أ. د. أحمد محمد سالم - الدين والاجتماع

يمثل الدين الرابطة الروحية المعقودة بين الله والإنسان، تلك العلاقة التي تبنى على التعاليم والأوامر والنواهي، أما الاجتماع فهو الرابطة الزمنية بين الأفراد في المجتمع ،والقائمة على العلاقات والروابط والتغير .
إن مسار العلاقة بين الله والإنسان عبر النبوة ، وبين السماء والأرض هو مسار جدلي قد يهبط من السماء إلى الأرض طارحًا التعاليم في التوحيد، والعبادات، والمعاملات، وموجهًا لحركة الإنسان ومساره في الواقع الاجتماعي ، ولكن الإنسان في واقعه الاجتماعي المتطور والمتغير كان يطرح حيرته وأسئلته على النبوة ليتنزل الوحي من السماء ليُسكن حيرة الإنسان، ويجيب عما يشغل العقل والروح الإنسانية على الأرض، ولتنطلق العلاقة هنا من الأرض إلى السماء في نمط حواري وجدلي ليكشف لنا عن دور الوحي في توجيه حركة الزمني على الأرض، ودور الزمني في تطور نزول حركة الروحي عبر تغير حركة الاجتماع وتطوره، وعبر تجدد مشكلاته.
وبقدر أهمية العلاقة الرأسية بين السماء والأرض، وبين الله والإنسان، إلا أن هذه العلاقة لا تقف عند هذه الحدود، ولكنها حين تؤسس البناء الروحي للإنسان على الأرض تنتقل إلى تأسيس علاقة أفقية موازية بين الإنسان والإنسان محكومة بما تم تأسيسه في العلاقة الرأسية بين السماء والأرض، وبين الله والإنسان، وليؤثر الدين في بناء العلاقة بين الإنسان والإنسان، وليؤثر في علاقات المجتمع الأفقية بين الأفراد سلباً وإيجابًا، تحررًا وعبودية، تقدمًا وتخلفًا، نهضة وانحدارًا، بما يمنح الدين مكانة مركزية في تطور حركة الاجتماع، مكانة لا يضاهيها أي نمط آخر من أنماط المعرفة في الشرق، وذلك لما يحتله الفكر الديني من دور بارز في حياة الأفراد اليومية.
ولما كانت النصوص المؤسسة للدين (القرآن والسنة) قد انتهى توسعها بموت النبي –صلى الله عليه وسلم- وصمت الوحي نهائيًا ، فكانت نصوص الدين ثابتة، ولكن حركة الاجتماع البشري لا تكف عن التطور والتجدد، وكانت هناك حاجة متجددة لحضور الوحي في التاريخ الاجتماعي، وذلك لتجدد الحراك الاجتماعي، ولذا كانت الحاجة إلى نشأة الفكر الديني الذي هو اجتهاد بشري حول النصوص المؤسسة لكي يقدم لنا القراءات المتجددة للنصوص التي تراعي تطور حركة الاجتماع، وتعمل على تأصيل حضور الدين عبر الفكر الديني في حركة المجتمع.
وهنا نشأت العلوم الإسلامية في دوائرها المختلفة لتشكل لنا أنماط التدين التي هي نتاج امتزاج الوحي بالاجتماع ، فعلم التفسير يقدم تفسيرات ورؤى حول بيان معاني النص القرآني، والذي يتغير عبر تطور اختلاف البيئة والزمان والمكان، وعلم أصول الدين يقوم بشرح أصول الاعتقاد الديني في التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، والإيمان بما يسهم في تقديم قرارات متعددة لأصول الاعتقاد الديني، وعلم أصول الفقه يقعد للأصول المؤسسة لكيفية إنتاج الأحكام الدينية والتشريعات، والفقه هو علم الأحكام الدينية الذي يقدم تشريعات دينية جديدة للأحداث والوقائع المستجدة فضلاً عما يقدمه من أحكام ثابتة ومستقرة منذ نزول الوحي، ومن ثم فإن العلوم الشرعية قامت بتقديم الفهم والتفسير والاجتهاد في رؤية البشري للنصوص القرآنية وفقاً لتطور حركة الاجتماع البشري.
ومن ثم فنحن بإزاء ثلاثة محاور رئيسية الدين (الثابت) وحركة الاجتماع (المتغير)، وبينهما يتوسط الفكر الديني (الاجتهاد) ليقدم لنا قراءات تصل الثابت بالمتغير، وتجدد النظر في النصوص الثابتة وفقًا لتطور حركة المتغير، وذلك عبر الاجتهاد وتجديد النظر في الثابت وفقًا لمسار حركة المتغير، وذلك حتى لا تنقطع صلة الثابت بحركة المتغير،وهنا كانت الحاجة إلى تجديد النظر في الفكر الديني لأنه وحده هو ما يقيم العلاقة بين الدين والاجتماع، وذلك عبر القراءات المتجددة التي تراعي مصلحة الإنسان والمجتمع وفقًا للمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، وذلك لأن جمود الفكر الديني، وعدم تطوره، وتحكمه في تطور حركة الاجتماع بما قدم من اجتهادات منذ سبعة قرون هو أمر يبدو من دروب المستحيل ، ولهذا كان ثبات بعض العلماء على اجتهادات السلف محط السخرية بين أفراد المجتمع، والذين ينظرون لمثل هؤلاء أنهم يعيشون خارج الزمن، وخارج حركة التاريخ، وأن الاجتماع البشري يخلق قوانينه وفقًا لآليات تطوره مع قطع الصلة بهذا الفكر الديني الجامد العاجز عن التجدد والتطور وفقًا لتطور حركة الاجتماع.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى