المقاهي د محمد عبدالله القواسمة - الرواية والمقهى

من المعروف أنّ المقهى هو المكان الذي تلتقي فيه فئات من الناس يتبادلون الأخبار، ويقصون الحكايات، ويتناولون المشروبات المختلفة. ويطلق على المكان إياه «القهوة». ولا يقبل بعض اللغويين كلمة «القهوة» للدلالة على المكان، ويعدونها من الكلام العامي. ولكنها في الحقيقة كلمة فصيحة تعني الخمر أو اللبن أو الرائحة. وتتقبلها لغتنا عن طريق المجاز بإطلاقها على المكان الذي تشرب فيه القهوة، التي هي في مقدمة المشروبات، التي يتناولها الناس في هذا المكان.
يلاحظ، من خلال ما تحمله الكلمة من دلالات على المكان وما يحدث فيه،أن المقهى من الأمكنة التي تجذب الروائيين ليتناولوه في أعمالهم؛ فالرواية فن سردي، والمكانمن أهم عناصره الرئيسية، وهمّ الروائي أن يصور ما يجري فيه من أحداث، ويعرض ما يدور فيه على ألسنة الشخصيات من مناقشات، وحكايات، وأخبار، بأسلوب نابض بالحياة.
لقد افادت الرواية من المقهى إفادة كبيرة. بل إن وجود المقهى كان من العوامل التي ساعدت على نشوء فن الرواية في مطلع القرن السابع عشر؛ فقد أقبلت الطبقة البرجوازية التي يعزى إليها نشأة الرواية على ارتياد المقاهي التي كانتمنتشرة في إسبانيا وبريطانيا في ذلك الوقت. ولا أظن مكانًا من الأمكنة وُظف في الرواية كما وظف المقهى. فقد وردت مفردة «المقهى» في عناوين كثيرة من الروايات، فنقرأ منها على سبيل المثال في الرواية الغربية: «مقهى الشباب الضائع» لباتريك موديانو، و»أنشودة المقهى الحزين» لكارسن ماكالرز، و»مقهى هيانا» ليانا بينيوفا. وفي الرواية العربية نذكر عناوين بعض الروايات الحديثة: «مقهى البازلاء» لعثمان مشاورة، و»مقهى نهاية الطريق»لخميس قطشان، و»مقهى سيليني» لأسماء الشيخ، و»مقهى البسطاء» لمريم الموسوي، و»نجمة المقهى» لعواطف الزين وغيرها.
وقد جعل صاحب نوبل نجيب محفوظ المقهى في كثير من رواياته مكانًا مركزيًا، وأظهر فاعليته في رسم فضاءاتها الاجتماعية، كما فعل في مقهى المعلم كرشة في رواية «زقاق المدق»؛ فقد تكونت من خلال هذا المقهى شخصيات الرواية، واتصلت به أحداثها الرئيسية. وفوق ذلك جاءت عناوين بعض روايات محفوظ بأسماء مقاه، مثل: قشتمر، والكرنك، وميرامار. ويعترف نجيب محفوظ لرجاء النقاش بأهمية المقاهي فيرواياته فيقول:» لعبت المقاهي دورًا كبيرًا في حياتي وكانت بالنسبة لي مخزنًا بشريًا ضخمًا للأفكار والشخصيات».
كذلك وُظف المقهى في كثير من الروايات غير المحفوظية توظيفًا فنيًا، كما في رواية «المقهى الزجاجي» لمحمد البساطي، ورواية «شطح المدينة» للغيطاني فبدا المقهى في تينك الروايتين بؤرة مهمة تتعلق به الأحداث والشخوص. كما بدا المقهى ذا أهمية كبيرة في البنية الروائية، مثل مقهى الكوكب في روايتي» المحاصر»، ومقهى أبي عبدو في رواية» أبناء القلعة» لزياد قاسم، ومقهى حمدان في رواية «الشهبندر» لهاشم غرايبة.
وكانت شهرة بعض الروايات وخاصة تلك التي تحولت إلى أفلام سينمائية سببًا في أن بعض المقاهي استعارت عناوينها لتكون أسماء لها، مثل مقهى الحرافيش الذي جاء اسمه بعنوان رواية نجيب محفوظ « الحرافيش». وقد وضع صاحبه على مدخله تمثالًا لمحفوظ. وكلمة الحرافيش استخدمها المؤرخ الجبرتي لتدل على فقراء الشعب المصري في عهد المماليك، كما وصف بها الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتاباته مقاهي الفنانين والمثقفين في فرنسا.
كما نالت مقاه كثيرة شهرتها من خلال علاقة الروائيين بها، مثل مقهى إِيرُونْيَا في مدينة بَامبْلُونَا بإسبانيا، إذ اكتسب هذا المقهى شهرة عالمية بفضل الروائي الأمريكي أرنست هيمنجواي الذي كان من أشهر روّاده، وخاصة في موسم تنظيم حفلات مصارعة الثيران. ولقد أطلِق اسمُه على ركنٍ من أركان المقهى، وأقيم له فيه مجسّم نصفي؛ لأنه خلّد المقهى في روايته المشهورة «الشمس تشرق أيضًا». وفي القاهرة زادت شهرة بعض المقاهيلارتياد الروائيين لها، مثل: ريش، والفيشاوي وعرابي التي كان يتردد إليها الروائيون: نجيب محفوظ، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد وغيرهم.
لقد تأثر المقهى تأثرًا كبيرًا بالتغييرات التي شهدها العالم في عصر العولمة؛ فشهدنا ظهور مقاهي الإنترنت، ومقاهي الأدب والثقافة والكتب، ومقاهي الرقص والغناء. لكن سيظل المقهى في صوره كلها دائمًا مغريًا للروائيين كي يتناولوه في أعمالهم شخصية رئيسية، أو إطارًا للأحداث، أو حتى مكانًا هامشيًا. لأن المقهى مازال مكونًا أساسيّا من مكونات الحياة الاجتماعية، والرواية فن يقوم على تصوير الحياة الاجتماعية كما تتجلى في الأمكنة، وما يتكون في مجتمعاتها من أبنية فكرية وسياسية وثقافية وغيرها. فالرواية هي الفن السردي الوفي للمجتمع والواقع، ودون هذا الوفاء لا يمكن لها أن تكون نابضة بالحياة.






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى