أبو الحسن سلام - حيرة الباحث المسرحي بين (نظرية العامل ونظرية المتخلفات المتغيرات المتلازمة)

مهاد نظري :
من المقطوع به في مجال تعريف العلم على كثرة الاختلاف والتعدد حول تعريفه ؛ أن العلم هو ما يقبل التخطئة، فقد ظلت آراء أرسطوطاليس حول الأرض بوصفها مركز الكون فاعلة في حقول الدراسات الجغرافية والأنثروبولوجية والرياضية والفلكية حتى عصر النهضة ؛ عندما ظهرت آراء كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو التي حطمت نظرية أرسطوطاليس. وكذلك تحطمت عدم قابلية الذرة للتفتت التي قال بها إنشتين. وكلتا النظريتين كانتا علميتين إلى أن أثبت البحث العلمي خطأ كل منهما.
العلم إذن هو ما يقبل التخطئة ؛ فإن ما يقال حول الفنون من أنها لا تصبح علوماً لأنها " لا تصبح تعبيراً نهائياً يمكن قياسه كنتيجة لها صفة الثبات ، ذلك أن الفن إبداع يرسله المبدع للتأثير على متلقٍ متباين الاستقبال الشعوري والإدراكي ومن هنا تتغير الدلالة في رسالة المبدع "
ويستند بعض العلماء ومنهم ماجنوس بيك في زجر القائلين بأن الفنون عندما يتم تناولها في أبحاث علمية تصبح علوماً ؛ مؤسساً زجره لهم على أربع ركائز هي " الغرض والذوقيات والدوافع والفلسفة الأدبية خارج حدود العلم"
ومع ذلك فإن ماجنوس بيك نفسه في بداية كتابه نفسه (حدود العلم) إذ ينص على أن العلوم الأساسية " هي الكيمياء والفيزياء وعلم الحياة " فإنه يخلخل محدداته لمفهوم العلم ؛ فقوله بوجود علوم أساسية يعني أنه يقر ضمناً بوجود علوم رئيسية وبوجود علوم فرعية وعلوم ثانوية – هذا من ناحية – ومن ناحية أخرى ؛ فإن علم الحياة ينبني أساسه على الإنسانيات ودراسة كل ما يتصل بالحياة الإنسانية نفساً وإرادة ومجتمعاً ولغة ونشاطاً وبيئة. والأدب نشاط بشري يعكس حياة البشر انعكاساً نفسياً ومجتمعياً وبيئياً ولغوياً قائماً على تصوير يتمثل الضرورات والاحتمالات، وفق تصورات وافتراضات تراعي الضرورات الحياتية، لتظهر الصورة نموذجاً من الأصل بقدر صدق التصوير ؛ كما تراعي الضرورات الفنية التي تغلف الإقناع بعناصر الإمتاع .
ومن تعريفات الباحثين لمفهوم العلم نقف أيضاً عند تعريف أحمد سليم سعدان ؛ الذي يعرف العلم "بالقدرة على التنبؤ" فإذا عرفنا أن الإبداع الأدبي والفني الحقيقي هو الذي تقوم صوره في مواضع متعددة من بنيته الإبداعية على استشفاف المأمول والمستقبلي جنباً إلى جنب مع تصويره للماضي وللحاضر ؛ فإننا سنحكم بأن الإبداع الفني والأدبي يشكل بذلك دوراً أصيلاً من أدوار العلم. ومع ذلك فإن الدخول في مجال الحديث عن إشكالية ارتباط فنون المسرح بالعلم سواء في التدريس أو في البحث يقتضي من الباحث أن يقف عند ثلاث ركائز حددها روبرت مرتون ؛ يجب توافرها حتى تتحقق بها لفظة العلم ، وهي :
"مجموعة من المناهج ذات طابع معين فيها تمكين للعلم أن يتحدد.
مجموعة معارف متراكمة لازمة عند تطبيق هذه المعارف
مجموعة من القيم الثقافية والأخلاقيات التي تحكم الأنشطة العلمية أو ترتبط بها من منظور سوسيولوجي
ولأن مناهج البحث Methodology تتمثل مفهوماً في فرعين هما :
فرع من المنطق ينصب على دراسة المنهج بوجه عام. وعلى دراسة المناهج الخاصة بالعلوم المختلفة.ويشكل الثاني أحد أقسام الفلسفة . وقد اختلف مدلوله باختلاف العصور تبعاً لقصره على مشكلة الوجود أو المعرفة.
لقد مر مصطلح منهج بمراحل متعددة بتعدد الفلسفات قديمها وحديثها إذ اختلف مدلوله عند أرسطو ، والمدرسيين . كما اختلف عند ديكارت (1596-1650) وعند كانط وعند كونت وكذلك عند برجسون.
وهو يعتمد عند محمد مندور على " الفصل بين التأثر الشخصي والمعرفة الموضوعية " .
والمنهج عند مجدي وهبة هو " بوجه عام ، وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة " . أما المنهج العلمي عنده فهو " خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية بغية الوصول إلى كشف حقيقة والبرهنة عليها ".
ويمكننا الوقوف عند ثلاث مسيرات منهجية :
* المنهج التجريبي الاستنتاجي :
حيث اهتمام الباحث بدراسة الكل. ثم يستخلص نتائج منطقية تسري على الأجزاء. ويدرس المبادئ والقواعد العامة فيطبقها على الأجزاء وهو منهج روجر بيكون .
المنهج التجريبي الاستقرائي :
وهو منهج فرنسيس بيكون (1561-1626) ويقوم على استقراء الجزء بالتجربة. أي يختبر الأجزاء ليستدل منها على حقائق يعممها على الكل لأن ما في الجزء يسري على الكل. أي تعميم الحكم على الخصائص الجزئية في شيء ما هو موضوع البحث على الشيء كله.
المنهج الإحصائي:
فرع من فروع المنهج الرياضي : وهو يقوم على حساب مقدار احتمال صحة أي حالة.
وهناك المنهج المعياري ، والسيميولوجي والمنهج الوصفي ، التاريخي واللغوي.
المنهج إذن هو أداة ضبط طرق استقصاء حقيقة ما بهدف تأصيلها وتحصينها وهو ضابط لأساليب التحقق وأدواته وتوجيهها توجيهاً موضوعياً في اتجاه الوصول إلى الحقيقة خالصة عن طريق التحقق ؛ استناداً إلى القياس الدقيق الذي يولد حقيقة جديدة.
والقياس هو أساس الاستدلال على صحة النتائج التي يسعى إليها عمل الباحث ، وهو نوعان :
* قياس المناطقة : قياس الحاضر على الماضي * أي الحكم على صحة الشيء قياساً لاحقاً على سابق.
* التقدير بالوحدات : كتقدير الطول بالسنتيمترات والكتلة بالجرامات "
مقاربة منهجية : علمية الدراسات المسرحية
تتوقف علمية دراسة ما في أي مجال على دور تلك الدراسة ورؤيتها في حالة تقدم إلى الأمام ، فإذا كان من تعريفات العلم أنه " النشاط الإنساني الوحيد الذي يمكن رؤيته يتقدم إلى الأمام من ذروة إلى أخرى أكثر بعداً"، لأن تاريخ العلم هو التاريخ الوحيد الذي يمكن أن يصور تقدم الإنسان "
" وإذا كانت علمية دراسة ما تكتسب اسمها من وجود خواص ثلاثة ينهض بها العلم وهي :
الخاصية الأولى : وجود معارف منظمة في المجال – موضوع الدراسة –
الخاصية الثانية : وجود مناهج بحث لاكتشاف تلك المعارف
الخاصية الثالثة : إمكان الضبط الكمي لتلك المعارف "
وأضيف إليها خاصية رابعة هي :
شخصية الباحث وموضوعيته ذلك أن الدراسة المسرحية تكتسب علميتها من وجود هذه الخواص نفسها .. وهي خواص متحققة في المسرح :
الخاصية الأولى: وجود معارف منظمة في مجال المسرح
وتتمثل في الاتجاهات والمدارس والنظريات وأسسها المسرحية( نصا وعرضا)
الخاصية الثانية : وجود مناهج بحث لاكتشاف المعارف المسرحية المنظمة.
الخاصية الثالثة : إمكان الضبط الفني للمعارف المسرحية المنظمة
الخاصية الرابعة: شخصية الباحث المسرحي( موضوعيته وتأهيله النظري والعملي)
هناك مدارس مسرحية لكل منها أسسها التي تعد بمثابة القوانين الضابطة لمنهج كتابتها وأسلوب كل منها وهناك نظريات نقدية متعددة لكل منها أسسها وشروطها التي هي بمثابة قوانين ضابطة لتوظيفها وتعاملها مع النص أو مع العرض. وهناك نظريات الإخراج المسرحي التي تقوم على أسس تحدد طبيعة العرض المسرحي وهناك نظريات التمثيل التي تضبط أساليب الأداء.
إذاً فالمسرح بوصفه فناً له تقنيات ، وبوصفه ظاهرة إنسانية فاعلة له تاريخ وبوصفه ظاهرة في ممارسته العملية الحاضرة من حيث الإرسال والتلقي له نظريات . ولأن نظرياته متعددة ومتباينة تفرقت في اتجاهات . فلاشك أن تاريخ تراكم الممارسة المستمرة للأداء والتلقي الجماهيري والنقدي والتنظيري ينظم وجود المعارف في المسرح ويكشف عن حركة تطوره ويضبط معارفه ويؤصلها في شكل نظريات ومدارس واتجاهات تتضافر جميعها في تأطير فن المسرح بالعلم عن طريق وجود أساليب محددة كل منها نابع من نظرية فنية أدبية ونظرية أداء ونظرية إخراج ونظرية نقد ؛ وكلها تشكل منهاج عمل الباحث المسرحي عند انكبابه على البحث في وظائف منتج إبداعي مسرحي من حيث الوظيفة العاطفية والوظيفة المعرفية والوظيفة المرجعية والوظيفة الإدراكية والوظيفة اللغوية الواصفة وصولاً إلى تقويم الوظيفة الاتصالية بين ذلك الإبداع وتلقيه.
لقد جسّد فن المسرح تعطش الإنسان للمعرفة ، واجتهد منذ ظهوره حتى الآن في خلق جسور اتصال بينهما. كما جسد أشواقه الرومنسية لكل ما لا يمكن الحصول عليه ، أو تحديده ، وجسد محاولاته الدائبة من أجل مجاوزة إنسانيته. وجسد كذلك فرديته وعقده وتمرده في إطار تحقيق ذاتيته. وجسد تعطشه للشهوة والإشباع الجنسي وتعطشه لاكتناز الأموال.
وقد تراوحت صورة الإنسان عبر المسرح بين الانتهازية والنبل والخسة والعدل والظلم والحرب والسلم والأمانة والخيانة والحب والكراهية والانتقام والتسامح والأمن والإرهاب.
ولأن الأساس في فنون المسرح هو التمثيل فقد تبارت المدارس التمثيلية في تأصيل نظرياتها ما بين إلحاح ستانسلافسكي على تركيز الممثل على الصفات الداخلية والخارجية تأكيداً للذات الفردية عن طريق إمساكه بالعاطفة الحاكمة للشخصية التي يمثلها وتمثيله لنفسه المجرّبة في سبيل تمكينها من تجسيد حكم الذات على الموضوع الخارجي ، ومنطق بريشت الذي يرشد الممثل إلى خلق مسافة بينه وبين دوره للتركيز على عدم الإلحاح على صنع الاكتمال الفني الذي يطلبه ستانسلافسكي و "بارو" و " لي ستراسبرج " أو التوحد والحلولية الصوفية التي يطلبها جروتوفسكي أو الاحتفالية التي يحيل بها "أرتو" فن الممثل إلى طقس أو تباين نظرية المسرح الشرطي عند "ماير هولد" في توظيفه لعلم حركة الجسم (البيوميكانيك) أو سيادة مدرسة السرد التمثيلي والسرد التشكيلي تحقيقاً لفكرة موت المؤلف التي استلهمها المسرحيون من فكرة (موت الخالق) التي نظر لها "نيتشه" . أو تحقيقاً لمقولة "ليوناردو دافنشي" الذي يطالب المتفرج فيها بأن يكمل إبداعياً رسم ما يقدمه الفنان رساماً كان أم مؤلفاً أو مخرجاً أم ممثلاً. ولينحو فن التمثيل بذلك نحو تفكيك دوره والكشف عن تناقضات الإبداع ، باعتبار الممثل ناقداً قبل أن يكون مبدعاً أو مؤدياً ، دون أن ينفي عن أدائه طاقة الإبداع.
وهذا البحث يعرض لدور المنهج العلمي في عمل الباحث المسرحي في اتجاه فض حيرته التي تتمثل في اصطدامه عند القياس والاستدلال على حقيقة ما يبحث عنها في مجال الإبداع المسرحي إذ أن القياس يجري على ما ثبت واستقر في نص أو في شكل إبداعي أو في ظاهرة متكررة عبر فترات زمنية متتالية وتراكمات معرفية عنها بما هو أكثر منه ثباتاً بحيث يتمكن الباحث من استعادة النظر المنهجي إليها وتحليلها أو تفكيكها حسب المنهج والأدوات المناسبة للقياس والاستدلال بوصفه مهارة مساندة لتوكيد المصداقية . ومن ثم حصر تداعيات الظاهرة وتطورها ثم ضبط معطيات دراستها وبحثها.
ولأن الأساس في فن المسرح هو التمثيل ، وهو فن زماني من حيث التعبير الصوتي وفن مكاني من حيث التعبير الحركي والتشكيلي؛ لذلك يصعب ضبط معطياته الأدائية على نحو ما تضبط معطيات العمل الأدبي في نص القصة أو القصيدة الشعرية أو في النص المسرحي -حتى مع كونه إبداعاً مرجأ وغير نهائي- وفق مقاييس يستنبطها الناقد أو يستقرئها من النص نفسه ؛ ذلك لأن النص قد ينتهي بين ضفتي كتاب ، أما الأداء فمتغير تبعاً لكل مرة يعرض فيها النص مجسداً على المسرح وأمام جمهور : ولأن قياس ذلك التغير من حيث حجمه وقيمته وأثره محكوم بعامل أو أكثر ، قد يكون عاملاً متغيراً مستقلاً، وقد يكون عاملاً مستقلاً معتمداً على العامل المتغير المستقل ، لذلك فإن الباحث ينهج في طريق بحثه المنهج التجريبي – وهو الأنسب في مجال البحث في العرض المسرحي– في حين يمكن قياس النص المسرحي قياساً منهجياً وفق المنهج الاستنباطي الذي يعتمد على طريقة المتخلفات وطريقة التغيرات المتلازمة – خاصة عند البحث في خصائص أسلوبية متكررة وتشكل ظاهرة في إبداع كاتب مسرحي ما أو مخرج مسرحي محدد أو ظاهرة في الأداء التمثيلي أو الموسيقي أو التشكيلي لمبدع بعينه أو عند القياس البيني بين خصائص متناظرة أو متقاربة بين أسلوب وأسلوب آخر مناظر أو في مجمل إبداع مبدع ما ومجمل إبداع آخر عند ملاحظة وجود عامل مشترك.
ولأن النص المسرحي مادة فكرية متناقضة في وحدة تتشكل بالتجسيد أو التشخيص المعروض بالطاقة التصويرية والتعبيرية الإيهامية التطهيرية أو الإدهاشية الإدراكية التغييرية بوساطة إبداع بشري مستعين بتقنيات آلية تأثيرية مصاحبة، ولأن الطاقة وفق اسحق نيوتن (1642-1727م) (تعادل الكتلة مضروبة في ضعف سرعتها) فإن الطاقة الإبداعية للعرض المسرحي تعادل مادة النص المسرحي مضروباً في ضعف سرعة تجسيده تجسيداً حاضراً أمام جمهور.
فإذا كانت الكلمة تشكل كتلة صوتية تشغل حيزاً في الزمن عندما تلفظ ؛ فيكون مكمن قوتها ناتجاً عن الزمن المستغرق في لفظتها مضافاً إليه الدافع من وراء لفظها. فالزمن في اللفظ يتحدد بالدافع وبالإيقاع الذاتي والموضوعي لتشكله ليصبح طاقة اتصالية أو تعبيرية إبداعية مؤثرة عبر الإمتاع والإقناع؛ فبوساطة طاقة الأداء ودافعه معاً ؛ يتحدد التعبير الساحر أو الجذاب المؤثر القوي الإيجابي أو الضعيف السلبي.
إن الحوار في النص المسرحي يشكل الكتلة (المادة) فإذا ضرب في ضعف سرعة تجسيده بالصوت ، والصورة محمولة على دوافع الأداء المتوافقة مع دوافع الاستقبال أو التلقي ؛ حصلنا على التعبير و مدى تأثيره أو مدى قوته المؤثرة.
وإذ اعتبرنا المسرحية كتلة أو شكل كمي ؛ فتأثير تغيرها دراميا وجماليا من النص إلى العرض ؛ يتحقق بقدر ما يبذله الأداء الإبداعي البشري والتقني – جنباً إلى جنب – في تحريكها أو بعثها أو إعادة خلقها في اتجاه مشاعر الجمهور ، وإدراكه المتباين. وهذا اينشتين يقرر "إن تغير كتلة الجسم مرتبطة كل الارتباط بالشغل المبذول عليه ويتناسب مع هذا التغير تناسباً طردياً مع مقدار الشغل اللازم لاكتساب حركة الجسم".
يرتكز هذا البحث إذاً على هذا المهاد النظري في سبيل إثبات وجود أسس نظرية كافية لإخضاع المسرح لمناهج العلم. مع الأخذ في الاعتبار أن المقاييس المنهجية التي تصلح في بحث النص المسرحي لا تصلح في بحث العرض المسرحي ، الذي يتغير من تناول إلى تناول آخر حيث القياس يصلح مع ما هو ثابت ومستقر بما هو أكثر منه ثباتاً. فإذا كان النص المسرحي مستقراً في كتاب، فإن العرض المسرحي لا يعرف الاستقرار لأنه تفاعل حي ومتجدد من يوم إلى يوم آخر، ومن رؤية إخراجية إلى رؤية أخرى خاصة عند مغايرة أسلوب الإخراج لأسلوب النص ، ومن أداء إلى أداء آخر ، ومن تلقٍ إلى تلقٍ آخر. إلى جانب دخول عناصر إضافية غير كلامية في نسيج العرض المسرحي مما يحير الباحث المسرحي ما بين المنهج الإحصائي والمنهج المعياري وصولاً إلى استدلالات ونتائج يمكن الوثوق بها ذلك أن الاستدلال القائم على الشواهد وعلى التجربة هو مرآة الحقيقة ، ومتى خوى البحث من الاستدلال خوى البحث من الحقيقة.
أولاً : البحث المسرحي بين المنهج الاستنباطي والمنهج التجريبي
المنهج مجموعة من العمليات الذهنية تتيح تحليل الواقع وفهمه وتفسيره. ويعد المنهج جوهر العلم ، وبدونه لا تصحح المعارف. والمنهج مسار عقلي أو فكري عام يربط بين مجموعة من العمليات الفكرية والفنية . ومنه الاستنباطي ومنه التجريبي. ويتأسس كلا المنهجين على الاستدلال ، فاستدلال أحدهما على حقيقة ما يبحث قائم على الاستنباط الذي ينشغل القياس فيه بنظرية التقدير. أما الآخر فتجريبي استقرائي يعتمد الاستدلال فيه على نظرية الفروض.
أولاً : المنهج الاستنباطي
وهو منهج (مل) ويقوم على الاستنباط قياساً على استقراء الظواهر ، وما بينها من تغيرات ؛ حيث يقاس الغائب على الحاضر ، وغير المعلوم على المعلوم، والمتحرك على الثابت ، فالإلمام بجزء أو بعدد من الأجزاء الظاهرة أو القضية – موضوع البحث – يمكن القياس عليها لاستكمال المعرفة عن الكل المتبقي ، للإلمام بحقيقة الظاهرة كلها أو بأسبابها عن طريق الاستنباط الاستقرائي إلماماً قائماً على التقدير.
نظرية التقدير :عن طريق التقدير يستدل بالجزء الحاضر على الكل الغائب ؛ فما تثبت صحته في جزء من الظاهرة أو القضية تنطبق نتيجته على كل أجزاء تلك الظاهرة أو تلك القضية الملتبسة . فسوء سلوك رجل ما أو فتاة ما في واقعة ما – ولو كانت هي الواقعة الوحيدة التي حدثت منها – يؤخذ قرينة أو دليلاً استنباطياً – حسب توصيفها – على فساد ذلك الرجل أو تلك الفتاة . وهذا المنهج يتخذ بفاعلية في أقسام الشرطة عند غياب التحقق من نسبة جريمة ما إلى شخص بعينه ؛ إذ سريعاً ما تحوم الشبهات حول متهم سابق في دائرة الأمن في المحافظة عينها التي وقعت تلك الجريمة المجهولة نسبتها إلى فاعل معلوم يمكن توجيه الاتهام إليه مما يدفع ضباط المباحث إلى إلصاق الاتهام بأحد المشبوهين الذين سبقت إدانتهم في جريمة مماثلة – حتى وإن كانت صلته بالجرائم قد انتهت وأصبح مواطناً سوياً وصالحاً – ذلك أن الضابط قد استنبط من تشابه ملابسات الجريمة المجهولة الفاعل مع ملابسات جريمة سابقة مناظرة لها أنه الفاعل فحكم – تقديراً – بصلة ذلك المشبوه بالجريمة – موضوع تحقيقه – ومن ثم قرر اتهامه إذ قدّر عن طريق المقاربة السابقة بين ملابسات مشتركة أو متطابقة بين الجريمة السابقة والجريمة اللاحقة المجهلة أن الفاعل في الجريمة الأولى المنتهية هو نفسه الفاعل في الجريمة الثانية المجهلة الفاعل.
وهذا منهج يقوم على تقدير الضابط بين متشابهات جزئية في معلوم ومعلوم آخر.
على ما تقدم فإن المنهج الاستنباطي يقوم على تقدير صحة الغائب قياساً على حاضر معلوم كما يقوم أيضاً على تقدير متغير متلازم قياساً على توافقه مع متغير آخر إذ يغير كل منها الآخر. فالقياس في كلتا الطريقتين يقوم على الاستنباط.
وينطلق هذا المنهج ارتكازاً على نظرية التقدير عبر طريقتين : طريقة المتخلفات ، وطريقة التغيرات المتلازمة :
أولاً : طريقة المتخلفات :
تأسست هذه الطريقة على أنه " إذا عرفت العوامل المحددة والمسببة لجانب من جوانب ظاهرة معينة ، فإن باقي جوانب الظاهرة يمكن إرجاعها إلى العوامل الأخرى المتبقية أو المتخلفة " ومن أمثلتها في الطبيعة رؤية دخان في مكان مكشوف دون رؤية النار التي هي سبب لظهور الدخان. وهي رؤية كيفية تقدر تقديراً عقلياً لغياب صورة الطرف الآخر عن الصورة المرئية وهي النار ، لأن المنطق العقلي يستدل على النار الغائبة عن عين الرائي بظهور مظهر من المظاهر التي لا توجد إلاّ بوجودها.ومن أمثلتها في المسرح استدلال الفلاحين في مسرحية (الأم شجاعة) لبريشت على وجود جنود في قريتهم بسماعهم لصوت قرع الطبلة دون أن يعرفوا من الفاعل ومن ثم قدروا أن عودتهم إلى القرية – مع أن يوم العمل في الحقول قد انتهى – يشكل خطراً عليهم ، إذ يمكن للجند أن يتمكنوا من تجنيدهم تجنيداً إجبارياً في أحد الجيشين المتحاربين.
والخرساء ابنة (الأم شجاعة) حاضرة في قرعها للطبلة فوق سطح أحد منازل الفلاحين وهي في قرعها للطبلة تكشف بتحذيرها للفلاحين عن الحقيقة المؤسسية التي تنتظرهم أي تكشف بفعلها الحاضر عن فعل مضمر – غير ظاهر ولكنها استنبطته بالربط بين وجود الجنود وضابطهم في القرية. وهو يشكل جزءً من حقيقة أنهم جاءوا ليجندوا فلاحي تلك القرية ، قياساً على خبرة سابقة متبقية من متخلفات معرفة سابقة مرت بها هي وأمها ، حيث سحبت قوات المتحاربين أخين لها .. أحدهما في صفوف جيش والآخر في صفوف الجيش الثاني المعادي له . وقد ترتب على ذلك قتل الأخ لأخيه وموتهما معاً.
وهذه الطريقة – نفسها – لاشك وسيلة مناسبة لبحث ظاهرة الاستلهام في مجال المسرح . فعند تعرض باحث ما لظاهرة استلهام التراث كما في مسرحية (الهلالية) ليسري الجندي أو (الفلاح عبد المطيع) للسيد حافظ أو (ديوان البقر) للسلاموني . أو إعادة إنتاج حدث تاريخي إنتاجاً مسرحياً كما حدث في (سليمان الحلبي) لألفريد فرج ، فإن (طريقة المتخلفات) هي لاشك الطريقة المناسبة لبحثه لأنه عند القياس وصولاً إلى الاستدلال على مواطن الاستلهام ، أو عن منبع الإبداع فيما أعيد إنتاجه عبر النص المسرحي ؛ لابد وأن يقف الباحث على المتن التراثي ليكشف عما فيه مما يغاير المعالجة الاستلهامية والإبداعية (حدودها وقيمتها وأثرها في تأكيد الهوية) ففي نص مسرحية السيد حافظ (حكاية الفلاح عبد المطيع) نرى فلاحاً تعتقله شرطة (الظاهر بيبرس) لأنه خالف أمر السلطان القاضي بارتداء أهل مصر الملابس السوداء حزناً على الرمد الذي أصاب عيني السلطان ومن ثم صدر فرمانه بإلزامهم بطلاء منازلهم باللون الأسود ... ومع ذلك ظهر الفلاح بثوب أبيض ، كما أن مسكنه مطلي باللون الأبيض . وهذا مخالف لأوامره ، وعندما تشفى عينا السلطان يؤمر أهل مصر بارتداء الزي الأبيض وطلاء المساكن بطلاء أبيض ، ومن ثم يطلق سراح الفلاح عبد المطيع. فإذا به خشية أن يعاد اعتقاله يرتدي زياً أسود ويطلي مسكنه بطلاء أسود ؛ ذلك أنه لم يكن يعلم بتغير الأمر السلطاني بشفاء السلطان. وهنا يعاد إلى السجن.
ولكي يتحقق الباحث من نسبة تلك الحكاية إلى عصر "الظاهر بيبرس" عليه الرجوع إلى مصادر التاريخ في حقبة حكم الظاهر بيبرس وعندها سوف لا يجد أثراً يشهد بحدوثها في فترة حكمه وهنا يصاب الباحث بالحيرة. ويكتشف أن عليه النبش في وقائع التاريخ المملوكي ؛ ليصل إلى طريق مسدود.
فالحادثة المستلهمة لا أثر لها في تاريخ الظاهر بيبرس ولا في التاريخ المملوكي . وحيرة الباحث هنا نابعة من أن الكاتب المسرحي الذي وظّف هذه الحادثة محوراً لحبكته المسرحية لم يشر إلى مصدر استلهامه كما أن الحادثة التي نسبها إلى الظاهر بيبرس لم تحدث على الإطلاق فيما ثبت من تاريخ المماليك. غير أن دأب الباحث يستطيع في النهاية بعد جهد بحثي أن يكتشف أن تلك الحادثة مستلهمة من حكايات (ألف ليلة وليلة) وأن الكاتب أعاد إنتاجها واللافت هنا المراد التنبيه إليه أن الباحث في قياسه الاستدلالي يقيس الاستلهام الحاضر في إبداع المؤلف المستلهم للحادثة التراثية ، أنه يقيس الحدث المستلهم على متخلفات تراثية في إحدى حكايات شهرزاد في لياليها الواحدة بعد الألف.
ثانياً : طريقة التغيرات المتلازمة :
يرى "مل" أن هذه الطريقة تستخدم في الحالات التي لا تصلح فيها الطرق السابقة . وتتلخص في أنه عند تغير شيئين بصفة متوافقة ومتلازمة ؛ فإما أن تكون التغيرات الحادثة في أحدها سببها التغيرات الحادثة في الأخرى؛ وإما أن يكون التغير في كليهما قد حدث نتيجة عامل مشترك بينهما. وقد استشهد (مل) على هذا المبدأ بتأثير جاذبية القمر على ظاهرة المد والجزر في الأرض . وبما أنه لا يمكن تناول القمر من الناحية التجريبية ، كإزالته مثلاً من على مسرح الأحداث لمعرفة ماذا سينتج عندما يختفي من الوجود؛ فإن طريقة التوافق أو طريقة التباين لا تصلحان في هذا المجال. وإن الطريقة المثلى لدراسة كهذه هي طريقة التغيرات المتلازمة. وذلك بمقارنة التغيرات في عملية المد والجزر بالتغيرات في موقع القمر بالنسبة للأرض ، يتبعه تغير في وقت المد العالي ، والمنخفض ، ومكانه في جهات الأرض المختلفة ، مع حدوث المد العالي دائماً في ذلك المكان من الأرض ، القريب من القمر ، والذي يقع في الجانب المواجه مباشرة.
ومن هذه الملاحظات يمكن استنتاج ثلاثة أمور :
الاستنتاج الأول : أن المد يؤثر في حركة القمر
الاستنتاج الثاني : أن حركة القمر أو تغير الموقع الذي يمارس فيه جاذبيته يرفع المد.
الاستنتاج الثالث: أن التغيرات الحادثة في موقع القمر وفي المد . متأثرة جميعها بعامل آخر مشترك بين الاثنين"
ولو وقفنا وقفة بحث منهجي عند البناء الدرامي المتوازي في بعض النصوص المسرحية مثل (الملك لير) أو عند مسرحية شوقي الشعرية (مصرع كليوباترا) أو وقفنا عند البناء الدرامي المتوازي في مسرحية ألفريد فرج (سليمان الحلبي) - حيث يقوم البناء الدرامي في تلك المسرحيات علة حبكتبن متوازبتب المسير والتطور- لوجدنا أن المنهج الاستنباطي بطريقة التغيرات المتلازمة هو الأصلح للاستدلال على طبيعة التغيرات الحادثة في مصر إبان سيطرة الحملة الفرنسية على مقدراتها . ففي الحدث الموازي الذي رسمه ألفريد فرج بابتكار شخصية من خياله وهي شخصية (حداية الأعرج) – الذي لقب نفسه بلقب ساري عسكر حداية مجارياً به لقب كليبر ساري عسكر فرنسيس – ليكشف عن تلازم نهب عصابة الداخل (حداية وعصابته) مع نهب عصابة الخارج (كليبر وضباطه) لثروات مصر. فالمحتل الفرنسي يهرب رصيد الذهب المصري إلى فرنسا وعصابة حداية تقطع الطريق على كل عابر سبيل يدخل أو يخرج من الحدود المصرية فهذا الحدث متلازم ما بين النهب الأجنبي المحتل لممتلكات الأمة من ثرواتها النفيسة ذهباً والحرابة الداخلية. فوجود المحتل الفرنسي عامل أدى إلى مقاومة الوطنيين المصريين له أي أنه أوجد عاملاً آخر في مواجهته. ونهب الجيش الفرنسي لذهب الأمة المصرية عامل أدى إلى نهب عصابات الحرابة وقطع الطريق على الآمنين وترويعهم في أنفسهم وفي أموالهم . وكلا العاملين متلازمين في الفعل أو الحدوث ، فإذا أراد الباحث أن يستدل على سبب حدوث حالات الحرابة في الداخل ، لزم أن يرجع إلى حدوث حالات تهريب ذهب مصر وثرواتها إلى خارج البلاد ، فالعامل على نشاط حركة الحرابة هو نهب كليبر وضباطه لرصيد مصر من الذهب ، ذلك الذي افتضح أمره عندما سقط من عمال الميناء صندوق كلفوا بحمله إلى سفينة حربية فرنسية راسية في ميناء الإسكندرية فتفسخت ألواحه وبعثرت حوله على رصيف الميناء سبائك الذهب . فالنهب الأجنبي الغازي أثر في خلق عصابات قطع الطرق. أما العامل على نشاط حركة الشعب المصري بقيادة أزهرية فكان وجود الاحتلال الفرنسي نفسه وضرورة مقاومته ؛ فالاحتلال يفعّل المقاومة الوطنية. والأمر نفسه يمكن قياسه على الواقع العراقي اليوم وما يتلازم فيه من مقاومة للمحتل الأجنبي بقيادة أمريكا .
النظرية السيميولوجية والمنهج الاستنباطي
لكل منهج من المنهجين الاستنباطي والتجريبي عدد من النظريات التي تمثل اتجاه ذلك المنهج فللمنهج التجريبي نظريات تتفرع عنه وللمنهج الاستنباطي نظريات منها:
النظرية السيميولوجية : ومنطلقاتها استنباطية لاعتمادها على كشف حقيقة الغائب عن طريق الدال الجزئي وصولاً إلى الدلالة الكلية أو من البنية الصغرى للمنتج الإبداعي إلى البنية الكبرى لذلك الإبداع نفسه وهو استدلال معياري لأنه تأسس على مقابلة بنية صغرى (دال signifier) ببنية أخرى سواء أكانت المنظومة تنطبق عليها (إشارية أم رمزية أم أيقونية) ثم مقابلة كل منظومة من منظومات العلامات في البنى الصغرى بغيرها من المنظومات العلاماتية المجاورة وضمها في إطار منظومة علاماتية أكبر فيما يعرف بالعلامة الميتاتياترية أو الميتا لغوية ، ليتسنى للباحث بعد ذلك كله أن يصل إلى استنتاج دلالة البنية الكبرى الكلية للإبداع – موضوع البحث-
وللتمثيل على ذلك نورد هذه الحكاية القصيرة حول إعرابي شرد بعيره فدار يبحث عنه في صحراء معشبة وفي أثناء بحثه الحائر اصطدم بثلاثة رجال فأخذ يسألهم عن بعيره الشارد فسأله أولهم : هل هو أظلع (أعرج) ؟
الإعرابي : نعم . نعم . أين وجدته بحق الله (لا يتلقى إجابة)
الثاني: (يبادره) هل هو أعور ؟
الإعرابي : نعم هو كذلك أين هو ؟ (لا يتلقى إجابة)
الثالث : (يبادره) هل هو أزعر ؟
الإعرابي : نعم يا أخي نعم . هو أزعر بالله عليكم دلوني على مكانه
الثلاثة : لكننا لا نعرف مكانه
الإعرابي: (بدهشة) لا تعرفون مكانه ؟! ولكنكم وصفتموه وصفاً دقيقاً فكيف أصدق أنكم لا تعرفون أين هو وقد رأيتموه
الثلاثة : ولكننا لم نره !!
الإعرابي : وكيف وصفتموه لي إذن بتلك الدقة ؟
الأول : رأيت آثار ثلاثة أقدام على الرمل ولم يظهر أثر لقدم رابع عليها فعرفت أن بعيرك أظلع.
الثاني : رأيت أن العشب على جانب من الطريق مجتثة بينما العشب على جانبه الآخر على حالها فعرفت أن بعيرك أكل العشب من ناحية عينه التي يرى بها
الثالث : رأيت البعر منثوراً في وسط الطريق على خط واحد ، فلو كان لبعيرك ذيل لكان قد حرّكه يمنة ويسرة لينثر البعر على جانبي الطريق" .
إذن فقد استدل ثلاثة الرجال على البعير الغائب عن صاحبه عن طريق علامات رأوها مرأى العين وهو وإن كان استدلالاً بالحاضر على الغائب ؛ إلا أن الحاضر (العلامات) مكتشفة اكتشافاًَ حضورياً ولم تكن متحصلة من قبل ضمن خبرات سابقة للرجال الثلاثة هو استدلال بالمعاينة كاستدلال هاملت على الشبح استدلالا مادياً ، بعد استدلاله الذي أبلغ به عن طريق شهادة الحارسين مرسلس وبرناردو مؤكدة قولاً نقلياً بشهادة صديقة هوراشيو. فشهادة الثلاثة دليلاً نقلياً حاضراً على وجود شيء عاينوه لكنه ما يزال غائباً عند هاملت وبذلك يصبح الاستدلال بالنسبة إليه استنباطياً لو كان قد أخذ به ، على حين أن الاستدلال نفسه بالنسبة إلى كل من هوراشيو ومرسلس وبرناردو هو استدلال تجريبي ، لأنه استدلال الحاضر على حاضر (مستحضر حضوراً ميتافيزيقياً).
ثانياً : المنهج التجريبي
يعالج هذا المنهج مسألة السببية والنتيجة . ذلك أن كل تجربة مهما اختلفت في نوعها إنما تستهدف الكشف عن علاقة نتيجة ما بأسبابها. وهو يتمثل في (النيوتنية) خير تمثيل كما يتمثل في (الفيثاغوراسية) ويتركز البحث بوساطته في المصادر الذاتية لحركة تطور الموضوع المعروض على البحث ودوافع تلك الحركة . كما يرتكز هذا المنهج على نظرية الفروض وسيلة لإثبات حقائق تتحول إلى قوانين حالة تحققها.
نظرية الفروض :
والفروض حلول مؤقتة أو تفسيرات مؤقتة يصطنعها الباحث لحل إشكالية البحث (منطومة مشكلاته) وهو بمثابة إجابة محتملة عن أسئلة البحث أو إشكاليته. وتمثل الفروض علاقة بين متغيرين أحدهما متغير مستقل والآخر متغير تابع إذ أن زيادة ما في أحد المتغيرين تكون مصحوبة بنقص عند المتغير الآخر.
وتنقسم الفروض إلى نوعين : ( فرض مباشر – فرض صفري )
أولاً : الفرض المباشر : تنبع ضرورته عند البحث حالة وجود علاقة غير مثبتة بين متغيرين.
وتمثيلاً لذلك يمكن الوقوف عند البحث عن علاقة فساد صناعة الأغذية في مصر بعد عام 1967 أو بعد حرب 1973 أو انحطاط العروض المسرحية في التسعينات وما تلاها من السنين.
ثانياً : الفرض الصفري : يصطنعه الباحث حالة انتفاء وجود علاقة بين المتغيرين.
كصناعة الغناء أو صناعة المسرح أو السينما أو النقد أو الميديا في مصر – مثلاً – بين الصعود والهبوط – فالعلاقة غائبة في الحالتين فالمنتج الفني تغير علواً أو هبوطاً والمتلقي تغير والعلاقة غائبة هل لتغير الصناعة – موضوعاً – ( من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية والثقافية – التفاعلية الجماهيرية ) أو لتغير المبدعين أنفسهم ؟
" والتجريب في مضمونه العام هو تقديم لتأثير عامل أو عدد من العوامل على ظاهرة ما " ويعتمد المنهج التجريبي على عاملين هما : ( العامل المتغير المستقل – العامل المتغير المعتمد .)
أولاً : العامل المتغير المستقل :
هو العامل المؤثر على غيره من العوامل. ومثاله في المسرح الإخراج المفسر للنص المسرحي فالتغير من متحفية النص المسرحي إلى بعث الشخصيات ليس كما خلفها إبداع المؤلف ولكن وفق رؤية تفسيرية أو تفكيكية لخطاب النص لتعطي الشخصيات عبر الأداء المبدع للممثلين وللمعادل المرئي للرؤية الإخراجية دلالات متعددة لدى الجمهور . ومثاله في النص المسرحي تحول شخصية "ليزي" في مسرحية سارتر من كونها (مومس) إلى إنسانة فاضلة على الرغم من الضغوط الرهيبة وأساليب الجبر الاجتماعي الطبقي الذي مارسه عليها عضو الكونجرس ليرغمها على تغيير شهادتها ليتحول الاتهام بقتل زنجي من ابن أخته إلى زنجي آخر بريء فـ(ليزي) تتغير من حالة جبر اجتماعي طبقي ألقى بها في مستنقع الرذيلة إلى حالة اختيار وحرية في اتخاذ القرار النابع من ذاتها بإزاء موقف ما في مواجهة الآخر الباطش وبذلك جاء تغيرها وفق عامل ذاتي مستقل. ومثاله أيضاً شخصية (سليمان الحلبي) فقراره باغتيال كليبر نتاج عامل متغير مستقل لأنه نابع من إرادته هو نفسه بديلاً عن أمته وحضارتها في مواجهة الآخر ممثل المدنية الغربية . لقد تحول من طالب علم إلى طالب ثائر لكرامة الأمة وللحضارة الإسلامية كلها.
ومثاله شخصية (أنتيجوني) وإنزالها لجثة أخيها (بولينيكس) ونثرها لحفنة تراب على الجثة مخالفة لقرار خالها الحاكم كريون تحقيقاً لشعيرة دينية وسلوك غريزي كوني.
ثانياً : العامل المتغير المعتمد :
وهو الذي يعتمد على العامل المتغير المستقل . ومثاله فرار (أنطونيو) بسفينته أو بنفسه من معركة (أكتيوم) خلف سفينة كليوباترا التي انسحبت ، ومثاله (أوديب) في حادثة قتله لأبيه وزواجه من أمه دون أن يعلم ، ففعله قام على عامل متغير معتمد على ما قررته الآلهة في الغيب – حتى وإن ظن هو في قرارة نفسه قبل أن يصدمه الكاهن تيريزياس بالحقيقة – كذلك فقأه ليعينيه كان عاملاًُ متغيراً معتمداً على عامل آخر هو معرفته لحقيقة كونه السبب الأوحد في الطاعون الذي أصاب (أبناء كادموس) وتفشى في طيبة كلها.
ومثاله (عطيل) فكل أفعاله ردود أفعال لدسيسة (ياجو) فهي عوامل متغيرة معتمدة على عوامل متغيرة مستقلة لياجو فهي أحداث مدفوعة بتأثير من أفعال ياجو أو هي (تغذية راجعة) للتغذية المعلوماتية المغلوطة والمغرضة لياجو. وكذلك أفعال الخادم (جان) مع سيدته (جوليا) في مسرحية سترندبرج لأن تجرؤه عليها وإن كان في أحد أبعاده نابعاً من طموحه الذاتي الزائد عن الحد في التغير من طبقته صعوداً على جسدها إلى الطبقة العليا إلاّ أنه اعتمد على عامل متغير مستقل خاص بها فلقد تغيرت في سلوكهامع الخدم من سيدة القصر إلى مجرد فتاة لاهية متبسطة مع الخدم إلى حد الابتذال ، لذلك اعتمد تغير جان على عامل تغير جوليا المستقل.
تتحصل النتائج بالمنهج التجريبي محمولة على أسبابها من خلال التجربة العملية التي يجريها الباحث وقد عرف هذا المنهج عند الحسن بن الهيثم في مصر قبل أن يمارسه فرانسيس بيكون الذي عاصر شكسبير وتوفى بعده بثماني سنوات (1624م)
ولو رجعنا إلى سقوط (جوليا) سنجده – أيضاً - نتيجة محمولة على عامل الغواية وهو عامل مستقل متفاعل مع عامل خديعة من خادمها معتمد على غوايتها (عبثها غير المسؤول) فالغواية كانت سبباً لتجرؤ الخادم وتعديه ، والعبث نفسه محمول على خلل العلاقة التربوية ؛ فالأم متوفاة والوالد لا يكاد يلقاها والهوة بينهما واسعة والذاكرة فاعلة في حاضرها حيث يتشخص ماضي الأم أمامها متفاعلاً مع الوسط البيئي فتتعمق عزلتها واغترابها وتتكشف حدته على المستويين الذاتي والرمزي حيث يصبح الاغتراب ماثلاً بين نماذج طبقية تتمثل في نموذج طبقة السادة متمثلة في الكونت ونموذج طبقة الفقراء والرعاع ممثلة في أمها – والنتيجة النهائية هي وقوعها بين غربتين – غربتها عن أبيها بصفتيه الأبوية والطبقية وغربتها عن أمها وعن أصولها الطبقية . ذلك أنها فقدت أمها بموتها وأبعدتها حياة السادة في القصر عن جذور طبقة أمها فهي تمد جذورها الطبقية في تربتين طبقيتين متعارضتين ، ولكن دون غوص في أعماق هذه التربة أو تلك ؛ لذلك اقتلعتها رياح الرغبة المدمرة للذات بوصفها طبقة ؛ بأسرع مما كانت تتصور . ولم يعد الأمر مجرد سقوط أخلاقي ، بل تحول إلى سقوط اضطراري من عالم الأحياء نتيجة سقوطها الأخلاقي على مستويين اجتماعيين.
انساقت جولي لاشعورياً نحو تجربة مقاربة انتماء لطبقة أمها ولترد لأمها – بوصفها ممثلة للطبقة الأدنى – اعتبارها الذي داسته قدم طبقة أبيها الحديدية ؛ فأوقعت نفسها بإرادتها تحت قدمي خادمها الطينية.
وإذا كانت أمها قد أهينت حين اغتصبها سيدها الكونت وأنجبت جوليا ؛ فإن جوليا هي التي أهانت ذاتها ؛ لأنها في واقع الأمر قد اغتصبت خادمها علانية.
ولقد اثبتت لنا تجربتها تأثير جينات الوراثة فما حدث من أبيها على أمها – خادمته آنذاك- حدث على خادمها جان؛ فالسيد في كلا الحالتين كان هو الفاعل المتغير المستقل – سواء تمثل ذلك السيد في (الكونت والدها) أو تمثل في جولي نفسها ، غير أن جولي نفسها كانت عاملاً متغيراً مستقلاً وعاملاً متغيراً معتمداً في آن واحد لأن غوايتها المعلنة لخادمها أثرت على غوايته المستترة لها ، فغوايته اعتمدت على غوايتها له. فهي شخصية مركبة، تحمل الصفات الوراثية من الأب والأم من ناحية والصفات الوراثية لطبقة السادة وللطبقة الدنيا في شريحتها المتدنية (عناصر بيئية).




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى