د. محمد عبدالله القواسمة - حين يفقد المفكر أو المبدع أمه الناقد رولان بارت والشاعر بدر شاكر السياب

من الأحداث المهمة التي تؤثر في حياة المفكرين والمبدعين تأثيرًا كبيرًا حادثة فقد الأم بما تمثله الأم من معاني الحب والحنان والأمل والتفاؤل، فالأم جماع كل شيء جميل في الحياة. يهون أمام فقدها أي فقد؛ إنه يلاحق الإنسان حتى النهاية.
من الذين لاحقهم فقد الأم المفكر والناقد الفرنسي رولان بارت (1915_1980) صاحب نظرية موت المؤلف 1968م، ومؤلف الكتب النقدية المهمة، مثل: «الكتابة في درجة الصفر»، و»أساطير»، و»حول راسي»، و»لذة النص»، و»ضوضاء اللغة»، و»المغامرة السيميولوجية» وغيرها. لقد مرّ بارت بتجربة فقد أمه هنرييت بينجر التي كان لها تأُثير كبير في حياته وأفكاره. هذا ما تفصح عنه سيرته الذاتية التي كتبتها تيفين سامويو. لقد كان فقد أمه عاملاً مهماً في تنامي أحزانه، وتغليف أفكاره بفكرة الموت، كما تمثل ذلك في كتابه «الغرفة المضيئة» الذي كتبه عام 1978. كما ألقى موت أمه بثقله على فهمه لمفردات الحياة، وأجناس الأدب حتى إنه عرّف الرواية بأنها موت، لأنها تجعل من الحياة قدراً، ومن الذكريات فعلاً مفيداً، ومن الديمومة زمناً ذا دلالة. ولاحظ صديقه جاك دريدا أنّ الموت يطوف في أغلب كتبه.
ومن المبدعين الذين كان لفقد الأم أثر في حياتهم وأدبهم الشاعر بدر شاكر السياب (1964-1926) الذي فقد أمه كريمة عبد الجبار وهو في السادسة من عمره، وكان شديد التعلق بها، فامتد تأثير فقدها إلى أغلب شعره؛ فنقرأ من قصيدته المشهورة «أنشودة المطر»، التي أبدعها عام 1953م.
تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: «بعد غدٍ تعود»
لا بدّ أنْ تعود
فالسياب ينساق في وصف المطر من خلال اللاوعي، فيصفه بهذيان الطفل وهو يبكي على موت أمه. هنا تتجسد الصورة بإيحاءاتها الكثيفة لتندغم في الحزن الذي يبعثه المطر. لعله بذلك يؤكد ثنائية الحياة والموت؛ فهو يرى أن الإنسان خلق من تراب وسيعود إلى التراب مرة أخرى، ثم يبعث من جديد، فالأرض هي الأم، والموت ليس نهاية الحياة. وربما ظن الطفل(السياب) أنّ الموتى يقدرون على العودة إلى الحياة لذلك فأمه لا بد أن تعود.
وفي قصيدة «غريب على الخليج» تتماهى صورة الأم المفقودة والوطن(العراق)؛ فيغدو الاثنان كأنهما صورتان متلازمتان. يقول السياب:
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها ، ينزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا أدلهم مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
من الدروب
وفي قصيدة «الباب تقرعه الرياح» التي تعد في مقدمة قصائد السياب المعبرة عن علاقته بأمه، وأقربها من الناحية الجمالية والفكرية إلى أدب الأمومة، لقد كتبها السياب وهو يرقد في مستشفى بلندن، يعاني من المرض والإحساس بالغربة. وينتظر من يقرع عليه باب غرفته. ليس غير روح الأم الّتي تزوره وتحنو عليه. إنه يستحضر صورتها من وراء الغيب، ويتمنى لو أنها بجواره، ولم تمت:
أماه .. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار
وفي قصيدة «نداء الموت» يخاطب السياب قبر أمه بعد اشتداد المرض عليه. إنه ينتظر أن يلحق بها ويدفن معها حتى يرتاح مما يغرق فيه من آلام :
فيا قبرها افتح ذراعيك
إني لآت بلا ضجة دون آه
ونخلص من حديثنا عن فقد الأم وتأثيره في حياة بارت والسياب إلى القول: إن فقد الأم حدث مهم يُنتج جمرة من الحزن والألم تؤثر في حياة كثير من المفكرين والمبدعين، وتطبع فكرهم وإبداعهم بطابع معين؛ فيكون من المفيد للباحثين والدارسين أن ينتبهوا إلى هذا الحدث ومعاينته حتى يستطيعوا فهم نتاج هذا المفكر أو المبدع والتعمق في معرفته.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى