البروفسور نجيب جورج عوض - ليكتشف العالم ما شاء من قبور)

في عام 2007، أطلق المخرج جيمس كاميرون في مؤتمر صحافي شريطه الوثائقي المثير للجدل "قبر يسوع الضائع" . وأكد أن شريطه يحوي "أدلة دامغة غير مسبوقة"، على حد تعبيره، عن مدفن السيد المسيح، مشيراً إلى أنَّ القبر خضع لدراسات وتحاليل تسمح اليوم بالتأكيد على أنه يضم جثامين المسيح ومريم المجدلية وابنهما المفترض واسمه يهوذا. وقال كاميرون أنَّ تركيبة الأسماء المنقوشة على التوابيت الحجرية العشرة المكتشفة أقنعته بأنها تعود إلى عائلة السيد المسيح، ومنها يشوع بن يوسف ويهوذا بن يشوع ومريم.
لم يسبب هذا الخبر، الذي تناقلته وقتها كل الجرائد المطبوعة والالكترونية لمدة شهرين على الأقل، أي دهشة أو قلق أو اضطراب عند الكنيسة المسيحية حول العالم. فقد اعتاد المسيحيون، ومع اقتراب ذكرى صلب وقيامة يسوع المسيح واحتفالهم بأسبوع الآلام، أن تنشر وسائل الإعلام الغربية مقالات وأخبار وريبورتاجات تتحدث عن يسوع المسيح التاريخي وعن آخر الطروحات العلمية التي تحلل أو تنتقد علمياً، أو تشكك بحدث يتعلق بالإيمان المسيحي عنه، بشكل خاص إيمان الكنيسة القاعدي بأنَّ "المسيح قد قام من الأموات وصار باكورة الراقدين". اعتاد المسيحيول، أقول، على مثل هذا النشاط الإعلامي السنوي. وقد درجت الكنيسة دوماً على عدم إضاعة الوقت بالرد على مثل تلك المزاعم أو إثارة الاضطرابات الشعبية الشعواء أو تهييج الشارع على كاتبيها. لهذا، لم تكترث الكنيسة كالعادة لادعاء جيمس كاميرون، مدركةً أنَّ مزاعمه ما هي إلا نوع من التسويق الإعلامي لفيلمٍ جديد عمل على انتاجه وإخراجه وقتها. لا سيما وأنَّ من تولى الرد على مزاعم كاميرون ذاك العام كان شخصاً من وسط الحقل العلمي الأركيولوجي. فقد عرّض علم الآثار اليهودي عاموس كلونر إدعاءات كاميرون لنقدٍ لاذعٍ، مؤكداً أنَّ "ليس هناك دليل علمي" جازم يثبت أنَّ القبر يخص يسوع وعائلته، ومشدداً في المقابل على أنه مجرد "قبر يهودي يعود إلى القرن الأول بعد المسيح".
مرت موجة إدعاء كاميرون المذكورة بسرعة، إذن، دون أن تترك أثراً على الساحة الدينية المسيحية والعالمية. إلا أنَّ السؤال لطالما طرحه العديدون من المسيحيين قبل سواهم ومازال مطروحاً اليوم على لسان الكثير من اللاهوتيين وأبناء جماعة القيامة. أعني به السؤال التالي: لو افترضنا نظرياً أنَّ قبراً آخر اكتشف وأنَّ الباحثين وجدوا فيه دلائل فد تشير بشكلٍ أو بآخر إلى أنه قبر يسوع الناصري، فهل يؤثر مثل هذا الخبر على حقيقة القيامة؟ السؤال هنا سؤال لاهوتي وليس مجرد سؤال علمي أو آركيولوجي. لا بل إنه وقبل كل شيء سؤال لاهوتي بامتياز, ما هو أساس إيمان المسيحيين بالرب يسوع المسيح القائم من الموت؟ ما هي مقومات إيماننا بالقيامة؟ هل تتضعضع حقيقة الرب المقام المنتصر على الموت لو تخلينا عن قصة القبر الفارغ؟ هل فراغ القبر من صاحبه هو أساس إيماننا بانتصار المسيح بقوة الروح ومشيئة الآب على الموت؟
لن أخوض في المساحة القصيرة المتاحة لي هنا في طرحٍ منهجي مسهب ومفصَّل لرأي مسيحي لاهوتي حول هذه المسألة. أود فقط أن أشير للنقاط التالية:
أولاً، يُجمع أهل الاختصاص من باحثين لاهوتيين كتابيين وعقائديين على أنَّ أقدم الشهادات المسيحية عن الخبر السار في العهد الجديد هي كتابات بولس الرسول. من اللافت أنَّ بولس لا يذكر قصة القبر الفارغ أبداً ولا يعتمد عليها لإثبات قيامة المسيح. يقدم بولس لاهوتاً متكاملاً عن قيامة المسيح من الأموات في رسالة كورنثوس الأولى الأصحاح الخامس عشر، مقدماً نقاشاً عن حقيقة القيامة وعن طبيعة المقام وعن وعد القيامة المعطى لنا بالمُقام من الموت، يسوع المسيح. بدلاً عن الاعتماد على قصة القبر الفارغ لإثبات إمكانية القيامة، يستند بولس إلى الوعود المسيانية اللاهوتية في العهد القديم. ينطلق بولس من لاهوت رؤيوي عهد قديمي وليس من قصة تدور حول تفصيل مادي تاريخي (قبر فارغ من جسد الراقد فيه) ليؤسس عليه تحقق القيامة في يسوع المسيا بالذات. هو يبني على لاهوتٍ سابق ليطور لاهوتاً آخراً تالياً عن شخص المقام من الأموات، هذا الذي "مات من أجل خطايانا حسب الكتب"، والذي "قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1 كو 15: 3). إذن، اساس الإيمان بالقيامة بحسب بولس هو إيمان أسبق بوعد تحقق حدوث تلك القيامة: من لاهوت الوعد المسياني إلى لاهوت قيامة المسيا، ونحن معه لاحقاًـ من الموت. النهج البولسي نهجٌ يبدأ من لاهوت (وليس من حدث أو دليل مادي) ويتجه نحو لاهوت آخر.
ثانياً، المسيحية لا تدور لاهوتياً حول حدث القيامة (كحدث مكاني محدد وملموس ومادي) بحد ذاته. كل الإيمان المسيحي لا يدور حول أحداث بل حول هوية أو ماهية الشخص المقام من الأموات الإلهية. شخص الرب يسوع المسيح. الإيمان الفصحي يقوم على ماهية مسيا الفصح، لا على القبر الذي وجدته النسوة فارغاً في صباح الأحد. الشخص الإلهي هو قاعدة الحدث التاريخي. لأنَّ المسيا يسوع الله-المتأنس هو الذي مات على الصليب، فلا بد أنه غلب الموت، لأنَّ ابن الله لا يغلبه الموت. لأنَّ المسيح قام وهو حيٌ بين الأموات، هناك إذاً قيامة أموات.
ثالثاً، في الإيمان المسيحي، إذن، الحدث هو خليقة الشخص أو صنيعته، ودور الحدث في الإعلان الإيماني يحدده الشخص الذي صار الحدث فيه، وليس العكس. هوية يسوع الناصري الإلهية، سر المسيا الذي فيه، هو الذي جعل من معرفته من خلال حدث القيامة أمراً ممكناً. كينونة المسيا ليست نتاج سيرورة الأحداث التي عرفناه من خلالها في التاريخ. العكس هو الصحيح، معرفة المسيح من خلال قيامة تاريخية يشهد عنها رمزياً وروائياً قبر فارغٌ من الراقد فيه هي أدوات هرمنيوتيكية تتأسس أهميتها ودورها على كينونة ذلك الراقد الذي قام وعلى ذاته: الانطولوجيا هي قاعدة الابستمولوجيا، وليس العكس.
رابعاً، هذا هو جوهر الوعد عهد القديمي بأنه "إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام" (1 كو. 15: 13). لا يقصد بولس هنا أنَّ حدث القيامة (أو وجود قبر فارغ) هو أساس تحوُّل المسيا إلى قائم من الأموات. المقصود لاهوتياً هنا هو أن وعد القيامة هو السبب الي جعل المسيا يكشف ذات الله عن طريق انتصارٍ على الموت بالتحديد، وليس عن أي طريقٍ آخر. الأنطولوجية اختارت وسيلة ابستمولوجية معينة لتعلن عن ذاتها، لأنَّ هذه الوسيلة هي "الوعد"، وليس لأنَّه بدون هذه الوسيلة بالتحديد وبالحصر لا يصير يسوع الناصري ما لم يكن عليه انطولوجياً من قبل.
في ضوء النقاط اللاهوتية السابقة عن علاقة القيامة بالشخص المُقام من الموت ودور معالم ودلائل القيامة المادية التاريخية المحصور بالإعلان السردي لا بالكينونة أو الوجود الإلهي بذاته، لا يصبح هناك مشكلة إن اكتشف الإنسان يوماً قبراً وادعى أنه للمسيح. لا يهدد هذا الإدعاء الإيمان المسيحي بالقيامة، لأنَّ الإيمان الفصحي ليس إيماناً بقبر فارغ، بل بمسيح قائم من الموت منتصر للحياة. المسيحية ليست بجماعة كتاب. إلا أنها ليست بجماعة حدث أو جماعة قبر فارغ أيضاً. المسيحية جماعة شخص: ابن الله الحي القائم من بين الأموات. وليكتشف العالم ما شاء من القبور.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى