رسالة من نجيب محفوظ الى د. لطيفة الزيات

عزيزتي الدكتورة لطيفة الزيات
أعترف لك بأنني لست معاصرا إلا في النطاق المحلي ومع بعض التحفظات.. إنني قارئ لا بأس به، أتابع خلاصات العلم الحديث والفلسفات الحديثة، ولكن قدرة العقل على التكيف تفوق قدرة الشخص ككل. وقد كان عصر الإقطاع يحولنا إلى “أشياء”، والصناعة الحديثة بدورها حولت الإنسان العربي فيما يقال إلى شيء أيضا، ولكن ما أبعد الهوة بين هذا الشيء وذاك.
أما قصتي مع الأساليب الحديثة، فإنني أرى فيها بعض تجربتي الشخصية، وأختارها أو هي تختارني بحسب الأحوال والمقامات، وأذكر الآن أنني كتبت “زقاق المدق” بالطريقة التي كتبتها بها وأنا على علم بجويس وكافكا وبروست، وكان النقد يوجه إليّ في ندوة كازينو أوبرا من الأستاذين بدر الديب ويوسف الشاروني بأنني أكتب بأسلوب القرن التاسع عشر، ولكنني وجدت الشجاعة أن أكتب الثلاثية بنفس الأسلوب لشعوري بأنه المناسب للتجربة التي أقدمها.

بعد ذلك تغير ذلك الشعور، فلم يعد يهمني الفرد كفرد له خواصه في زمان معين ومكان محدد، ولكني أخذت أبحث فيه عن الإنسان في موقف ما، ومن دون تردد وجدتني أنتقل إلى أسلوب جديد مناسب سواء في القصة القصيرة أو المتوسطة. حققت عام 1959 وما بعده ما طالبني به الديب والشاروني في الأربعينات وأبيته، ولكن لأسباب ذاتية جوهرية غير مجرد الاطلاع والثقافة.

ونحن في الأساليب مسبوقون كما تعلمين، ولذلك لم أجد مناسبة للأخذ من الأجيال اللاحقة أو المعاصرة لي ما دمت أستقي من النبع الذي منه يستقون. والحق أن الحظ لم يسعدني بالتعرف إلى جيل الشباب إلا قبيل النكسة، بعد أن أنجزت جل أعمالي، ولا أقول ذلك ترفعا، فإنني على استعداد طيب للإفادة من أي زميل مهما كان عمره لو أحدث في الفن جديدا وجدت فيه إشباعا لحاجة أبحث لها عن شكل مفتقد. وثابت أنني ملت إلى تجربة الأساليب الحديثة بدءا من عام 1959 قبل أن يشرع أغلبية الشبان الجدد في نشر شيء من أعمالهم. هذه حقيقة لن تقلل من مجهود الشباب الذي أحترمه وأعجب به، كما ينبغي الاعتراف أيضا بأن كثيرين منهم يجربون أساليب لم أقترب وربما لن أقترب منها على الإطلاق.

نجيب محفوظ

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى