو قبولاً عاماً أو عن طريق مؤامرات أو علاقات مباشرة أو قواعد عسكرية أو جبايات اقتصادية عولمية. لتجيء أمريكا بمثابة الخلاص السياسي من المشكلات وبمثابة الحلول على السواء. المشكلات من حيث اعتبار أمريكا أحد العُقد الكأداء في مسار السياسة العربية. وهي الحلول، لأنَّها أيضاً تُربك الأحداث بشكلٍّ مضاعف وسياسيو العرب قد أدمنوا من يرهب كيانهم ويميلون إلى الغالب لا المغلوب بعبارة ابن خلدون. ونادراً ما تطرح أمريكا حلولاً تخدم الأوطان قبل أن تخدم مصالحها الذاتية.

بجانب ذلك، فإنَّ الأنظمة العربية تدرك نوايا تلك القوة العابرة للسيادة والأموال والثروات الطبيعية. ومع ذلك تسمح الأنظمة بالإعلان عن اعتبار أمريكا حليفاً استراتيجيا لا غنى عنه( كما يضحكون على أنفسهم مراراً ). ولكن عندما تقع الكوارث هنا أو هناك سرعان ما تلقى على امريكا المسئولية. وأنَّها التي تقف وراءها، مما يطرح مسألة شائكة: هل السياسة برواسب التدين تنطوي على خداع ذاتي هو سبب الأمراض الثقافية المزمنة في تراثنا العربي؟!كيف تكون أمريكا هي المتآمر والمخلص في الوقت ذاته؟!

طبعاً لا يخفى على القارئ وجود نفسٍ لاهوتي بهذه الفكرة. جاء برسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي ( لي اشتهاءٌ أنْ أنطلق وأكون مع المسيح، ذلك أفضل جداً ). وكذلك يجر العنوان معه إيقاعاً سياسياً جنباً إلى جنبٍ. حيث مازالت أمريكا لاعباً حاضراً في تفاصيل العالم العربي وأحداثه وهواجسه ومخاوفه وأحلامه وكوابيسه بالمثل. وتدير الاستراتيجيات التي ترسم حدود الصراعات، وكيف تستمر أو تتوقف أو تخرج بنتائج أمام العالم.

وهنا القضية تكمن في وجه أمريكا كقوى عابرة للسيادة حصراً. فهي دولة امبراطورية توظف قدراتها السياسية والعسكرية نحو أهدافها الخاصة. يساعدها في ذلك أن فضاء العالم مفتوح للعب كل الأدوار الممكنة وغير الممكنة. وتعكس هذه المكانة مدى التقدم العلمي والحضاري لأيَّة قوةٍ بطبيعة الحال وكذلك تعكس استخدام الإمكانيات في إدارة الإحداث واستثمارها، لدرجة أنْ تحولات الخريطة العربية ترتهن بلاهوت أمريكا إجمالاً. كما أنَّها لم تترك أدنى مساحة لدول العرب دون وصايةٍ. وقد يقول قائل هذا أمر طبيعي من زاوية ضعف التأثير السياسي لتلك المنطقة في صورة العالم. وبذات الوقت هناك إسرائيل التي تعهدت الأنظمة الأمريكية بحمايتها وتوفير الأمن لها مهما يكن الثمن.

إلى حدٍ بعيدٍ هذا صحيح، لأنَّ العرب ما كانوا ليعيشوا دون خلق( تنصيب وتأليه ) قوة أعلى تحدد علاقاتهم بأنفسهم وبالعالم الخارجي. فإنْ لم تكن هي أمريكا كما تمارس تلك الأدوار، لكانوا قد نصَّبوا قوةً سواها للقيام بالدور نفسه. فالعرب لايستطيعون مواجهة العالم بمفردهم، لكونهم قد درجوا تاريخياً على الإعتماد والتعلق اللاهوتي بغيرهم. إنَّ مجتمعات تعيش في كافة مناحي حياتها على انتاج سواهم وثقافته ومعارفه لن تكون أفعالُّها سوى أفعال لصيقة بمواقف غير مواقفها الخاصة.

وأمريكا استطاعت أن تغلف كل علاقاتها وقواها الإقليمية في شرقنا العربي بمآرب الهيمنة والسيطرة. وهي دولة تؤكد ماذا تريد وتستهدف بالضبط رغم ضبابية المشاهد في كثير من الأحيان. على سبيل المثال لقد رجعت خطوة في المسألة الليبية لو نتذكر أثناء الربيع الليبي تاركة فرنسا وانجلترا في المقدمة لتدير هي الأحداث من الخلف. واعتمدت على إمساك خيط الاخوان والجماعات الإرهابية الأخرى على تلك المساحة الشاسعة في شمال أفريقيا، ولم تقترب من الحالة المصرية مباشرة. لكنها وضعت الجماعات السابقة تحت تصرفها وأطلقت لها العنان والرعاية لإحداث الفوضى من بعيد. وفي سوريا كانت تضع نصب أعينها على التدخل الروسي وتركت سورياً إلى مصير الدمار والتفكك، ثم دعمت قوات الكرد الديمقراطية والجماعات الموالية على الأرض( ولا نعرف أصلاً: هل هناك للديمقراطية أنياب مسلحة وعسكرية كما يبدو المسمى؟!).

والتبعية بجانبيها تقع داخل القوالب الدينية المألوفة حول الحياة السياسية. فتأويلات النصوص الدينية تعطي للشعوب خلاصاً بالحاكم لا غيره رغم أنه أحد خيوط الكارثة. والخطورة هنا أنها تأويلات تستعمل كمبرر لأية أوضاع قائمة. ولذلك لم يوجد شيخ أو رجل دين في الفضاء السياسي لا يخدم لاهوت السلطة في نهاية الأمر، ستراه مراوغاً قدر ما يستطيع، وستراه متحرراً في الظاهر كما يظن، وستراه كذلك غامضاً وصامتاً عند المنعطفات السياسية، لكنه في كل الأحوال سيصب في مصلحة السلطة بطريقة من الطرق.

اللاهوت الأرضي
إنّ لتبريرات الدين قدم كبير كخُف الجمل في هذه المسألة. لأن المجتمعات التقليدية تحتاج إلى رعاية ( قوة ميتافيزيقية) خارج سياقها كما نوهت. مثلها في هذا الوضع كمثل الفرد العادي الذي يتشبث بأهداب الغيب ولو كان الفرد فاسداً ولا يعير الآخرين اهتماماً. لأنَّ سلطة الدين تحفر هذه الفجوة الأعمق وتتركها فارغة في تاريخ التفكير السياسي. فعناوين القضايا الأم في التراث السياسي العربي والاسلامي( مثل قضية الإمامة ) تطلب خلاصاً (من الدين داخل السياسة ومن السياسة داخل الدين). وعلى المنوال كم تم تأويل معنى (المهدي المنتظر) سياسياً أيضاً، بل قد لا تزيد السرديات وعمليات التحدث عنه إلاَّ في ظل مناخٍ سياسي قامع للإنسان. ولذلك كم رأينا في تاريخ العرب الحديث والقديم أن الحاكم له مكانة السلطة الدينية والسياسية معاً. وهو ما يدل على أن الديكتاتوريات قد ورثت هذا التاريخ المر والعصي على التلاشي.

وكل ما سبق يعطل معنى الحياة السياسية المدنيَّة. لأنَّ السياسة لا يوجد بها خلاص بدلالته الميتافيزيقية المذكورة. كما أنَّ تضخيم القوة الخارجية بترك المجال للتلاعب بالداخل ظل أمراً لا يعطي أولوية لإرادة الاستقلال. ويجعل الأوطان محميات مرهونة بسياسات الدول الكبرى.

من زاويةٍ أخرى كان الخلاص بتأسيسه الديني لاهوتاً أرضياً لجماعات الاسلام السياسي. سواء في شكل الخلافة أو الدولة الدينية أو الهياكل التنظيمة للدول بمعناها . حيث حاولت إيهام الشعوب بتحقيق الجنة على أرصفة المجتمعات ونواصيها، بينما كانت تسعي إلى مزيد من المآرب الخاصة. ولم تمر عليهم بضعة أشهر( كحال إخوان مصر ) حتى نشب التحارب على أخونة الدولة وأسلمتها. وحتى بعدما فقدوا كرسي السلطة استمرت ذاكرة الإخوان تعمل على حلم العودة بمنطق الخلاص نفسه.

في مقابل ذلك وضعت الحداثة مفاهيم الثورة والتغيير الاجتماعي بخلاف قوالب اللاهوت السياسي. وتعتمدالمفاهيم على إرادة الشعوب دون تأخر. فيكون الإنسان مركز التطور الفكري والسياسي. ذلك بهدف التعايش والمشاركة الفاعلة في السلطة. والمساهمة في بناء المجتمع نحو الأفضل.

ليس للمجتمعات العربية إلاَّ أن تبني أنظمة مدنية توفر آليات التغيير من داخلها. فكل طاقة فائضةٍ سواء أكانت انحرافاً أم قدرات خاصة لا بد أنْ تعتبر رصيداً لآفاق جديدة. فالأنظمة السياسية تجدد نفسها عن طريق التنوع في مواردها وأدواتها وقدراتها الإنسانية، وإقامة دولة القانون والحرية إلى أقصى مدى.

وبالتالي ما لم يكن الخلاص تحرراً مدنياً لن يستطيع المواطن الحياة في ظل المواطنة. لأنَّ السياسة دون خلاص ميتافيزيقي هي المرحلة الراهنة من تنوع الاتجاهات. ومع الانفجار المعلوماتي والمعرفي في الواقع الافتراضي لم تعد الغايات معلقة. حيث تداخل الرؤى واختلاط المفاهيم بتحولات التكنولوجيا ووسائل التواصل. وهذه الأشياء تفترض تحرراً يومياً وليس لاهوتياً بحال من الأحوال.

وما لم تتمكن الدولة العربية من بناء مؤسساتها بطرق مدنية وإنسانية تاريخياً، لن تستطيع تجاوز تراثها الأيديولوجي. ذلك لسبب بسيط أن هذا التراث نفسه هو ما يحتمي به المستبدون من عصر إلى آخر، كما أنه بمثابة ( النقطة العمياء blind spot ) في تاريخنا الحديث الذي لم يزل غيرواضح على صعيد الديمقراطية وصياغة القوانين وبناء التعددية. وليس يَعرف خطورة هذه الفكرة إلاَّ من اكتوى بالمراوغة في الممارسة السياسية وفقاً لمراوغات الثقافة الشائعة. وهي ثقافة أكثر هيمنة وتسلطاً مما نظن. إن ( فكرة الدولة ) مازالت غريبة غربة المستحيل على ثقافتنا السياسية. أقول هذا وأنا مدرك تمام الإدراك معنى الدولة ومعنى السياسة، ولكن الأهم هو إدراك معنى المساحات الشاسعة من تلوين السياسي بالديني والديني بالسياسي. لأنه لم يعد تلوياً قديماً على الغرار السابق، لكنه يتجدد بأكثر الأساليب حداثة وتطوراً وقدرةً على التشكل في أنماط مغايرة. وهو ما يجعله لدى الناس قابلاً للابتلاع بسهولة، حيث يسبب موتاً بطيئاً لروح التحرر، نتيجة السموم التي يتجرعها المواطن العربي.

لن تستطيع مجتمعاتنا العربية خوض غمار الحياة بين الأمم المتقدمة ما لم تكن على مستوى الحياة ذاتها، وهي العملية التي تحتاج إلى مواجهة كافة القضايا الشائكة بكل تحدٍ واصرار بما ينتج واقعاً جديداً. وأبرزها ( قضايا التلون السياسي العجيب والغريب في الوقت عينه) بما يخدم مصالح السلطة القائمة. إن الخلاص السياسي بظلاله غير الإنسانية لن يجدي، لأنه تعبير مراوغ ناتج عن هذا التكون نفسه. كما أنه لن يكف عن الإحالة إلى تراث اللاهوت السياسي. وتباعاً، فإنه خلاص لن يحل أية مشكلة واحدة بقدر ما سيجلب جميع المشكلات الأكثر استعصاءً على الحل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى