أواخر فبراير 1981
صديقي العزيز،
أعود إلى رسالتك (الأولى) بشأن الله والصوت. رسالتك، واسمحْ لي أن أرفع الكلفة بيننا : ما معنى ذلك؟ أهو تحالفٌ، أم تعاقد مع من ومع مَ؟ فيما نحن نتحدث عن الله، الذي هو اسم لميت، واسم لميت لا يمكن أن يعود. وأما أنا فأقترح فكرة مختلفة : أن نقاطع كلام الله بالتنفس بما لا يعود إليه.
إن ما تقول عن التوحيد شيءٌ يهمني، لكن أين، وفي أثر أي شيء غير قابل ليسمى؟ إنني أنقل ههنا عبارتَك، من أجل التقدم باتجاه مباعدة بين الإلهين، وبين الميتيْن (على الأقل) بيني وبينك. ويبدو لي الإفراد الأشد وداً لا يعود إلى أي شخص. إنه في آداب اللياقة يدل على نية في القرب وعلى رغبة غامضة، وأما في ما عدا هذه الآداب، وفي ما عدا هذا النداء الذي يذهب ويعود في إطار من اقتصاد التبادل (مبادلة رسالة بأخرى، وتخلصيها من الصمت الهائل لذينك الإلهين الميتين، والذي ينبغي، مرة أخرى، أن نحول عنه (وخاصة) السلالة، فيما هي تحمل اسمه. وبودي أن أقول لك «أنت»، في منأى عن أي إله ميت أو حي، «أنت» لا يمكنها بأي حال، أن تعود إليك في كليتها.
إنك تعبر عن ذلك التوجه إلى المؤمن : «أنت الذي في اللغة المزدوجة، اقرأ اسمي ولا تتلفظْه (وتلك هي علاقة اليهودي بالأحرف «ي.ه. و.ه». أنت الذي في اللغة المزدوجة، لأنك حملت اللغة، تأمل الكتابة ولا تتخيلْ (وتلك هي علاقة المسلم ب «الواحد» وبالأثر)».
لست أدري هل تعمدتَ أن تقول ما قلت، أم أنه كذلك مكتوبٌ، فلقد أجدت القول : «أنت الذي». فأنا أراها تترجم القصد و/أو الحذف المثاليين : إنه رفع للكلفة توجِّهه علامة المحايد. وهو ما يشجعني على التقدم نحو قصة ذينك الإلهين واختلافهما، بالنظر إلى أن أصغر اختلاف وأقربه هو، في الوقت نفسه، الأكثر سطوعاً، وكثيراً ما يكون الأشد عنفاً. إن هذه الحكاية الإلهية شيء فائقٌ، ولاشك أنها ستأخذ بأيدينا (اليد المزدوجة) لتقودنا حسب ما تشاء : يد زائد أخرى، يد ناقص أخرى، وتبادل من غير تبادل، واللغة الواحدة.
يغمرني انفعال غريب إذا كتبت الأحرف «ي. ه. و. ه»، وإن عدم التلفظ بها هو، كذللك، شيءٌ من صميم اللغة العربية، التي تكاد، ههنا، تصير صامتة؛ فهي تتنقل عبر لغة مشتركة، ولا تعود لا إلى إلهك ولا إلى إلهي. لغة واحدة، بعد أن ألغيَ برج بابل (إنني أتسلى قليلاً).
وقد يقول آخر إنها غرابة مألوفة، وربما كان ما يثيرني في سؤالي إلى اليهود (وأؤمل أن يكون من غير تضييق) هو أن المسلمين واليهود يكتبون في الكتاب الواحد، من غير أن يعلموا. الكتاب بما هو حكاية عجيبة عن الواحد. ومن غير أن نترجم نوعاً ما كلام إله بإله آخر، يبدو لي من البديهي جداً (وهذه فرضية أقولها بابتسار) أن متخيل هؤلاء التابعين هو سؤال للحرف؛ أقصد أن الكلمة هي المتخيل نفسه، شكل خط وخطاطة الجسد ممثلاً في بعض أنسجة الذات المنفصلة، المرغمة على الاحتفال بالصورة الغائبة بالكلام، وتجريدها، وهندستها في غياب كل وجه، فهو الموت. الصورة التي تختم الكلمة. شيء ما يبدو لي بحاجة إلى حفر في هذا الجانب؛ هناك حيث الصورة المحظورة (من طرف اليهودية والإسلام، كلاً على طريقته)، هناك إذن؛ حيث تلغي نفسها في إنكارها [للآخر]. لا يمكنني أن أومن. فأنْ أقدم جثتي إلى إله غير مرئي أراها فكرة خرقاء. فكرة (هبة) فوق المعتاد. وهلوسة قد صيغت في قصة طويلة. فبعد كل شيء، ليس لليهود والمسلمين من خيار. الكلمة تؤول إلى صورة، والصورة تنتهي إلى كلمة. وفي هذا القلب مكمن مأساتهما.
إنك تذكرني باستعارة العمي المدهشين لدى اليهود الشرقيين، فأولئك اليهود يستحوذ عليهم الكلام الإلهي. وبودِّي لو تحدثني طويلاً في الأمر. إن الواحد منهم يسمى «البصير» (الرائي)، وهذه الكلمة هي من صفات الله الكبرى... مثل هذه الاستعارات الهلسية تحضر في مجموع تاريخ الإسلام، إلى حد أن الزاهدة ربيعة العدوية، بعد أن أنهكها الزحف على ركبتيها حتى مكة، تقول إن الكعبة نفسها تجيء إليها (الصورة تنقلب في الشطح الصوفي : الحب المجنون). وقد كانت تقوله، وقد كان يكفيها : فلم تكن بها حاجة لترى : إن الكعبة عندها هي وحدة الصورة، والمرئي واللامرئي في اسم واحد.
قصة تبدو، قد تبدو، شيئاً مبهماً لأولئك الذين يفكرون بمقولات أخرى. لكن نصك «التلهف الصوفي» ربما أتاح لي الفرصة للحديث في هذا الأمر. إنني أوافقك الرأي أن فكراً فوصوفياً قد بات أمراً لازماً أكثر من أي وقت مضى. لكن من العسير جداً إنشاؤه. قرأت نصك. أقرؤك؟ بين أي لغة ولغة؟ الفرنسية، لغتنا المشتركة، لكي ندور من حول وخارج الكلام التوحيدي، ومن حول وخارج سؤال الواحد، اللاهوتي، والمتصوف، والفلسفي؟ فيا له من عمل عجيب!
انحراف : أن نفكر (أخيراً) نهاية الكتاب بالكتابة لأجل لاأحد، وإلى لاأحد، من خلال لغة «وسيطة»، تتعدى كل برج لبابل تم إلغاؤه. ووسيطة، كذلك، هي صورت «نا» عن المسيحية المصوَّرة في الجسد المسيحي في تمثيله الثالوثي. وإن يكن هذا الثالوث إنما يعود إلى زمن متأخر، إنه ابتكار للاهوت المسيحي الدوغمائي. في الصور الثلاث للوحدانية، نرى تحطيماً وبناء لصورة متشذرة للآلهة الوثنية. فرضية أخرى، أقولها مرة أخرى في ابتسار. إنني أكلمك، وأكتب إليك من غير أن أتفكر في العواقب. بلى، إنني خاطبك بالمفرد.
ع. الخطيبي
***
الرباط، 18 يناير 1982
عزيزي جاك،
أمكنني، أخيراً، أن أقرأ مقال لاغاش عن التعددية اللغوية، والذي يعود إلى سنة 1956 . لقد تناول فيه، بكثير من البيان، مسألةَ العلاقة بين التحليل النفسي واللغة الأم، اعتماداً على كرافت وكتابه «اختيار اللغة وتحليل التعدد اللغوي». هل تعرف بهذا الكتاب الأخير؟ يبدو أنه كتاب ذو أهمية، حسب ما يفيدنا الملخص الذي وضعه له لاغاش.
فقد كتب : «يبدو من التصورات الرائجة، أن التحليل ينبغي أن يتناول اللغة الأكثر قابلية للتحليل، وما تلك، لزوماً، إلا اللغة الأم، اللغة الأولى التي يتعلمها الإنسان. ومن الممكن أن الدخول في الصراعات القديمة والبالية يساعد عليه اللجوء إلى اللغة الأم، فأما من الناحية التقنية، فإن التحليل سيقتضي أن يكون من يحلل لغة من اللغات مجيداً لهذه اللغة». وبناء عليه، فإن لاغاش يكون ههنا يضع تركيباً لمقترحات كرافت : «... إن لجوء المريض إلى اللغة الأم يمنحه إمكانية كبرى للتعبير عن نفسه، ولو كان في هذا الأمر ما يخل بالتواصل مع المحلل، لكن يمكنه أن يصطدم ببعض التعارضات العتيقة البالغة القسوة، وأما لجوء المريض إلى لغة أخرى ثانية مكتسبة، سواء أكانت له لغة استعمالية أو لغة ثقافية، فإنه يمنحه إمكانيات كبيرة لقمع [ذاته]، سواء بما يقع له من الابتعاد عن انفعالاته واستيهاماته، أو بما يقع له من الاستلاب في مثال للذات «غريب»، وربما مكن له اللجوء إلى لغة ثانية، كذلك، أن يقارب عصاباً نفسياً لن تسعف على تناوله اللغة الأم. وبذا، تظهر مؤشرات تقنية لاختيار اللغة، أو تغيير اللغة في أثناء التحليل». وسأعود، في ما بعد، لأستشهد من هذا المقال، بتتبعه عن كثب. فهو مقال كثيف، قد حشد في صفحاته المعدودة مقترحات تبدو لي أساسية. وأما أنا، فلم يسبق لي أن خضعت للتحليل [تصريح تقتصر صحته على ما قبل هذا التاريخ]. لكني أحسني شديد الانخراط في هذه التأملات.
إن كرافت متعدد اللسان (فهو يجيد أربع لغات)، ولاغاش يقول إن اللغة الأنجليزية هي التي تسعفه في أن يقوم بالتحليل في لغة أخرى غير لغته الأم. وتلك وضعية مزدوجة اللسان، لكنه يصرح، في الوقت نفسه، إن معرفته النسبية باللغة الألمانية واللغة الإسبانية تسمح له بأن يستعمل، في بعض الأحيان، تعددية لغوية شذرية، ومحدودة النطاق.
فما هي المشاهدة التي تصير ممكنة في هذه الحالة؟ أسوق من هذا المقال كذلك : «فأما من ناحية اختيار اللغة، فيمكننا أن نميز بين عدة «وضعيات لغوية». في الوضعية الأشد مألوفية، تكون لغة التحليل هي اللغة الرئيسية، عند المحلل، لا عند المحلَّل. وأما في المشهد الثاني، فيسوق لاغاش عدة أمثلة، نرى فيها كيف أن اللغة الأم التي لا تعود تقاوم، ولا تعود بعد سرية، وهي تعود إلى الينابيع، فهو يؤكد على «بداية جديدة». وأما في المشهد الثالث، فيضرب مثالاً بتحليل أثير عليه؛ «النبر الفرنسي في اللغة الأنجليزية»، نوع من الافتتان بالرطانة الأنجليزية، وزواج لغة بأخرى. وفي المشهد الرابع والأخير، يتحدث «عن الدفاع عن طريق عزل المؤثرات وتحييدها»، لكن، كذلك، تظهر لغة المحلل في صورة «لغة للحب».
لن أسوق ههنا المقال كله (فقد أعيد نشره مؤخراً)، لكن هاك الفرضيات التي دافع عنها هذا المحلل النفسي المأسوف عليه : «في التحليل المتعدد اللغة، لا ينبغي اعتبار اختيار اللغة والانتقال من لغة إلى أخرى مجرد عمليات ضبط موضوعية للتواصل اللفظي؛ بل إنها تترجم حركات من المقاومة، والنقل والحياة الاستيهامية للمريض. وربما كانت اللغة الأم، لشدة قربها إلى التنازعات البدائية، هي وحدها القادرة على إتاحة الولوج الكامل إليها». بيد أن طبيعة هذه الصراعات نفسها، يمكنها أن تلفظ اللغة الأم، أو «تمنع» من استعمالها. وأما لغة الانتقاء فهي الأنا المثالي، وهي تحفل، بصفتها تلك، بإمكانيات كبيرة للدفاع والهروب. إن لغة الاستعمال تتيح، في كثير من الأحيان، الإمكانية لإقامة تسوية واقعية. فلو أن مريضاً متعدد اللغات قد حصر نفسه بصرامة في اللغة التي درج على استعمالها، سواء أكانت لغته أو لغة المحلل، كان ذلك الامتناع يوافق انغلاقه أو امتناعه. ولو كان أكثر مرونة، أو لو صار أكثر مرونة، بما يخدم العلاج، فيمكننا أن نشهد عودة للغة الأم، وأن تصير تنازعات فترة الطفولة، في الوقت نفسه، أكثر قابلية للفهم والاستيعاب... إن العودة إلى اللغة الثانية، التي ليست هي اللغة الأم، أو اللغة الأفضل استعمالاً، يتيح، على الدوام، إمكانية للدفاع، لأن كلماتها لا تواكب إلا قليلاً من التداعيات، وقليلاً من المؤثرات. لكن لا يقتصر أمرها على ما ذكرت، فإذا اتفق أن كانت هي لغة المحلل، فإن استعمالها ربما كان، كذلك، محاولة للتقرب، وطلباً للحب. وعليه، فإن التعدد اللغوي عند المحلل يسعفه في التلاؤم مع مختلف أوجه شخصية المريض، وفي مختلف فترات حياته . «فماذا ترى؟ أعلم، لقد قرأت كتابك «شذرات اللغة الأم»، ثم ماذا؟ إنني إن كنت أحدثك عن هذا المقال، فلأنه يثير اهتمامي، بحتمية الأمور، لأجل مهنتي : الكتابة، محاولة أن أكتب لا ما ندعوه مسكوتاً عنه فسحب، بل وإظهار سابقية للتماثيل والمظاهر، تتجاوز كل مفهوم للأصل. كتابة بدون موضوع، وإذا كان الموضوع سراً، فهو مثل السر، بمعنى أننا لا يمكننا أن نقول عن السر إنه هذا، أو ليس هذا، أو إنه مخفى، أو متجل كلياً، بالعكس، أو إنه قابل للقول، أو متعذر القول. عن السر : انبثاق التمثال. وإن هذا الاصطناع الخفي، تحديداً، أن نكتب من غير موضوع، ومن غير أن نعود إلى الينابيع، وطرد للعائدين، والأسماء بطريق الجمع أو التفريق، وكل الكيفيات، أن نكتب من غير موضوع، بكل اللغات، وشذرات اللغات (المتوهمة). لاشيء يعود، وإن عاد، فليس في صورة دائرة : ميتافيزيقية، أو لاهوتية، لا يهم! إن ههنا شيئاً من أنت، وما يشبه الصمت في الصمت، صمت يتظاهر لكي يتكلم عن لاشيء، ولكي لا يبلغ شيئاً.
وعليه، فإنني أرى فكرة الطرس نفسها، تناسب هذه المحاولة لاستباق التماثيل من أجل ألا نعود إلى الأصل. فما اللغة بالأمومية، ولا بالأبوية، كما هو القانون. لم أوضح وجهة النظر هذه، للانتقال من القانون إلى اللغة الأم. وأكثر من ذلك، إنني على اقتناع أننا ينبغي لنا، ونحن بصدد المشكلات المتعذرة الحلول، أن نستمسك بوضوح يعاني، وقد عانى، وأن نتخفف من كل ثقل أصلي، وننذر أنفسنا لفكر آخر ينبثق.
لذلك، كان مطلع هذه السنة خيراً عليَّ. وتذكر اليوم الأول للقائنا؛ فقد أهديتك كتيبي عن «ألف ليلة وليلة ثالثة». كانت إشارة. وإن مبدأ شهرزاد، الذي حاولت أن أحلله، أجد له أشباهاً ونظائر عند ذلك الكاتب الاستثنائي، أقصد موريس بلانشو. وأما من جهة أخرى، ففي كتابه «حوار لامتناه»، التقطت ما يلي : «... أن تتكلم أو تقتل، فالكلام لا يتمثل في الكلام، بل يتمثل أولاً في إطالة حركة الأوْ، فهي التي تؤسس للتناوبية، بأن نتكلم دائماً انطلاقاً من ذلك الفاصل بين الكلام والعنف الجذري، الذي يفصل الواحد عن الآخر، مع الإبقاء عليهما في علاقة تعاقبية» (ص. 88). وقد قرأت، في ما بعدُ، ذات مساء، قصة للكاتب نفسه، هي الموسومة «السامق»، وهي تنتهي بهذا المشهد المروع : «وإذن، فقد جثا، واستل مسدسه. ثبتت الفرضة التي يتسلل منها ضوء النهار. كانت تنظر هي أيضاً إلى السلاح، فكنت أعرف أنها طالما لم ترفع عينيها، سيكون لدي متسع من الوقت. أبقيت عيني مغمضتين، لا أسمع شيئاً. بتؤدة، انتصب السلاح. نظرت إليَّ وابتسمت، وقالت : «إذن، وداعاً». حاولت أن أبتسم، أنا أيضاً. لكن فجأة، تجمد وجهها، وامتدت ذراعها من العنف، حتى لقد قفزت لأصطدم بالحاجز، وأنا أصرخ : - الآن، الآن أتكلم».
نعم، إن مطلع هذه السنة يبتسم لي. وفرحة، فرحة مسحورة تأخذ بي لهذا الخيار. إنني أشتغل وفق فكر مختلف، فكر ما هو بالحكيم ولا المجنون، نوع من فلسفة الزندقة، والطيش الفادح للأشياء أو الشخصيات أو الأشخاص الذين يشيرون إليَّ. إن الكارثة الأورفية ستقع، وأنا أعيش، وأكتب ثملاً من «ألف ليلة وليلة رابعة». ذلك هو المستجد الذي تحمله إليَّ هذه السنة. أحييك.
***
باريس، 28 يناير 1982
عزيزي جاك،
وصلتني رسالتك الأخيرة لحظة أن طُلِب مني أن أتوجه إلى كبيك لملاقاة بعض زملائي المحللين النفسيين. فها أنذا أبعث إليك بهذه الأسطر، قبل ثمان وأربعين ساعة من مغادرتي لفرنسا. وقد عدت، في أثناء ذلك، إلى قراءة رسالتك مرات كثيرة كأنها معلم يهديني السبيل التي فيها انخرطت. ثم أنني لم يكن في نيتي أن أتحدث، خلال هذه الرحلة، عن اللغة، بل حررت نصوصاً عن أشكال الفساد المؤسسي، وعن فرويد، وكلمته الروحية الأخيرة (موسى والوحدانية)، وفي الأخير عن المسيرات والمسارات التي يبدو أن الأحياء إليها منذورون.
سنكون، حسبما تقول، في ما يتعلق بالتأويل (في نص لا أجد له بعد مرجعاً...) بصدد «مباعدة تمزيقية في في صميم المتعة التي تقيمها الكلمات في ما بينها أثناء الانتقال من لغة إلى أخرى».
فأي صلة تقيمها بين ذلك التمزيق وبين الفرضية النظرية التي جاء بها لاغاش؟ يبدو لي إن هذا الأخير يطرح مسألة ما أسميه «جن اللغة»، التي يطيب لي أن أتصورها في شكل إيروس من البرونز جاثم فوق عمود مقام في موقع كان لقلعة دُكت، لكن اسمها سيظل يُتناقل بفضل ذلك النُّصب. إن جن اللغة يصدر عن تلك اللااختزالية التي تحدثت عنها. لكن ما سبيلنا إلى أن نسمع هذا الجن، ما لم نقم بانتقال يخلق النسبي بفتحه إمكانية الكتابة، انطلاقاً من شذرات يعاد ابتعاثها على الدوام في المتاجرة مع الآخر. ثم أليس هو صمتاً رهيباً في الأحادية اللغوية المطلقة؟ وأخيراً، هل تكون الأحادية اللغوية المطلقة شيئاً قابلاً لأن يُتصور؟ أشك في ذلك.
شيء آخر : لقد أردت أن أقول لك إن لقاءنا في الرباط قد مكنني أن أربط ما كنت قد تركته جانباً خلال بضع سنوات، وأن أنتهي منه، كذلك، بشيء من الالتصاق. فلقد خرجت من الرباط شديد التأثر من اللقاءات التي أجدتَ في حبكها وتنطيمها. فهذا جعلني أقرر أن أنشر نصاً في «المجلة الفلسطينية»، وذلك شيء كان يمكنني أن أقوم به في غير ما إدراك ولا قصد منذ عشر سنوات. فأنا اليوم أنجزه... اليوم في تأن وبطء شديدين.
وبشأن لقاء الصعود، فإنني أركب رهاناً أن أجمع أشخاصاً قد توفرت لديهم تجربة الكتابة. ويتمثل التعاقد في أن يأتي كل واحد منا بنص قد كتبناه سلفاً، ويكون يستشرف نقطة الوصول التي نؤمل أن يكون حديثنا منها. وينبغي أن تكون العروض والمداخلات شديد القِصر، لكي تفسح المجال للنقاش. وسوف نخصص اليوم الأخير من ذلك اللقاء لجمع (التقاط) القصاصات، وربما قمنا بتوزيعة جديدة، لأنني أتصور لتلك القصاصات أن تكون هي نقاط الالتقاء (التي أتوقع أن تكون كثيرة) بين المشاركين غير المتجانسين. ولك أن تتصور مدى حرصي على أن تشاركنا هذه التجربة (التي ليست، كذلك، بالغريبة عن لعبة «الجثة اللذيذة»... وقد زحزحت درجة).
سأعود الآن إلى ما كنت فيه من عجلة. إنني مضطرب قليلاً على الدوام، بفعل تلك الأسفار. لكني صرت أجدها تزداد لي لزوماً بتوالي السنين. ولربما حدثتك في رسالة قريبة عن كتاب، «جان ذات الكلاب»، فلقد أثارني كثيراً.
***
باريس، 28 يناير 1982
عزيزي جاك،
وصلتني رسالتك الأخيرة لحظة أن طُلِب مني أن أتوجه إلى كبيك لملاقاة بعض زملائي المحللين النفسيين. فها أنذا أبعث إليك بهذه الأسطر، قبل ثمان وأربعين ساعة من مغادرتي لفرنسا. وقد عدت، في أثناء ذلك، إلى قراءة رسالتك مرات كثيرة كأنها معلم يهديني السبيل التي فيها انخرطت. ثم أنني لم يكن في نيتي أن أتحدث، خلال هذه الرحلة، عن اللغة، بل حررت نصوصاً عن أشكال الفساد المؤسسي، وعن فرويد، وكلمته الروحية الأخيرة (موسى والوحدانية)، وفي الأخير عن المسيرات والمسارات التي يبدو أن الأحياء إليها منذورون.
سنكون، حسبما تقول، في ما يتعلق بالتأويل (في نص لا أجد له بعد مرجعاً...) بصدد «مباعدة تمزيقية في في صميم المتعة التي تقيمها الكلمات في ما بينها أثناء الانتقال من لغة إلى أخرى».
فأي صلة تقيمها بين ذلك التمزيق وبين الفرضية النظرية التي جاء بها لاغاش؟ يبدو لي إن هذا الأخير يطرح مسألة ما أسميه «جن اللغة»، التي يطيب لي أن أتصورها في شكل إيروس من البرونز جاثم فوق عمود مقام في موقع كان لقلعة دُكت، لكن اسمها سيظل يُتناقل بفضل ذلك النُّصب. إن جن اللغة يصدر عن تلك اللااختزالية التي تحدثت عنها. لكن ما سبيلنا إلى أن نسمع هذا الجن، ما لم نقم بانتقال يخلق النسبي بفتحه إمكانية الكتابة، انطلاقاً من شذرات يعاد ابتعاثها على الدوام في المتاجرة مع الآخر. ثم أليس هو صمتاً رهيباً في الأحادية اللغوية المطلقة؟ وأخيراً، هل تكون الأحادية اللغوية المطلقة شيئاً قابلاً لأن يُتصور؟ أشك في ذلك.
شيء آخر : لقد أردت أن أقول لك إن لقاءنا في الرباط قد مكنني أن أربط ما كنت قد تركته جانباً خلال بضع سنوات، وأن أنتهي منه، كذلك، بشيء من الالتصاق. فلقد خرجت من الرباط شديد التأثر من اللقاءات التي أجدتَ في حبكها وتنطيمها. فهذا جعلني أقرر أن أنشر نصاً في «المجلة الفلسطينية»، وذلك شيء كان يمكنني أن أقوم به في غير ما إدراك ولا قصد منذ عشر سنوات. فأنا اليوم أنجزه... اليوم في تأن وبطء شديدين.
وبشأن لقاء الصعود، فإنني أركب رهاناً أن أجمع أشخاصاً قد توفرت لديهم تجربة الكتابة. ويتمثل التعاقد في أن يأتي كل واحد منا بنص قد كتبناه سلفاً، ويكون يستشرف نقطة الوصول التي نؤمل أن يكون حديثنا منها. وينبغي أن تكون العروض والمداخلات شديد القِصر، لكي تفسح المجال للنقاش. وسوف نخصص اليوم الأخير من ذلك اللقاء لجمع (التقاط) القصاصات، وربما قمنا بتوزيعة جديدة، لأنني أتصور لتلك القصاصات أن تكون هي نقاط الالتقاء (التي أتوقع أن تكون كثيرة) بين المشاركين غير المتجانسين. ولك أن تتصور مدى حرصي على أن تشاركنا هذه التجربة (التي ليست، كذلك، بالغريبة عن لعبة «الجثة اللذيذة»... وقد زحزحت درجة).
سأعود الآن إلى ما كنت فيه من عجلة. إنني مضطرب قليلاً على الدوام، بفعل تلك الأسفار. لكني صرت أجدها تزداد لي لزوماً بتوالي السنين. ولربما حدثتك في رسالة قريبة عن كتاب، «جان ذات الكلاب»، فلقد أثارني كثيراً.
***
الهرهورة، 10 أبريل 1982
عزيزي حسون،
أجيبك إذن إلى رسالتك ليوم 28 فبراير (الأخيرة)، فيما أستعد، أنا أيضاً، للسفر إلى الولايات المتحدة. أحس كأنني نقِلتُ، بخفة، بين ثلاث قارات؛ ذلك بأنني قد عدت من باريس منذ وقت قريب.
في هذا الصدد، تستثير خيالي استعارة طفوِّ القارات تستثيرني. وحتى لقد قرأت لبعض المتخصصين في هذا المضمار؛ وإخال أن القارات توجد في منعطف من تاريخها. والحقيقة أنني انجذبت، وليس بطريقة روائية فحسب، إلى الظواهر الطبيعية الهائلة، من قبيل الزلازل. ولكي أعود إلى استكمال الحديث بشأن جني اللغة، الذي تتحدث عنه (والإيروس البرونزي)، سأقول لك إنني أريد أن أبتدئ، ذات يوم، قصة عن أحد الشعراء الذين أحبهم في موضوع هذه الاستعارة. فأشرح، وأسوق الطرفة. وقد أهدتني صديقة هايتية علبة فودو، قد حوت، في ما يبدو، جني الزلزال. ولا حاجة بي أن أقول لك إنني نادراً ما أفتح تلك العلبة. أحياناً، أنظر إليها بريبة وحذر. ومع ذلك، فإن تلك العلبة قد تكون هي ذلك «الجن الودود» الذي تحدث عنه غوته.
هذه الرسالة ستكون وحيدة، ضائعة.
أكتب قليلاً جداً هذه الأيام. أشعر أني بحاجة إلى استراحة. لقد أعطيت الكثير للكتابة، من غير أن أعرف ماذا أعطتني على وجه التحديد. لقد صرت الآن، أكثر من أي وقت مضى، أرتاب في قوتها التدميرية، إنني أذرع أراضيها الملغمة. أن أمضي متئداً، نعم، أن أنضج مع اللغة، وأشيخ معها، نعم، أن أبحث وأبحث، عن النشيد الذي خرس. فتراني، قبل أن أنام، كثيراً ما أقرأ قصيدة، وكأن الشعر سيسهر على منامي، ويرعى أحلامي، وينحت في نسياني شكل البحث عن تلك الأحلام.
***
29 أكتوبر 1982
عزيزي عبد الكبير،
لقد حاولت، في بعض الأحيان، أن أتصل بك خلال مقامك في باريس، فما أفلحتُ. ولقد أسفت للأمر كثيراً. إن ذلك اللقاء مع سيرتو، ذات مساء، في بداية الخريف، يختزن لي الحرارة الودية للالتقاءات الأخوية.
لكني رجل ميلادي. لذلك، كنت أتمنى في ذلك الصباح الغائم من شهر أكتوبر، بعد ليلة قصُرت بفعل حلم غريب، رأيت فيه القاهرة، ولندن، ونيويورك، وباريس، والرباط والإسكندرية، وقد صارت أحياء في مدينة واحدة، أن أحتفل بلقائي الأول بالمغرب.
وسيقيض لي أن أكتب إليك من جديد.
وكذلك، سأقرأ لك بمتعة.
طابت أوقاتك
جاك حسون
***
السبت مساء 6 نونبر 1982
عزيزي الخطيبي،
إنني مبتهج أن أراك مرة أخرى في شهر دجنبر. ولربما يكون أطول من اللقاء الأخير : ذلك ما أؤمل.
ليس هنالك ما يدعو إلى العجلة (وإلا فالقليل من الأمور)، كما قلت، ما عدا أن نحب بصيغة المضارع. صيغة ظللت أسمعها وقتاً طويلاً، ومنذئذ وهي لا تفتأ تشغلني... أن نحب بصيغة المضارع... أعتقد أن العالم يموت من استحالة أن يحب بصيغة المضارع. لكن ينبغي أن نجرؤ على التخلي عن قنبلة أوهام المستقبل وارتكاسات الماضي.
طابت أوقاتك
جاك حسون
***
يناير 1983
عزيز الخطيبي،
أمضيت بضعة أيام في البندقية، التي سحرتني بكل شيء فيها. فقد رأيت فيها بعض العائدين (آخر سلالة أباطرة بيزنطة : كلا! فما أنا بالمتهلس، على الرغم من أن عرضهم كان مهلسة)، فوعيت بحبي المتعدد للبقايا.
وسوف نعود بالحديث إلى هذا الأمر.
في انتظار أن أقرأ لك عن قريب
جاك حسون
***
مالطا، عيد الفصح 1983
عزيزي عبد الكبير،
إن مرورك بباريس يتمد ههنا. بفعل أسماء المدن، لكن وكذلك، لأن باسكال تنكب على تصحيح الكلمات المنقولة حرفياً في مداخلتك. وهي مداخلة تظل، برغم الزمن، محافظة على قوتها. نعم، ينبغي لنا أن نعود إلى استئناف تراسلنا. وأقترح عليك، لاستئنافها، هذه الصورة.
لقد وقعت، إذ أنا في مارسا، على المقبرة المسماة تركية. تلك المقبرة التي تضم المقبرة اليهودية والمقبرة الإسلامية (فالناصريون يعتبروننا جميعاً أتراكاً... أي مملوكين للديوان الإمبراطوري!). ورأيت القبور اليهودية مولية رؤوسها قبَل الشرق، والقبور الإسلامية قبَل الجنوب الشرقي.
ولو قيض لمراسلاتنا أن تُنشر ذات يوم، فإنني أقترح أن نسميها «الدرجة 45» : نجمية كتابية غريبة ترسم الحضور والتلاشي، والعربسي والمسماري؛ تختلط فيها المعرفة، والكتابة والقراءة في وصية لا تنعدم فيها المتعة : (هل تتذكر، في هذا الصدد، اللقاء الذي كان لي بزملائي من القاهرة من طائفة القرائين؟).
إننا نشترك في الانشغال بالاختلاف والمتعة التي نجدها في الدهشة نجدها في كلام النساء.
جاك حسون
***
الرباط، 19 أبريل 1983
صديقي العزيز، أكتب إليك في عجالة، وإيجاز، رداً على إشاراتك التي أرسلتها من مالطا. ويقول المثل الشعبي الفاسي : «الله يجيبك إلى مالطا بلا فراش ولا غطا».
لكني موقن أنك تستطيب الحرارة.
بلى، بلى، إن مراسلاتنا قد لقيت نوعاً من الاعتراض، وإن أعد له في مكان آخر. ثم إنني أود أن أبقى ملتزماً الرسائل الأولى، وملتزماً الاتفاق الأصلي، الذي هو اتفاق على قدر كبير من الخصوصية، لأن ما سنكتب يكون، مسبقاً، كتاباً مفتوحاً، أو كتاباً عمومياً، وكأن خصوصية علاقتنا ينبغي أن تعرض أمام الكتابة، وأمام شكل من التخيُّل الكتابي.
لم أعد قراءة رسالتك في الوقت الحالي، وإنما أجيبك بوحي دافع لا يقاوم. إن تلك الصورة، صورة المقبرة تستدعي لديَّ أسئلة كثيرة عن طوبوغرافيا الموت. ولقد وددت لو تكون المقبرة الإسلامية ماتت في نفسي، وأن توقع منقوشتي (وذلك شيء حدث من الناحية الوظيفية) في مكان غريب عني، اللغة الأجنبية. لكن الأمر يلح، ولا أستطيع فعل شيء. وإن ثمة ذكرى تعاودني عن مقبرة يهودية في الجديدة، المدينة مسقط رأسي. فقد كنا، إذ نحن أطفال، نقصدها لنسرق من القبور رفاتها. فنحن نسرق تلك الرفات، ونعيد بيعها، أو نصنع منها ألعاباً بريئة أو مرعبة، لعبة ببقايا أولئك الذين لن يبقوا. لكن نعود ? بواسطة النص ? بيننا، ومعنا أصدقاء أخرون، من أصل يهودي.
والحال أن دائرية الموت المزدوج والحياة المزدوجة، الانشقاق الأصلي الذي قام به النبي محمد، أجده ثانية في استيهاماتي. لكن هاك كيف أشتغل على تلك الاستيهامات : تارة أفكر الماوراء (البقاء أخيراً) كعمل قد تم وتحقق : أن أنزل (أكتب بالأحرى) الجنة والنار في صورة مثالين ينبغي طردهما من على الأرض (ومن ههنا مصدر ذلك المجهود الباطل لجعل الماوراء، ما وراء لانهائية اللغة) : أو، وأحياناً، وبالموازاة، أن أغير المكان المتخيل للموت، أو بالأحرى الوفاة؛ كأن أفكر، مثلاً، مع الطاويين، في الفراغ الذي يفصل بين «الين» و»اليانغ». عمل الموت كتنسيق للأشكال، لعبة تحاول أن تغوي الحياة، وأن تتركها تقيم حيث يمكن لها أن تندفع في جنونها، وفي عتهها (وإنها لكلمة غريبة، هذه «العته»!).
كنتَ في مالطا. فهل وجدت أشكالاً منسية لذلك الظاهر اللاشكلي، تلك الرطانة التي تميز تلك الجزيرة (فما أكثر المعارك والصراعات المجمدة هناك، تلك الإشارات التي ترسلها إلي)؟
شيء آخر : إن اليهود (الفرنسيين) اليساريين يدعونني إلى المشاركة في ندوة يعقدونها أواخر ماي. وسأقبل دعوتهم، وسأشتغل وإياهم. أحييك، وأشكرك بما أرسلت إلي من البطائق البريدية الموحية شديد الإيحاء.
ع. الخطيبي
***
باريس، 7 ماي 1983
عزيزي عبد الكبير،
لقد التهمني الوقت، وكأني سجين في فضاء كروي لساعة دقاقة يتغير على وقعها القدر. ففي بعض الأيام، يفزعني ذلك التدمير البطيء، إلى حد أنني قد حلمت أن «شيخوختي» تكلمني في صورة كائن حي. حقاً إن ذلك قد حدث لي بعد نهار منهك، قد كرسته لتنقيح مداخلتي عن «الصحراء»، تلك الكلمة التي انتهى بي الأمر إلى أن أتصورها، مجازياً، في صورة عطفة لا يمكن لأحد أن يستغني عنها، لكي يستطيع الخروج من أسطورة الأصول ومن بلاها وعتاقتها.
إن اجتماع هاتين الصورتين المفارقتين قد تركني في حلم، جعلني أحلم.
إن اعتراض مراسلاتنا قد حدث بالفعل، كما قلت. لكن من بمقدوره أن يعرف نقطة الاصطدام في سلسلة اللقاءات الدالة التي مكنتني من أن أضع بعض توقيعاتي، لا في أسفل الرسائل، بل على نحو ظاهر لائح؟
ربما أحكي لك، في يوم من الأيام، عن لقائي بشيخ شيوعي مصري، يحمل شبيهاً باسمي حسونة، واسمه الشخصي محمد، قد عرف ستالين وتروتسكي سنة 1922 في جامعة شعوب الشرق في باكو.
إن مثل تلك اللقاءات يحمل علامة، لا الصدفة وحدها، بل يحمل علامة حتمية تتجاوز اللغة، وتتجاوز تمتماتنا الأولى. ومن ههنا تأتي نظرية الدال، بما هي حاجز، وواقية (من اللاوعي «الجمعي» وظلاميته).
فأي ميراث يسمح لي اليوم، بالقول إنه من غير «يهوديتي» لن يكون بمقدوري أن أسمع عربيتي، وإنه بدون عربيتي، لن تكون يهوديتي إلا شيئاً باطلاً. ولا اعتبار بحشد الصور القادمة من أغوار التاريخ، ولا بسحر السياسة.
إنني أعزو، بالفعل، إلى هذا المسار أو ذاك أنه مكنني من تكوين ما أعتبره ميراثاً وشيئاً اقتتاحياً معاً... لكن ربما كان رفضه البات شيئاً وهمياً، وجسوراً وغير مجد معاً.
إننا في هذه الرسائل، نفتح قليلاً باب قصصنا. وأعتقد إنها تدفعنا إلى الاشتغال كثيراً (بغير وعي منا). ولقد سمحت لنفسي أن أقول «نحن»، حيث كانت «أنا» تتكلم.
فهل هي الدارجة الإسكندرية تعود في لبوس الفرنسية لتتسلط عليَّ؟ أم تراني أعزو إليك هذا الإلحاح الذي أحسه وقاداً في دخيلتي؟
سأراك عن قريب في باريس. وسيكون لي هذا الأمر مبعث سرور كبير.
أحييك
جاك حسون
***
الهرهورة، 12 أكتوبر 1983
بلى، بلى، يا عزيزي جاك، لقد وصلت رسالتك. وهي تبعثني معاودة الكتابة. فأنت تحسن إذ ترسل إليَّ من أخبارك، بطريقتك الخاصة. تبعثها راكضاً. تعرف أن نيتشه كان يستحسن أن نكتب ونحن نرقص. فلتتصور، إذن، قارئاً يرقص، بدوره، فيما يقرأ.
لم أكد أكتب إلا إلى بعض اتلأصدقاء : بطاقتان بريديتين، أو ثلاثاً، منذ 24 يوليوز. أؤلف، أناً أيضاً، كتاباً، سأحدثك عنه ذات يوم. بتأن وهدوء. لأفسح لما هو خفي، ولما يوجد على السطح، أن يأتي إليَّ. ستكون دراسة أخرى عن «الغريب».
شرعت لتوي أفكر في إبليس، وأنا بصدد تمثل الجنون في الإسلام. غير أنني أرجأت إتمام هذا المشروع، وعندما سيسعفني الجهد والطاقة لتناول هذا الضرب من المشكلات (الشيطانية)، سأعود لاستكماله : ربما. إنني أهتم أولاً، لحياتي، ولحالاتي النفسية، وبعد ذاك : الكتابات، التي تأتي بتوالي السنين. ثمة، إذن، نصوص موحاة، بمعنى أنها نصوص تم الاشتغال عليها وقتاً طويلاً. وأنا، مثل فاليري، وكتاب كثر، لا أومن بفعالية الحماس، إلا إذا رافق الحماسَ تفكير يحصره، ويتيح له أن يفكر، لا أن ينتهك ديونيزية ما، أو دلفية ما، خارجة من أحلام يقظتنا. وسأكتب، وأكتب، نعم، بهذه الطريقة. ثم إن ثمة نصوصاً منقضية، تنتهي بقوة الكلمات، في ما يتجاوزنا. انقضاء، فاستيحاء : تعارض غير مألوف كثيراً في الحقيقة. هل نبحث عن شيء آخر؟ مثلاً، مقياس غير المسموع، لا المسكوت عنه، بل غير-المسموع. أن نمد إليه ألف أذن، ونوليه مسمعاً للترجيع والالتقاط، ينتقي فيما يرجِّع ويلتقط، في آلة الكتابة. لا الكلام الداخلي (داخل ماذا؟)، ولا الخارجي (التقليد، والتكرار، والهمس)، بل شيء يتكون، شيء تكون في كثافة خرافية، تطلق طاقتنا الحقيقية. بما يسعف الحياة أن تظل على مقاومتها (السديدة) للتدمير الذي يزرع الصمت في الكلام المنخرق بهذا الصمت نفسه، الذي يشرع في الكتابة في كل مرة : إنني أبدأ.
ليس من إبداع. بل مزيد من الصنعة، ومعرفة تزداد عمقاً بالعمليات التي ترد الكلمات بعضها على بعض، في استنساخ يتضمن قصوره، ويصدر خشخشات دالة على تفككه. إن الإبداع يعود إلى كلام الإلهين الغائبين، كما يقال.
إنني أحس تلك الغرابة الأصلية في الكتاب. لذلك، أجد متعة أن أكتب إليك في مفرق الطرق، وقلب لجميع الكتب المقدسة التي سممت حياتنا، أو على الأقل ذلك القسم المسمم لا يزال يسخر وسيلة للاحتقار، والحروب والإبادة الجماعية. كذا أقرأ ما يسمى الصراع اليهودي العربي. لكني أفكر، في الواقع، في الوقت نفسه، في شيء آخر، تعنيناً معاً. استراتيجية النص المدوَّن، وفقاً لحركيته، ولاستراتيجية الألعاب العالمية. فما معنى أن يكون المرء الآن يهودياً، إلا أن يكون معناه نهاية أفق للكتاب، نهاية أفق معين، كثيراً ما يتعذر عليه أن يتعرف على نفسه. أن تكون يهودياً، ومرة أخرى، في النص الذي يتجاوز الكتاب. ولذلك، فبقدر ما يوجد من اليهود، توجد قراءات، مناجزة، خارجية عن الكتاب نفسه. ويبدو لي أن جابيس، وليفينا، وبلانشو لا يزالون منحصرين في تقديم قاصر للكتاب والشعب. إن العولمة تتطلب لغات جديدة. فهل بمقدورنا أن نسهم، ولو فالقليل، في التمكين للأخوة بين الأحياء؟
أحييك
ع. الخطيبي
***
ميرابيل، 30 أكتوبر 1983
عزيزي عبد الكبير،
هذه المرة أنا لا أركض. وإذا كنت أرقص فهو رقص داخلي : إنني أختلي بنفسي، لبضعة أيام، في أرديش، لأسترد أنفاسي، لأن هذا الدخول كان غنياً بالأحداث. ندوة لحلقة فرويد «عن الصدمة النفسية»، وندوة أخرى كانت لي فيها مساهمة أسميتها «منفى المنفى»، عالجت فيها، بالتنقل من موضوع إلى آخر، مسألة «الوقوع ضحية». الوقوع ضحية لكره (- الأجانب)، والوقوع ضحية للمنفى، بالانجراف بشكل متصالب من ضياع رسالة مفقودة، كذلك. ومن غريب أن الاستقبال الذي خُصَّ به هذا النص (استقبال التحامي حار) قد آلمني.
وحتى إذا كنت لا أجهل بأن... فبالالتزام بنظام القوانين التي تتحكم في الرسالة. إن الأمر يأتي من مكان بعيد كبعد ما تسميه «مستوحى» (لقد أعجبني كثيراً ذلك التمييز بين «الاستيحاء» و»الحماس»). «مستوحى»، إنها كلمة تجعلني أتصور أنفاس طفل ينام في غرفة مظلمة مواربة الباب، وتتناهى إليه أصوات الكلمات والأصوات التي لا يميزها، ولا يهتدي إلى معانيها. وسوف لا يفتأ الأمر يقلقه ويدفعه إلى العمل. إنني أعيد قراءة رسالتك في هذه اللحظة، وإنني أجد هذه الفكرة معروضة، بصيغة مختلفة، في الصفحة «3» (التي هي في الحقيقة الصفحة «2»، فقد كتبت الرقم «3» مرتين). تراني قرأتها ونسيتها؟ أم أكون استعدت ما ذكرت من قبل أن تعبر عنه؟ شيء لن يتأتى لنا أن نعرفه أبداً، إلا أن يكون لقاء مرتجلاً وغير مرغوب يخلق، أحياناً، أثاراً كتابية غريبة. وينبغي القول إن كلمة «طفل» تعود إليَّ بقوة. فأنا، منذ بعض الوقت، أحدث نفسي أن مصادر السفالة البشرية، ومصادر العصاب الفردي، العصاب الذي يتلف الأطفال، متأت من أننا ننسى أن آباءنا كانوا أطفالاً. فنحن نستطيب أن نراهم كباراً أو شيوخاً. مخيفين أو مفلسين. لكن لا أطفالاً أبداً...
إن «أنا أكتب» تندرج في ما بين هذه المعرفة المجهولة والمحتوى الذي لا يعرف به أحد. وذلك مصدر الطابع الموار لهذه اللحظة؛ حيث ترتسم الكلمات الأولى لكتاب فوق صفحة بيضاء. وذلك، أيضاً، هو سبب الكبت الذي يتكبده الذي يؤمن بتلك ال «في البدء»، والذي يحلم بكتاب مثالي لن يقيض له أن يرى النور يوماً. إنه يؤمن بالله، ذلك الكاتب.. الذي تظل الكلمات مجمدة في ذاته إلى الأبد.
(توقفت عن الكتابة في هذا الموضع... فقد لزمني أن أقوم ببعض الأشرية، أو ملاقاة صديق، مدير «متحف للغرائب»، ليطلعني على بعض اللوحات، تصور الجنس ? جنس من غير كلام - وقد صارت بيده السلطة. الرسام الذي رسم تلك اللوحات، وقد أصيب اليوم بعمى نفسي، يلاقي عناء في التخلص من هيجانه)...
وذلك هو مبعث سؤالنا، الذي يعود بإلحاح : ما هو المؤلف الذي لا يعرف أن يروج لإنتاجه في وسائل الإعلام بالعمل، ولا يفتأ يقدم ? في صيغة غريزة جنسية ? لا تتوقف، ما يخترقه في صورة تأثيرات أولية، أوفي صورة استيهامات؟ غربال، أو كائن منثقب، لا يفتأ جسده يستشعر الضربات المرتدة لهذه التفريغات الكتابية التي لن تشكل قط عملاً أدبياً. إلا أن يلوذ بالله، ويصطنع من نفسه ناسخاً لكلام يُعزى إلى الألوهية.
لقد مضت علينا قرونٌ عديدة نسمع هذا الكلام. فقد وضعنا مصيرنا بين أيدي هؤلاء النساخين. وإن أكثرهم لا يريدون اليوم أن يروا في الأمر غير الظاهر المستوحى، في جهل بالأساس الطقوسي العنيف الذي يؤطر به النص من جديد.
أن تكون يهودياً أو مسلماً اليوم : ذلك وهم، مثلما نقول عن هوى، أو عن حب. أنه انخراط في سلالة، يُتبين، في الوقت نفسه، أنها مجنونة. لماذا؟ لأن صيغ هذا الانخراط تدخل، في معظمها الأعم، في الرومنسية. فأن تكون يهودياً اليومَ، هي مسألة خاصة؛ فهي تخص علاقة بنص وقضية عمومية، على شيء من الطيش.
وإذا كان بلانشو وليفينا قد اشتغلا على النص، فبدافع من نوع من القرب. فالأول يجهل بعواقبه الشعبية والحضرية، والثاني يتموضع ضمن التقليد العالم. وأعتقد، من جانبي، أن جابيس يقف عند اكتشاف كتابي. فيجعلني أحلم؛ وذلك مصدر التناقض الذي يحدثه عندي.
إن هذا التراسل، الذي يتواصل، يسمح لي، استطراداً، بالحديث عن الواقع اليهودي، غير حديث السياسة أو حديث الأهواء. ويبقى أن الإسلام، يبقى، بالنسبة لي، لغزاً. ولطالما استهواني، خلال هذه السنوات الأخيرة، أن أطرح على نفسي السؤال التالي : ما الذي يجعل القبائل اليهودية في الشرق الأوسط، ثم في شمال إفريقيا أقل انقلاباً إلى الإسلام، والحال أن هذه الديانة كانت، من الناحية اللاهوتية، قريبة جداً إليهم؟ وأفترض أن الإنشاء النصي الثاني (التلمود) هو الذي أقام الحاجز الفاصل بين القرآن والتوراة؛ حيث صارت المواجهة التي يُدعى إليها الإنسان، لقاء مع المتعذر تسميته، أو مع اللامسمى.
في مصر بلغ التوجه نحو التوليفية شأناً بعيداً. لكنه كان يتوقف، على الدوام، عند ذلك الحاجز المشهود. وهذا أمر يبرز مزايا التأويل المسنن، كما يأتينا التلمود بمثال له، وعن اندحار القرائين، أقلية الأقلية، أن قبلت بالعيش من غير أي واقية دوغمائية.
وعلى كل حال، فإن الإسلام الحالي في صيغته الشيعية، أو في صورته المحزنة، صورة الإخوان المسلمين، يبعثني على شيء من الاستغراب. وأفترض أن ما نرى هو خيانة لكتابة، وخيانة لعمل كتابي.
وأن نستغرب لأخوَّتنا، مثلما أمكننا أن نفعل (أو أمكنني أن أفعل؟) أمرٌ يفشي الكثير عن مفعول الجنسانية.
واليوم يبدو لي أن تساؤلنا الأول يعبر نصية نواتها وهمٌ. وإن هذا الوهم المسمى «انتقاء» يمكنه التمثيل له بطفل لا يكف يقول لإخوته : «إنني أنا الذي طلبت منه أن يجعلتي أكثر من يحب الناس، فعاقبني، ولم يمانع»... ولقد انخرطوا جميعاً، وبالتتابع، في هذه اللعبة. ألم يأن الأوان، يا ترى، لنسمي هذه النواة باسمها : المُمات؟
فماذا ترى في هذا الاقتراح؟
وتقبل عبارات مودتي.
جاك حسون
***
الرباط، 19 أبريل 1983
صديقي العزيز، أكتب إليك في عجالة، وإيجاز، رداً على إشاراتك التي أرسلتها من مالطا. ويقول المثل الشعبي الفاسي : «الله يجيبك إلى مالطا بلا فراش ولا غطا».
لكني موقن أنك تستطيب الحرارة.
بلى، بلى، إن مراسلاتنا قد لقيت نوعاً من الاعتراض، وإن أعد له في مكان آخر. ثم إنني أود أن أبقى ملتزماً الرسائل الأولى، وملتزماً الاتفاق الأصلي، الذي هو اتفاق على قدر كبير من الخصوصية، لأن ما سنكتب يكون، مسبقاً، كتاباً مفتوحاً، أو كتاباً عمومياً، وكأن خصوصية علاقتنا ينبغي أن تعرض أمام الكتابة، وأمام شكل من التخيُّل الكتابي.
لم أعد قراءة رسالتك في الوقت الحالي، وإنما أجيبك بوحي دافع لا يقاوم. إن تلك الصورة، صورة المقبرة تستدعي لديَّ أسئلة كثيرة عن طوبوغرافيا الموت. ولقد وددت لو تكون المقبرة الإسلامية ماتت في نفسي، وأن توقع منقوشتي (وذلك شيء حدث من الناحية الوظيفية) في مكان غريب عني، اللغة الأجنبية. لكن الأمر يلح، ولا أستطيع فعل شيء. وإن ثمة ذكرى تعاودني عن مقبرة يهودية في الجديدة، المدينة مسقط رأسي. فقد كنا، إذ نحن أطفال، نقصدها لنسرق من القبور رفاتها. فنحن نسرق تلك الرفات، ونعيد بيعها، أو نصنع منها ألعاباً بريئة أو مرعبة، لعبة ببقايا أولئك الذين لن يبقوا. لكن نعود ? بواسطة النص ? بيننا، ومعنا أصدقاء أخرون، من أصل يهودي.
والحال أن دائرية الموت المزدوج والحياة المزدوجة، الانشقاق الأصلي الذي قام به النبي محمد، أجده ثانية في استيهاماتي. لكن هاك كيف أشتغل على تلك الاستيهامات : تارة أفكر الماوراء (البقاء أخيراً) كعمل قد تم وتحقق : أن أنزل (أكتب بالأحرى) الجنة والنار في صورة مثالين ينبغي طردهما من على الأرض (ومن ههنا مصدر ذلك المجهود الباطل لجعل الماوراء، ما وراء لانهائية اللغة) : أو، وأحياناً، وبالموازاة، أن أغير المكان المتخيل للموت، أو بالأحرى الوفاة؛ كأن أفكر، مثلاً، مع الطاويين، في الفراغ الذي يفصل بين «الين» و»اليانغ». عمل الموت كتنسيق للأشكال، لعبة تحاول أن تغوي الحياة، وأن تتركها تقيم حيث يمكن لها أن تندفع في جنونها، وفي عتهها (وإنها لكلمة غريبة، هذه «العته»!).
كنتَ في مالطا. فهل وجدت أشكالاً منسية لذلك الظاهر اللاشكلي، تلك الرطانة التي تميز تلك الجزيرة (فما أكثر المعارك والصراعات المجمدة هناك، تلك الإشارات التي ترسلها إلي)؟
شيء آخر : إن اليهود (الفرنسيين) اليساريين يدعونني إلى المشاركة في ندوة يعقدونها أواخر ماي. وسأقبل دعوتهم، وسأشتغل وإياهم. أحييك، وأشكرك بما أرسلت إلي من البطائق البريدية الموحية شديد الإيحاء.
ع. الخطيبي
***
باريس، 7 ماي 1983
عزيزي عبد الكبير،
لقد التهمني الوقت، وكأني سجين في فضاء كروي لساعة دقاقة يتغير على وقعها القدر. ففي بعض الأيام، يفزعني ذلك التدمير البطيء، إلى حد أنني قد حلمت أن «شيخوختي» تكلمني في صورة كائن حي. حقاً إن ذلك قد حدث لي بعد نهار منهك، قد كرسته لتنقيح مداخلتي عن «الصحراء»، تلك الكلمة التي انتهى بي الأمر إلى أن أتصورها، مجازياً، في صورة عطفة لا يمكن لأحد أن يستغني عنها، لكي يستطيع الخروج من أسطورة الأصول ومن بلاها وعتاقتها.
إن اجتماع هاتين الصورتين المفارقتين قد تركني في حلم، جعلني أحلم.
إن اعتراض مراسلاتنا قد حدث بالفعل، كما قلت. لكن من بمقدوره أن يعرف نقطة الاصطدام في سلسلة اللقاءات الدالة التي مكنتني من أن أضع بعض توقيعاتي، لا في أسفل الرسائل، بل على نحو ظاهر لائح؟
ربما أحكي لك، في يوم من الأيام، عن لقائي بشيخ شيوعي مصري، يحمل شبيهاً باسمي حسونة، واسمه الشخصي محمد، قد عرف ستالين وتروتسكي سنة 1922 في جامعة شعوب الشرق في باكو.
صديقي العزيز،
أعود إلى رسالتك (الأولى) بشأن الله والصوت. رسالتك، واسمحْ لي أن أرفع الكلفة بيننا : ما معنى ذلك؟ أهو تحالفٌ، أم تعاقد مع من ومع مَ؟ فيما نحن نتحدث عن الله، الذي هو اسم لميت، واسم لميت لا يمكن أن يعود. وأما أنا فأقترح فكرة مختلفة : أن نقاطع كلام الله بالتنفس بما لا يعود إليه.
إن ما تقول عن التوحيد شيءٌ يهمني، لكن أين، وفي أثر أي شيء غير قابل ليسمى؟ إنني أنقل ههنا عبارتَك، من أجل التقدم باتجاه مباعدة بين الإلهين، وبين الميتيْن (على الأقل) بيني وبينك. ويبدو لي الإفراد الأشد وداً لا يعود إلى أي شخص. إنه في آداب اللياقة يدل على نية في القرب وعلى رغبة غامضة، وأما في ما عدا هذه الآداب، وفي ما عدا هذا النداء الذي يذهب ويعود في إطار من اقتصاد التبادل (مبادلة رسالة بأخرى، وتخلصيها من الصمت الهائل لذينك الإلهين الميتين، والذي ينبغي، مرة أخرى، أن نحول عنه (وخاصة) السلالة، فيما هي تحمل اسمه. وبودي أن أقول لك «أنت»، في منأى عن أي إله ميت أو حي، «أنت» لا يمكنها بأي حال، أن تعود إليك في كليتها.
إنك تعبر عن ذلك التوجه إلى المؤمن : «أنت الذي في اللغة المزدوجة، اقرأ اسمي ولا تتلفظْه (وتلك هي علاقة اليهودي بالأحرف «ي.ه. و.ه». أنت الذي في اللغة المزدوجة، لأنك حملت اللغة، تأمل الكتابة ولا تتخيلْ (وتلك هي علاقة المسلم ب «الواحد» وبالأثر)».
لست أدري هل تعمدتَ أن تقول ما قلت، أم أنه كذلك مكتوبٌ، فلقد أجدت القول : «أنت الذي». فأنا أراها تترجم القصد و/أو الحذف المثاليين : إنه رفع للكلفة توجِّهه علامة المحايد. وهو ما يشجعني على التقدم نحو قصة ذينك الإلهين واختلافهما، بالنظر إلى أن أصغر اختلاف وأقربه هو، في الوقت نفسه، الأكثر سطوعاً، وكثيراً ما يكون الأشد عنفاً. إن هذه الحكاية الإلهية شيء فائقٌ، ولاشك أنها ستأخذ بأيدينا (اليد المزدوجة) لتقودنا حسب ما تشاء : يد زائد أخرى، يد ناقص أخرى، وتبادل من غير تبادل، واللغة الواحدة.
يغمرني انفعال غريب إذا كتبت الأحرف «ي. ه. و. ه»، وإن عدم التلفظ بها هو، كذللك، شيءٌ من صميم اللغة العربية، التي تكاد، ههنا، تصير صامتة؛ فهي تتنقل عبر لغة مشتركة، ولا تعود لا إلى إلهك ولا إلى إلهي. لغة واحدة، بعد أن ألغيَ برج بابل (إنني أتسلى قليلاً).
وقد يقول آخر إنها غرابة مألوفة، وربما كان ما يثيرني في سؤالي إلى اليهود (وأؤمل أن يكون من غير تضييق) هو أن المسلمين واليهود يكتبون في الكتاب الواحد، من غير أن يعلموا. الكتاب بما هو حكاية عجيبة عن الواحد. ومن غير أن نترجم نوعاً ما كلام إله بإله آخر، يبدو لي من البديهي جداً (وهذه فرضية أقولها بابتسار) أن متخيل هؤلاء التابعين هو سؤال للحرف؛ أقصد أن الكلمة هي المتخيل نفسه، شكل خط وخطاطة الجسد ممثلاً في بعض أنسجة الذات المنفصلة، المرغمة على الاحتفال بالصورة الغائبة بالكلام، وتجريدها، وهندستها في غياب كل وجه، فهو الموت. الصورة التي تختم الكلمة. شيء ما يبدو لي بحاجة إلى حفر في هذا الجانب؛ هناك حيث الصورة المحظورة (من طرف اليهودية والإسلام، كلاً على طريقته)، هناك إذن؛ حيث تلغي نفسها في إنكارها [للآخر]. لا يمكنني أن أومن. فأنْ أقدم جثتي إلى إله غير مرئي أراها فكرة خرقاء. فكرة (هبة) فوق المعتاد. وهلوسة قد صيغت في قصة طويلة. فبعد كل شيء، ليس لليهود والمسلمين من خيار. الكلمة تؤول إلى صورة، والصورة تنتهي إلى كلمة. وفي هذا القلب مكمن مأساتهما.
إنك تذكرني باستعارة العمي المدهشين لدى اليهود الشرقيين، فأولئك اليهود يستحوذ عليهم الكلام الإلهي. وبودِّي لو تحدثني طويلاً في الأمر. إن الواحد منهم يسمى «البصير» (الرائي)، وهذه الكلمة هي من صفات الله الكبرى... مثل هذه الاستعارات الهلسية تحضر في مجموع تاريخ الإسلام، إلى حد أن الزاهدة ربيعة العدوية، بعد أن أنهكها الزحف على ركبتيها حتى مكة، تقول إن الكعبة نفسها تجيء إليها (الصورة تنقلب في الشطح الصوفي : الحب المجنون). وقد كانت تقوله، وقد كان يكفيها : فلم تكن بها حاجة لترى : إن الكعبة عندها هي وحدة الصورة، والمرئي واللامرئي في اسم واحد.
قصة تبدو، قد تبدو، شيئاً مبهماً لأولئك الذين يفكرون بمقولات أخرى. لكن نصك «التلهف الصوفي» ربما أتاح لي الفرصة للحديث في هذا الأمر. إنني أوافقك الرأي أن فكراً فوصوفياً قد بات أمراً لازماً أكثر من أي وقت مضى. لكن من العسير جداً إنشاؤه. قرأت نصك. أقرؤك؟ بين أي لغة ولغة؟ الفرنسية، لغتنا المشتركة، لكي ندور من حول وخارج الكلام التوحيدي، ومن حول وخارج سؤال الواحد، اللاهوتي، والمتصوف، والفلسفي؟ فيا له من عمل عجيب!
انحراف : أن نفكر (أخيراً) نهاية الكتاب بالكتابة لأجل لاأحد، وإلى لاأحد، من خلال لغة «وسيطة»، تتعدى كل برج لبابل تم إلغاؤه. ووسيطة، كذلك، هي صورت «نا» عن المسيحية المصوَّرة في الجسد المسيحي في تمثيله الثالوثي. وإن يكن هذا الثالوث إنما يعود إلى زمن متأخر، إنه ابتكار للاهوت المسيحي الدوغمائي. في الصور الثلاث للوحدانية، نرى تحطيماً وبناء لصورة متشذرة للآلهة الوثنية. فرضية أخرى، أقولها مرة أخرى في ابتسار. إنني أكلمك، وأكتب إليك من غير أن أتفكر في العواقب. بلى، إنني خاطبك بالمفرد.
ع. الخطيبي
***
الرباط، 18 يناير 1982
عزيزي جاك،
أمكنني، أخيراً، أن أقرأ مقال لاغاش عن التعددية اللغوية، والذي يعود إلى سنة 1956 . لقد تناول فيه، بكثير من البيان، مسألةَ العلاقة بين التحليل النفسي واللغة الأم، اعتماداً على كرافت وكتابه «اختيار اللغة وتحليل التعدد اللغوي». هل تعرف بهذا الكتاب الأخير؟ يبدو أنه كتاب ذو أهمية، حسب ما يفيدنا الملخص الذي وضعه له لاغاش.
فقد كتب : «يبدو من التصورات الرائجة، أن التحليل ينبغي أن يتناول اللغة الأكثر قابلية للتحليل، وما تلك، لزوماً، إلا اللغة الأم، اللغة الأولى التي يتعلمها الإنسان. ومن الممكن أن الدخول في الصراعات القديمة والبالية يساعد عليه اللجوء إلى اللغة الأم، فأما من الناحية التقنية، فإن التحليل سيقتضي أن يكون من يحلل لغة من اللغات مجيداً لهذه اللغة». وبناء عليه، فإن لاغاش يكون ههنا يضع تركيباً لمقترحات كرافت : «... إن لجوء المريض إلى اللغة الأم يمنحه إمكانية كبرى للتعبير عن نفسه، ولو كان في هذا الأمر ما يخل بالتواصل مع المحلل، لكن يمكنه أن يصطدم ببعض التعارضات العتيقة البالغة القسوة، وأما لجوء المريض إلى لغة أخرى ثانية مكتسبة، سواء أكانت له لغة استعمالية أو لغة ثقافية، فإنه يمنحه إمكانيات كبيرة لقمع [ذاته]، سواء بما يقع له من الابتعاد عن انفعالاته واستيهاماته، أو بما يقع له من الاستلاب في مثال للذات «غريب»، وربما مكن له اللجوء إلى لغة ثانية، كذلك، أن يقارب عصاباً نفسياً لن تسعف على تناوله اللغة الأم. وبذا، تظهر مؤشرات تقنية لاختيار اللغة، أو تغيير اللغة في أثناء التحليل». وسأعود، في ما بعد، لأستشهد من هذا المقال، بتتبعه عن كثب. فهو مقال كثيف، قد حشد في صفحاته المعدودة مقترحات تبدو لي أساسية. وأما أنا، فلم يسبق لي أن خضعت للتحليل [تصريح تقتصر صحته على ما قبل هذا التاريخ]. لكني أحسني شديد الانخراط في هذه التأملات.
إن كرافت متعدد اللسان (فهو يجيد أربع لغات)، ولاغاش يقول إن اللغة الأنجليزية هي التي تسعفه في أن يقوم بالتحليل في لغة أخرى غير لغته الأم. وتلك وضعية مزدوجة اللسان، لكنه يصرح، في الوقت نفسه، إن معرفته النسبية باللغة الألمانية واللغة الإسبانية تسمح له بأن يستعمل، في بعض الأحيان، تعددية لغوية شذرية، ومحدودة النطاق.
فما هي المشاهدة التي تصير ممكنة في هذه الحالة؟ أسوق من هذا المقال كذلك : «فأما من ناحية اختيار اللغة، فيمكننا أن نميز بين عدة «وضعيات لغوية». في الوضعية الأشد مألوفية، تكون لغة التحليل هي اللغة الرئيسية، عند المحلل، لا عند المحلَّل. وأما في المشهد الثاني، فيسوق لاغاش عدة أمثلة، نرى فيها كيف أن اللغة الأم التي لا تعود تقاوم، ولا تعود بعد سرية، وهي تعود إلى الينابيع، فهو يؤكد على «بداية جديدة». وأما في المشهد الثالث، فيضرب مثالاً بتحليل أثير عليه؛ «النبر الفرنسي في اللغة الأنجليزية»، نوع من الافتتان بالرطانة الأنجليزية، وزواج لغة بأخرى. وفي المشهد الرابع والأخير، يتحدث «عن الدفاع عن طريق عزل المؤثرات وتحييدها»، لكن، كذلك، تظهر لغة المحلل في صورة «لغة للحب».
لن أسوق ههنا المقال كله (فقد أعيد نشره مؤخراً)، لكن هاك الفرضيات التي دافع عنها هذا المحلل النفسي المأسوف عليه : «في التحليل المتعدد اللغة، لا ينبغي اعتبار اختيار اللغة والانتقال من لغة إلى أخرى مجرد عمليات ضبط موضوعية للتواصل اللفظي؛ بل إنها تترجم حركات من المقاومة، والنقل والحياة الاستيهامية للمريض. وربما كانت اللغة الأم، لشدة قربها إلى التنازعات البدائية، هي وحدها القادرة على إتاحة الولوج الكامل إليها». بيد أن طبيعة هذه الصراعات نفسها، يمكنها أن تلفظ اللغة الأم، أو «تمنع» من استعمالها. وأما لغة الانتقاء فهي الأنا المثالي، وهي تحفل، بصفتها تلك، بإمكانيات كبيرة للدفاع والهروب. إن لغة الاستعمال تتيح، في كثير من الأحيان، الإمكانية لإقامة تسوية واقعية. فلو أن مريضاً متعدد اللغات قد حصر نفسه بصرامة في اللغة التي درج على استعمالها، سواء أكانت لغته أو لغة المحلل، كان ذلك الامتناع يوافق انغلاقه أو امتناعه. ولو كان أكثر مرونة، أو لو صار أكثر مرونة، بما يخدم العلاج، فيمكننا أن نشهد عودة للغة الأم، وأن تصير تنازعات فترة الطفولة، في الوقت نفسه، أكثر قابلية للفهم والاستيعاب... إن العودة إلى اللغة الثانية، التي ليست هي اللغة الأم، أو اللغة الأفضل استعمالاً، يتيح، على الدوام، إمكانية للدفاع، لأن كلماتها لا تواكب إلا قليلاً من التداعيات، وقليلاً من المؤثرات. لكن لا يقتصر أمرها على ما ذكرت، فإذا اتفق أن كانت هي لغة المحلل، فإن استعمالها ربما كان، كذلك، محاولة للتقرب، وطلباً للحب. وعليه، فإن التعدد اللغوي عند المحلل يسعفه في التلاؤم مع مختلف أوجه شخصية المريض، وفي مختلف فترات حياته . «فماذا ترى؟ أعلم، لقد قرأت كتابك «شذرات اللغة الأم»، ثم ماذا؟ إنني إن كنت أحدثك عن هذا المقال، فلأنه يثير اهتمامي، بحتمية الأمور، لأجل مهنتي : الكتابة، محاولة أن أكتب لا ما ندعوه مسكوتاً عنه فسحب، بل وإظهار سابقية للتماثيل والمظاهر، تتجاوز كل مفهوم للأصل. كتابة بدون موضوع، وإذا كان الموضوع سراً، فهو مثل السر، بمعنى أننا لا يمكننا أن نقول عن السر إنه هذا، أو ليس هذا، أو إنه مخفى، أو متجل كلياً، بالعكس، أو إنه قابل للقول، أو متعذر القول. عن السر : انبثاق التمثال. وإن هذا الاصطناع الخفي، تحديداً، أن نكتب من غير موضوع، ومن غير أن نعود إلى الينابيع، وطرد للعائدين، والأسماء بطريق الجمع أو التفريق، وكل الكيفيات، أن نكتب من غير موضوع، بكل اللغات، وشذرات اللغات (المتوهمة). لاشيء يعود، وإن عاد، فليس في صورة دائرة : ميتافيزيقية، أو لاهوتية، لا يهم! إن ههنا شيئاً من أنت، وما يشبه الصمت في الصمت، صمت يتظاهر لكي يتكلم عن لاشيء، ولكي لا يبلغ شيئاً.
وعليه، فإنني أرى فكرة الطرس نفسها، تناسب هذه المحاولة لاستباق التماثيل من أجل ألا نعود إلى الأصل. فما اللغة بالأمومية، ولا بالأبوية، كما هو القانون. لم أوضح وجهة النظر هذه، للانتقال من القانون إلى اللغة الأم. وأكثر من ذلك، إنني على اقتناع أننا ينبغي لنا، ونحن بصدد المشكلات المتعذرة الحلول، أن نستمسك بوضوح يعاني، وقد عانى، وأن نتخفف من كل ثقل أصلي، وننذر أنفسنا لفكر آخر ينبثق.
لذلك، كان مطلع هذه السنة خيراً عليَّ. وتذكر اليوم الأول للقائنا؛ فقد أهديتك كتيبي عن «ألف ليلة وليلة ثالثة». كانت إشارة. وإن مبدأ شهرزاد، الذي حاولت أن أحلله، أجد له أشباهاً ونظائر عند ذلك الكاتب الاستثنائي، أقصد موريس بلانشو. وأما من جهة أخرى، ففي كتابه «حوار لامتناه»، التقطت ما يلي : «... أن تتكلم أو تقتل، فالكلام لا يتمثل في الكلام، بل يتمثل أولاً في إطالة حركة الأوْ، فهي التي تؤسس للتناوبية، بأن نتكلم دائماً انطلاقاً من ذلك الفاصل بين الكلام والعنف الجذري، الذي يفصل الواحد عن الآخر، مع الإبقاء عليهما في علاقة تعاقبية» (ص. 88). وقد قرأت، في ما بعدُ، ذات مساء، قصة للكاتب نفسه، هي الموسومة «السامق»، وهي تنتهي بهذا المشهد المروع : «وإذن، فقد جثا، واستل مسدسه. ثبتت الفرضة التي يتسلل منها ضوء النهار. كانت تنظر هي أيضاً إلى السلاح، فكنت أعرف أنها طالما لم ترفع عينيها، سيكون لدي متسع من الوقت. أبقيت عيني مغمضتين، لا أسمع شيئاً. بتؤدة، انتصب السلاح. نظرت إليَّ وابتسمت، وقالت : «إذن، وداعاً». حاولت أن أبتسم، أنا أيضاً. لكن فجأة، تجمد وجهها، وامتدت ذراعها من العنف، حتى لقد قفزت لأصطدم بالحاجز، وأنا أصرخ : - الآن، الآن أتكلم».
نعم، إن مطلع هذه السنة يبتسم لي. وفرحة، فرحة مسحورة تأخذ بي لهذا الخيار. إنني أشتغل وفق فكر مختلف، فكر ما هو بالحكيم ولا المجنون، نوع من فلسفة الزندقة، والطيش الفادح للأشياء أو الشخصيات أو الأشخاص الذين يشيرون إليَّ. إن الكارثة الأورفية ستقع، وأنا أعيش، وأكتب ثملاً من «ألف ليلة وليلة رابعة». ذلك هو المستجد الذي تحمله إليَّ هذه السنة. أحييك.
***
باريس، 28 يناير 1982
عزيزي جاك،
وصلتني رسالتك الأخيرة لحظة أن طُلِب مني أن أتوجه إلى كبيك لملاقاة بعض زملائي المحللين النفسيين. فها أنذا أبعث إليك بهذه الأسطر، قبل ثمان وأربعين ساعة من مغادرتي لفرنسا. وقد عدت، في أثناء ذلك، إلى قراءة رسالتك مرات كثيرة كأنها معلم يهديني السبيل التي فيها انخرطت. ثم أنني لم يكن في نيتي أن أتحدث، خلال هذه الرحلة، عن اللغة، بل حررت نصوصاً عن أشكال الفساد المؤسسي، وعن فرويد، وكلمته الروحية الأخيرة (موسى والوحدانية)، وفي الأخير عن المسيرات والمسارات التي يبدو أن الأحياء إليها منذورون.
سنكون، حسبما تقول، في ما يتعلق بالتأويل (في نص لا أجد له بعد مرجعاً...) بصدد «مباعدة تمزيقية في في صميم المتعة التي تقيمها الكلمات في ما بينها أثناء الانتقال من لغة إلى أخرى».
فأي صلة تقيمها بين ذلك التمزيق وبين الفرضية النظرية التي جاء بها لاغاش؟ يبدو لي إن هذا الأخير يطرح مسألة ما أسميه «جن اللغة»، التي يطيب لي أن أتصورها في شكل إيروس من البرونز جاثم فوق عمود مقام في موقع كان لقلعة دُكت، لكن اسمها سيظل يُتناقل بفضل ذلك النُّصب. إن جن اللغة يصدر عن تلك اللااختزالية التي تحدثت عنها. لكن ما سبيلنا إلى أن نسمع هذا الجن، ما لم نقم بانتقال يخلق النسبي بفتحه إمكانية الكتابة، انطلاقاً من شذرات يعاد ابتعاثها على الدوام في المتاجرة مع الآخر. ثم أليس هو صمتاً رهيباً في الأحادية اللغوية المطلقة؟ وأخيراً، هل تكون الأحادية اللغوية المطلقة شيئاً قابلاً لأن يُتصور؟ أشك في ذلك.
شيء آخر : لقد أردت أن أقول لك إن لقاءنا في الرباط قد مكنني أن أربط ما كنت قد تركته جانباً خلال بضع سنوات، وأن أنتهي منه، كذلك، بشيء من الالتصاق. فلقد خرجت من الرباط شديد التأثر من اللقاءات التي أجدتَ في حبكها وتنطيمها. فهذا جعلني أقرر أن أنشر نصاً في «المجلة الفلسطينية»، وذلك شيء كان يمكنني أن أقوم به في غير ما إدراك ولا قصد منذ عشر سنوات. فأنا اليوم أنجزه... اليوم في تأن وبطء شديدين.
وبشأن لقاء الصعود، فإنني أركب رهاناً أن أجمع أشخاصاً قد توفرت لديهم تجربة الكتابة. ويتمثل التعاقد في أن يأتي كل واحد منا بنص قد كتبناه سلفاً، ويكون يستشرف نقطة الوصول التي نؤمل أن يكون حديثنا منها. وينبغي أن تكون العروض والمداخلات شديد القِصر، لكي تفسح المجال للنقاش. وسوف نخصص اليوم الأخير من ذلك اللقاء لجمع (التقاط) القصاصات، وربما قمنا بتوزيعة جديدة، لأنني أتصور لتلك القصاصات أن تكون هي نقاط الالتقاء (التي أتوقع أن تكون كثيرة) بين المشاركين غير المتجانسين. ولك أن تتصور مدى حرصي على أن تشاركنا هذه التجربة (التي ليست، كذلك، بالغريبة عن لعبة «الجثة اللذيذة»... وقد زحزحت درجة).
سأعود الآن إلى ما كنت فيه من عجلة. إنني مضطرب قليلاً على الدوام، بفعل تلك الأسفار. لكني صرت أجدها تزداد لي لزوماً بتوالي السنين. ولربما حدثتك في رسالة قريبة عن كتاب، «جان ذات الكلاب»، فلقد أثارني كثيراً.
***
باريس، 28 يناير 1982
عزيزي جاك،
وصلتني رسالتك الأخيرة لحظة أن طُلِب مني أن أتوجه إلى كبيك لملاقاة بعض زملائي المحللين النفسيين. فها أنذا أبعث إليك بهذه الأسطر، قبل ثمان وأربعين ساعة من مغادرتي لفرنسا. وقد عدت، في أثناء ذلك، إلى قراءة رسالتك مرات كثيرة كأنها معلم يهديني السبيل التي فيها انخرطت. ثم أنني لم يكن في نيتي أن أتحدث، خلال هذه الرحلة، عن اللغة، بل حررت نصوصاً عن أشكال الفساد المؤسسي، وعن فرويد، وكلمته الروحية الأخيرة (موسى والوحدانية)، وفي الأخير عن المسيرات والمسارات التي يبدو أن الأحياء إليها منذورون.
سنكون، حسبما تقول، في ما يتعلق بالتأويل (في نص لا أجد له بعد مرجعاً...) بصدد «مباعدة تمزيقية في في صميم المتعة التي تقيمها الكلمات في ما بينها أثناء الانتقال من لغة إلى أخرى».
فأي صلة تقيمها بين ذلك التمزيق وبين الفرضية النظرية التي جاء بها لاغاش؟ يبدو لي إن هذا الأخير يطرح مسألة ما أسميه «جن اللغة»، التي يطيب لي أن أتصورها في شكل إيروس من البرونز جاثم فوق عمود مقام في موقع كان لقلعة دُكت، لكن اسمها سيظل يُتناقل بفضل ذلك النُّصب. إن جن اللغة يصدر عن تلك اللااختزالية التي تحدثت عنها. لكن ما سبيلنا إلى أن نسمع هذا الجن، ما لم نقم بانتقال يخلق النسبي بفتحه إمكانية الكتابة، انطلاقاً من شذرات يعاد ابتعاثها على الدوام في المتاجرة مع الآخر. ثم أليس هو صمتاً رهيباً في الأحادية اللغوية المطلقة؟ وأخيراً، هل تكون الأحادية اللغوية المطلقة شيئاً قابلاً لأن يُتصور؟ أشك في ذلك.
شيء آخر : لقد أردت أن أقول لك إن لقاءنا في الرباط قد مكنني أن أربط ما كنت قد تركته جانباً خلال بضع سنوات، وأن أنتهي منه، كذلك، بشيء من الالتصاق. فلقد خرجت من الرباط شديد التأثر من اللقاءات التي أجدتَ في حبكها وتنطيمها. فهذا جعلني أقرر أن أنشر نصاً في «المجلة الفلسطينية»، وذلك شيء كان يمكنني أن أقوم به في غير ما إدراك ولا قصد منذ عشر سنوات. فأنا اليوم أنجزه... اليوم في تأن وبطء شديدين.
وبشأن لقاء الصعود، فإنني أركب رهاناً أن أجمع أشخاصاً قد توفرت لديهم تجربة الكتابة. ويتمثل التعاقد في أن يأتي كل واحد منا بنص قد كتبناه سلفاً، ويكون يستشرف نقطة الوصول التي نؤمل أن يكون حديثنا منها. وينبغي أن تكون العروض والمداخلات شديد القِصر، لكي تفسح المجال للنقاش. وسوف نخصص اليوم الأخير من ذلك اللقاء لجمع (التقاط) القصاصات، وربما قمنا بتوزيعة جديدة، لأنني أتصور لتلك القصاصات أن تكون هي نقاط الالتقاء (التي أتوقع أن تكون كثيرة) بين المشاركين غير المتجانسين. ولك أن تتصور مدى حرصي على أن تشاركنا هذه التجربة (التي ليست، كذلك، بالغريبة عن لعبة «الجثة اللذيذة»... وقد زحزحت درجة).
سأعود الآن إلى ما كنت فيه من عجلة. إنني مضطرب قليلاً على الدوام، بفعل تلك الأسفار. لكني صرت أجدها تزداد لي لزوماً بتوالي السنين. ولربما حدثتك في رسالة قريبة عن كتاب، «جان ذات الكلاب»، فلقد أثارني كثيراً.
***
الهرهورة، 10 أبريل 1982
عزيزي حسون،
أجيبك إذن إلى رسالتك ليوم 28 فبراير (الأخيرة)، فيما أستعد، أنا أيضاً، للسفر إلى الولايات المتحدة. أحس كأنني نقِلتُ، بخفة، بين ثلاث قارات؛ ذلك بأنني قد عدت من باريس منذ وقت قريب.
في هذا الصدد، تستثير خيالي استعارة طفوِّ القارات تستثيرني. وحتى لقد قرأت لبعض المتخصصين في هذا المضمار؛ وإخال أن القارات توجد في منعطف من تاريخها. والحقيقة أنني انجذبت، وليس بطريقة روائية فحسب، إلى الظواهر الطبيعية الهائلة، من قبيل الزلازل. ولكي أعود إلى استكمال الحديث بشأن جني اللغة، الذي تتحدث عنه (والإيروس البرونزي)، سأقول لك إنني أريد أن أبتدئ، ذات يوم، قصة عن أحد الشعراء الذين أحبهم في موضوع هذه الاستعارة. فأشرح، وأسوق الطرفة. وقد أهدتني صديقة هايتية علبة فودو، قد حوت، في ما يبدو، جني الزلزال. ولا حاجة بي أن أقول لك إنني نادراً ما أفتح تلك العلبة. أحياناً، أنظر إليها بريبة وحذر. ومع ذلك، فإن تلك العلبة قد تكون هي ذلك «الجن الودود» الذي تحدث عنه غوته.
هذه الرسالة ستكون وحيدة، ضائعة.
أكتب قليلاً جداً هذه الأيام. أشعر أني بحاجة إلى استراحة. لقد أعطيت الكثير للكتابة، من غير أن أعرف ماذا أعطتني على وجه التحديد. لقد صرت الآن، أكثر من أي وقت مضى، أرتاب في قوتها التدميرية، إنني أذرع أراضيها الملغمة. أن أمضي متئداً، نعم، أن أنضج مع اللغة، وأشيخ معها، نعم، أن أبحث وأبحث، عن النشيد الذي خرس. فتراني، قبل أن أنام، كثيراً ما أقرأ قصيدة، وكأن الشعر سيسهر على منامي، ويرعى أحلامي، وينحت في نسياني شكل البحث عن تلك الأحلام.
***
29 أكتوبر 1982
عزيزي عبد الكبير،
لقد حاولت، في بعض الأحيان، أن أتصل بك خلال مقامك في باريس، فما أفلحتُ. ولقد أسفت للأمر كثيراً. إن ذلك اللقاء مع سيرتو، ذات مساء، في بداية الخريف، يختزن لي الحرارة الودية للالتقاءات الأخوية.
لكني رجل ميلادي. لذلك، كنت أتمنى في ذلك الصباح الغائم من شهر أكتوبر، بعد ليلة قصُرت بفعل حلم غريب، رأيت فيه القاهرة، ولندن، ونيويورك، وباريس، والرباط والإسكندرية، وقد صارت أحياء في مدينة واحدة، أن أحتفل بلقائي الأول بالمغرب.
وسيقيض لي أن أكتب إليك من جديد.
وكذلك، سأقرأ لك بمتعة.
طابت أوقاتك
جاك حسون
***
السبت مساء 6 نونبر 1982
عزيزي الخطيبي،
إنني مبتهج أن أراك مرة أخرى في شهر دجنبر. ولربما يكون أطول من اللقاء الأخير : ذلك ما أؤمل.
ليس هنالك ما يدعو إلى العجلة (وإلا فالقليل من الأمور)، كما قلت، ما عدا أن نحب بصيغة المضارع. صيغة ظللت أسمعها وقتاً طويلاً، ومنذئذ وهي لا تفتأ تشغلني... أن نحب بصيغة المضارع... أعتقد أن العالم يموت من استحالة أن يحب بصيغة المضارع. لكن ينبغي أن نجرؤ على التخلي عن قنبلة أوهام المستقبل وارتكاسات الماضي.
طابت أوقاتك
جاك حسون
***
يناير 1983
عزيز الخطيبي،
أمضيت بضعة أيام في البندقية، التي سحرتني بكل شيء فيها. فقد رأيت فيها بعض العائدين (آخر سلالة أباطرة بيزنطة : كلا! فما أنا بالمتهلس، على الرغم من أن عرضهم كان مهلسة)، فوعيت بحبي المتعدد للبقايا.
وسوف نعود بالحديث إلى هذا الأمر.
في انتظار أن أقرأ لك عن قريب
جاك حسون
***
مالطا، عيد الفصح 1983
عزيزي عبد الكبير،
إن مرورك بباريس يتمد ههنا. بفعل أسماء المدن، لكن وكذلك، لأن باسكال تنكب على تصحيح الكلمات المنقولة حرفياً في مداخلتك. وهي مداخلة تظل، برغم الزمن، محافظة على قوتها. نعم، ينبغي لنا أن نعود إلى استئناف تراسلنا. وأقترح عليك، لاستئنافها، هذه الصورة.
لقد وقعت، إذ أنا في مارسا، على المقبرة المسماة تركية. تلك المقبرة التي تضم المقبرة اليهودية والمقبرة الإسلامية (فالناصريون يعتبروننا جميعاً أتراكاً... أي مملوكين للديوان الإمبراطوري!). ورأيت القبور اليهودية مولية رؤوسها قبَل الشرق، والقبور الإسلامية قبَل الجنوب الشرقي.
ولو قيض لمراسلاتنا أن تُنشر ذات يوم، فإنني أقترح أن نسميها «الدرجة 45» : نجمية كتابية غريبة ترسم الحضور والتلاشي، والعربسي والمسماري؛ تختلط فيها المعرفة، والكتابة والقراءة في وصية لا تنعدم فيها المتعة : (هل تتذكر، في هذا الصدد، اللقاء الذي كان لي بزملائي من القاهرة من طائفة القرائين؟).
إننا نشترك في الانشغال بالاختلاف والمتعة التي نجدها في الدهشة نجدها في كلام النساء.
جاك حسون
***
الرباط، 19 أبريل 1983
صديقي العزيز، أكتب إليك في عجالة، وإيجاز، رداً على إشاراتك التي أرسلتها من مالطا. ويقول المثل الشعبي الفاسي : «الله يجيبك إلى مالطا بلا فراش ولا غطا».
لكني موقن أنك تستطيب الحرارة.
بلى، بلى، إن مراسلاتنا قد لقيت نوعاً من الاعتراض، وإن أعد له في مكان آخر. ثم إنني أود أن أبقى ملتزماً الرسائل الأولى، وملتزماً الاتفاق الأصلي، الذي هو اتفاق على قدر كبير من الخصوصية، لأن ما سنكتب يكون، مسبقاً، كتاباً مفتوحاً، أو كتاباً عمومياً، وكأن خصوصية علاقتنا ينبغي أن تعرض أمام الكتابة، وأمام شكل من التخيُّل الكتابي.
لم أعد قراءة رسالتك في الوقت الحالي، وإنما أجيبك بوحي دافع لا يقاوم. إن تلك الصورة، صورة المقبرة تستدعي لديَّ أسئلة كثيرة عن طوبوغرافيا الموت. ولقد وددت لو تكون المقبرة الإسلامية ماتت في نفسي، وأن توقع منقوشتي (وذلك شيء حدث من الناحية الوظيفية) في مكان غريب عني، اللغة الأجنبية. لكن الأمر يلح، ولا أستطيع فعل شيء. وإن ثمة ذكرى تعاودني عن مقبرة يهودية في الجديدة، المدينة مسقط رأسي. فقد كنا، إذ نحن أطفال، نقصدها لنسرق من القبور رفاتها. فنحن نسرق تلك الرفات، ونعيد بيعها، أو نصنع منها ألعاباً بريئة أو مرعبة، لعبة ببقايا أولئك الذين لن يبقوا. لكن نعود ? بواسطة النص ? بيننا، ومعنا أصدقاء أخرون، من أصل يهودي.
والحال أن دائرية الموت المزدوج والحياة المزدوجة، الانشقاق الأصلي الذي قام به النبي محمد، أجده ثانية في استيهاماتي. لكن هاك كيف أشتغل على تلك الاستيهامات : تارة أفكر الماوراء (البقاء أخيراً) كعمل قد تم وتحقق : أن أنزل (أكتب بالأحرى) الجنة والنار في صورة مثالين ينبغي طردهما من على الأرض (ومن ههنا مصدر ذلك المجهود الباطل لجعل الماوراء، ما وراء لانهائية اللغة) : أو، وأحياناً، وبالموازاة، أن أغير المكان المتخيل للموت، أو بالأحرى الوفاة؛ كأن أفكر، مثلاً، مع الطاويين، في الفراغ الذي يفصل بين «الين» و»اليانغ». عمل الموت كتنسيق للأشكال، لعبة تحاول أن تغوي الحياة، وأن تتركها تقيم حيث يمكن لها أن تندفع في جنونها، وفي عتهها (وإنها لكلمة غريبة، هذه «العته»!).
كنتَ في مالطا. فهل وجدت أشكالاً منسية لذلك الظاهر اللاشكلي، تلك الرطانة التي تميز تلك الجزيرة (فما أكثر المعارك والصراعات المجمدة هناك، تلك الإشارات التي ترسلها إلي)؟
شيء آخر : إن اليهود (الفرنسيين) اليساريين يدعونني إلى المشاركة في ندوة يعقدونها أواخر ماي. وسأقبل دعوتهم، وسأشتغل وإياهم. أحييك، وأشكرك بما أرسلت إلي من البطائق البريدية الموحية شديد الإيحاء.
ع. الخطيبي
***
باريس، 7 ماي 1983
عزيزي عبد الكبير،
لقد التهمني الوقت، وكأني سجين في فضاء كروي لساعة دقاقة يتغير على وقعها القدر. ففي بعض الأيام، يفزعني ذلك التدمير البطيء، إلى حد أنني قد حلمت أن «شيخوختي» تكلمني في صورة كائن حي. حقاً إن ذلك قد حدث لي بعد نهار منهك، قد كرسته لتنقيح مداخلتي عن «الصحراء»، تلك الكلمة التي انتهى بي الأمر إلى أن أتصورها، مجازياً، في صورة عطفة لا يمكن لأحد أن يستغني عنها، لكي يستطيع الخروج من أسطورة الأصول ومن بلاها وعتاقتها.
إن اجتماع هاتين الصورتين المفارقتين قد تركني في حلم، جعلني أحلم.
إن اعتراض مراسلاتنا قد حدث بالفعل، كما قلت. لكن من بمقدوره أن يعرف نقطة الاصطدام في سلسلة اللقاءات الدالة التي مكنتني من أن أضع بعض توقيعاتي، لا في أسفل الرسائل، بل على نحو ظاهر لائح؟
ربما أحكي لك، في يوم من الأيام، عن لقائي بشيخ شيوعي مصري، يحمل شبيهاً باسمي حسونة، واسمه الشخصي محمد، قد عرف ستالين وتروتسكي سنة 1922 في جامعة شعوب الشرق في باكو.
إن مثل تلك اللقاءات يحمل علامة، لا الصدفة وحدها، بل يحمل علامة حتمية تتجاوز اللغة، وتتجاوز تمتماتنا الأولى. ومن ههنا تأتي نظرية الدال، بما هي حاجز، وواقية (من اللاوعي «الجمعي» وظلاميته).
فأي ميراث يسمح لي اليوم، بالقول إنه من غير «يهوديتي» لن يكون بمقدوري أن أسمع عربيتي، وإنه بدون عربيتي، لن تكون يهوديتي إلا شيئاً باطلاً. ولا اعتبار بحشد الصور القادمة من أغوار التاريخ، ولا بسحر السياسة.
إنني أعزو، بالفعل، إلى هذا المسار أو ذاك أنه مكنني من تكوين ما أعتبره ميراثاً وشيئاً اقتتاحياً معاً... لكن ربما كان رفضه البات شيئاً وهمياً، وجسوراً وغير مجد معاً.
إننا في هذه الرسائل، نفتح قليلاً باب قصصنا. وأعتقد إنها تدفعنا إلى الاشتغال كثيراً (بغير وعي منا). ولقد سمحت لنفسي أن أقول «نحن»، حيث كانت «أنا» تتكلم.
فهل هي الدارجة الإسكندرية تعود في لبوس الفرنسية لتتسلط عليَّ؟ أم تراني أعزو إليك هذا الإلحاح الذي أحسه وقاداً في دخيلتي؟
سأراك عن قريب في باريس. وسيكون لي هذا الأمر مبعث سرور كبير.
أحييك
جاك حسون
***
الهرهورة، 12 أكتوبر 1983
بلى، بلى، يا عزيزي جاك، لقد وصلت رسالتك. وهي تبعثني معاودة الكتابة. فأنت تحسن إذ ترسل إليَّ من أخبارك، بطريقتك الخاصة. تبعثها راكضاً. تعرف أن نيتشه كان يستحسن أن نكتب ونحن نرقص. فلتتصور، إذن، قارئاً يرقص، بدوره، فيما يقرأ.
لم أكد أكتب إلا إلى بعض اتلأصدقاء : بطاقتان بريديتين، أو ثلاثاً، منذ 24 يوليوز. أؤلف، أناً أيضاً، كتاباً، سأحدثك عنه ذات يوم. بتأن وهدوء. لأفسح لما هو خفي، ولما يوجد على السطح، أن يأتي إليَّ. ستكون دراسة أخرى عن «الغريب».
شرعت لتوي أفكر في إبليس، وأنا بصدد تمثل الجنون في الإسلام. غير أنني أرجأت إتمام هذا المشروع، وعندما سيسعفني الجهد والطاقة لتناول هذا الضرب من المشكلات (الشيطانية)، سأعود لاستكماله : ربما. إنني أهتم أولاً، لحياتي، ولحالاتي النفسية، وبعد ذاك : الكتابات، التي تأتي بتوالي السنين. ثمة، إذن، نصوص موحاة، بمعنى أنها نصوص تم الاشتغال عليها وقتاً طويلاً. وأنا، مثل فاليري، وكتاب كثر، لا أومن بفعالية الحماس، إلا إذا رافق الحماسَ تفكير يحصره، ويتيح له أن يفكر، لا أن ينتهك ديونيزية ما، أو دلفية ما، خارجة من أحلام يقظتنا. وسأكتب، وأكتب، نعم، بهذه الطريقة. ثم إن ثمة نصوصاً منقضية، تنتهي بقوة الكلمات، في ما يتجاوزنا. انقضاء، فاستيحاء : تعارض غير مألوف كثيراً في الحقيقة. هل نبحث عن شيء آخر؟ مثلاً، مقياس غير المسموع، لا المسكوت عنه، بل غير-المسموع. أن نمد إليه ألف أذن، ونوليه مسمعاً للترجيع والالتقاط، ينتقي فيما يرجِّع ويلتقط، في آلة الكتابة. لا الكلام الداخلي (داخل ماذا؟)، ولا الخارجي (التقليد، والتكرار، والهمس)، بل شيء يتكون، شيء تكون في كثافة خرافية، تطلق طاقتنا الحقيقية. بما يسعف الحياة أن تظل على مقاومتها (السديدة) للتدمير الذي يزرع الصمت في الكلام المنخرق بهذا الصمت نفسه، الذي يشرع في الكتابة في كل مرة : إنني أبدأ.
ليس من إبداع. بل مزيد من الصنعة، ومعرفة تزداد عمقاً بالعمليات التي ترد الكلمات بعضها على بعض، في استنساخ يتضمن قصوره، ويصدر خشخشات دالة على تفككه. إن الإبداع يعود إلى كلام الإلهين الغائبين، كما يقال.
إنني أحس تلك الغرابة الأصلية في الكتاب. لذلك، أجد متعة أن أكتب إليك في مفرق الطرق، وقلب لجميع الكتب المقدسة التي سممت حياتنا، أو على الأقل ذلك القسم المسمم لا يزال يسخر وسيلة للاحتقار، والحروب والإبادة الجماعية. كذا أقرأ ما يسمى الصراع اليهودي العربي. لكني أفكر، في الواقع، في الوقت نفسه، في شيء آخر، تعنيناً معاً. استراتيجية النص المدوَّن، وفقاً لحركيته، ولاستراتيجية الألعاب العالمية. فما معنى أن يكون المرء الآن يهودياً، إلا أن يكون معناه نهاية أفق للكتاب، نهاية أفق معين، كثيراً ما يتعذر عليه أن يتعرف على نفسه. أن تكون يهودياً، ومرة أخرى، في النص الذي يتجاوز الكتاب. ولذلك، فبقدر ما يوجد من اليهود، توجد قراءات، مناجزة، خارجية عن الكتاب نفسه. ويبدو لي أن جابيس، وليفينا، وبلانشو لا يزالون منحصرين في تقديم قاصر للكتاب والشعب. إن العولمة تتطلب لغات جديدة. فهل بمقدورنا أن نسهم، ولو فالقليل، في التمكين للأخوة بين الأحياء؟
أحييك
ع. الخطيبي
***
ميرابيل، 30 أكتوبر 1983
عزيزي عبد الكبير،
هذه المرة أنا لا أركض. وإذا كنت أرقص فهو رقص داخلي : إنني أختلي بنفسي، لبضعة أيام، في أرديش، لأسترد أنفاسي، لأن هذا الدخول كان غنياً بالأحداث. ندوة لحلقة فرويد «عن الصدمة النفسية»، وندوة أخرى كانت لي فيها مساهمة أسميتها «منفى المنفى»، عالجت فيها، بالتنقل من موضوع إلى آخر، مسألة «الوقوع ضحية». الوقوع ضحية لكره (- الأجانب)، والوقوع ضحية للمنفى، بالانجراف بشكل متصالب من ضياع رسالة مفقودة، كذلك. ومن غريب أن الاستقبال الذي خُصَّ به هذا النص (استقبال التحامي حار) قد آلمني.
وحتى إذا كنت لا أجهل بأن... فبالالتزام بنظام القوانين التي تتحكم في الرسالة. إن الأمر يأتي من مكان بعيد كبعد ما تسميه «مستوحى» (لقد أعجبني كثيراً ذلك التمييز بين «الاستيحاء» و»الحماس»). «مستوحى»، إنها كلمة تجعلني أتصور أنفاس طفل ينام في غرفة مظلمة مواربة الباب، وتتناهى إليه أصوات الكلمات والأصوات التي لا يميزها، ولا يهتدي إلى معانيها. وسوف لا يفتأ الأمر يقلقه ويدفعه إلى العمل. إنني أعيد قراءة رسالتك في هذه اللحظة، وإنني أجد هذه الفكرة معروضة، بصيغة مختلفة، في الصفحة «3» (التي هي في الحقيقة الصفحة «2»، فقد كتبت الرقم «3» مرتين). تراني قرأتها ونسيتها؟ أم أكون استعدت ما ذكرت من قبل أن تعبر عنه؟ شيء لن يتأتى لنا أن نعرفه أبداً، إلا أن يكون لقاء مرتجلاً وغير مرغوب يخلق، أحياناً، أثاراً كتابية غريبة. وينبغي القول إن كلمة «طفل» تعود إليَّ بقوة. فأنا، منذ بعض الوقت، أحدث نفسي أن مصادر السفالة البشرية، ومصادر العصاب الفردي، العصاب الذي يتلف الأطفال، متأت من أننا ننسى أن آباءنا كانوا أطفالاً. فنحن نستطيب أن نراهم كباراً أو شيوخاً. مخيفين أو مفلسين. لكن لا أطفالاً أبداً...
إن «أنا أكتب» تندرج في ما بين هذه المعرفة المجهولة والمحتوى الذي لا يعرف به أحد. وذلك مصدر الطابع الموار لهذه اللحظة؛ حيث ترتسم الكلمات الأولى لكتاب فوق صفحة بيضاء. وذلك، أيضاً، هو سبب الكبت الذي يتكبده الذي يؤمن بتلك ال «في البدء»، والذي يحلم بكتاب مثالي لن يقيض له أن يرى النور يوماً. إنه يؤمن بالله، ذلك الكاتب.. الذي تظل الكلمات مجمدة في ذاته إلى الأبد.
(توقفت عن الكتابة في هذا الموضع... فقد لزمني أن أقوم ببعض الأشرية، أو ملاقاة صديق، مدير «متحف للغرائب»، ليطلعني على بعض اللوحات، تصور الجنس ? جنس من غير كلام - وقد صارت بيده السلطة. الرسام الذي رسم تلك اللوحات، وقد أصيب اليوم بعمى نفسي، يلاقي عناء في التخلص من هيجانه)...
وذلك هو مبعث سؤالنا، الذي يعود بإلحاح : ما هو المؤلف الذي لا يعرف أن يروج لإنتاجه في وسائل الإعلام بالعمل، ولا يفتأ يقدم ? في صيغة غريزة جنسية ? لا تتوقف، ما يخترقه في صورة تأثيرات أولية، أوفي صورة استيهامات؟ غربال، أو كائن منثقب، لا يفتأ جسده يستشعر الضربات المرتدة لهذه التفريغات الكتابية التي لن تشكل قط عملاً أدبياً. إلا أن يلوذ بالله، ويصطنع من نفسه ناسخاً لكلام يُعزى إلى الألوهية.
لقد مضت علينا قرونٌ عديدة نسمع هذا الكلام. فقد وضعنا مصيرنا بين أيدي هؤلاء النساخين. وإن أكثرهم لا يريدون اليوم أن يروا في الأمر غير الظاهر المستوحى، في جهل بالأساس الطقوسي العنيف الذي يؤطر به النص من جديد.
أن تكون يهودياً أو مسلماً اليوم : ذلك وهم، مثلما نقول عن هوى، أو عن حب. أنه انخراط في سلالة، يُتبين، في الوقت نفسه، أنها مجنونة. لماذا؟ لأن صيغ هذا الانخراط تدخل، في معظمها الأعم، في الرومنسية. فأن تكون يهودياً اليومَ، هي مسألة خاصة؛ فهي تخص علاقة بنص وقضية عمومية، على شيء من الطيش.
وإذا كان بلانشو وليفينا قد اشتغلا على النص، فبدافع من نوع من القرب. فالأول يجهل بعواقبه الشعبية والحضرية، والثاني يتموضع ضمن التقليد العالم. وأعتقد، من جانبي، أن جابيس يقف عند اكتشاف كتابي. فيجعلني أحلم؛ وذلك مصدر التناقض الذي يحدثه عندي.
إن هذا التراسل، الذي يتواصل، يسمح لي، استطراداً، بالحديث عن الواقع اليهودي، غير حديث السياسة أو حديث الأهواء. ويبقى أن الإسلام، يبقى، بالنسبة لي، لغزاً. ولطالما استهواني، خلال هذه السنوات الأخيرة، أن أطرح على نفسي السؤال التالي : ما الذي يجعل القبائل اليهودية في الشرق الأوسط، ثم في شمال إفريقيا أقل انقلاباً إلى الإسلام، والحال أن هذه الديانة كانت، من الناحية اللاهوتية، قريبة جداً إليهم؟ وأفترض أن الإنشاء النصي الثاني (التلمود) هو الذي أقام الحاجز الفاصل بين القرآن والتوراة؛ حيث صارت المواجهة التي يُدعى إليها الإنسان، لقاء مع المتعذر تسميته، أو مع اللامسمى.
في مصر بلغ التوجه نحو التوليفية شأناً بعيداً. لكنه كان يتوقف، على الدوام، عند ذلك الحاجز المشهود. وهذا أمر يبرز مزايا التأويل المسنن، كما يأتينا التلمود بمثال له، وعن اندحار القرائين، أقلية الأقلية، أن قبلت بالعيش من غير أي واقية دوغمائية.
وعلى كل حال، فإن الإسلام الحالي في صيغته الشيعية، أو في صورته المحزنة، صورة الإخوان المسلمين، يبعثني على شيء من الاستغراب. وأفترض أن ما نرى هو خيانة لكتابة، وخيانة لعمل كتابي.
وأن نستغرب لأخوَّتنا، مثلما أمكننا أن نفعل (أو أمكنني أن أفعل؟) أمرٌ يفشي الكثير عن مفعول الجنسانية.
واليوم يبدو لي أن تساؤلنا الأول يعبر نصية نواتها وهمٌ. وإن هذا الوهم المسمى «انتقاء» يمكنه التمثيل له بطفل لا يكف يقول لإخوته : «إنني أنا الذي طلبت منه أن يجعلتي أكثر من يحب الناس، فعاقبني، ولم يمانع»... ولقد انخرطوا جميعاً، وبالتتابع، في هذه اللعبة. ألم يأن الأوان، يا ترى، لنسمي هذه النواة باسمها : المُمات؟
فماذا ترى في هذا الاقتراح؟
وتقبل عبارات مودتي.
جاك حسون
***
الرباط، 19 أبريل 1983
صديقي العزيز، أكتب إليك في عجالة، وإيجاز، رداً على إشاراتك التي أرسلتها من مالطا. ويقول المثل الشعبي الفاسي : «الله يجيبك إلى مالطا بلا فراش ولا غطا».
لكني موقن أنك تستطيب الحرارة.
بلى، بلى، إن مراسلاتنا قد لقيت نوعاً من الاعتراض، وإن أعد له في مكان آخر. ثم إنني أود أن أبقى ملتزماً الرسائل الأولى، وملتزماً الاتفاق الأصلي، الذي هو اتفاق على قدر كبير من الخصوصية، لأن ما سنكتب يكون، مسبقاً، كتاباً مفتوحاً، أو كتاباً عمومياً، وكأن خصوصية علاقتنا ينبغي أن تعرض أمام الكتابة، وأمام شكل من التخيُّل الكتابي.
لم أعد قراءة رسالتك في الوقت الحالي، وإنما أجيبك بوحي دافع لا يقاوم. إن تلك الصورة، صورة المقبرة تستدعي لديَّ أسئلة كثيرة عن طوبوغرافيا الموت. ولقد وددت لو تكون المقبرة الإسلامية ماتت في نفسي، وأن توقع منقوشتي (وذلك شيء حدث من الناحية الوظيفية) في مكان غريب عني، اللغة الأجنبية. لكن الأمر يلح، ولا أستطيع فعل شيء. وإن ثمة ذكرى تعاودني عن مقبرة يهودية في الجديدة، المدينة مسقط رأسي. فقد كنا، إذ نحن أطفال، نقصدها لنسرق من القبور رفاتها. فنحن نسرق تلك الرفات، ونعيد بيعها، أو نصنع منها ألعاباً بريئة أو مرعبة، لعبة ببقايا أولئك الذين لن يبقوا. لكن نعود ? بواسطة النص ? بيننا، ومعنا أصدقاء أخرون، من أصل يهودي.
والحال أن دائرية الموت المزدوج والحياة المزدوجة، الانشقاق الأصلي الذي قام به النبي محمد، أجده ثانية في استيهاماتي. لكن هاك كيف أشتغل على تلك الاستيهامات : تارة أفكر الماوراء (البقاء أخيراً) كعمل قد تم وتحقق : أن أنزل (أكتب بالأحرى) الجنة والنار في صورة مثالين ينبغي طردهما من على الأرض (ومن ههنا مصدر ذلك المجهود الباطل لجعل الماوراء، ما وراء لانهائية اللغة) : أو، وأحياناً، وبالموازاة، أن أغير المكان المتخيل للموت، أو بالأحرى الوفاة؛ كأن أفكر، مثلاً، مع الطاويين، في الفراغ الذي يفصل بين «الين» و»اليانغ». عمل الموت كتنسيق للأشكال، لعبة تحاول أن تغوي الحياة، وأن تتركها تقيم حيث يمكن لها أن تندفع في جنونها، وفي عتهها (وإنها لكلمة غريبة، هذه «العته»!).
كنتَ في مالطا. فهل وجدت أشكالاً منسية لذلك الظاهر اللاشكلي، تلك الرطانة التي تميز تلك الجزيرة (فما أكثر المعارك والصراعات المجمدة هناك، تلك الإشارات التي ترسلها إلي)؟
شيء آخر : إن اليهود (الفرنسيين) اليساريين يدعونني إلى المشاركة في ندوة يعقدونها أواخر ماي. وسأقبل دعوتهم، وسأشتغل وإياهم. أحييك، وأشكرك بما أرسلت إلي من البطائق البريدية الموحية شديد الإيحاء.
ع. الخطيبي
***
باريس، 7 ماي 1983
عزيزي عبد الكبير،
لقد التهمني الوقت، وكأني سجين في فضاء كروي لساعة دقاقة يتغير على وقعها القدر. ففي بعض الأيام، يفزعني ذلك التدمير البطيء، إلى حد أنني قد حلمت أن «شيخوختي» تكلمني في صورة كائن حي. حقاً إن ذلك قد حدث لي بعد نهار منهك، قد كرسته لتنقيح مداخلتي عن «الصحراء»، تلك الكلمة التي انتهى بي الأمر إلى أن أتصورها، مجازياً، في صورة عطفة لا يمكن لأحد أن يستغني عنها، لكي يستطيع الخروج من أسطورة الأصول ومن بلاها وعتاقتها.
إن اجتماع هاتين الصورتين المفارقتين قد تركني في حلم، جعلني أحلم.
إن اعتراض مراسلاتنا قد حدث بالفعل، كما قلت. لكن من بمقدوره أن يعرف نقطة الاصطدام في سلسلة اللقاءات الدالة التي مكنتني من أن أضع بعض توقيعاتي، لا في أسفل الرسائل، بل على نحو ظاهر لائح؟
ربما أحكي لك، في يوم من الأيام، عن لقائي بشيخ شيوعي مصري، يحمل شبيهاً باسمي حسونة، واسمه الشخصي محمد، قد عرف ستالين وتروتسكي سنة 1922 في جامعة شعوب الشرق في باكو.