- رسائل عبد الرحمن منيف الى فيصل دراج

الرسالة الاولى:
من عبد الرحمن منيف لفيصل درّاج
29 /9 /1989 لاحظ ثلاث تسعات
عزيزي فيصل
حين بدأنا مناقشة هذا الموضوع، قبل شهر أو شهرين، كان يبدو أكثر وضوحاً، وربما أنا نفسي كنت أكثر يقيناً، لكن وأنا أقرأ رسالتك مرة بعد أخرى . وأمعن التفكير بالأسئلة التي طرحتها، أشعر أننا على تخوم المتاهة إن لم نكن في وسطها.
ومع ذلك ومع التهيب الذي يصل حدود الخوف، فإن الأسئلة المتوارية ، والتي تبدو محسومة في لحظات معينة، وغالباً ما تكون الأسئلة ، البسيطة، هي التي تجعل الإنسان في حالة من الإرتباك لا يتصورها.
كنت أفترض أن البطولة حالة يمكن تحديدها والقبض عليها. وكنت أفترض أن البطولة ما يصنعه الأبطال، لكن، بمجرد امتحان هذه الحالة، خاصة في مثل هذه الظروف التي نعيش فيها، تبين لي أن الإنسان ميّال إلى نسج غلالة سميكة من الأوهام ، وميًال أيضاً إلى وصف ما يعجز عنه أو ما يطمح إليه بأوصاف فضفاضة أقرب إلى مخادعة النفس. يمكن أن توجد مواقف شجاعة، وهذه المواقف في أوقات أخرى أو أماكن أخرى جزء من حياة الناس وطريقتهم في التصرف، لكن نحن نميل إلى إعطائها صفة البطولة، لأننا نعجز عنها أولا نتوقعها، وباعتبارها كذلك لابد أن يكون الذين فعلوها أبطالاً. وهكذا نخلق أوهامنا ثم نصبح أسرى لها.
ما أواقفك عليه أن موقف أو تصرفات لبشر حولنا تتسم بالجرأة وتحمل المسؤولية، وبالتالي فهي شيء مشتق من حالة أعلى، ربما حلم، وهذا ما يجعل الواحد منا يصفها بالبطولة، وهي في الحقيقة لا تتجاوز الاستعداد الأوضح والأعلى لتحمل المسؤولية، والدفاع عن قناعات وصيغة معينة في الحياة، بما فيها الدفاع عن الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وهذه الحالات أيضاً رجراجة، مؤقته،قابلة للضمورخاصة في حالة الخراب التي نعيشها في المرحلة الراهنة.هل يمكن أن نصف هؤلاء الذين يقومون بواجبهم أبطالاً؟
لنتفق سلفاً أن الأبطال لا وجود لهم البته. إن الآخرين الضعفاء، هم الذين صنعوهم. كان الضعفاء والعاجزون يريدون وهم،خيمة، قوة خارقة، وحتى غير إنسانية، فاخترعوا أكذوبة جديدة يستظلون بها ، فكان ما يسمى الأبطال.
لا أعرف، على وجه التحديد، لماذا أكره هذه الكلمة، وربما منذ وقت طويل. لم أفكر بذلك بدقة وتحديد، ولكن كنت أهجسه. والآن من خلال الأسئلة التي طرحتها تجعل الأمور أكثر وضوحا.
إذن البطل بح! هذه نقطة أولى. أما النقطة الثانية فهي أن تراكماً من التصرفات والقناعات والسلوك يمكن أن تجعل حالة عادية في مرحلة استثنائية في مرحلة أخرى .
ربما كان التاريخ سجلاً للمنتصرين فقط فإنه يجرد المهزومين من أبسط المظاهر الإيجابية، أو يحّول مزاياهم إلى من هزمهم.
ولذلك فإن المقاييس العامة المطلقة لا تتعدى الوهم. ومن هنا يجب أن نبحث عن مقاييس أكثر تواضعاً، وبعض الأحيان جزئية.
كيف نفسر استعداد بعض الناس للتضحية دون الرغبة بالمجدأوالبحث عن مكافأة؟ الرجال والنساء الذين يكابدون من أجل تأمين الرزق اليومي لغيرهم، من الأطفال والنساء، قبل أن يفكروا بأنفسهم ؟ والمرأة التي تحمي صغارها وتحمي نفسها في مجتمع ذئبي، كما تفعل الدجاجة، ودون توقع لنتائج، سوى رفض الإستسلام والهزيمة؟
كيف نفسر تضحيات ناس القاع، والذين لا يطمحون إلى أكثر من الاعتراف بإنسانيتهم وحقهم في منع الأذى والانكسار والذل، عن أنفسهم وعن غيرهم
كيف نفسر معاناة بعض الناس في حماية آخرين أو الدفاع عن أخطائهم أو شرفهم إذا لم يكن هناك دافع قوي وغامض ، وصامت أيضاً، في أن يفعلوا ذلك؟
إن شيئاً من القوة والإصرار يقبع في داخل الكثيرين من البشر، لكن هذا الشيء غالباً ما يطمر ويتبلد تحت الركام اليومي من العادة والبلادة واللاجدوى، والذين يصرون على هذا الشيء، ويحاولون باستمرار أن يجعلوه مقياساً لمواقفهم وسلوكهم ، ويبذلون جهداً يومياً في أن يبقى، إن هذا الشيء هو الإستثناء في المرحلة التي نعيشها الآن، وهؤلاء البشر هم الذين يستحقون منا صفة جديرة بتضحيتهم وصمتهم. البطولي؟ لا أظن، أنها صفة أخرى تزيد عن السلوك القطيعي ، وتتجاوز البلادة والاستسلام. في داخل هؤلاء حرقة، جنون من نوع ما، يقظة، وأيضاً جسارة، وهذا ما يجب أن نوصّفه بمزيد من الدقة والعناية.
زمننا يا فيصل ، هو جلادنا الأكبر. والزمن الصعب يجعل الجلاد أكثر قسوة، ربما خوفاً أو توقعاً، ولذلك يريد أن يحرق المراكب لكي لا يتيح للآخرين ركوبها.وفي مثل هذه الأزمنة يظهر الرجال والنساء الذين يرفضون الإمتثال.
وكما ترى بدأ يتراكم في طريقنا عدد متزايد من الأسماء والأوصاف: البطل والبطولة، الشجاعة، الشعور بالمسؤولية، الجسارة، وأخيراً ما تفجره الأزمنة الصعبة وطريقة مواجهتها والرد عليها.
في ظل هذا الارتباك نجد الكلمات الكبيرة بضجيجها وظلالها ما يفرض نفسه، أو ما نميل إلى التمسك به، أو نخترع وهماً إضافياً لعله يكون فيه إنقاذنا، ولذلك تولد كلمات كبيرة وخطرة، ولا نلبث أن نقع في شباكها .
إذا أفلتنا من الكلمات الكبيرة يمكن أن نجعل الأمور أكثر قرباً من الواقع ومما نريد الوصول إليه.
لولا عهر بعض الكلمات وابتذالها لقلت ، في محاولة لتقريب المفاهيم ، ما نحتاج إليه هو: الصدق والجرأة. وربما لا شيء بعد ذلك، أو غير ذلك.
الصدق العدو الحقيقي للزيف والمظاهر والتفاهة، وهو طريق صعب للتعامل مع النفس والآخر والأشياء.سوف تقول لي أن الصدق نسبي، أو تحكمه ضرورات معينة في بعض الحالات.لنفترض أن ذلك صحيح، لكن إنتفاءه يقود إلى الضياع الكامل، ثم إلى انعدام اليقين بكل شيء.
أكثر ما أشعر بخطورته في المرحلة الراهنة أن الكلمات لم تعد تعني دلالالتها أو معانيها. فقدت كل دلالة ومعنى.يمكن أن تقال أية كلمات ويجري في الواقع عكسها، ومن الشخص ذاته. ويمكن أن تكون لإخفاء المقاصد أو التضليل أو تستعمل مصائد لاقتناص البسطاء .ماذا يختلف الجلّاد، جلّاد السوط، عن القائد السياسي الذي يضلل رفاقه بالكذب والأهم تزييف الحقائق والوقائع؟ ولماذا ندين فقط الشرطة والمخبرين وننسى الذين حقنوهم بالأكاذيب والأوهام والمخاوف؟ وهل يختلف من يلوي الحقيقة ويزورها من أجل الوصول إلى هدف معين عن ذاك الذي يمد يده في جيب الآخرين ليسرقهم؟
أغامر وأقول لو أن الصدق كان معياراً أساسياً للتعامل والقول لاختلف مقياس الكون والحياة، فالمحور الذي تقوم عليه حياتنا المعاصرة: النجاح ، وبغض النظر عن أي شيء. وحتى النجاح أصبحت له الآن مقاييس مادية محددة أكثر من أية فكرة سابقة: المال، أي القوة، أي السيطرة على الآخرين وإخضاعهم ، وأخيراً التصرف بهم بالشكل الذي يعزز هذا النجاح ويوسعه.
لو أن الصدق كان معياراً لاختلف الموقف .
فإذا ترافق الصدق مع الشجاعة أو الجرأة ، فعندئذ نصل إلى تقاطع أساسي يمكن أن يثبت المحور ويقويه.
هل تكون الديمقراطية الطريقة العملية للوصول إلى هذه النتيجة؟ أظن ذلك ، وربما تكون النافذة التي يمكن أن نطلّ منها على صيغة جديدة .
لكن الديمقراطية ذاتها ليست شعارات ، إنها نسق في الحياة والنظرة العميقة للنفس والآخر لا تكتسب إلا بالممارسة اليومية، ومنذ وقت مبكر، ومن أجل ممارستها تحتاج إلى مقدار كبير من الجرأة ، لأنها اختلاف كامل مع كل ما هو جارٍ حولنا، من المؤسسة السياسية إلى العلاقة الفكرية، إلى مفهوم العلاقات مع الآخرين ، والمفاهيم.
في هذه المرحلة، وكما كان في مراحل أخرى كثيرة أيضاً، يبدو أن الفرق في الكلمات الكبيرة ، الفضفاضة، وبعض الغامضة أوالرخوة، الطريق المؤكدة للخسارة. خسارة ماذا؟ خسارة النفس، وبالتالي الحياة. وبالتالي يصبح الإنسان دودة؛ يمكن أن يعيش ويطيل إقامته على الأرض، دون أن يترك أثراً.
بعد هذه الجولة المليئة بالثغرات أتصور أننا تهنا في بعض الأماكن ، وربما ازددنا ارتباكاً، لكن ، وهذا مجرد افتراض ، بدأنا نحدد الأمور ، دون الزعم بإمكانية الوصول إلى حلال ، وهذا بحد ذاته مهم .
تصور يا فيصل : بدأنا بالبطل والبطولة ، وانتهينا إلى مجرد حالمين بأمنية مستحيلة: حالمين بالديمقراطية.
والديمقراطية ، هل يمكن الوصول إليها دون مخاضات من الدم ، وبالتالي دون بطولة؟
هل عدنا إلى السؤال نفسه مرة أخرى؟
ربما
وقد يحتاج إلى رسالة ثانية أو إلى رسائل كثيرة!
لكن قل لي : هل يمكن لرسائلنا أن تحرك حجراً أو توقف نسمة أو تجعلنا متفائلين أكثر ؟
إننا ، حتى الآن ، لا نزال نتكلم بطريقة لا تعجبني: أتصورك بالروب الجامعي ، وتضع قرنفلة في عروة الزر وتنظر إلى « التلامذة « نظرة قاسية وفيها تحدٍ ، وأتصور نفسي أضع لفة هي مزيج من لفات الشيوخ والحداة وأحاول إقناع الآخرين في إطار إقناع النفس.
اللهم ، ثم اللهم، أعطنا القوة لمواصلة حمل الجمر في وقت انتهى فيه الصدق والجرأة، وألهمنا الصبر ثم الصبر، وساعدنا في معرفة « فطوم في سوق الغزل «
مع تحياتي
عبد الرحمن منيف

***
الرسالة الثانية:
من عبد الرحمن منيف لفيصل درّاج
الرسالة الثانية – 21\10\1989
عزيزي فيصل
إذا كان لابد من الحديث ، مرة أخرى عن البطولة- على فرض وجودها- فإنها لا تكون إلا لدى الآطفال والناس المجهولين. أما عندما تتجسد بأشخاص معينين ، حين تصبح لها أسماء وأنصاب، فإنها تفقد الجزء الأكبر من بطولتها، أو على الأقل تتحول إلى شيء مصنوع ، أو ربما إلى شيء مزيف.
الأطفال لا يفكرون بالمجد أو بالنتائج ، وكذلك الناس المجهولين. إنهم يفعلون ما يرونه لازماً، ولا يبالون بالأوصاف أو بالتقييم. فهم مدفوعون بغريزة ، استجابة لأسباب وعوامل، تجعلهم يعتبرون ما يفعلونه جزءاً أساسياً من الحياة وقوانينها الطبيعية.لا يوافقون على الظلم ، مثلاً، ولا يوافقون على القسوة، وليكن بعد ذلك أي شيء.
الآخرون ، الذين ليست لهم علاقة ، غالباً، هم الذين يطلقون الأوصاف ، هم الذين يقيمون. ومن خلال الآخرين ، والذين يعجزون، غالباً، عن مسايرة الشجعان، في القناعة أو السلوك، فإنهم يندفعون ، كمؤرخين أو منظرين، لتقييم الفعل الذي حصل ويعطونه وصفاً يعتبرونه ملائماً للقيم السائدة، ويضعونه في خانة ترضي طموحاتهم في التفسير أو التنظير.
هل هذا دلالة عجزهم، وبالتالي يحاولون التعويض؟ وهل ما يعتبر بطولة في نظرهم لا يعدو أن يكون فعلاً عادياً في أوقات أخرى، أماكن أخرى؟
تقول في رسالتك أن البطولات تظهر في زمن الإستعمار والتحديات، ويظهر الأبطال في زمن الإنحطاط والتراجع، ولذلك، ففي ظل الحكم الصليبي، ثم في فترة الاستعمار الحديث، ظهر الأبطال الشعبيون. أتفق معك تماماً، ففي مثل هذه الأزمنة، وكتعويض أو كضرورة، لا بد أن يظهر أناس من هذا النوع، أو لا بد من خلقهم.
إن الحياة، يا فيصل ، لا تقبل التوقف أو التراجع، ولا تقبل الإنتهاء أيضاً؛ ولذلك لا بد أن يظهر المجانين والناس غير العاديين، ولابد أن تعبر الحياة عن قوتها وتدفقها واستمرارها بطريقة استثنائية، والاستثناء، في أحيان كثيرة، هو العادي في عصر آخر
إن الأنماط السائدة الآن، وربما في عصور أخرى أيضاً، مهمتها الأولى والأساسية: الإخصاء. أنا قوي وقادر بمقدار ما أضعف الآخر أو أنفيه؛ أو بمقدار ما أسيطر عليه وأجعله صورة لي . لا أحتمل أن يكون الآخر مستقلاً عني ، شريكاً لي أو مساوياً، ومن هنا فإن عملية الإلغاء والحذف تبدو ، في حالات معينة ، هي البطولة . والبطولة إذا تشوهت ، أو أصبحت طريقة يمكن اعتمادها أو اختراعها، فعندئذ تصبح الأكذوبة الأكبر ،لأنها الأكذوبة المحسوبة ، المرصودة ، المرغوبة ، أو التي يراد
إننا نواجه الآن كابوساً مخيفاً: آلة القمع الحديثة بكل ما تملك من قوى وإمكانيات ووسائل ، في مواجهة مخلوق فرد وأعزل، وهذا المخلوق الذي يكون ، أو يبدو، متمرداً في فترة معينة، لا بد أن يتدجن، أن يصبح واحداً من القطيع. وحين يرفض، لسبب أو آخر، نفترضه بطلاً.
هل هذه هي البطولة التي نتصورها، نبحث عنها، نريدها ؟
لا أملك إجابة واثقة. أملك فقط إجابة بسيطة: مثل هؤلاء الناس موجودون. وفي فترات معينة قد يكونون كثيرين. ولأنهم موجودون، وفي بعض الأحيان كثيرون، فلا بد من أن نعطيهم أوصافاً، أو على الأقل صفات تجعلهم مختلفين عن الآخرين.
تسألني عن « متعب الهذال « . وقد أضيف أيضاً: شمران العتيبي وعمر زيدان، وربما شخصيات أخرى من مدن الملح؛ إن أياً من هؤلاء، في الرواية، أو في الواقع، أشخاص موجودون، أو يمكن وجودهم ، وهم يفعلون أو يقولون أو يتصرفون بطريقة مختلفة عن الآخرين ، وهذا الإختلاف ربما نتيجة الجنون أو القناعة ، أو بسبب عوامل لا ندركها أو لا يمكن أن نصفها بسهولة، لكنهم في النتيجة موجودون ، وهذا ما يجعلهم متميزين عن غيرهم، أو لا يريدون أن يكونوا غيرهم. ومن هنا فإنهم يتصرفون بطريقة مختلفة ، وهذه الطريقة التي تدفع الآخرين إلى تصفيتهم.
الشخص الذي لا يسرق، الذي لا يرتشي، ولا يمكن أن يخون، لا يبحث عن بطولة من أي نوع، إنه يفعل ذلك لأنه يتصوره الفعل الطبيعي والضروري والمنسجم مع ما يجب أن يكون ، وكل ما عدا ذلك: الخطأ ، والإثم ، والضمير الذي لا ينام .
الشخص السارق، المرتشي، الخائن، يجد تبررات من نوع أو آخر لكي يصل إلى حالة من التوازن مع المحيط، مع المناخ السائد؛ ومن هنا فإننا نجد الشيء ذاته يكتسب أوصافاً مختلفة من قبل أشخاص مختلفين أو في أوقات مختلفة.
ما يجب أن نتوقف عنده ، أن نناقشه بتمهل ، هو الشجاعة وليس البطولة، لآن الشجاعة حالة مشخصة ، سلوك يومي ، وبالتالي يمكن قياسها، حتى في عدد نبضات القلب أو لون الوجه. أما البطولة فهي طفرة ، قفزة في المجهول ، ويمكن أن تأخذ الصفة ونقيضها تبعاً للنتائج أو للذين يصدرون الأحكام. يضاف إلى ذلك أن الشجاعة ، أغلب الأحيان، صفة عقلانية يمكن اكتسابها والتعود عليها لتصبح في النهاية طريقة في الحياة والتعامل، وهي بذلك تختلف عن اليأس، والذي هو وجه آخر للبطولة ،وليست وليدة اللحظة أو الإنفعال.
ماهو مطلوب، خاصة في المرحلة الحالية، مقدار من وضوح الرؤيا والتماسك والشعور بالمسؤولية، لكي يصبح الإنسان شجاعاً أو مشروع شجاع ؛ وبالممارسة ، وبعض الأحيان بالعناد، أو يباسة الرأس ، إضافة إلى مقدار من القناعة، خاصة من حيث المتطلبات المادية، يتحول الإنسان تدريجياً إلى رجل شجاع . طبيعي ليست القضية ميكانيكية ، ولا يجوز أن تتحول إلى معادلة بسيطة، لكن ، كما أفترض، يمكن أن تتراكم وتتصلب من خلال الفعل اليومي لتصبح سلوكاً، وعند ذاك يعتبر التخلي عن الشجاعة خيانة .
إنني أستعمل كلمات فضفاضة بعض الشيء، أو بدون ظلال، ولكن لو أخذنا حالات مشخصة ، نماذج من البشر حولنا، نجد أن الكثيرين يمتلكون مقادير من الشجاعة ، أو هم على استعداد لامتلاكها، شرط أن تتوفر مجموعة من العوامل والظروف، وهذه الأخيرة متغيرة ومختلفة بالنسبة لواحد أو آخر . وبالتدريب الشاق ، والممارسة ، والمناخ أيضاً، نصل إلى وضع مختلف عن النفاق والسوقية والإنحطاط والجبن السائد الآن .
أتفق معك ، بصورة مبدئية، حول الأشكال التاريخية للفعل، وليس للفعل البطولي ، وما تفرزه هذه الأشكال في مراحل تاريخية معينة . ففي زمن التراجع والإنكسار نحتاج إلى مقدار أكبر من الشجاعة والتماسك لنحمي أنفسنا ولنحمي الآخرين . وإذا اقترصنا حديثنا على الثقافةالشعبية نجد أن الناس يتذكرون ويستعيدون مصاعب ومآسي أكبر لكي يحتملوا مصاعبهم والمآسي حين تدهمهم . حتى الملحمة، وهي جزء من حوار الآلهة وجبروتها ، يحتاجها الناس في الأزمنة الصعبة لتكون زاداً لهم على المقاومة والإستمرار .
وإذا كان لكل زمان وسائله وطريقته في التعبير والمواجهة ، فأعتقد أن الشجاعة التي كانت تدفع بالبعض لافتداء الآخرين ، لم تعدها ذاتها أو المطلوبة الآن . الشجاعة الآن ، بمعنى ما، أن تفهم طبيعة المرحلة وطبيعة الخصم ، وأن تتسلح حتى شوشة الرأس من أجل مواجهته والتغلب عليه ، وهذا يقتضي أن تكون مع الآخرين ، أن تكون منظماً ، أن تكون ماكراً، وأن تكون قادراً كل يوم على ابتداع سلاح جديد .
وفي المجال الثقافي بالذات يجب على الكاتب أن يستنهض أنبل وأشجع ما في الناس، أن يجعلهم أكثر وعياً وأكثر إحساساً لكي يكونوا ، في النتيجة ، أقدر على تحمل مسؤولياتهم ولعب دور فاعل.
ومثل هذه المهمة تتطلب الكثير من التماهي مع الحالات والشخصيات والآلام التي تكتب عنها . أن تنظر إليها من الداخل ، إذا صحّ هذا التعبير . أن تصبح جزءاً منك ، أن تتعامل معها برحمة وتفاهم ، لا أن تحولها إلى أقنعة أو إلى شعارات .
وفي مجال الرواية والنقد تحديداً أرى أن ما يصل ، أو ما يجب أن يحصل ، هو عملية واحدة ، بحيث أن الشيء لا يرى بعمقه وكليته ونفاذه إلا بهذا العزف الثنائي . يمكن للروائي أن يكتب ويقرؤه الآخرون ، لكن، في أحيان كثيرة ، يحتاج هؤلاء الآخرون إلى من يقودهم للدخول في عمق العمل ، ويدلّهم على مواطن القوة والجمال فيه . حين نذهب لزيارة قلعة أثرية ، قد نؤخذ بعظمتها وقوتها ، لكن هذا الإنإخاذ الأصم ، أقرب إلى الدهشة ، دون القدرة على النفاذ إلى العظمة الحقيقية أو إلى الجمال الحقيقي . وحتى هذه العظمة أو هذا الجمال قد يفوتنا تماماً إذا لم يكن هناك من يدلنا عليه، يشير ، و يوضّح ، ويجعلنا في النتيجة أكثر إدراكاً للعظمة والجمال فيما نرى.
ليس المطلوب من النقد أن يشرح أو أن يوضح ، مطلوب منه أيضاً أن يضيف ، أن يعيد صياغة الجمال ضمن مقولاته الخاصة .
ومن هنا فإن الكاتب وهو يكتب عن «البطولة» فإنه يعني تحديدأ العناصر القوية والإيجابية في الإنسان ، الإنسان الذي يصادفنا كل يوم . أن يزيل عنه الركام الذي تجمع بمرور الزمن ، والذي يسفّه الأقوياء والقامعون والمشعوذون ، لكي لا يبرز الوجه الحقيقي لهذا الكائن المغيّب.
هل هذا يعني أن نهمل السلبي أو الجوانب الضعيفة في الإنسان ؟ بالتأكيد لا . علينا أن نقولها ، أن نشير إليها ، لكن دون مبالغة بقصد الكسر.
لقد تحدثنا أنا وأنت أكثر من مرة عن صبحي المحملجي ، وكنا نخلص ، في النهاية ، إلى الشفقة عليه ، الشفقة بمعنى الرثاء ، وليس بمعنى التبرير. لقد كان هو أيضاً ضحية مجتمع وقيم زائفة وخاطئة ، لكنه يبقى إنساناً ، وابن مرحلة معينة وفي مجتمع معين ، وهذا ما عجل بسقوطه ، أو جعله نموذجاً لقيم مرفوضة .
كان من السهل أن تُعطى عنه صورة كاملة منذ الصفحات الآولى : الجشع، الإنحطاط ، التفاهة ، لكن في هذه الحالة فإننا ندين الشخص أكثر مما ندين الحالة ، وبالتالي لا يعود هناك حاجة كبيرة لتتبع حركة المجتمع والتطور الحاصل فيه من خلال أشخاص.
ما أعتبره أكثر أهمية من الشخص : المناخ ، الشروط ، الآلية التي تؤدي إلى أن يكون الشخص هكذا .
بالمقابل ، فإن الشجعان لم يخلقوا هكذا منذ البداية وبمعزل عن حركة المجتمع : قد يكون لديهم استعداد أكثر من غيرهم ، لكن ما جعلهم يعبرون عن هذا الإستعداد حركة المجتمع ذاتها ، فقد صقلتهم ، جعلتهم أصلب وأقدر على التغيير واتخاذ المواقف التي تتناسب مع المرحلة والحاجة والضرورة.
نحن متفقان إذن في مقولة أساسية : لا «بطولة» خارج السياق التاريخي. وفي هذا السياق يجب أن نبحث عن «البطولات» الصغيرة، غير الموصوفة ، وغير المصنفة ، وأن نسلط عليها النور ، ونجعلها بطولة زماننا ، إذا كان لا بد من استعمال هذه الكلمة .
عزيزي فيصل
أمس حين بدأت الكتابة كنت أقل حيرة ، وفي الليل ، أثناء النوم ، توصلت إلى إجابات كاملة ومتماسكة ، وربما أيضاً نهائية ، ولأنها كانت شديدة الوضوح لم أكلف نفسي مشقة كتابتها ، لافتراضي أنها ستكون جاهزة حين أعاود الكتابة في اليوم التالي ، ولكن وأنا أعود لاستئناف « العراك « معك اكتشفت أنني فقدت الكثير ، و لا أريد أن أبالغ وأقول كل شيء !
تصور خلال بضع ساعات ، تفلت منا الأشياء ، تتوارى ، ونحاول ، من جديد ، ومن خلال الحصى الصغيرة ، أن نشيد بناءً كبيراً وقوياً ، وربما نفترض جميلاً أيضاً ، وهكذا ضعنا مرة أخرى ، كما تقول ، في شجرية السؤال .
لا أملك ، الآن ، إضافات أساسية ؛ لنحاول ، مرة أخرى ، أن نخوض في الوجه الآخر من السؤال – القمر : الهزيمة واليأس ، وأترك لك أن تقول الأشياء كلها ، مع مودتي كلها .
عبد الرحمن منيف

***

الرسالة الثالثة:
من عبد الرحمن منيف لفيصل درّاج

الثاني من كانون أول (يوم مالطا – يالطا)
عزيزي فيصل
يبدو لي أنني في هذه الرسالة سأخرج عن السياق . لا أريد أن أناقش أو أن أرد على رسالتك ، وفيها الكثير الذي يجب أن نتوقف عنده ونتكلم فيه، إذ أشعر أن قمة العملاقين تثقل عليّ إلى درجة لا يمكن أن أتجاوزها.
«الكبار» حين يتكلمون ، حين ينكتون ، حين يصمتون ، يجب أن يصغي « الصغار « أن يمتلكوا مقداراً من الأدب والصبر لكي يفهموا ويتعلموا .
القمة التي تعقد الآن ، وفي مناخ بحري هائج ، شديدة الأهمية والهدوء، لأنها تعني مرحلة جديدة في حياة البشرية ، وتعني نتائج قد تمتد مثلما امتدت يالطا . والعنوان الأساسي ، هكذا أفترض ، لهذه القمة: أوربا ، وأيضاً اليابان .
كيف يجب أن تعاد القسمة ، كيف يجب أن توزع الأدوار . لا أقول هذا الكلام تشفياً أو من أجل مزيد من الإذلال للنفس، ولكن هكذا يجب أن تفهم الحياة . يقول العراقيون: « على قدر فلوسك أشربلك « ومعنى ذلك : أنت لاتعني إلا بمقدار ما تملك، والملكية هنا بمعناها الواسع المتعدد، ولذلك فإن السنوات القادمة ، وربما حتى نهاية القرن ، هي سنوات أوربا ، أو ألمانيا على وجه التحديد . هذه المشكلة سوف تحتل الصدارة ، ستكون لها الأولوية ، وما عداها يجب أن يتراجع، وأن يطوّع.
العرب، وهم عربان، كانوا يراهنون . (ولا أعرف لماذا يحب العرب المراهنة إلى هذا الحد ؟ حتى في الجاهلية كانت الطيور والأرانب تختار لهم أكثر مما يختارون) على أميركا والإتحاد السوفييتي. كانوا يراهنون ، متوهمين هامش أو هوامش معينة ، ويفاجئون حين يتصرف الآخرون خلافاً لتوقعاتهم ! وعشنا في هذا الحمام النسائي المقطوع المياه سنين طويلة . نضع «الفيشة» مرة في هذا الجانب ومرة في الجانب الآخر ، وكنا دائماً نخسر ، ونحزن ، ونعد أنفسنا بضرورة التصرف بشكل آخر، بشكل مختلف . وظللنا نخسر ونتراجع وتنحسر أحلامنا وآمالنا ، إلى أن أصبحنا بدون أمل ، أي بدون جنون ، وهكذا خسرنا كل شيء.
قبل سنين ، حين كان ذلك الزنيم ، أبو شنب ، فاليسا، يبدو كالسعادين ، وينتقل من مكان لآخر، وهو يرفع إصبعيه بإشارة النصر ، كنت أقول لنفسي : تحتمل الدنيا عدداً غير محدود من الروائيين والشعراء والمجانين، ولذلك لا ضرر من احتمال مجنون إضافي . لكن يبدو أن بعض المجانين ، من خلال إصرارهم . يفوقون أعقل الناس، ويصلون قبل العقلاء.
ما أفترضه الآن ، أن أوربا الشرقية ، زعماءها بشكل خاص ، تأكل أصابعها ندماً ، لأن الأب الصغير ، فاليسا ، قد قال ما لم يجرؤ أحد على أن يقوله قبله. ليس المهم من علّمه ، ماذا يقول أو متى ، لكنه قال. وهذا هو المهم ، ولذلك يتبخر الآن كديك ، ويستقبل استقبال الفاتحين . ربما ميزته الوحيدة ، أو الأساسية ، أنه عرف بدقة ما تريده بولونيا، ما يفكر فيه الناس. وهذا ما دفعه لأن يتصرف بتلك الطريقة.
لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يحصل غداً أو بعد غد ، لكن المهم أن بناء ً كاملاً قد تقوض. وهذا البناء ، الذي كان يبدو قوياً راسخاً، لم يكن بالقوة أو المتانة التي يصوّر بها نفسه ، او يتصوره بها الآخرون، لكنه كان يرتكز بحصوة ، وبدأ البناء يهتز. لا أحد يدعي أنه سيسقط أو ينتهي، كما يحب الغرب أو يحاول، لكن الشيء القديم لم يعد قادراً على البقاء أو الإستمرار بشكله السابق.
الآن يحاول المقامرون أن يكتشفوا كيف كانت الخسارة أو كيف كان الربح. العملاقان المجتمعان في مياه المتوسط، وفي جو عاصف، لا يعرفان بدقة كيف حصلت الأمور. يعرفان أن الربح أوالخسارة ما حصل، لكن لا يعرفان الأسباب العميقة ، ولذلك فهما مثل الطلاب النجباء يدرسون، ولابد أن يصلوا. قد تبقى بعض النقاط الغامضة ، والتي تحتاج إلى السبر والتأكد ، لكن نتائج ، وربما كبيرة ، لا بد من التوصل لها .
ماذا أريد أن أقول هنا ؟
إننا لا نملك مقداراً كافياً من الجنون . وهذا هو السبب الحقيقي، فيما يبدو لي ، سبب الخسارة الدائمة التي تلحق بنا.
الجنون، يا فيصل، نوع آخر من العقل، إنه العقل غير العادي ، غير المألوف. والحرب ، أية حرب ، لا يمكن أن تكسب إلا إذا خالطها مقدار كبير من الجنون : أن تضرب حين لا يتوقع الخصم ، ان تفعل ما لايتوقعه، أن تعمل في غير أوقات العمل ، أن تكون شيئاً مختلفاً. وهذا ما لم نستطع أن ندركه بعد.
إن العرب ، أفراداً وأحزاباً ودولاً ، في المرحلة الراهنة ، يحاولون أن يمتلكوا عقلاً ثقيلاً ، أي أن يكونوا شهداء الواقعية الجديدة ، ولذلك لا يتوقفون لحظة واحدة عن تقديم التنازلات ، والتظاهر بالإتزان والعقلانية والتهذيب، ومن أجل هذه الأقانيم الجديدة يغرقون أكثر فأكثر في الوحل . لا أتصور أن أحداً في العالم أجمع يحترم العرب ، حتى أصدقاؤهم لا يحترمونهم ، لأنهم لا يستطيعون أن يحترموا هذه الحالة الرجراجة من الشطارة البلهاء ، ولا يقوون على احتمالها أيضاً. ماذا يريد السعادين؟ وماذا لو نفق كذا مليون منهم ؟ إنهم يفسدون الجو أو يخلقون المتاعب المجانية، ولا حاجة لمجاملتهم أكثر مما ينبغي .
الآن ، في قمة العملاقين ، وفي مظاهر المزاج والمصالح المتبادلة يمكن إعادة القسمة . يجب ألا نلوم أحداً سوى أنفسنا . ويجب ألا نغضب إذا أصلح الخاسر القديم والمزمن أوراقه لكي يلعب دوراًجديداً. يجب أن نعتز إذا تخلى الجميع عنا ، وإذا شعرنا أننا لسنا أكثر من سعادين
عراة . لماذا التستر والممالأة والنفاق والكلمات الكبيرة الضاجة في صالة المقامرة ؟ ماذا ننتظر ولماذا؟
السنوات القادمة ، يا فيصل ، سنوات أوربا ، وربما أيضاً اليابان ، وإلى حد أقل دول الحزام من العالم الثالث ، وربما كانت أميركا اللاتينية قبلنا ، وقد يحق لها هذا . ونحن، يجب أن نقف أمام المرآة ، او المرايا ، لكي نرى أنفسنا من كل الجوانب وعلى حقيقتنا، لعلنا بعد ذلك نعرف كيف نتصرف . لا داعي للغضب ، أو للشعور بالتخلي ، أو الانفعال والانتقال بالتالي إلى الجانب الآخر . المسرح مرتب، وكل ممثل يعرف دوره ومتى ، إلا نحن . نعيش في أوهام أقرب إلى الحلم ، ونضع نصوصاً نريد الآخرين أن يرددوها ، وهم لايفقهون كلمة واحدة في هذه اللغة الرثة المندثرة.
ألمانيا ستقرر مستقبل السنوات القادمة. يجب أن نفهم هذا الدرس جيداً. بن جوريون قبل عشرين سنة قال أن المشكلة في المنطقة تنتظر حل مشكلة ألمانيا. ألمانيا الآن ، أي خلال العقد القادم ، في طريق الحل.
الذين ينتظرون منا حلاً خلال الشهور أو السنين القليلة القادمة، واهمون. معنى ذلك : يجب أن نفكر بطريقة جديدة، مختلفة ، وربما أيضاً مجنونة ، لمواجهة استحقاقات (كما يقول اللبنانيون) المرحلة القادمة ، ويجب أن نعد أنفسنا لهذه المرحلة ، وكل ما عدا ذلك يبدو لي وهماً أو أقرب إلى الوهم .
لاأعرف لماذا اخترت هذا الطريق في هذه الرسالة . ربما أي صحفي ، أو أي متابع لأحدى الإذاعات ، يعرف أحسن مني ، ولكني اقتحمت ، في الوقت الذي كان يجب أن نكرس حديثنا عن رحلة مصر المنصورة.
يبدو لي أن الإنسان ، في بعض الأحيان ، وكما يقول ابن مسعود ، يجب أن ينفث، أن يقول بطريقة مختلفة ، وهذا ما فعلته هنا .
الغيطاني ، صديقنا ، وروايته الجديدة ، المسرحية التي «تلعب» منذ سنة ولا تزال مستمرة ، رغم اللحى والكلمات الكبيرة والفيضان ، الثقافة في طور التشتت والانحلال ، الأحزاب وهي توارى ، الأسماء وهي تتراجع لتموت ، الصغار وهم يكبرون، القاهرة، مدينة الأربعة ملايين وقد احتملت عشرة إضافيين ، التلوث وقد ملأ الجو والعيون والجيوب . النفط وقد أفسد الصغار قبل أن يفسد الكبار . هذه الأمور كانت أولى بحديثنا ، لكن يالطا- مالطا سرقتني ، استفزتني ، ولا أدري إذا قلت ، في هذه الرسالة ، شيئاً نافعاً ، أو يجب أن يقرأ! ويكتب في النهاية : ننظر، ونعود إلى ما كنا فيه عن البطولة والشجاعة والهزيمة وكيف يجب أن نؤسس فكراً جديداً ومختلفاً.
عزيزي فيصل
كتبت ما كتبت تحت تأثير السؤال الأساسي : من نحن وماذا نريد . وحتى نعرف من نحن ولكي نصل ، إذا وصلنا ، إلى ماذا نريد ، فإن أمامنا مشاوير ليس لها نهاية . غداً نلتقي لنعيد ترتيب الأمور ، وعسى أن نستطيع !
عبد الرحمن منيف

***

الرسالة الرابعة:
من عبد الرحمن منيف لفيصل درّاج
الرسالة الرابعة – 16\12 \1989
عزيزي فيصل
لا يكفي أن يكون للمضطهد ساعدان إضافيان لإطلاق النار في الاتجاهات الأربعة ، يجب أن يكون هو ذاته، في حالات معينة، وربما كثيرة ، خاصة في المرحلة التي نعيشها ، قنبلة موقوته، أو غير موقوته، لا يهم ، حتى إذا انفجر يوقع أكبر خسارة بمضطهديه، ويعطيهم درساً . إن الذي يطلق النار بالإتجاهات الأربعة محاط بكم هائل من الأعداء، محاصر ، يائس، أو لا أمل له، ولذلك يحق له أن يقتل أكبر عدد من أعدائه قبل المغادرة .
هذه هي حالتنا الآن : الأعداء من أمامنا ومن خلفنا ، الأعداء في كل مكان . إنهم يسدون الطريق. لا يريدون لنا النجاة ، ولأن القوى غير متكافئة – وهذه الفرضية تحتاج إلى تدقيق- يمكن لليائس أن يدمّر الهيكل على من فيه! ولكن ماذا نملك من الأسلحة لنفعل ذلك ؟
السلاح الوحيد : الكلمة . وإذا اعتبرنا أن الموقف – السلوك ، سلاح آخر ، فلا بد أن نجعل سلوكنا قريباً لما نقوله ، لما نكتبه ، إذا لم نستطع أن نطابق بينهما تماماً ، وعند ذاك نرد الإعتبار لأشياء يمكن أن تكون طريقاً لنا ولغيرنا ، ويمكن أن تحمينا وتحمي غيرنا . ما يثير في نفسي الأسى. وبعض الأحيان الغضب ، أن الكلمة تعهّرت ، لم تعد تعني دلالتها، وبالتالي أصبحت سلاحاً أعشى أو اعمى ، خاصة على أيدي كتّاب السلاطين ومرتزقة النفط ، ولأنها أصبحت مبذولة هكذا تراجعت الثقة بها ، فقدت تأثيرها وفعاليتها ، وأي محاولة لإعادة استخدامها كسلاح تتطلب الكثير من الجهد والمصداقية .
كيف يمكن أن نحول الكلمة، من جديد ، إلى طلقة، إلى قوة محاربة ؟ وكيف نستطيع أن نخلق وعياً لدى الكثيرين من أجل تمييز الكلمة الصادقة من الكلمة المزيفة الخادعة والغشاشة؟
بالتأكيد ليس هناك وصفة جاهزة ، وليس من السهل الوصول ، لكن الإصرار ، وتقديم النموذج الحقيقي، القوي والمتألق والصادق أيضاً، يساعد في خلق وعي وذائقة ، وبالتالي قدرة على التمييز . ومن هنا ، ودون أن نقصد ، فإن شيئاً ما يتراكم في وجدان الناس ويخلق لديهم حساً ملعوناً في اكتشاف الكذب . هل يمكن المراهنة على هذا الشيء الغامض ؟
هل يمكن ، بوعي ، تنميته وزيادته لكي يصبح مثل جهاز كشف الكذب ؟
يبدو لي أن المطلوب هو الاستمرار ، وبذل جهد أكبر من أجل تقديم شيء أفضل ، وهذا الشيء ذاته يصبح مقياساً ويعلّم الكثير والكثيرين .
أنت تسمي هذا «علم جمال المضطهدين». تسمية رائعة ويمكن أن نبلورها ، أن نشتغل عليها ، لكي تصبح مثل «معذبو الأرض». نقول للناس داءهم إذا لم نستطع أن نصف لهم الدواء، ومعرفة الداء نصف الشفاء ، كما يقولون.
الدفاع عن القيم الإنسانية الإيجابية، هذا الهم الكبير يقضي الإنسان عمره كله ، ولا يعرف إذا استطاع أن يضيف ، أن يفعل شيئاً في هذا الإتجاه . لكن مع ذلك لا يتوقف من يشغله هذا الهم لحظة واحدة ، ولا ينتظر أيضاً اعترافاً أو شكراً ، أن يفعله ، ولا أريد أن أقول يجب أن يفعله ، دون توقع للنتائج . هل هذا وجه من وجوه البطولة التي نبحث عنها ؟ هل هذا تبرير للمرور فوق هذه الأرض؟ إن شيئاً مثل الوهم ، أو مثلما يتراءى للإنسان بين اليقظة والنوم ، ما يدفع للقيام بمثل هذه المغامرة .
أتذكر أنني كتبت لك في رسالة سابقة أن الأبطال والبطولة لا تظهر ولا تتجسد إلا في أوقات الهزيمة ، أما في زمن الإنتصار فهناك دائماً بطل واحد ، ولا يهم أن يكون الشخص أو الفكرة ، أو ربما الإثنان يصيران واحداً في وقت لاحق . أما إذا جاءت الهزائم فهناك آلاف الضحايا ، أولاً ، وهناك مئات المسؤولين، ثانياً، وهناك أخيراً عشرات المبررات ، وفي خضم الهزيمة وبسببها يظهر المهزوم المنتصر ليكون المحصلة :عنواناً وحيداً للسفر في اتجاه واحد : الفرق !
في مثل هذا الجو، وفي مواجهة التيار ، يجب أن يكون هناك من يقول لا. وأن يسمي الهزيمة ويشير إلى المهزومين . قد يدفع ثمناً ( أو بالأحرى يجب أن يدفع) لكن كلمة من هذا النوع تكون مثل ضربة الإزميل أو مثل السكين . وهذا ما تسميه في رسالتك الأخلاق . إن هذه الكلمة ، رغم الالتباس الذي تولده وتثيره ، ضرورية إلى أقصى حد . لأنها، أولاً ، الصوت الآخر ، المخالف: وثانياً لأنها تتصل بجذر ما قد لا يبدو واضحاً في لحظات معينة ، لكنه موجود وممتد إلى بعيد في وجدان الناس، ويعني لهم شيئاً، ويحسون أنه ، رغم خفائه وغموضه ، مقياس أو أحد المقاييس الذي يجب ألا يغيب .
من هنا ، وكما اتفقنا ، فإن البطولة ، إن وجدت ، ليست ما اتفق عليه « الناس « في مرحلة معينة ، وليست الضجة أو الصوت القوي ، وإنما هي أقرب إلى الخفاء ، وربما لا تظهر في الكلمات الكبيرة أو الضاجة . إنها فعل صامت ، مليء بالقناعة والتحدي ، وتجد تعبيراتها في السلوك اليومي المليء بالمرض الداخلي.
يقولون ، وهذا مجرد اقتراب من الموضوع ، أن من يتصدق يجب أن لا تعرف يسراه بما قدمت يمناه.
يبدو لي أن هذا أحد أهم أشكال البطولة.
في مجال الكتابة . وفي ظل انتفاخ الأنا ، خاصة وقت الهزائم ، فإن البطل الحاضر – الغائب هو أهم الأبطال .
حين سألني المرحوم حسين مروة . بعد أن قرأ « التيه» عن إمكانية عودة متعب الهذال في الجزء الثاني ، قلت له : أن عدم عودته أفضل له وأكرم ، لأن الظروف لم تعد تحتمله ، ولم يعد ملائماً لها ، إنه بطل من العصر الماضي وللعصر الماضي ، ولذلك يجب أن يتوارى، أن يتخفى ، لكي يبقى رمزاً : موجوداً وغير موجود .
لماذا نريد أن نتخفف من أحمالنا وهمومنا أو نلقيها على أكتاف الآخرين ؟ ولماذا نحاول العكس أثناء اقتسام الغنائم ؟
إن في الإنسان عطباً يبدو قديماً وموروثاً ، ولقد بدأ هذا العطب من شيئين : الملكية والقوة ، أو ربما العكس . فحين شعر الإنسان بقوته ، بتفوقه ، بدأ بتحويل المياه إلى مجاريه ، وبعدما تتدفق المياه والخصب ، تتولد الملكية ، ولما يبلغ الإنسان هذه المرحلة يصبح شديد القوة وشديد العتو ، وشديد التعاسة أيضاً ، لأن كل الأشياء لها مقياس أساسي ، وبعض الأحيان وحيد : ماذا يستطيع أن يفعل بنفسه وبالآخرين من أجل تعزيز قوته ، ومن هنا تبدأ التعاسة لأنه يصبح مغلقاً ووحيداً بمعنى ما ، ولأن وصفاً مثل هذا يتطلب الحماية والزيادة والدوام ، وبالتالي يتطلب إسكات الأصوات المعترضة أو حذفها ، ولذلك ينشأ الإضطهاد والقتل وينشأ الخوف لدى المالك والملوك . خوف الممالك على ما لديه وخوفه من الذين لا يملكون من قوة المالك وبطشه ، وينشأ الصراع ويتطور ، إلى أن يصل إلى حد وينفجر .
ما أريد قوله هنا أن الشروط إذا توفرت للاختراق يجب أن يتم الاختراق . قد يكون بدائياً ، مؤمناً، لكي يحصل؛ وفي الطور الجديد تبدأ صيغة للعلاقات مختلفة عن الواقع مختلفة عن السابق ، لكنها تترك آثارها وتولد حالة جديدة ، وفي ظل الحالة الجديدة ، الجنينية أغلب الأحيان ، يكون الالتباس والتداخل واحتمالات الهزائم ، وهذه كلها لها تعبيراتها الفكرية والأدبية ، واعتماداً على تراث غير محدود من الأساطير والأحلام والرغبات ، والإمكانية أيضاً ، وفي هذا الجو من الإضطراب والصراع تتولد صيغ لا ترضي الكثيرين ، وتنشأ الكتابة الجيدة .
هل وصلنا إلى الكتابة الجيدة أو توصلنا لها ؟
بحذر، ودون قلق ، أقول : إننا نسير نحوها ، نقترب من تخوفها ، وتحتاج إلى جهد كبير ومنظم من أجل أن نبلورها ،وفي جميع الميادين .
أحس الآن أن شيئاً ما يتكون تحت القشرة اليابسة . قد لا تكون ملامحه واضحة أو كاملة ، وربما ليس الذي نبحث عنه أو نريده ، لكنه النواة ، أو منها ، لا بد أن تتولد أشياء كثيرة ومفاجئة .
الكتابة الجيدة ، كما أفترض ، تتكون بالعمل ، ومن خلال العمل. ومن هنا فإن المطلوب منا كثير جداً : التفكير بطريقة غير عادية ، التجريب ، امتحان وسائل عديدة ومحاولة دمجها معاً ، الذهاب بعيداً في عقول الناس ووجدانهم لاكتشاف نقاط الارتكاز الأساسية ، إعادة قراءة التراث ، أو جزء منه ، لاستيحائه بطريقة جديدة، فتح قنوات بين صيغ التعبير المختلفة وتوليد أشكال غير مألوفة . وغير ذلك أيضاً ، لكن شرط هذا كله الجدية . إن أحد أبرز العيوب في الكتابة السائدة أنها تفتقر إلى الجدية ، وهذا مقتلها.هل نستطيع أن نفعل شيئاً مغايراً؟ أحد أسئلة التحدي .
تقول في رسالتك الأخيرة: يجب أن نتحدث عن رواية المهزوم ، أو بشكل أدق علم جمال المضطهدين ، لأن الوجه الآخر لشخصية المهزوم ليس المنتصر وإنما الظالم ، وهذا الوجه يستحق أن يعرّى ، أن يكشف أمام الجميع .
هذا الهاجس يشغلني تماماً ، وأنا الآن أحشد نفسي لكي أبدأ هذه الرحلة الخطرة ، فهل يمكن الوصول إلى الضفة الأخرى في جو الإرتباك والتداخل واختلاط الأعداء بالأصدقاء؟ لو لم يكن الرب مشغولاً بأوربا، شرقها وغربها، لالتمست منه العون ، ولرفعت عقيرتي (ما هي العقيرة ؟) بالدعاء لعله في يوم عطلته يلتفت إلينا ويجنبنا ما هو آت ، لكن باعتباره مشغولاً ومثقلاً فقد آثرت أن أخفف عنه وأسلك الطريق دون قيادة ودون بركات ، ولنر ما سيأتي به الأيام .
وبانتظار أن أسمع منك المزيد إنعم بالاً وقرّ عيناً وادع الله صبحة وأصيلا، لعلنا نرى في نهاية النفق ضوءاً ، وإليك مودتي .
عبد الرحمن منيف

***

.../...



***
الرسالة الخامسة:
من عبدالرحمن منيف لفيصل درّاج
مطلع نيسان
عزيزي فيصل
بعد هذا الإنقطاع الذي طال أكثر مما ينبغي نعود إلى الموضوع ، إياه ، مرة أخرى .
يبدو لي أن في رسالتك الأخيرة تحديداً كنا نحتاج إليه ، لكي تأخذ المناقشة مساراً أدق وأوضح . فالضحية والجلاد ليسا شيئين مختلفين فقط ، وإنما هما النقيضان ، العدوان اللذان لا يمكن أن يتصالحا أبداً، أو أن يجدا قاسماً مشتركاً للبقاء والتعايش ، وكلمة « التدمير «التي استعملها دقيقة وشديدة الدلالة ، فكل طرف يريد تدمير الطرف الآخر ، نفيه ، وإن كانت وسيلة كل طرف مختلفة عن الآخر . فالضحية بالتماسك والصمود والمقاومة، وبالإستعداد للتسامح مع الطرف الآخر لكي يبقى ، لكن شرط أن تنتهي صفته كجلاد ، والجلاد في أن يلغي من عداه ، أو أن يجعله صورته وشبيهه وامتداد له ، وعدم الإعتراف أو التسامح بوجود الاختلاف أو الأنا الأخرى المتميزة ، والمستقلة .
ومن هنا نأتي للنقطة الأخرى ، وقد أصبحت مضيئة : الضحية تتعامل مع الحاضر من أجل اكتشاف طريق المستقبل ، ولذلك فهي احتمال غائم ،أو مراهنة خطرة ، وهي بمقدار ما تهتم بالحاضر وتتعامل معه فإنها تعتبر هذا الحاضر الرحم الذي يتكون فيه المستقبل ، وهذا ما يجعلها شديدة القلق ، دائمة البحث ، ومستعدة أيضاً للمغامرة والتضحية ، وهذه العناصر التي لا تبدو ايجابيتها للجميع بنفس المقدار تجعل الأمور في حالة سيولة ، أو أقرب إلى تكوين غير منته، وبالتالي بحاجة مستمرة إلى الإضافة والتعديل والتغيير، ومن هنا يأتي التعدد والإختلاف. ولهذا فإن « التثبيت التي يحاول الجلاد الوصول إليه وجعله أبدياً ومستمراً يقابله تفتيت تلجأ له الضحية من أجل زعزعة ما هو ثابت وظالم ، ولذلك تبدأ لعبة غير متوازنة ، تبدأ مغايرة مليئة بالحلم من جانب الضحية، ولا تعني شيئاً هاماً للجلاد ، نظراً لتباين القوى ، من ناحية ، ولأن الجلاد ، كما الضحية ، لا يدرك أبعاد هذه اللعبة ، واحتمالات نتائجها ، لكن في لحظة معينة ، لحظة التغير الذي يحصل في موازين القوى، والأثر الذي يتركه حلم الضحية ، والمثل الذي يبرزه أو يشير إليه ، تجعل الجلاد يعيد ترتيب أولوياته ، بما في ذلك قطع الطريق نهائياً ومرة واحدة على الضحية . ولهذا نلاحظ ، في إحدى مراحل الصراع، عنفاً مبالغاً فيه ، وقسوة تزيد كثيراً عن الخطر ، وهذا العنف وتلك القسوة يراد منهما التخلص من الخطر أو احتمالاته ، وعملية تثبيت أو إعادة تثبيت لما أصبح يهتز أو لم يعد بنفس الرسوخ السابق ، إضافة إلى خلق الأمثولة .
وأمثولة الجلاد تفرز بالضرورة أمثولة الضحية ، ومن هنا نجد روح السخرية ، إذا صحت مثل هذه التسمية ، في اللعبة . تماماً كمن يقابل دبابة بعصا ، أو من يريد قتل نملة برصاصة . وهذا ما يجعل الأشكال ، بتنافرها ، مضحكة وقابلة للكسر، على الأقل في وجدان الناس. فتظهر النكت والسخرية والصور المركبة كطريقة من طرق المواجهة والرد ، ويصبح سريانها سريعاً وتصديقها سهلاً ، وهذا من شأنه أن يزعزع أكثر فأكثر الثبات السابق والإطار القاسي الذي كان يحيط بالجلاد .
إن التغير المستمر في الصورتين ، وفي الحالتين ، يحتاج إلى تعبيره في كل المستويات ، بما في ذلك الفن والأدب ، ولذلك نلاحظ الضحية ، وبالتالي المعارضة ، رغم ما تعانيه ، قادرة على توليد أشكال لا نهاية لها من التعبير ، وهو أحد أبرز أسلحة المقاومة ، مما يولد غنى في الأساليب وتنوع في الأدوات ، وهذا يخلق مناخًا مساعداً على التوليد المستمر مما يؤدي إلى خصوبة غير متوقعة في جانب ، وضمور وموات في الجانب الآخر ، ولذلك نلاحظ أن الضحية ، والمعارضة عموماً تتميز دائماً بالقدرة على التنوع واكتشاف أساليب جديدة وتقديم صيغ أكثر قدرة على التوصيل والتأثير ، مما يجعلها أكثر كفاءة وقوة ممن يمتلكون القوة والمال والسجون والرصاص ، وبالتالي يهيىء لها المناخ للحماية أولاً ، ثم للقوة بعد ذلك ، مما يخلّ بصيغة التثبيت التي يحاول الجلاد إدامتها .
وما ذكرته عن الوحدانية المسرفة ، والتي يريد الجلاد إشاعتها ، لتكون وحدها صورته ، وبالتالي الإلحاح على الصورة الواحدة ، والشكل الواحد ، والكلمات نفسها ، وحتى طريقة قص الشوارب التي ذكرتها ساخراً ، تصبح هذه المفردات وحدها علامة القوة ، أو التظاهر بالقوة .
أذكر ، قبل سنوات ، أن طريقة الكلام ، ونوع الملابس ، والمشية ، ومفردات أخرى عديدة من نفس الطراز ، أصبحت وحدها السائدة في أوساط معينة في العراق: جميع القادة يدخنون السيجار . وجميعهم يشربون نوعاً محدداً من الويسكي ، وجميعهم يتكلمون بطريقة جلفية، أي يطعمون الكلام بمفردات شعبية، ولكن من القاع ، وهذه المفردات أقرب ما تكون إلى كلمات القوادين والداعرات ، فعلوا ذلك تشبهاً بالقائد .
وفي وقت لاحق أصبحت العطور وأربطة العنق وألوان الملابس وموديلاتها من نفس المخازن والمصادر . ثم أصبحت القصور وأنواع السيارات رموزاً تدلل على الموقع والرتبة . كل ذلك يتم شرط حفظ المسافة ما بين الآباء والأبناء والأحفاد ، بحيث لا يتطاول الابن على أبيه ، أو أقل رتبة على رئيسه وولي نعمته .
وهذا الذي ساد وتفشى خلق نمطاً من المصنوعات لا تكاد تختلف إلا من حيث الحجم ، حتى إذا انتهت المودة (الموضة )، وهي تنتهي حين يريد الجلاد ذلك ، تتغير الطواقم ، أو تغير الطواقم جلودها من أجل كسب وقت إضافي ، أو للعب في الوقت الضائع .
قواعد مثل هذه ظهرت وعمت ، وكانت من صنع الجلاد وعلى نموذجه ، لكن ألا تلاحظ ، رغم الغنى والتنوع اللذين يظهران لدى الضحية ، أن الضحايا ، بعض الأحيان ، تفعل ما يوازي أو ما يماثل ما يفعله الجلاد ؟ إنها تفعل ذلك ، دون شعور واعٍ ، في حالات معينة، أو كطريقة من طرق المقاومة ، أو ما تظنه مقاومة !
الأخطاء ذاتها ، المبالغة ، روح المغامرة ، الشعور بالدونية ، وأحياناً الرغبة في أن تقتل نفسها أو أن ُتقتل .
ما أريد أن أنبه إليه هنا أن حالة قطيعية بمقدار ما تصيب الجلاد ، أياً كان حجمه أو دوره ، تصيب الضحية أيضاً ، وهذا ما يفقدها روح المبادرة والتنوع والخصب ، أو ما يجعلها لا تختلف ، نوعياً ، عن جلادها .
هل أريد أن أصل إلى المساواة بين الضحية والجلاد ، أو إلى اعتبار الدوافع واحدة ؟ لا أعتقد ذلك ، لكن أريد لفت النظر إليه أن كثيراً من الضحايا يصبحون كذلك دون وعي كافٍ ، وأن دوافع بعضهم لا تختلف عن الدوافع العميقة للجلادين . كيف ؟ إن بعض هؤلاء يركن إلى شيء غيبي خلفته العادة أكثر مما ولده الوعي ، وأن بعضاً يصاب بحالة من العناد وردات الفعل ، أي « يثور « حسب التعبير العامي ، أكثر مما يريد تغييراً جدياً وعميقاً . وأن بعضاً لا يستطيع أن يصل إلى نتائج سليمة من خلال قدرته على المحاكمة، ولذلك يترك لغيره أن يتخذ القرار نيابة عنه، ومثل الشيخ وأتباعه ، فإن الأتباع عادة ينوبون عن الشيخ في الأعمال الشاقة والقذرة ، ويتعففون عن مقاسمته الغنائم والملذات !
هذا النوع من الضحايا كيف يمكن أن نصنّفهم أو كيف يمكن أن نميزهم عن الجلادين ؟
أعرف أن النوع يشكل الاستثناء في الحديث الي يجري بيننا ؛ أو بالأحرى ونحن نجري هذا الحديث عن الضحية والجلاد ، نحاول أن نكتشف القوانين العامة ، إذا صح التعبير ، وأن نميز الأساسي من العارض ،والقاعدة من الاستثناء ، لكن مع ذلك يجب ألا تغيب التفاصيل أو الظلال .
لقد اقتربنا شيئاً فشيئاً ، من تحديد الملامح والإشارة إلى القسمات التي تميز وتحدد ، ولا أعرف إذا كانت لديك الرغبة في أن ندرس أكثر الصفات التي تجعل من الجلاد جلاداً، خاصة إذا كان من منبت فقير ، وإذا عانى من ظلم الآخرين وعرف معنى الظلم وقسوته ، والجوع وآلامه ، ثم كيف يتحول إلى شخص من نمط آخر .
كيف يحصل هذا التغير . . .ولماذا
هذان السؤالان يثيران لدي قلقاً أقرب إلى الخوف ، خاصة وأن الأمثلة حولنا كثيرة إلى درجة تثير الفزع والتساؤل معاً .
أطرح هذين السؤالين ، وآمل أن نكتشف الجذر ثم الآلية ، وعلنا نقول قولاً جديداً .
مع كل المودة .
عبد الرحمن منيف

***

الرسالة السادسة:
من عبدالرحمن منيف لفيصل درّاج
الرسالة السادسة
أواخر حزيران
عزيزي فيصل
رسالتك الأخيرة شائكة ، لأنها تقترب من الأمكنة الخطرة قبل الأوان ولأنها تفتح جروحاً طالما حاول كل منا أن يفترض عدم وجودها أو التئامها ، وفجأة نكتشف أن افتراضاً مثل هذا مجرد وهم ، وأن ذلك العدو الذي تحديناه أو تجاهلناه فترة طويلة أقرب إلينا مما كنا نظن. وأنه يتربص بنا واحداً بعد الآخر . إنه الموت الذي لا يهدأ و لا يتوقف ، ولا يشبع أيضاً ، وهكذا نبدأ بالسقوط .
لا بد من التسليم ، بداية ، أن الموت حقيقة صلبة وأكيدة تماماً كالحياة، أو أنه الوجه الآخر للحياة ، ولذلك يجب التعامل معه على هذا الأساس.
هذا أولاً ، وثانياً لا بد في وقت ما ، وباعتبار أنه لم يأت بعد ، فلا بد من اللعب خلال الفسحة الواقعة بين هذه اللحظة ووقت مجيئه ، أي ما دام مؤجلاً ، لم يأت بعد ، فمن العبث أن يكون ضيفي اليومي قبل الوقت المحدد له ، ولذلك من حقي أن أعتبر هذه الضيافة غير مقبولة ، أو بالأحرى ثقيلة ، ويجب أن أتصرف بحزم في مواجهتها ، وأن أعيش ما تتطلبه الحياة ذاتها .
أعرف أن المسألة ليست ميكانيكية ، أو بهذه البساطة ، وأعرف أيضاً أن الحياة ذاتها ، ومهما أردنا منها ، لا يمكن التعامل معها ما دام الموت الوجه الآخر لها ، وهذه الحقيقة تبرز أوضح وأكمل حين نمتحن بشكل مباشر بفقد صديق أو قريب يشكل وجوده وحياته امتداداً لنا وتكاملاً مع وجودنا وأحلامنا في هذه الحياة . إننا في مثل هذه الحالة نواجه المأساة والنهاية دفعة واحدة ، وتبدو لنا الأشياء ساطعة فاجعة في آن واحد ، وبالتالي نعيش الآتي من خلال فقد الآخرين ونحس بالوجع واللاجدوى الآن ، وفي كل لحظة ، وليس حين نواجه موتنا الشخصي ، ومن هنا تبرز وتكبر الحقائق التي كانت غافية أو بعيدة ، ونواجه «المشكلة» التي أجلناها أو تجاهلناها ، نواجهها على الأقل من خلال مراجعة أسئلة قد تبدو بسيطة ، ولكنها أساسية : ما الفائدة من هذا الشيء أو ذاك ؟ ما جدوى هذا العمل أو ذاك ؟ وأسئلة أخرى كثيرة تصب في النهاية في النقطة الضعيفة التي حاولنا أن نسترها أو لا نعترف بوجودها .
هذا التساؤل المشروع لابد أن يسلمنا إلى واحدة من إجابتين : عدم جدوى أي شيء ، لأن الموت ، أي غيابنا ، سوف يتوج هذه الرحلة العابثة ، الحياة ، في النهاية ؛ وما دام الأمر كذلك فإن من العبث فعل شيء معاكس ؛ والنتيجة أن نعترف مبكراً بهذه الحقيقة الكلية ، وأن نتعامل معها دون تمويه أو شطارة ، ونرتب على ضوئها كل ما نعيشه من أيام ، ولا بد أن تكون فائضة ، انتظاراً للحظة الختام .
أما الإجابة الأخرى ، وهي لا تخلو من قلق وبعض العزاء أيضاً ، فأنا أعتبر نفسي حامل بريد ويتمتع بهم وضمير معاً ، فأنا ، ضمن مقياس ، لا أعدو عن كوني عابراً ، مؤقتأً ، ولكن في هذه الرحلة ، مهما كان مداها ، رأيت أشياء كثيرة ، وعرفت أشياء كثيرة ، وربما تكّون لدي بعض المهارات ، ولذلك لا بد أن أروي للآخرين ما رأيت ، وأن أريهم ما صنعت ، وان أفعل ذلك بأقل أذى ممكن ، إنني إن فعلت ذلك أشعر أن حياتي ، الأيام التي أقضيها فوق الأرض ، لم تكن عبثاً كلها ، وربما تفيد الآخرين . وكلمة « فائدة « قد لا تكون هي المعبرة أو الدقيقة ، ولكنها أقرب إلى طبيعة الحياة وحاجات البشر.
أنا إلى الإجابة الثانية أكثر ميلاً ، مع أن الإجابة الأولى تصدع رأسي وتثقل عليّ ، وربما لا تفارقني أيضاً ، ولكن ، وبعد أن رأينا الكثير في هذه الحياة ، وعانينا الكثير ، أصبحنا أكثر استعداداً للقبول ، وبالتالي للتكيف مع الشروط الصعبة والرضا بالنتائج القليلة .
إن التوازن الذي تشير إليه وتبحث عنه، يتمثل لي في المرحلة الراهنة بأمور صغيرة : ما دمنا أحياء يجب أن نمارس الحياة ( ومعنى أن نمارس الحياة لا تعريف لها ولا حدود ، لأنها تتوقف على الشروط الخاصة بالإنسان ذاته) وما دمنا أحياء يجب أن نكون أوفياء لقناعاتنا ، مع التأكيد أن هذه القناعات ليست شيئاً ثابتاً أو نهائياً ، وإنما تغتني وتتبلور من خلال الصقل والتعلم والمحاولة والجدية والإكتشاف .
لا حاجة هنا لأن أذكر ، من جديد ، أفكاراً كنا قد تداولناها سابقاً بأن بطولة الإنسان في هذه المرحلة أن يبقى حياً وشريفاً وأن لا يفقد عقله ، وبعد ذاك كل شيء يهون .
في هذه الرسالة أكتب لكلينا ، أكتب لنفسي وأكتب إليك ، لأن التوازن الذي تبحث عنه هو توازن اليوم قبل أن يكون توازن المطلق والنهائي ، وهو أيضاً لمواجهة الظروف الصعبة أكثر مما هو جواب كلي على أسئلة الحياة أو الموت ، لأن شعورنا بعدم التوازن يتبدى أكثر حين نواجه اللحظات القاسية وغير المتوقعة ، وعند ذاك تنفتح الثقوب كلها ، وتندلق المرارة كلها ، ويشعر الإنسان أنه عاجز تماماً . ما يجب أن نبحث عنه ، ونحاول الوصول إليه الآن ، هو عدم السقوط وعدم التسليم .
إن فينا مقداراً من الغضب يجعلنا نفقد القدرة على رؤية ما نستطيع أن نعمله .وأننا نريد أن نعمل كل شيء : أن ندمّر وأن نغير وأن نصوغ عالماً نقيضاً لهذا العالم ، كل ذلك في التو واللحظة ، فإذا لم نستطع ، ونحن بالتأكيد غير مستطيعين ، نكون أميل إلى الحزن ونعود إلى مواجهة عبثية الحياة وسخافاتها . إن بين هذين الطريقين ثالث ، وربما هو ما يجب أن نسلكه ، وأن نفعل فيه ما يجب أن نفعل وما نستطيع أن نفعل .
هذا ما أحاول أن أقنع به نفسي ؛ ومن هنا يأتي فعل المقاومة الذي تشير إليه في رسالتك ، وأعتقد أنه الرافعة الحقيقية التي يمكنها أن تنتشلنا ، خاصة من خلال الثقافة . لا بد أن نفعل شيئاً ، وللفترة التي نعيشها بالذات . أما محاكمات المستقبل فإنها ملك للمستقبل ولن نشهدها بكل تأكيد ، ولذلك لن نضار كثيراً الحزن إلا إذا لم نحاول.
في هذا العصر العربي الزنيم العاهر ، وفي مواجهة هذه الكوكبة المتألقة ، والتي تملأ سماء الوطن ، وفي ظل أعتى القوى والأساليب الهمجية ، فإن كلمة « لا» التي تشير إليها وتؤكدها ، هي البطولة بذاتها ، إذا كان لا بد من استعمال وصف معين ، مقاوم. وكلما كانت «لا» مصقولة أكثر ، نافذة أكثر ، قوية أكثر ، فقد قلت لعصرك ما يجب أن يقال ، وقلت «للأقوياء» رأيك فيهم ، وسميت الأشياء بأسمائها الحقيقية ، هذا ما يجب ان نفعله ، أو على الأقل نحاوله ، مع خالص مودتي وبانتظار أن أسمع منك .
عبد الرحمن منيف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى