-1-
توسدتْ حَجَرةً ملساء نظيفة ،إختارتها في ضوء النهار المودِّع الذي سيُسلِّمُ المدينةَ الخائفةَ إلى ليلها الطويل.
غَطَّتْ الحَجَرة برداء والدتها، وكانت قد دخلت الحقفة* المعروفة بإسم عائلتها مبكرةً عن شابات الأسرة لتتفرد بالمكان الذي تختاره دائما.. هي لا تتوغل فيه كثيرا فطبيعتها الموسّوِسَة تجعلها متهيبةً لظهور كائن ما من سكان الحقاف* الأصليين؛ ثعبان أو عقرب أو حتى معزة شاردة اختبأت من القطيع وظلت طريقها، كانت هذه خيالاتها التي لا تتركها أبداً .
أحقاف (درنة)كانت مخبئاً للناس عند إشتداد معارك السماء بين مجانين الغرب الذين إختاروا هذه المدينة وبعض المدن الليبية الأخرى لتصفية حساباتهم، وسوف يدفع سكانها كل ذلك دما ودماراً وتشريداً.
لم تكن عويشة صغيرة السن ولا كبيرة أيضاً،لكن الأيام عركتها أكثر من اللازم غير أنها لم تهزمها ، عويشة لا تدخل معركة إلا بنِيَّة النصر وهذا ما حدث هذه الليلة، لقد حصلت على وسادة وإن قُدّت من صخر.
عويشة رِبْعَة* ليست بالطويلة ولا بالقصيرة ،مليحة، أقرب للجمال بلاتفاصيل ،تُعْجِبُ من يراها فيحتار في وصفها وإن سُئلَ عنها سيردُ:فيها شيء
يخصها وحدها ، فيها جمالٌ وخفةُ دمٍ وروحٌ مرحة وفيها الكثير ولا يعرفُ أحدٌ تحديد هذا الكثير ولا توصيفه بدقة
عويشة-إسم التدليل- فهي عائشة
على الورق وعويشة المدللة في القلوب .
الحقفة تعجُّ الليلة بالزوار ضيوف أسرتها، جاءوا طالبين الحماية فالطائرات جُنَّ جنونها وصارت لا تفرقُ بين مدني في بيته وعسكري في معسكره، وهكذا إنتشر الذعر بين أهل المدينة الصغيرة، فانطلقوا في شوارعها باحثين عن المأوى عابرين الوادي شرقاً وغرباً من الجهتين.القادمون من وسط البلاد والجبيلة يصعدون الى (المغار) ليستضيفهم من يعرف أمكنة الحقاف فيوجههم لها والبعض يتجه إلى الحقفة الأشهر(الجبّخانة)* في وادي درنة أما القادمون من جهة شارع البحر والكوي وست استينسة والباطن فيحتمون بالجبال المطلة على الوادي بسيدي منصور وشيحة شرق المدينة
المدينة تنام الليل في الجحور والخوف يسيطر على الشوارع الخالية إلا من بعض السيارات العسكرية التي تجوب المكان بحثاً عن موالٍ للعدو !! ومن الطُرَف التي يتبادلها السكان ذلك الزمن أن العدو يصبح صديقاً لبعض الوقت ثم ينسحب فيصبح عدواً حسب إقتضاء المصلحة، فلا أحد سيفرط في أمانه وكلهم في الحقيقة أعداء الناس، غير أن
للزمن حكمه وتصاريفه.. يدخل الألماني والإيطالي فيخرج الإنجليزي ثم ينسحب أحدهم فيدخل الآخر والسماء تشتعل والبحر أيضاً.
كانت حقاف درنة تتماوج بالباحثين عن النوم الشاكين من قلته.
تدندن عويشة :
"لا رقَدْنا لا جانا نوم
فرقاطة والطير يحوم"*
وترد الجموع حولها:
"خسارة من عزّي محروم"*
للشابّة مزاج درناوي خالص هي لا تحب الحزن ولا تدعَهُ ينفذُ لقلبها ولن تسمح له. تتكور على نفسها إن سمعتْ صوتَ الإنفجارت ثم تنتبه أن صمتَها غريبٌ على الجالسات حولها والجالسين غير بعيد عنها في الجهة المخصصة للرجال فتُبَدِّلُ وضعها وتجلس مدّعية الصلابة وعدم الإكتراث ..توميء للجالس على الأرض في الجهة المقابلة فيستقبل الإشارة ويتحسس جيوبه ويُخرِجُ الفرحَ منها. يعيدُ القصبتين الصغيرتين ويموضعهما داخل القصبتين الرئيستين ويطلق نفخة إختبار ليتأكد من النغمات فتستجيب له فيدفع بالنَفَس الذي خَزَّنَهُ في شِدقيه فينطلق متخللا القصبتين فتحبسه أصابعه الخبيرة مرة وتطلقه مرة فينسابُ متماوجاً في قرارٍ وجوابٍ مذهلين، فينتبه الجالسون وتدبُ الروحُ المرحة القديمة في أجسادهم وقد أحيتها زمارة* الفتى بإشارة من عويشة.. ومن أحياها فقد أحيا القلوب الواجفة والنفوس الحائرة والأجساد المرتعشة ومن غيرهما عويشة وفتاها المندس بين الحشود -المحتمية بالمكان-مدّعياً الخوف من الغارات فيصطحب خالته المسنَّة ويجلس مجاوراً لها مواجهاً لعويشة على الجهة المقابلة فلا الحرب بقادرة على هزيمة الحب ولا الشباب تنقصه الخبرة لإقتناص السعادة تحت القصف المتعجرف الذي لا يفرق بين عدوه وبين مسالمين لا يعرفون سبباً لهذه الوحشية .
حَمَدْ ولدٌ طيب ووسيم وملك قلوب الصبايا وهو يعرف ذلك ويسعده
ويميِّزه عن أقرانه، كما تميّزُه زمارته
رفيقة حياته مذ عرف هذه الدنيا. هو لايعرف متى تعلم العزف ولا يتذكر
البداية غير أن الناس يتناقلون عن والدته أنه "وُلِدَ ليعزف"!..كان منصتاً جيداًلخاله العازف المعروف .
تقول والدته-كان حمد يترك صدري ويتوقف عن الرضاعةعندما يبدأ خاله بالعزف حتى أنني أطلب من الخال التوقف حتى يكمل الصبي وجبته.
وتواصل أم حمد لي مع (الطبلة) غرام
وعمر طويل. كنت وأخي نسهر الليل بطوله هو يعزف بأنامله وكيانه كله وأنا بشبابي ورعونتي أداعب الدربوكة(الطبلة)، ولا يوقفنا إلا صراخ والدتي تحذرنا من عودة (الشايب)*فنتوقف ونخبىء بضاعتنا لسانحة أخرى.
تواصل أم حمد في ليلة كنت عائدة من مأتم أخي العازف وكان القلب موجوعاً شديدُ الأسى ووجدتُ حمداً بائساً لفراق خاله ماسكاً الزمارة التي أصبحت يتيمة يبادلها نظرات الحزن فهي تعاني فقد صاحبها ولا تعرف التعبير عن الحزن إلا بأصابع ماهرة ومحبَّة، فلم أفوّت هذه اللحظة واقتربت بالدربوكة(الطبلة) و قلت لحمد سيسعد خالك إن سمعنا..إقترب واسمعني نواح زمارتك وحنينها لصاحبها فالحياة واحدة وقصيرة. أقصر مما نتصور.
لم تكتمل الحكاية بعد
محبوبة خليفة
* الحقفة وجمعها حقاف : وتعني في ليبيا المغارة أو الكهف
* ربِعَة: متوسطة الطول
* الجبّخانة:كهف شهير وكان من قبل مخزناً للسلاح
* "لا رقدنا…. أغنية إشتهرت في الحرب وتعني أن أزيز الطائرات وقذائف الفرقاطات حرمهم النوم
* "خسارة من عزّي ….. إضافة من الكاتبة.
* زمّارة: مزمار
* الشايب: وتعني الأب تحبباً فيه
نُشِرَتْ على موقِعَي ليبيا المستقبل والسقيفة الليبية الثقافيين.
توسدتْ حَجَرةً ملساء نظيفة ،إختارتها في ضوء النهار المودِّع الذي سيُسلِّمُ المدينةَ الخائفةَ إلى ليلها الطويل.
غَطَّتْ الحَجَرة برداء والدتها، وكانت قد دخلت الحقفة* المعروفة بإسم عائلتها مبكرةً عن شابات الأسرة لتتفرد بالمكان الذي تختاره دائما.. هي لا تتوغل فيه كثيرا فطبيعتها الموسّوِسَة تجعلها متهيبةً لظهور كائن ما من سكان الحقاف* الأصليين؛ ثعبان أو عقرب أو حتى معزة شاردة اختبأت من القطيع وظلت طريقها، كانت هذه خيالاتها التي لا تتركها أبداً .
أحقاف (درنة)كانت مخبئاً للناس عند إشتداد معارك السماء بين مجانين الغرب الذين إختاروا هذه المدينة وبعض المدن الليبية الأخرى لتصفية حساباتهم، وسوف يدفع سكانها كل ذلك دما ودماراً وتشريداً.
لم تكن عويشة صغيرة السن ولا كبيرة أيضاً،لكن الأيام عركتها أكثر من اللازم غير أنها لم تهزمها ، عويشة لا تدخل معركة إلا بنِيَّة النصر وهذا ما حدث هذه الليلة، لقد حصلت على وسادة وإن قُدّت من صخر.
عويشة رِبْعَة* ليست بالطويلة ولا بالقصيرة ،مليحة، أقرب للجمال بلاتفاصيل ،تُعْجِبُ من يراها فيحتار في وصفها وإن سُئلَ عنها سيردُ:فيها شيء
يخصها وحدها ، فيها جمالٌ وخفةُ دمٍ وروحٌ مرحة وفيها الكثير ولا يعرفُ أحدٌ تحديد هذا الكثير ولا توصيفه بدقة
عويشة-إسم التدليل- فهي عائشة
على الورق وعويشة المدللة في القلوب .
الحقفة تعجُّ الليلة بالزوار ضيوف أسرتها، جاءوا طالبين الحماية فالطائرات جُنَّ جنونها وصارت لا تفرقُ بين مدني في بيته وعسكري في معسكره، وهكذا إنتشر الذعر بين أهل المدينة الصغيرة، فانطلقوا في شوارعها باحثين عن المأوى عابرين الوادي شرقاً وغرباً من الجهتين.القادمون من وسط البلاد والجبيلة يصعدون الى (المغار) ليستضيفهم من يعرف أمكنة الحقاف فيوجههم لها والبعض يتجه إلى الحقفة الأشهر(الجبّخانة)* في وادي درنة أما القادمون من جهة شارع البحر والكوي وست استينسة والباطن فيحتمون بالجبال المطلة على الوادي بسيدي منصور وشيحة شرق المدينة
المدينة تنام الليل في الجحور والخوف يسيطر على الشوارع الخالية إلا من بعض السيارات العسكرية التي تجوب المكان بحثاً عن موالٍ للعدو !! ومن الطُرَف التي يتبادلها السكان ذلك الزمن أن العدو يصبح صديقاً لبعض الوقت ثم ينسحب فيصبح عدواً حسب إقتضاء المصلحة، فلا أحد سيفرط في أمانه وكلهم في الحقيقة أعداء الناس، غير أن
للزمن حكمه وتصاريفه.. يدخل الألماني والإيطالي فيخرج الإنجليزي ثم ينسحب أحدهم فيدخل الآخر والسماء تشتعل والبحر أيضاً.
كانت حقاف درنة تتماوج بالباحثين عن النوم الشاكين من قلته.
تدندن عويشة :
"لا رقَدْنا لا جانا نوم
فرقاطة والطير يحوم"*
وترد الجموع حولها:
"خسارة من عزّي محروم"*
للشابّة مزاج درناوي خالص هي لا تحب الحزن ولا تدعَهُ ينفذُ لقلبها ولن تسمح له. تتكور على نفسها إن سمعتْ صوتَ الإنفجارت ثم تنتبه أن صمتَها غريبٌ على الجالسات حولها والجالسين غير بعيد عنها في الجهة المخصصة للرجال فتُبَدِّلُ وضعها وتجلس مدّعية الصلابة وعدم الإكتراث ..توميء للجالس على الأرض في الجهة المقابلة فيستقبل الإشارة ويتحسس جيوبه ويُخرِجُ الفرحَ منها. يعيدُ القصبتين الصغيرتين ويموضعهما داخل القصبتين الرئيستين ويطلق نفخة إختبار ليتأكد من النغمات فتستجيب له فيدفع بالنَفَس الذي خَزَّنَهُ في شِدقيه فينطلق متخللا القصبتين فتحبسه أصابعه الخبيرة مرة وتطلقه مرة فينسابُ متماوجاً في قرارٍ وجوابٍ مذهلين، فينتبه الجالسون وتدبُ الروحُ المرحة القديمة في أجسادهم وقد أحيتها زمارة* الفتى بإشارة من عويشة.. ومن أحياها فقد أحيا القلوب الواجفة والنفوس الحائرة والأجساد المرتعشة ومن غيرهما عويشة وفتاها المندس بين الحشود -المحتمية بالمكان-مدّعياً الخوف من الغارات فيصطحب خالته المسنَّة ويجلس مجاوراً لها مواجهاً لعويشة على الجهة المقابلة فلا الحرب بقادرة على هزيمة الحب ولا الشباب تنقصه الخبرة لإقتناص السعادة تحت القصف المتعجرف الذي لا يفرق بين عدوه وبين مسالمين لا يعرفون سبباً لهذه الوحشية .
حَمَدْ ولدٌ طيب ووسيم وملك قلوب الصبايا وهو يعرف ذلك ويسعده
ويميِّزه عن أقرانه، كما تميّزُه زمارته
رفيقة حياته مذ عرف هذه الدنيا. هو لايعرف متى تعلم العزف ولا يتذكر
البداية غير أن الناس يتناقلون عن والدته أنه "وُلِدَ ليعزف"!..كان منصتاً جيداًلخاله العازف المعروف .
تقول والدته-كان حمد يترك صدري ويتوقف عن الرضاعةعندما يبدأ خاله بالعزف حتى أنني أطلب من الخال التوقف حتى يكمل الصبي وجبته.
وتواصل أم حمد لي مع (الطبلة) غرام
وعمر طويل. كنت وأخي نسهر الليل بطوله هو يعزف بأنامله وكيانه كله وأنا بشبابي ورعونتي أداعب الدربوكة(الطبلة)، ولا يوقفنا إلا صراخ والدتي تحذرنا من عودة (الشايب)*فنتوقف ونخبىء بضاعتنا لسانحة أخرى.
تواصل أم حمد في ليلة كنت عائدة من مأتم أخي العازف وكان القلب موجوعاً شديدُ الأسى ووجدتُ حمداً بائساً لفراق خاله ماسكاً الزمارة التي أصبحت يتيمة يبادلها نظرات الحزن فهي تعاني فقد صاحبها ولا تعرف التعبير عن الحزن إلا بأصابع ماهرة ومحبَّة، فلم أفوّت هذه اللحظة واقتربت بالدربوكة(الطبلة) و قلت لحمد سيسعد خالك إن سمعنا..إقترب واسمعني نواح زمارتك وحنينها لصاحبها فالحياة واحدة وقصيرة. أقصر مما نتصور.
لم تكتمل الحكاية بعد
محبوبة خليفة
* الحقفة وجمعها حقاف : وتعني في ليبيا المغارة أو الكهف
* ربِعَة: متوسطة الطول
* الجبّخانة:كهف شهير وكان من قبل مخزناً للسلاح
* "لا رقدنا…. أغنية إشتهرت في الحرب وتعني أن أزيز الطائرات وقذائف الفرقاطات حرمهم النوم
* "خسارة من عزّي ….. إضافة من الكاتبة.
* زمّارة: مزمار
* الشايب: وتعني الأب تحبباً فيه
نُشِرَتْ على موقِعَي ليبيا المستقبل والسقيفة الليبية الثقافيين.