جيلالي عمراني - إنهم يضحكون.. قصة قصيرة

اعتلى المنصة ذات فرح استثنائي، لم يكن الطريق إليها سهلا، وضع قصاصاته أمامه مرتبة بالحروف الأبجدية: ألف. باء. تاء. وبالأرقام أيضا: واحدة، اثنتان، ثلاثة...خمسة. أخرج نظاراته القديمة من جيب سترته السوداء. وضعها فوق أرنبة أنفه، لامس الميكرفون الجميل بضغطه على الزر الأيمن، تلألأ اللونُ الأخضر إعلانا عن نقله لرّنات صوته الرخيم.
رفع حاجبيه، التقط بنصف عين المشهد العام الكئيب: إنارة خفيفة تنبعث من الزوايا، كراس خشبية مغطاة بقماش أزرق، وجوه كبيرة و صغيرة لآدميين محنطين أو شُبّه له ذلك، وهذا أهم عنصر في الفسيفساء الممتدة من أعلى المنصة التي استولى عليها ذاك المساء، إلى آخر الصف حيث من المفترض أنها تقبع هناك بفستانها الشّفاف. ربما توجد في مكان ما في القاعة. هم بالفعل كُثر، منهم الطويل و منهم القصير، المهتم فعلا و الفضولي بامتياز، لا تربطهم صِلات معينة سوى الوهم المرتسم في عيون ناعسة. يتكورون داخل ضيعاتهم البديعة، وأسئلة باهتة على الشفاه المتورّمة من دفء البرد. يترقبون في صمت مطبق.
صوت داخلي يقول له: عليك بالسيطرة على الوضع، كأنك تقرأ لها وحدها في هذا الفضاء الغريب، الكئيب، "أجل" تخيلها يا رجل في آخر القاعة الزرقاء، تراقبك، تستفز حواسك، بفستانها الفضفاض، بغنجها. تجاوز قلقك، تجاوز نظراتهم السقيمة، ليست بالضرورة تلك النّظرات التي تحاصرك زائغة.. ليست بالضرورة بريئة. تذكر فقط أنها هناك، طويلة، ومشتهاة، صحيح هي بعيدة لكنها تسمعك حقيقة.
صَمتٌ، هي لغة مشتركة ثقيلة فيما بينهم و حفيف أوراق على المنصة تتموسق في تصاعد كمتتالية أو كعتبة ضرورية بطيئة، تصله تلك الوشوشات، خافتة و متعمَدة، تخترق سحنته، أذنيه المرتفعين المحمرتيّن، السّاخنتين.
قرأ العنوان بإجهاد، بينه و الورقة الأولى أميال، تراءت له الكلمات في منتهى الصّغر، خشنة بل مسننة، مبعثرة فوق بساط يتحول تدريجيا إلى سواد قاتم. الصوت الآخر الآتي من أعماقه السّحيقة كان مبحوحا، واهنا، حاول الهرب من شرنقة الحصار الوهمي.
تعثر في قراءة الكلمة الأولى، أهمل الثانية، فقدت بقية الكلمات اللاحقات معناها... عيناه في شرنقة تلفّه، يتحرك داخل خجله الذي اعتراه فجأة من زلات صغيرة، بدأت تكبر بسرعة غير متوقعة، تشكلّه ليتحوّل إلى شخص مقهور، يتسمّر في وقفته المتخشبة. أحدهم كان يهمس في أذن جاره و يضحك. كانا يضحكان. ينقلان العدوى إلى الخلف( كان متناوما مع ذلك ضحك بصوته الجهوري)ثم رابع و خامس و....
كانوا يضحكون.. كأنهم لم يضحكوا قبل قليل في الرّواق عندما شاهدوا هرا يلاحق هرة بشعة لكنها استماتت في الدفاع عن شرفها و تلك الدائرة الصغيرة الحمراء، هو شخصيا ضحك بدّد المشهد مخاوفه من اعتلائه المنصة الخشبية المزينة بباقة ورد اصطناعية، و قارورة ماء، و صورة كبيرة جدا في الخلف، يٌقال إنها تترصّد هسهسات المساء وأحاديثه، تلك الحادثة الطريفة أنسته التفكير للحظات في التشنج المفاجئ الذي أصاب حباله الصوتية.
ابتلع لسانه القصير، لملمتْ الورقة أطرافها في غير انتظام، نزل معتذرا، غاضبا متألما، متعثرا على سلّم المجد، يخرج من الباب الخلفي كان في الأصل للنجدة، ، شيّعته عيون عند انزلاقه في الشّارع الضّيق وابتلعه آخر، طويل وممتد، غاص بالآتين و الراحلين، يٌعرف بشارع "البوهيميين" لا تخلو بعض زواياه من مظاهر تخلف حقيقيّ بيّن، وجد نفسه مهملا بين الحشود، بالكاد تنفس، شتم مجهولا كان سببا في تعثّره، حاول تمثّل حالته وهو يقرأ مواله ثانية، بين واجهات عابسة و أخرى مغرية، أين تحاصره الوجوه المغبّرة والسمراء، البيضاء، والدائرية، وتلك الرموش الطويلة، تهزمه حقا.
يتدحرج في شارع مسائي مزدحم، كان على مهل من أمره، يقرأ موّاله، لم ير أحدهم يضحك، ولم يره أحدهم يتعثر في جمله، أو في غابته العائمة في مياهها الضحلة، لم يره أحدهم يبكي وحيدا سقوطه ذاك المدوي داخل القاعة. يدخل إلى مطعم شعبي متواضع، به رغبة في التهام قارورة ملح موضوعة أمامه بدل طبق عدس طلبه للتو، لم يجد حرجا في تمزيق قصاصاته التي أخذت منه ساعات و ساعات.
استولى على مرآة كبيرة كانت قبالته، يحدق في الآخر الذي يشبهه، تعج المرآة بتفاصيل وفراغات مهمة، وجه طويل، و قصة ألم تروي تلك الفاجعة التي أخطأت الطريق إليه في مساء اعتاد فيه الفرح غير الذي عاشه قبل قليل.. يقول للتفاصيل: تبا.. " يقول للآخر الذي في المرآة، الذي يشبهه في القلق، في الهلع الجليّ الذي في عينيه، كأنه فقد نصفه المليء حيوية و أفكارا قيمة.
كان الآخر يضحك من كل الذي حدث، يحك عليهم جميعا، داهمته موجة من الضحك الهستيري غير المنقطع، تردد صداه في الشارع الذي يشبه دهليزا غريبا غابت عنه ضحكات المساء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى