د. رسول محمد رسول - أزمة الترجمة.. إلى أين؟

يُعد مشغل الترجمة واحداً من التقاليد الثقافية المعمول بها في الحضارة العربية القديمة والحديثة والمعاصرة. وما تمَّ إنجازه في هذا المضمار ترك آثاره فاعلةً في مفاصل وأبنية الفكر والثقافة العربيين؛ حيث أصبحت المُعطيات الفكريّة الوافدة عبر الترجمة تمارس فعلاً معرفياً، ومن ثم أيديولوجياً في مختلف الأنظمة الفكرية العلمية والفلسفية عموماً ابتداء من نهاية القرن الأول الهجري حتى المرحلة الراهنة.
وبقدر ما أفرزت هذه التجربة/ التجارب من إيجابيات على مستوى التواصل الحضاري والثقافي، ومستوى تحديث الأبنية المؤسساتية الثقافية، والتعليمية والثقافية والعلمية والمجتمعية عموماً، قديماً وحديثاً، فإنّها أفرزت بالمثل مجموعة من الآثار السلبية التي عبّرت عن ذاتها بعد ممارسات خاطئة من وجهة نظر العقل والمنطق والاستراتيجية الثقافية، لكنها كانت مقبولة لدى الأوساط التي تمارس هذه النشاطات لضرورات حضارية وتاريخية ومصلحية أخرى.
تعدّد الترجمات
إن ظاهرة وجود أكثر من ترجمة واحدة لمنحى فلسفي أو لاهوتي أو علمي أو أدبي أو لأي نص، كانت من المظاهر الشائعة في ظهور الترجمة الأولى، وربما كان السبب في ذلك يتعلّق بانعدام وسائل الاتصال سابقاً أو صعوبة التنقل ممّا يؤدي إلى وجود تموضع سكوني للحدث الثقافي ربما هو التموضع الضار؛ إذ عندما يعكف المُترجم العربي القديم على ترجمة نص أرسطي في "جنديسابور" يحتاج إلى زمن ما لإيصال هذا الحدث الثقافي إلى بغداد، وقد يتكرّر الحدث الثقافي خلال هذا الزمن، وهذا في حدِّ ذاته سبب..!
وربما يكون السبب غير هذا؛ فلضرورات معرفية أصلاً نلاحظ إعادة ترجمة نص ما، مرّة أخرى، وربما مرّات أخرى من جانب مُترجم آخر في دائرة سكانية واحدة كبغداد مثلاً. وقد يكون هناك سبب آخر لتكرار ترجمة نص سبق له وتُرجم وهو حدوث لغربة غير علمية أو لترف ثقافي أو لأسباب أخرى غير موضوعية قد تكون مصلحية تدعو مُترجم ما إلى إعادة ترجمة النص نفسه من لغة إلى أخرى كالعربية على سبيل المثال.
وبإزاء هذا التطوّر الهائل في وسائل الإعلام والتواصل العابر للحدود القومية والوطنية، لم يعد انعدام وسائل الإعلام ضرورة لإعادة ترجمة النصوص من لغة إلى أخرى. وإذا حدث وأن وُجدت ترجمات عديدة لنص واحد من دون وجود مبرّرات معرفية أو فنية، فلا بد أن هناك مجموعة من الدوافع والضرورات التي تدفع بالمُترجم العربي، أيّاً كان، إلى ممارسة فعل الترجمة في سياقات غير مسؤولة، وضرورات ثانوية وأخرى غيرها أو خارج إطار العلم والمعرفة والثقافة ربما تدخل في باب التجارة والسمسرة والعمالة ليس إلاّ!
رولان بارت
ومن أجل أن تكون محاولتنا علمية لا بد لنا من أن نستعين بأحد النصوص التي تُرجمت إلى العربية في ثلاث ترجمات للفترة من الأول من أيلول سنة 1986 ولغاية شتاء سنة 1989؛ فقد تُرجم كتاب الناقد الفرنسي رولان بارت (1915 - 1980)، وعنوانه (التحليل البنيوي للقصّة القصيرة) في سنة 1986 من جانب الدكتور نزار صبري وبمراجعة الدكتور مالك المطلبي، ونُشرته دائرة الشؤون الثقافية العامة في بغداد، وتضمّن الكتاب كلمة للمترجم (ص 5 - 7)، ومقدّمة للمُراجع (ص 9 - 21)، ومن ثمَّ ترجمة متن النص البارتي (ص 22 – 116)، إلى جانب ملاحظات وهوامش (ص 117 - 131). ولعمري أن هذه الجهود التي بذلها كل من المترجم والمُراجع والناشر لم تذهب سُدىً؛ فقد خرج الكتاب مُستوفياً لشروط الترجمة ومراجعتها.
وفي سنة 1988، أي بعد سنتين، صدر في بيروت، وعن دار عويدات، كتاب (النقد البنيوي للحكاية) بترجمة أنطوان أبو زيد، وقد تضمّن الكتاب بما يزيد على الترجمة الأولى، أي: ترجمة نص كتاب بارت: "النقد والحقيقة"، وكذلك "مدخل إلى تحليل السرد بنيوياً"، وكان النص الأول قد ترجمه، من ذي قبل، إبراهيم الخطيب، وراجعه محمَّد برادة، وظهر منشوراً في مجلة (الكرمل)، واحتل الصفحات من 10 إلى 41، مع شروحات وإيضاحات عديدة للمترجم والمُراجع للترجمة، بينما جاءت ترجمة أنطوان أبو زيد التالية لنص (النقد والحقيقة).
أما الثاني فقد عكف على ترجمته دكتور صبري، إلا أن المترجم عدنان أبو زيد حاول عن علم ودراية معالجة الأمر عندما أضاف إلى ترجمة كتاب بارت (مدخل إلى تحليل السرد بنيوياً) ترجمة جديدة إلى كتاب (النقد والحقيقة) ليصبح عنوان الكتاب (النقد البنيوي للحكاية)، على أمل أن يتجاوز أزمة/ مرض إعادة ترجمة النصوص من جهة، ولإيهام القارئ العابر والعادي من ناحية أخرى، وكلا الأمرين استهانة بالثقافة وبالمثقف مهما كان مستواه وقد ظننتُ، مع نفسي، بأنني سأجد ما هو جديد معرفياً وفنياً على مستوى الترجمة عندما وقعت في يديّ النسخة المُترجمة من جانب أبو زيد، ولكنّني عدماً ظننت!
وتتكرّر ترجمة نص بارت للمرّة الثالثة، وفي بلد جرت فيه الترجمة الثانية للنص من جانب نخلة فريفر والتي نُشرت في مجلة (العرب والفكر العالمي)، العدد الخامس، شتاء 1989، (ص 17 – 32)، وتحت عنوان آخر هو (مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص)، وهي الترجمة التي تكرّر تقاليد الترجمة عند أبو زيد مع اختلافات بسيطة في ترجمة بعض المصطلحات التي ترجم بعضها على نحو مغاير من أجل إسقاط شيء من الاختلاف والمغايرة على صنيعه الترجمي لكي يبرِّر ترجمته الثالثة لنص نفسه.
وهنا، تبقى الترجمة الأولى للنص تلك التي صدرت في بغداد سنة 1986 أنها الترجمة المفضّلة ليس لكونها الأولى في تعداد الترجمات الثلاث، وإنما لكونها مارست فعلاً ثقافياً ومعرفياً ملتزماً وعلمياً إلى حدٍّ ما، وهذا لا يعني أن هناك شكوكاً في الترجمتين اللاحقتين من حيث البنية الدلالية والأسلوبية والتركيبية، وإنما توجد بعض المآخذ على الفعل الثقافي الذي تمارسه، فما هو المبرِّر لوجود ثلاث ترجمات متواترة لنص واحد؟
تبرير بائس
لقد نفينا أن يكون المبرِّر معرفياً، كما أننا ننفي أن تكون أزمة الاتصال بين بغداد وبيروت مع طول المدّة الزمنية هي أزمة حادّة؛ فقد أُعلن عن الكتاب في وسائل ثقافية عديدة، خصوصاً أنه وعندما صدرت الترجمة الأولى في بغداد أحدثت تداولاً واهتماماً شديدين في الأوساط الثقافية حتى انبرى العديد بالحديث والكتابة عن النص البارتي، وهو، في كل الأحوال، أصبح مدار حديث في الصحافة العربية، خصوصاً في لبنان والمغرب العربي باعتبارهما الحاضرتان الثقافيتان اللتان تهتمان بالناقد الفرنسي رولان بارت (1915 - 1980) أكثر ممّا تهتم مصر أو بغداد أو دول مجلس التعاون الخليجي، وتلك حقيقة يعرفها الجميع.
بقي علينا أن نقول: إن وجود ترجمات ثلاث ترجمات لنص واحد وفي مدّة زمنية متجاورة أمدها سنتان يُشير إلى لا معقول ولا مسؤول في الممارسة الثقافية التي تعد الترجمة واحدة من مظاهرها، فأي اضطراب نعيشه في علاقاتنا الثقافية؟ وأي ضياع تعيشه جهود المُترجمين العرب في القرن العشرين وكذلك المعاصرين منهم؟ أعتقد أنها أزمة ولغرض تجاوزها لا بد من تنظيم مؤسساتي قومي يوفّر الجهد الترجمي والورق والأحبار والزمن.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى