جميلة شحادة - ارحمنا من التعقيد والتركيب

قرأتُ قبل عدة أيام نصًا نثريًا (أو كما يصنّفه البعض، "شعر النثر")، لأحد الأدباء وقد نشره على صفحته في الفيس بوك. لم أفهم النص، فأعدت قراءة النص مرة أخرى، وأيضا لم أفهم النص، ولم أكتشف ما يريد كاتبه من كتابته، أو الفكرة التي يريد توصيلها للقارئ. في الحقيقة أشعر في كثير من الأحيان أنني أحتاج لمُدرِّس مختصٍ ليفكَّ لي طلاسم ما أقرأه من نصوص نثرية، أو شعرية لبعض الأصدقاء من الأدباء والشعراء في المجتمع العربي؛ حتى أتمكن من فهم ما أقرأ، ولأتبين الفكرة التي كتبوا عنها أو الرسالة المراد توصيلها. يعتقد مثل هؤلاء الأدباء والشعراء أن مثل هذا النوع من الكتابة يُظهر مهارتهم في الكتابة، ويدلّ على قوة لغتهم، وسعة ثقافتهم واطلاعهم، وبأنهم من فلاسفة العصر وربما حكمائه؛ وإذن، هم يكتبون الأدب الرفيع الذي هو أصلا لا يتوجّه الى الجمهور وعامة الناس، وكأن لسان حالهم يقول ما قاله أحد الفنانين الفرنسيين (لقد قرأت عنه في أحد المصادر ولكني لا اذكر اسمه الآن) حيث قال هذا الفنان: "إن الجماهير لم تُخلق لكي تفهم الفنانين؛ فما بالك بأن تُطلقَ الأحكام عليهم؟! حسبنا أن يفهمنا البعض من الأصدقاء الاذكياء والمتنورين، وهذا يكفي".
إذن؛ فإن أدباءنا وشعراءنا، الُمتحدث عنهم هنا، لا يكتبون لعموم القراء، وإنما للنخبة من الناس، وبخاصة لهؤلاء المفكرين منهم. أما وإن حدث وقرأ البعض من بسطاء الناس لهم ولم يفهم، فليس العيب فيهم وإنما في هذا البعض من القراء الذ تجرأ وقرأ ما كتبوا. ليس هذا فحسب، بل سمح البعض من هؤلاء، أصحاب الادب الرفيع، سمح لنفسه، بإلصاق تهمة الفضول الزائد على قرائهم؛ إذ ما لهم ولمشاعرهم وأفكارهم ليتبيّنوها هم من خلال قراءة نصوصهم؟! إن الغموض في كتاباتهم والتركيب والتعقيد في تعابيرهم، هي بالنسبة لهم ملكة لا يمتلكها الا مَن كان مثلهم، وهي وسيلة يتخذونها، قصدًا، للتعبير بحرية عمّا يجول في نفوسهم وفي خواطرهم.
هذه الفئة من الأدباء والكتاب والشعراء، قد يحظى نتاجهم بتناول النقاد له، والكتابة عنه وتحليله؛ لكنه قطعًا لن يحظى بالانتشار والشيوع. ودليل على ذلك روايات محمد عبد الحليم عبد الله، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي وغيرهم، الذين انتشرت أعمالهم الغزيرة في كل أنحاء العالم العربي، وذاع صيتهم بين الناس، وقرأت الجماهير معظم أعمالهم. فهؤلاء الأدباء وغيرهم قد كتبوا عن الناس وللناس، لقد كتبوا واقعهم بالمكان والزمان. هؤلاء الأدباء وغيرهم، كتبوا بلغة بسيطة، ليست معقدة التراكيب ولا الجمل، وليست غزيرة بالتوصيفات والمفردات الصعبة، وبذلك، هم لم يرهقوا قراءهم باللف والدوران وراء الفكرة التي يكتبون عنها والتي يريدون توصليها لهم.
ومع ذلك، هذا لا يعني أن يُكتب العمل الأدبي، نثرا كان أم شعرا، بلغة تقريرية خالية من التعابير الوصفية والجمالية والشعرية، وخاليا أيضا من الرموز التي تؤدي بالقارئ الى إعمال عقله وفكره، الى جانب المتعة التي يحصل عليها من قراءة العمل الأدبي. وكما قال غسان كنفاني: "ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدّة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة. إن الانحياز الفني الحقيقي، هو كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة".



ملاحظة:
--------------
كُتب هذا النص بتاريخ 22.9.2017 ونُشر على صفحة الكاتبة في الفيس بوك بتاريخ كتابته.

تعليقات

لم يكن التعقيد اللفظي جديدا ، لكنه معروف منذ القدم ، وقد كان للاستعراض وانتقده النقاد ... ما يكتب باسم الشعر الحر لا يمت للشعر بصلة ، فبعد قوضى مواقع التواصل ،الكل حول قصصه وخوطره ومواضيع الانشاء خاصته إلى قصائد ؛ لكي ينال لقب شاعر كبير أو عظيم ، ومن يقول له ما هذا بشعر ، يكون الرد ألا ترى أنه مسطر فكل سطر كلمة أو كلمتين ، كما أنها قصيدة نثرية وليست حرة ، هذا هو مفهومهم للشعر الحر ، على الرغم أن الشعر الحر موزون وله قواعد ، وسوى ذلك فهو غثاء حتى لو صفق له الملايين ... إذا كان أسلوب الشاعر هو التعقيد والطلاسم فعليه أن يبتعد عن الشعر ويكتب ما يكتب نثرا ، وليس بالضرورة أن أقرأ طلاسم وسخافات تسمى شعرا ... مقال رائع وضع النقاط على الحروف ... كل الشكر لك أختي الكاتبة جميلة شحادة.
 
أعلى