تسنّى للقارئ العربي قراءة نصوص الشاعر والكاتب المسرحي والناقد الألماني هاينريش هاينه (1797 – 1856) على نحو متأخر، إ كانت بعض قصائده وجدت ترجمة لها، لكن نصوصه الرحلاتية إلى أوربا ظهرت بمجلدين في سنة 1982، وبترجمة عبد المعين الملوحي، لينتظر القارئ ~أكثر من ربع قرن حتى يجد أمامه نص هاينه المسرحي الفريد (المنصور.. مسرحية أندلسية) الذي ترجمه إلى العربية منير الفندي وراجعه محمد قوبعة ونشره في سنة 1982، وهو نص له دلالته الكبرى لكونه يمس تواصل الشاعر مع التراث العربي الإسلامي، وبعد قرابة عشرة أعوام سيترجم أسامة أبو طالب أحد أهم دواوين الشاعر التي كتبها في مدينة لونبرج سنة 1923 (الإياب)، ليصدر في الكويت سنة 2016 ضمن سلسلة إبداعات عالمية، وهو من أوائل المتون الشعرية كاملة الترجمة إلى العربية.
شمال أفريقيا
عاش هاينه حياته شاعراً قلق الحال كما هو حال القرن التاسع عشر القلق شمولاً، وكان انتقاله من الرومانسية في سنة 1820 إلى غيرها، خصوصا النزعة التحررية الحماسية الثورية، كما هو حال تحوله من الديانة اليهودية إلى المسيحية في سنة 1825، وكثرة الترحال الجغرافي داخل ألمانيا وغيرها، ومنها فرنسا ابتداء من سنة 1831، التي انقطع لها لربع قرن من حياته حتى توفي فيها؛ فعاش ستة عقود إلا سنة مليئة بالتحوّلات ليس الوجودية فقط؛ بل الأجناسية أيضاً لكونه كتب في الشعر وهو ميسمه الأجناسي الرئيس، وكذلك في أدب الرحلات والمسرحيات، ولم يحصر ذائقته القرائية في الآداب الأوروبية والإغريقية فقط إنما امتدت إلى الآداب العربية الإسلامية فكانت عينه تقرأ ما يقع خلف المتوسط من أدب عربي إسلامي، وذلك يمثل أحد المؤشِّرات التي تجعل القارئ العربي مهتماً بمنجز هذا الشاعر الألماني المُبدع؛ لا سيما مسرحيته (المنصور) التي كتبها يوم كان في الثانية والعشرين من عمره.
وداع الرومانسية، ولكن!
عندما كتب هاينه قصائد (الإياب) في سنة 1923، كان قبلها بعامين نفض يده من غبار الرومانسية، لكن ميله إلى الغنائية ظل قائماً لا يفارق قصائده؛ بل إنه حتى الرومانسية لم تفارق الكثير من قصائد هذا الديوان الذي نقرأه بالعربية لأول مرّة:
"صبي جَسور أنا: أغني".
"إنني شاعر ألماني
معروف في الدنيا
وعندما يذكر الناس الأسماء الأفضل
يُذكر اسمي"
ولما كانت الغنائية ميسمه، نراه يستعيد أمجادها في عوالمه الشعرية؛ فهو يتجوّل في الغابة باكياً ليرى:
"عصفورة ملونة
تجلس عالياً،
تقفز،
وتغني بعذوبة تامة".
وفي رحلته إلى غابات مظلمة لا يسمع "هزيم الريح؛ بل غناء البحيرة". أما الغابات فتعني الهواء الساحر، والبحيرة تعني حركة الأمواج، وفي ذلك يصغي هاينه إلى موسيقى مُغناة تبدو سراً وجودي لهذه الأمكنة عبر أصواتها التي يؤنسنها:
"الريح ترتدي سراويلها
من أعاصير الماء البيضاء
الريح تجلد الأمواج بأقسى ما تستطيع
فيعولن ويهدرن ويزمجرن".
المنصور والمسيحيّة
ما يلاحظ في ديوان (الإياب) وجود قصيدة عنوانها "المنصور" تتألف من ثلاث مقاطع متسلسلة، ولا ندري إن كان هاينه كتبها قبل مسرحيته "المنصور" أما بعدها لقرب المسافة الزمنية بين الديوان والمسرحية؟
ويبدو لي أنهما تزامنا في الإنشاء، وأكثر من ذلك أنه كتب القصيدة قبل المسرحية فآثر، تالياً، كتابة متن المسرحية ما يدل على أن شخصية "المنصور" كانت تستهوي هاينه في مطالع عشرينيات حياته، وفيها وعبْرها كشف عن موقفه السلبي من الكنيسة؛ فهو يؤكِّد أن كاتدرائية قرطبة (بحسب النص) شيدها:
"ملوك المغرب تمجيد لله،
لكن ألاعيب التاريخ المظلمة،
جعلت الكثير يتغير.
في كاتدرائية قرطبة
وقف المنصور بن عبد الله
في صمت يتأمُّل تلك الأعمدة
وبالكلمات الخرساء يغمغم:
آه، أيتها الأعمدة:
يا من أنت هائلة وقوية؛
قديماً تزيّنت لمجدِ الله
لكن الآن عليكم أن تكونوا خداماً تبعاً
للنصرانية المقيتة!".
يبكي هاينه انهيار أعمدة تلك الكنيسة، فيكتب:
"بشكل وحشي يتصدعن
تمتقع وجوه الشعب، وجوه القسس،
القبة تتساقط فوقهم مُحدثة قرقعة
فيما الآلهة النصرانية متذمرة تجأر".
قلب ونهر
لقد ولد هاينه لأسرة يهودية غير متدينة، لكنه تحول عن ديانتها إلى المسيحية كجانب من قلقه الوجودي، لكنه لم يرض عن أداء الكنيسة فرامها ناقداً، ولعل قصيدة "المنصور" كما مسرحيته "المنصور" أبديتا تذمره من الكنيسة التي يعتبرها تجأر باكية مما أنتهى إليه أمرها.
مع ذلك، بقي هاينه يصغي لغناء العنادل من حوله فيرق له ذلك لكن الحزن لم يفارقه؛ فمن "داخل القلب يصعد إليَّ لحن شكوى حزين" حتى لو مضى إلى المروج الخضراء، ليختم ديوانه قائلاً
"نهارا وليلاً أدبج شعراً
ولم أحقق شيئاً
سبحت في توافق
وما وصلت إلى شيء"!
لقد حقق هاينه الكثير في حياته المليئة بالغناء والترحل والسباحة عكس تيار الدين اليهودي فالمسيحي، وكذلك الفلسفة والتاريخ ليصنع تأريخه الذي بقي وفياً فيه بالرومانسية والغنائية فالحياة ليست أكثر من ذلك، وليست أكثر من "قلب يشبه النهر تمامًا".
(بين نهرين، العدد 87، الخميس 16 أغسطس 2018. ص 38 – 38)
شمال أفريقيا
عاش هاينه حياته شاعراً قلق الحال كما هو حال القرن التاسع عشر القلق شمولاً، وكان انتقاله من الرومانسية في سنة 1820 إلى غيرها، خصوصا النزعة التحررية الحماسية الثورية، كما هو حال تحوله من الديانة اليهودية إلى المسيحية في سنة 1825، وكثرة الترحال الجغرافي داخل ألمانيا وغيرها، ومنها فرنسا ابتداء من سنة 1831، التي انقطع لها لربع قرن من حياته حتى توفي فيها؛ فعاش ستة عقود إلا سنة مليئة بالتحوّلات ليس الوجودية فقط؛ بل الأجناسية أيضاً لكونه كتب في الشعر وهو ميسمه الأجناسي الرئيس، وكذلك في أدب الرحلات والمسرحيات، ولم يحصر ذائقته القرائية في الآداب الأوروبية والإغريقية فقط إنما امتدت إلى الآداب العربية الإسلامية فكانت عينه تقرأ ما يقع خلف المتوسط من أدب عربي إسلامي، وذلك يمثل أحد المؤشِّرات التي تجعل القارئ العربي مهتماً بمنجز هذا الشاعر الألماني المُبدع؛ لا سيما مسرحيته (المنصور) التي كتبها يوم كان في الثانية والعشرين من عمره.
وداع الرومانسية، ولكن!
عندما كتب هاينه قصائد (الإياب) في سنة 1923، كان قبلها بعامين نفض يده من غبار الرومانسية، لكن ميله إلى الغنائية ظل قائماً لا يفارق قصائده؛ بل إنه حتى الرومانسية لم تفارق الكثير من قصائد هذا الديوان الذي نقرأه بالعربية لأول مرّة:
"صبي جَسور أنا: أغني".
"إنني شاعر ألماني
معروف في الدنيا
وعندما يذكر الناس الأسماء الأفضل
يُذكر اسمي"
ولما كانت الغنائية ميسمه، نراه يستعيد أمجادها في عوالمه الشعرية؛ فهو يتجوّل في الغابة باكياً ليرى:
"عصفورة ملونة
تجلس عالياً،
تقفز،
وتغني بعذوبة تامة".
وفي رحلته إلى غابات مظلمة لا يسمع "هزيم الريح؛ بل غناء البحيرة". أما الغابات فتعني الهواء الساحر، والبحيرة تعني حركة الأمواج، وفي ذلك يصغي هاينه إلى موسيقى مُغناة تبدو سراً وجودي لهذه الأمكنة عبر أصواتها التي يؤنسنها:
"الريح ترتدي سراويلها
من أعاصير الماء البيضاء
الريح تجلد الأمواج بأقسى ما تستطيع
فيعولن ويهدرن ويزمجرن".
المنصور والمسيحيّة
ما يلاحظ في ديوان (الإياب) وجود قصيدة عنوانها "المنصور" تتألف من ثلاث مقاطع متسلسلة، ولا ندري إن كان هاينه كتبها قبل مسرحيته "المنصور" أما بعدها لقرب المسافة الزمنية بين الديوان والمسرحية؟
ويبدو لي أنهما تزامنا في الإنشاء، وأكثر من ذلك أنه كتب القصيدة قبل المسرحية فآثر، تالياً، كتابة متن المسرحية ما يدل على أن شخصية "المنصور" كانت تستهوي هاينه في مطالع عشرينيات حياته، وفيها وعبْرها كشف عن موقفه السلبي من الكنيسة؛ فهو يؤكِّد أن كاتدرائية قرطبة (بحسب النص) شيدها:
"ملوك المغرب تمجيد لله،
لكن ألاعيب التاريخ المظلمة،
جعلت الكثير يتغير.
في كاتدرائية قرطبة
وقف المنصور بن عبد الله
في صمت يتأمُّل تلك الأعمدة
وبالكلمات الخرساء يغمغم:
آه، أيتها الأعمدة:
يا من أنت هائلة وقوية؛
قديماً تزيّنت لمجدِ الله
لكن الآن عليكم أن تكونوا خداماً تبعاً
للنصرانية المقيتة!".
يبكي هاينه انهيار أعمدة تلك الكنيسة، فيكتب:
"بشكل وحشي يتصدعن
تمتقع وجوه الشعب، وجوه القسس،
القبة تتساقط فوقهم مُحدثة قرقعة
فيما الآلهة النصرانية متذمرة تجأر".
قلب ونهر
لقد ولد هاينه لأسرة يهودية غير متدينة، لكنه تحول عن ديانتها إلى المسيحية كجانب من قلقه الوجودي، لكنه لم يرض عن أداء الكنيسة فرامها ناقداً، ولعل قصيدة "المنصور" كما مسرحيته "المنصور" أبديتا تذمره من الكنيسة التي يعتبرها تجأر باكية مما أنتهى إليه أمرها.
مع ذلك، بقي هاينه يصغي لغناء العنادل من حوله فيرق له ذلك لكن الحزن لم يفارقه؛ فمن "داخل القلب يصعد إليَّ لحن شكوى حزين" حتى لو مضى إلى المروج الخضراء، ليختم ديوانه قائلاً
"نهارا وليلاً أدبج شعراً
ولم أحقق شيئاً
سبحت في توافق
وما وصلت إلى شيء"!
لقد حقق هاينه الكثير في حياته المليئة بالغناء والترحل والسباحة عكس تيار الدين اليهودي فالمسيحي، وكذلك الفلسفة والتاريخ ليصنع تأريخه الذي بقي وفياً فيه بالرومانسية والغنائية فالحياة ليست أكثر من ذلك، وليست أكثر من "قلب يشبه النهر تمامًا".
(بين نهرين، العدد 87، الخميس 16 أغسطس 2018. ص 38 – 38)
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com