أدب السيرة الذاتية د. محمد عبدالله القواسمة - السيرة مغامرة الكتابة

السيرة من الفنون السردية التي تعتمد على تقديم حياة، أو جزء من حياة شخصية مهمة، مثل:كاتب أو عالم أو حاكم أو قائد. أو شخصية شعبية عامة، مثل: عامل نظافة أو بائعة هوى أو لص أو نجار الخ..المهم أن تكون الشخصية على جانب من التعقيد والذكاء، ولديها ما تضيفه إلى الحياة، ولا تستكين للظروف المحيطة، بل تخوض الصراع ببسالة سواء مع النفس أم الطبيعة أم المجتمع أم الآخرين.
إن فن السيرة لا يقل أهمية عن غيره من الفنون السردية الأخرى؛ فهو الفن الذي يطلعنا على حيوات أخرى، ويكشف لنا تجارب جديدة، ويعمق فهمنا للحياة، ويرشدنا إلى تجنب الأخطاء التي اقترفتها الشخصية التي تناولتها السيرة. كما يستطيع الناقد بدقة، انطلاقًا من السيرة، مقاربة النصوص الأخرى التي أبدعها الكاتب. فعلى سبيل المثال فإن سيرة فدوى طوقان بجزأيها: «رحلة جبلية رحلة صعبة»، و»الرحلة الأصعب» تطلعنا على خلفية كثير من قصائدها، وتنير الطريق لفهمها، وتفسيرها، ومعرفة مراميها البعيدة.
لا غرابة أن يميل كثيرون إلى الاهتمام بالسيرة بنوعيها: الذاتية التي يتناول فيها الكاتب حياته، أو الغيرية التي يتناول فيها حياة غيره. ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إنه لا يوجد كاتب أو حتى إنسان عادي لا يرغب في كتابة سيرته؛ فكل منا يعتقد بأن في حياته تجارب وأحداثًا تستحق أن تدون في كتاب. لكن مع هذا الاهتمام الكبير بالسيرة، وتلك الرغبة الشديدة في كتابتها فإن الإقبال على كتابتها قليل، وما يكتب فيها ضعيف لا يحالفه النجاح في الغالب. لأن الكاتب يجنح في كتابته إلى المبالغة، وعدم الصدق، والتغاضي عن العيوب ومواطن الضعف في الشخصية التي يكتب عنها. فتأتي السيرة التي كتبها مرتجفة تحت وطأة الخوف مما قد يتعرض له من المجتمع؛ باتهامه بالخروج على القيم السائدة، والأعراف القائمة. ونحن نعرف ما تعرض له ميخائيل نعيمة إثر كتابته سيرة صديقه جبران خليل جبران؛ فقد انتقد بعضهم كيف كشف نعيمة ما خفي من حياة صديقه؛ إذ كان يعده الناس إنسانًا كاملًا في فضائله وأخلاقه، ولكنه ظهر في السيرة إنسانًا عاديا له حسناته وسيئاته. لقد أنزله ميخائيل من السماء إلى الأرض،أي على غير الصورة المثالية التي كانت له بين الناس حتى إنهم كتبوا على قبره: «هنا يرقد نبينا جبران» بالإشارة إلى كتابه «النبي».
لا شك أن فن السيرة يحتاج إلى الوعي الاجتماعي، والاعتراف بحرية الإنسان، وتقبل آرائه وأفكاره، والتسامح مع الكاتب وبخاصة فيما يراه الناس خروجًا على العادات والتقاليد. إن مجتمعنا قد يتسامح مع الروائي بخلاف كاتب السيرة؛ لأن الرواية فن يقوم على التخييل، ويغيب فيه الواقع بين ثنايا الخيال. أما السيرة ففيها يظهر الواقع جليًا، وتبدو الشخصيات بأسمائها الحقيقية، والأحداث المركزية واضحة كما جرت على أرض الواقع، وكذلك الأماكن والأزمنة.لهذا رأينا بعض الروائيين يهربون من السيرة إلى الرواية حتى يتخلصوا من هذا المأزق، كما فعل على سبيل المثال غالب هلسا والطيب صالح ونجيب محفوظ؛ فقد تناولوا في رواياتهم جوانب من سيرة حياتهم وحياة الآخرين، ولم يتورطوا في كتابة السيرة التي قد تعرضهم للمساءلة، والقانون، وسخط المجتمع.
نخلص إلى القول إن مجتمعنا لم يصل بعد إلى مرحلة من الوعي ليتقبل فن السيرة ويقدره، وإن كتابة السيرة بشروطها التي في مقدمتها الصدق والبوح مخاطرة لا يستهان بها، وهي تتطلب من الكاتب أن يكون جريئًا لا يبالي بما قد يتعرض له من معوقات، ويحتمل ما قد يفرض عليه من عقوبات.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى