د. محمد عبدالله القواسمة - الإغراق في الكتابة عن الذات

يلاحظ الذي يتمعن فيما يكتب هذه الأيام، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي أنه يدور، في الغالب، حول الذات، ليس بالأسلوب السليم الذي نعرفه، بأن يتناول الإنسان ذاته بوصفه جزءًا من المجموع، وهمومه لا تنفصل عن الهم العام، وإنما يتحدث عن نفسه، وعن طفولته، والمدارس التي درس فيها، والجامعة التي تخرج فيها، وكيف تزوج وبنى أسرة. ثم قد يتحدث عن إنجازاته في الحاضر، ولا ضير في أن يذكر معلومات عن أسرته وأهله وأولاده وما حققوه في الحياة. وربما يرفق حديثه صورًا توثق ذلك كله. إنه يعرض عالمه الخاص مكشوفًا للآخرين، يعرضه لإرضاء ذاته، وبيان أهميته، وإثبات وجوده انطلاقًا من نرجسية واضحة؛ فهو لا يتكلم عن ذاته بصدق، ولا يبوح بما فعل في ماضيه من سيئات، وما جرى له من انتكاسات.

لقد انجرّ إلى هذا النوع من الكتابة كثير من الكتاب المعروفين، فنرى بينهم من يتحدث عن طفولته وبطولاته ومقاومته للعراقيل التي اعترضته في الحياة، والمصائب التي تغلب عليها. وبعضهم يخبرنا أولًا بأول تفاصيل ما يحدث له كل يوم، وهو ذاهب إلى العمل أو إلى السوق أو المقهى، وينقل إلينا أحاديثه مع من يلتقيهم حتى مع السائق أو مع الركاب في وسائل النقل العام. وإذا ما كتب عن الآخرين فإنه يكتب من خلال علاقته بهم، وصداقته لهم. إنه لا يهدف إلى أن يُشركنا في معرفة المجتمع والحياة، بل ليطلعنا على مهارته وذكائه في التعامل مع البشر.

لا شك في أن تنوع هذه الكتابات يجعلنا نجرؤ إلى تقسيمها إلى أقسام كأن نقول: أدب الشوارع والساحات، وأدب الأسواق، وأدب وسائل النقل العام. وكل هذه الكتابات تجد من يقرؤها ويتفاعل معها؛ لأنها كتابات سهلة، وممتعة، ومسلية في الدرجة الأولى، لا تحتاج إلى إعمال العقل، وتتجاوب مع طبيعة الإنسان في طلب الخفة والسهولة، وتشبع فضوله في اقتحام خصوصيات الآخرين. كما تتجاوب مع التقدم الهائل في التكنولوجيا الإلكترونية، ووسائل الاتصال وانفجار المعلومات التي يكاد العقل الإنساني ينفجر من كثرتها وتزاحمها، لقد صار الإنسان يقضي ساعات وساعات مع أجهزة الحاسوب؛ فازداد إحساسه بذاته، وتعززت فرديته، ثم ان الكسل دب في أوصاله، وزادت أعباؤه الاقتصادية والمالية، مع ما رافق ذلك من مشاكل البيئة، وتغير المناخ، فابتعد عن الحياة ومخالطة البشر، ومضى في التفكير في ذاته وهمومه الخاصة، كما جاءت الحروب، والكوارث البيئية من أعاصير وحرائق وفيضانات وأمراض وأوبئة، لتزيد من خوفه وتلزمه البقاء في البيت خائفًا من المستقبل، ومرتجفًا من الحاضر، ومتحسرًا على الماضي.

إن الإغراق في الكتابة عن الذات جعلت الركاكة تنتشر في الأدب، وأضعفت اللغة، فسرت فيها الأساليب العامية، وانحط الذوق، وقُتل الابداع، واختلط الحابل بالنابل، وصعب التمييز بين الأدب الجيد والرديء، وتأقلم كثيرون من القراء العاديين مع هذه الكتابات الضحلة، بل وشاركوا فيها فتعزز لديهم الحس الذاتي وغابت الروح الجماعية.

إن هذه الحالة المتردية لواقع الكتابة ليست قدرًا لا نقدر على رده وتجاوزه، بل نستطيع ذلك بإعادة النظر إلى التكنولوجيا بأنها وسيلة لتسهيل حياة الإنسان، وليس للتحكم به، وإلزامه سلوكًا بعينه. إن تغير طرق تعاملنا مع هذه التكنولوجيا يعيد إلينا ما فقدناه من إنسانيتنا من خلال الإحساس بآلام الناس، ولتعبير عن أحلامهم وطموحاتهم ومستقبلهم. إن رهن كتاباتنا لهمومنا الذاتية دون دمجها بهموم الآخرين لا يجعل الأدب وحده في خطر، كما يرى الناقد والمفكر الفرنسي المعروف تزفيتان تودوروف بل وحياة الإنسان أيضًا؛ بوصف الأدب صانع الوجدان، والمؤثر في السلوك والأعمال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى