بالعودةَ إلى المعنى القاموسي للقصيدة، سنجد إنها لا تختلف كثيراً عن المعنى الاصطلاحي الحالي: قصَّدَ يُقَصِّدُ تَقْصِيداً: القصيدةَ أو الشِّعْرَ: نقّحه وجوّده وهذّبه؛ عُرف زهير بن أبي سُملى بأنه كان من الشعراء الذين يُقصِّدون شعرهم قبل روايته للناس..الخ.
إذاً قاموسياً واصطلاحياً، ما زال الخلاف قائما على ما يسمى بـ “قصيدة النثر” وأساسه شعرية هذه النصوص، لكن المصيبة أن الإشكالية لم تعد في ذلك، بل الخلاف الأكبر هو حول صلاحية هذه النصوص لتسمى نثراً أصلاً..
وهنا لابد من القول إن قصيدة النثر فرضت ذاتها بذاتها، ليس لأن صّناعها مبدعون وخلاقون، بل لأن هناك ضرورة لوجود مثل هذا الجنس الأدبي للتعبير عن حالات ورؤى وتوليفات وتجليات ومفارقات وانزياحات.. وحتى هذيانات لم تتسعها الأجناس الأخرى، أو لم تستوعبها… إذا قلنا أن ثمة حكاية، فيمكن للقصة أن تحتضنها، بل وتؤسسها وتتأسس عليها.. وإذا قلنا أن ثمة رأياً أو رسالة أو خاطرة أو.. فثمة أجناس تستوعب خلطها وتداخلاتها.. وإذا قلنا أن ثمة شعراً فالأوزان والتفعيلات والقوافي والموسيقا تتناغم مع الحدس.. وعند الشاعر الراحل محمود درويش، تبدأ القصيدة من الحدس، والحدس يأخذ شكل الصورة، أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور.. وهكذا تتحول الصور إلى إيقاعات، وعندما تحمل الصور إيقاعاتها يحس درويش أن القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة، هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية، القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي.
ولكن إذا كان ثمة دفق شعوري، وبوح مكثف وأسلوب موحي وبلاغة وجزالة ورؤيا.. وصاحب كل هذا مبدع لكنه لا يملك أذناً موسيقية، ولا تتحول الصور عنده إلى إيقاعات، كما درويش، فما الجنس الذي يناسبه؟؟
إن قصيدة النثر جنس أدبي جديد يمتلك كل مقومات الشعر ما عدا مكوناته المقيدة للشعرية أحياناً، كانغلاق البحور، ونمطية التفعيلة ومحدودية الانشطار أو التفكيك للفكرة أو حتى المفردة، وإشكاليات الانزياح نحو أجناس أدبية أخرى.. ففي قصيدة النثر مقدمة وحبكة وخاتمة، لكنها خاتمة واخزة أو مفاجئة أو مضيفة لحالات تعجز عن تكثيفها الرواية والقصة.. وفيها حكاية أو خاطرة لكنها أقرب إلى اللقطة منها إلى التداعي أو الهذيان، و”أوضح من الطلقة وأبسط من الماء”، وفيها تأخير وتقديم له دلالاته اللغوية والنحوية المبدعة، وفيها مقدمات ونتائج وتداع جدلي يأخذ القارئ إلى رؤيا وأسئلة تعجز القصائد الأخرى عن تحقيقها بسطور معدودة، لأن المفردة المناسبة للدلالة والمتناغمة مع التوليفات والتجريدات.. تفرض ذاتها دون تقطيع للساكن والمتحرك فيها، أو تزيلها بقافيتها.
وفي قصيدة النثر أقصوصة ساهمت في انتشار القصة القصيرة جداً، وفيها طرفة وحكمة ومفارقات لغوية تعيد للقواميس ألقها وتجددها.. وفيها نقلات نوعية وخلخلات لبلادة السكينة، وانزياحات لنمطية الرؤية، وفيها تريث وانفجار.. لكن كل هذا بأسلوب مكثف موح وجزالة لغوية تمنح النثر تسميته الرفيعة، وبلاغة مبدعة تجعل من التراتب الحرفي للكلمات جرساً موسيقياً أخاذاً، ولسياق الجملة سلاسة ورشاقة، وفيها خبرة في علم النحو والتجويد، وغناء فكري يجعل للرؤيا قيمة إنسانية راقية..
ولا يمكن للتسطير وحده أن يصنع قصيدة نثر كما يتوهم البعض.. والمهزلة أن الشعراء الصغار كانوا يكتبون الشعر من الشعر بتبديل الكلمات بأخرى موزونة مثلها.. وصار المدعون في قصيدة النثر يسرقون التسطير دون مراعاة لفصل الفعل عن الفاعل والصفة عن الموصوف والمضاف عن المضاف إليه… الخ، وتضّيع الرؤية الجديدة للمدعي، الرؤيا القديمة للشاعر الحقيقي.
محمود أبوحامد
إذاً قاموسياً واصطلاحياً، ما زال الخلاف قائما على ما يسمى بـ “قصيدة النثر” وأساسه شعرية هذه النصوص، لكن المصيبة أن الإشكالية لم تعد في ذلك، بل الخلاف الأكبر هو حول صلاحية هذه النصوص لتسمى نثراً أصلاً..
وهنا لابد من القول إن قصيدة النثر فرضت ذاتها بذاتها، ليس لأن صّناعها مبدعون وخلاقون، بل لأن هناك ضرورة لوجود مثل هذا الجنس الأدبي للتعبير عن حالات ورؤى وتوليفات وتجليات ومفارقات وانزياحات.. وحتى هذيانات لم تتسعها الأجناس الأخرى، أو لم تستوعبها… إذا قلنا أن ثمة حكاية، فيمكن للقصة أن تحتضنها، بل وتؤسسها وتتأسس عليها.. وإذا قلنا أن ثمة رأياً أو رسالة أو خاطرة أو.. فثمة أجناس تستوعب خلطها وتداخلاتها.. وإذا قلنا أن ثمة شعراً فالأوزان والتفعيلات والقوافي والموسيقا تتناغم مع الحدس.. وعند الشاعر الراحل محمود درويش، تبدأ القصيدة من الحدس، والحدس يأخذ شكل الصورة، أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور.. وهكذا تتحول الصور إلى إيقاعات، وعندما تحمل الصور إيقاعاتها يحس درويش أن القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة، هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية، القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي.
ولكن إذا كان ثمة دفق شعوري، وبوح مكثف وأسلوب موحي وبلاغة وجزالة ورؤيا.. وصاحب كل هذا مبدع لكنه لا يملك أذناً موسيقية، ولا تتحول الصور عنده إلى إيقاعات، كما درويش، فما الجنس الذي يناسبه؟؟
إن قصيدة النثر جنس أدبي جديد يمتلك كل مقومات الشعر ما عدا مكوناته المقيدة للشعرية أحياناً، كانغلاق البحور، ونمطية التفعيلة ومحدودية الانشطار أو التفكيك للفكرة أو حتى المفردة، وإشكاليات الانزياح نحو أجناس أدبية أخرى.. ففي قصيدة النثر مقدمة وحبكة وخاتمة، لكنها خاتمة واخزة أو مفاجئة أو مضيفة لحالات تعجز عن تكثيفها الرواية والقصة.. وفيها حكاية أو خاطرة لكنها أقرب إلى اللقطة منها إلى التداعي أو الهذيان، و”أوضح من الطلقة وأبسط من الماء”، وفيها تأخير وتقديم له دلالاته اللغوية والنحوية المبدعة، وفيها مقدمات ونتائج وتداع جدلي يأخذ القارئ إلى رؤيا وأسئلة تعجز القصائد الأخرى عن تحقيقها بسطور معدودة، لأن المفردة المناسبة للدلالة والمتناغمة مع التوليفات والتجريدات.. تفرض ذاتها دون تقطيع للساكن والمتحرك فيها، أو تزيلها بقافيتها.
وفي قصيدة النثر أقصوصة ساهمت في انتشار القصة القصيرة جداً، وفيها طرفة وحكمة ومفارقات لغوية تعيد للقواميس ألقها وتجددها.. وفيها نقلات نوعية وخلخلات لبلادة السكينة، وانزياحات لنمطية الرؤية، وفيها تريث وانفجار.. لكن كل هذا بأسلوب مكثف موح وجزالة لغوية تمنح النثر تسميته الرفيعة، وبلاغة مبدعة تجعل من التراتب الحرفي للكلمات جرساً موسيقياً أخاذاً، ولسياق الجملة سلاسة ورشاقة، وفيها خبرة في علم النحو والتجويد، وغناء فكري يجعل للرؤيا قيمة إنسانية راقية..
ولا يمكن للتسطير وحده أن يصنع قصيدة نثر كما يتوهم البعض.. والمهزلة أن الشعراء الصغار كانوا يكتبون الشعر من الشعر بتبديل الكلمات بأخرى موزونة مثلها.. وصار المدعون في قصيدة النثر يسرقون التسطير دون مراعاة لفصل الفعل عن الفاعل والصفة عن الموصوف والمضاف عن المضاف إليه… الخ، وتضّيع الرؤية الجديدة للمدعي، الرؤيا القديمة للشاعر الحقيقي.
محمود أبوحامد
Zum Anzeigen anmelden oder registrieren
Sieh dir auf Facebook Beiträge, Fotos und vieles mehr an.
www.facebook.com