إبراهيم عبد المجيد - عن الحمير

رغم أن الحمار في التراث والحياة رمز للغباء فلا أريد أن أرمز بهذا المقال إلى شيء أو أحد طبعا. كلمة حمار جاءت من الحُمرة التي كانت عليها الحمير الأولى، ولا تتصـــل بالغباء.
ورغم أنه رمز للصبر أو قوة التحمل فلا أريد ان أرمـــز به إلى شيء، فقط أريـــد أن أتحدث قليلا عن الحمير. طبعا هناك سبب يجعلني أفعل ذلك، لكن كل سبب سيرتبط بالسياسة أو الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية سيقلل من قيمة الحديث عن الحمير.
الحمار هو أكثر الحيوانات وجودا في العالم. هو كائن عالمي. في الصحراء تجده، الحمار البري أو الوحشي، وفي الغابات، الحمار الوحشي، وفي القرى والمراعي، الحمار الأليف. حمير القرى والمراعي نراها أيضا في المدن فهي إحدى وسائل النقل داخل الاثنين. الفارق أنه في المدن تجر الحمير عربات على عجلات من الكاوتشوك، حتى لا تجرح العجلات المعدنية الأرض بينما الأرض غالبا تكون سيئة الأسفلت لا تنتظر حمارا يفسدها، بل تفسدها المركبات الضخمة، وقبلها يفسدها من أنشأها.
أذكر مرة في سنوات الثمانينيات كنت أسكن في حي أمبابة في الجيزة في مصر، ورأيت شركات تقوم بسفلتة شارع شهير هناك اسمه شارع الوحدة، وكل شهر تقوم بحفره من جديد ثم سفلتته وهكذا. كنت شابا متحمسا. ذهبت إلى محافظة الجيزة أتقدم بشكوى من هذا الإهدار للمال العام. كان سكرتير المحافظة يعرفني. طلب لي قهوة وقال لي أنظر خلفك، نظرت خلفي زجاج نافذة المكتب بعده طريق صغير بين مباني المحافظة نفسها. رأيتهم يحفرون فيه فقال لي هذا الطريق الصغيرة جدا في المحافظة نفسها يقومون بسفلتته شهرا ثم يحفرونه ثم يقومون بسفلتته من جديد. إشرب القهوة يا إبراهيم. منذ ذلك اليوم أدركت أنني حمار لا أفهم العصابات التي تدير البلاد حولي ومنذ هذا اليوم راقبت ما أكتبه، كلما كتبت عن شيء سيئ أزادوا فيه، وكلما كتبت عن شيء حسن أبطلوه. لكن لم أتوقف عن ممارسة «الغباء» فهو يريحني نفسيا. تماما كالحمار الذي يعود من الحقل دائما إلى البيت وحده وهو يعرف أن من في البيت هم من يستغلونه ويرهقونه بالركوب أو بالعمل ولا يفكر في الفرار.

رغم أن الحمار في التراث والحياة رمز للغباء فلا أريد أن أرمز بهذا المقال إلى شيء أو أحد طبعا. كلمة حمار جاءت من الحُمرة التي كانت عليها الحمير الأولى، ولا تتصـــل بالغباء.

نعود إلى الحمير، قلت إن منها البري والوحشي والأليف، هو طبعا من فصيلة الخيول لكن شاء التطور أن يكون حمارا لا فرسا. الأليف هو الأكثر انتشارا فلكي ترى البري أو الوحشي لابد من رحلة طويلة في الصحراء أو الغابات، وهو أمر محفوف بالخطر. منذ وقت مبكر قرأت أعمالا تنفي عن الحمير الغباء مثل «الحمار الذهبي» للوكيوس أبوليوس و»الحمار وأنا» للإسباني خوان راموس و»حمار الحكيم « لتوفيق الحكيم، وكلها تجسد ظلم البشر للحمير. كذلك حكايت جحا تنفي عنه الغباء وتوضح أنه صفة لاصقة بالبشر أكثر. أكثر حكايات جحا رواجا هي التي ينتقل فيها ومعه ابنه الصغير على ظهر الحمار إلى بلد قريب. الناس تنظر إليهما مستنكرة. كيف يركبان الحمار الصغير معا، أي حمل ثقيل وأي قسوة. ترك الابن الحمار لأبيه فتأفف الناس من جحا الذي يرهق ابنه بالمشي بينما هو على الحمار. ترك جحا الحمار وأركب ابنه فتأفف الناس من الولد العاق كيف يترك أباه مُرهقا ويستريح فوق الحمار. قرر جحا أن يمشي هو وابنه جوار الحمار فضحك الناس من حماقتهما كيف لا يركبان الحمار. وللحكاية الثانية جاذبيتها.
اشترى جحا عشرة حمير فركب واحداً منها وساق تسعة أمامه. عدّ الحمير ونسى الحمار الذي يركبه فوجدها تسعة. نزل عن الحمار وعدها فوجدها عشرة. ركب مرة ثانية وعدها فوجدها تسعة. وهكذا حتى قال أمشي وأربح حماراً خير من أن أركب ويذهب مني حمار، ومشى خلف الحمير على قدميه.. الأولى تعلن أن الآخرين هم الجحيم، والثانية تعلن عن الشك وعدم اليقين، ربما.
ونعود إلى الحمير. هي كما قلت من الفصيلة الخيلية ومن ثم يمكن للحمار أن يتزاوج مع حصان فينجبان بغلا والبغل عاقر لا ينجب. كنت أراه زمان في طفولتي يجر عربات الجاز، له جسد قوي أكبر حجما من الفرس وطبعا من الحمار. البغال اختفت، لم أعد أراها، ربما للتطور الذي حدث في الحياة بصفة خاصة في القرى لكن لايزال اسمها «بغل» صفة للقوي الغشيم .فهي لا تنفرد بغباء الحمار ـ المظلوم فيه ـ لكن بالغشم. لم أقرأ شيئا يزيح عنها هذه الصفة، ربما للانشغال أكثر بالحمير، وربما لأن أحدا لا يريد أن يتذكر شيئا مما حوله. البغل ليس صفة سيئة «للبغل» فقط لكن لأمه وأبيه معا وميزة البغل أنه لا يعرف ذلك، لا يعرف أن أباه مغتصب وأن أمه خرجت عن الملة. المدهش أن الحمير حين تشعر بالخوف تتسمر جامدة في مكانها بينما الخيل ترفس وتتهيج. تبدو الحمير أكثر عنادا رغم طاعتها الدائمة. الحقيقة أنها «لا أدرية» أو بالبلدي «شارية دماغها» فهي لا ترى معنى لهذا العالم من البشر حولها. الظلم الواقع على الحمير حتى في التصنيف، فالحمار الوحشي قد تظن الصفة من وحشيته، لكن الحقيقة هي من وحشته. فهو وحيد في الصحراء أو الغابات، يعيش في مكان موحش. والأتان هي أنثى الحمار. وقديما قيل كان حمارا فاستأنن! أي كان يعيش في العز والجاه فجار عليه الزمن وصار ضعيفا. لقد دخل المسيح عليه السلام أورشليم على ظهر أتان، أي على ظهر أضعف الكائنات زيادة في معنى السلام الذي جاء به إلى الدنيا. كل الغزاة قديما كانوا على ظهور الخيل. حمل وجه الحمار قديما بعض الآلهة مثل الإله المصري ست إله الصحراء. في مصر أنشأت جمعية شهيرة اسمها «جمعية الحمير» عام 1932 رأسها الفنان زكي طليمات، وكان من أعضائها العقاد وطه حسين وسيف وانلي وتوفيق الحكيم وفنانون كثيرون وأطباء وعلماء، وبلغ عدد أعضائها أكثر من ثلاثين ألفا، وتم حلها عام 1963 باعتبارها جمعية ماسونية، ولم تكن كذلك. كانت ديمقراطية تعرف أن الحمار هو رمز الحزب الديمقراطي الأمريكي! في إفريقيا أسطورة قديمة عن الحمير التي ضجت من ظلم الإنسان لها فاجتمعوا وقرروا أن يرسلوا واحدا منهم إلى الله في السماء يشكون فيه ابنه الإنسان الظالم. من يومها لم يعد الحمار ولذلك – ولاحظ ذلك من فضلك – إذا تقابل حماران في الطريق اقتربا برأسيهما من بعضهما لحظة يسأل كلاهما الآخر «هو لسة ما رجعش» ويمضيان في صمت فالإجابة لا. يمكن ان تعبر الأسطورة عن الظلم الأبدي لكنها مؤلمة.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى