فاتح المدرس
1/10/1985
كلية الفنون- ساحة التحرير.دمشق
عزيزي عبد الرحمن هل عاد إليك الزمن ،مرة، كسرب من الكلاب الضالة، أو لنقل كضبع فتيّ يحاور رجلاً أعزل في منتصف ليلة شتائية على دركوش.
تماماً بهذا الإحساس البذيئ يدور الزمن ، هذه المرة متجسداً بشفافية الفهم، أي فهم هذا؟ إنه فهم طفل في التاسعة يحاول فهم لعبة بدت صعبة لأول وهلة. لن تفهم شيئاً من هذه المقدمة . وإنني أحسها ولا أستطيع أن أصور لك الجانب المأساوي الساخر الذي يحسه الفكر عندما يكون في أحسن حالاته وسعيداً،سعيداً؟ من قال ذلك؟ / لعل رسالتك التي وصلتني البارحة صباحاً إلى كلية الفنون / ووجهك المتميز بسعادته المندهشة بمنظوره المملّح أفقياً وطولانياً، هذا الوجه الذي أحبه في تكوين الفم ومجاورة صوتك لمورفولوجي وجهك المملّح أيضاً بغبار الشرق ولطفه العميق.. العميق بلا قرار.
رسالتك التي تحدثني بها عن بيكاسو في معرضه الذي افتتحه ميتران وعن الفنان الذي ارتطم صدره بشغف وارتبكت لديه شتى المناظير التي هي أساساً مستعارة،وذلك المروان (قصاب باشي ) الذي كف عن رسم وجهه واستدار نحو مقبرة سيزان ينبش ألوانها بعد فوات الأوان .. أنت ناقد رائع ياعبد الرحمن يامنيف . قل لي ياعبد الرحمن مرة ثانية كيف أنتقل ونقلة نوعية..وباتجاه سيزان !! هذا المروان. إني أعرف أنا الحالة نرسيسيّة خبيثة وكانت مقبولة لدى أصحاب المتاحف لأنها مناكفة.. نعم هذا هو الأسم بالتأكيد لاتجاهه قبل النقلة النوعية.
على كل سترى أن ألطف مافي رسالتي هذه في الصباح التشريني الذي اختلطت فيه موجة البرد بالشمس بغاز المازوت المخيم على دمشق. كم أتمنى أن أكون الآن على هضاب قدموس لألمس رؤوس شجيرات الآس لعله مزهر الآن، وأحن لرؤية شجرة القطلب ذات الأعواد الحمراء سيثمر القطلب في آذار، تصور شجرة تثمر في آذار ، رأيت واحدة طوال حياتي ، رأيتها مثمرة لكن لماذا شجرة القطلب بالذات ، لعلي كنت في وقتها هائماً في وديان ومرتفعات الجبل الأقرع وكنت مصارعاً رومانياً في حلبة لأسود وديعة!!.
معرضي سيفتتح في 24/10/1985 في معهد غوته. حيث المدير الجديد شاب ألماني من وعي ما بعد الحرب له وجه أديب فقير ملعون ويبتسم مندهشاً!!
عزيزي عبد الرحمن ، قليلاً ماأكتب رسائل لعلها الرسالة الثانية أو الثالثة أكتبها هذا العام، تصور فرحتي بالكتابة إليك. وأني أتحدث إليك أتحدث إلى نفسي أيضاًوفرحت أن في رفقتك " جبرا ابراهيم جبرا" إني أحب هذا الإنسان الذي يشكل ذكاؤه ثقلاً رهيباً فوق رأسه ولكنه من الخفة بمكان يستطيع أن يلعب بهذا الثقل القاتل، إنه نفس الهم الذي نذق سمّه بالتساوي، هم مدن الملح والدرب الذي سارت عليه عالو من الضيعة حتى النهر وذلك المثلث الفارس الذي يتنقل على أضلاعه جبرا . بغداد لندن باريس. ماذا يريد جبرا؟ أكتب لي ياعبد الرحمن ماذا تريد أنت . وهل تستطيع أن تقول لي ماذا أريد أنا؟
***
-2-
دمشق / 8/11/ 1985
بعد انقطاع ، لاأدري سببه أعود إلى الكتابة إليك، لقد انتهى معرضي في المركز الثقافي لألمانيا الفيدرالية بدمشق
بدمشق ( معهد غوتة ) كان بودي أن تكون موجوداً تلفنت للسيد ايشوع وحدثت سيدة في الهاتف ، لم يحضر المعرض.
زرت البارحة مع وزيرة الثقافة مدينة صغيرة جداً في جبل لبنان المتجه جنوباً" المختارة" واستقبلنا بحرارة السيد وليد جنبلاط ( وزير السياحة والأشغال) والتقيت بصديقي الشاعر طلال حيدرالذي ذكرته بأيام زمان في بيروت، بيروت العصر الذهبي ،كنا جماعة كبيرة في ضيافة السيد جنبلاط، منزل في القرى 18 على قبة ، ونبع ماء وقصر عتيق جميل ومنيع وهادىء ومفعم بالتاريخ، إنه إنسان متميز ومتواضع يرتدي أكثر الأوقات بنطلون جينز ، وجهه بعينين كالنسر، نسر حقيقي جميل ، بعد غداء عربي (حلبي) ذهبنا برتل كبير من السيارات والحرس، إلى بيت الدين وقال لي .. ها قد استعدت بيت الدين بعد 180 عام!! بيت الدين قصر المير بشير كما تعلم . إنه متحف الآن وبرعاية جنبلاط حيث بقام أول معرض للفن السوري في لبنان، عرضت فيه 3 لوحات ، كان بودي أن أحدثك كثيراً عن الشاعر طلال حيدر .. سأنتظر ريثما تعود لنزوره إنه مستشار السيد وليد جنبلاط
عزيزي عبد الرحمن:
ها قد رأيت كيف أن هذه الصفحة التي أكتبها إليك الآن تختلف عن الصفحة السابقة ، حيث كانت آخر عبارة " هل تستطيع أ، تقول لي ماذا أريد أنا ؟ " ياله سؤال يشبه كثيراً تفاحة سقطت لوحدها من على الشجرة.
إني أقوم الآن بتدريس مادة النقد والتحليل واللغة لطلاب الدراسات العليا ، إني بحاجة إلى كتاب صدر أخيراً للناقد الفرنسي (jean clair) يبدو أنه هام ، ويحتوي على بارقة صحو هامة ، حيث كشف بكل صراحة فن النفايات الأميركي وتأثيره على كل أوربا.
عزيزي عبد الرحمن أردت من هذه الصفحة أن أكتب إليك غير ما ذكرت هنا ، أكتب عن العالم العقلاني الذي يعذبني ، إن تدريس هذه المادة النقد والتحليل من علم الجمال من أقبح ما يحاول المنطق المسكين معالجته . وليس ثمة مريض!! فعلاً ياعبد الرحمن ماذا يريد النقد؟ المزيد من تعتيم التراب ؟ أنت تعرف أن التراب هو الكون !! كله.
انظر إلى ما أرسم الآن وأتصورك بجانبي تنظر إليّ وإلى اللون دون تحرك عينيك. وأتابع ما يجول بخاطرك وأخلط بين سهوب رمال الملح وبين صخرة عائمة في الفراغ لاتريد أن تقع من أي مكان أو زمان، لعل هم الرحيل الدائم والعيش في النهايات والنتائج أو بصراحة أكثر تقبيح ما تملك الطبيعة من قروش قليلة لايمكن لأن تصرف في أي بنك !!
لك قبلاتي وكل محبتي يارحمن يامنيف!
فاتح المدرس
.
1/10/1985
كلية الفنون- ساحة التحرير.دمشق
عزيزي عبد الرحمن هل عاد إليك الزمن ،مرة، كسرب من الكلاب الضالة، أو لنقل كضبع فتيّ يحاور رجلاً أعزل في منتصف ليلة شتائية على دركوش.
تماماً بهذا الإحساس البذيئ يدور الزمن ، هذه المرة متجسداً بشفافية الفهم، أي فهم هذا؟ إنه فهم طفل في التاسعة يحاول فهم لعبة بدت صعبة لأول وهلة. لن تفهم شيئاً من هذه المقدمة . وإنني أحسها ولا أستطيع أن أصور لك الجانب المأساوي الساخر الذي يحسه الفكر عندما يكون في أحسن حالاته وسعيداً،سعيداً؟ من قال ذلك؟ / لعل رسالتك التي وصلتني البارحة صباحاً إلى كلية الفنون / ووجهك المتميز بسعادته المندهشة بمنظوره المملّح أفقياً وطولانياً، هذا الوجه الذي أحبه في تكوين الفم ومجاورة صوتك لمورفولوجي وجهك المملّح أيضاً بغبار الشرق ولطفه العميق.. العميق بلا قرار.
رسالتك التي تحدثني بها عن بيكاسو في معرضه الذي افتتحه ميتران وعن الفنان الذي ارتطم صدره بشغف وارتبكت لديه شتى المناظير التي هي أساساً مستعارة،وذلك المروان (قصاب باشي ) الذي كف عن رسم وجهه واستدار نحو مقبرة سيزان ينبش ألوانها بعد فوات الأوان .. أنت ناقد رائع ياعبد الرحمن يامنيف . قل لي ياعبد الرحمن مرة ثانية كيف أنتقل ونقلة نوعية..وباتجاه سيزان !! هذا المروان. إني أعرف أنا الحالة نرسيسيّة خبيثة وكانت مقبولة لدى أصحاب المتاحف لأنها مناكفة.. نعم هذا هو الأسم بالتأكيد لاتجاهه قبل النقلة النوعية.
على كل سترى أن ألطف مافي رسالتي هذه في الصباح التشريني الذي اختلطت فيه موجة البرد بالشمس بغاز المازوت المخيم على دمشق. كم أتمنى أن أكون الآن على هضاب قدموس لألمس رؤوس شجيرات الآس لعله مزهر الآن، وأحن لرؤية شجرة القطلب ذات الأعواد الحمراء سيثمر القطلب في آذار، تصور شجرة تثمر في آذار ، رأيت واحدة طوال حياتي ، رأيتها مثمرة لكن لماذا شجرة القطلب بالذات ، لعلي كنت في وقتها هائماً في وديان ومرتفعات الجبل الأقرع وكنت مصارعاً رومانياً في حلبة لأسود وديعة!!.
معرضي سيفتتح في 24/10/1985 في معهد غوته. حيث المدير الجديد شاب ألماني من وعي ما بعد الحرب له وجه أديب فقير ملعون ويبتسم مندهشاً!!
عزيزي عبد الرحمن ، قليلاً ماأكتب رسائل لعلها الرسالة الثانية أو الثالثة أكتبها هذا العام، تصور فرحتي بالكتابة إليك. وأني أتحدث إليك أتحدث إلى نفسي أيضاًوفرحت أن في رفقتك " جبرا ابراهيم جبرا" إني أحب هذا الإنسان الذي يشكل ذكاؤه ثقلاً رهيباً فوق رأسه ولكنه من الخفة بمكان يستطيع أن يلعب بهذا الثقل القاتل، إنه نفس الهم الذي نذق سمّه بالتساوي، هم مدن الملح والدرب الذي سارت عليه عالو من الضيعة حتى النهر وذلك المثلث الفارس الذي يتنقل على أضلاعه جبرا . بغداد لندن باريس. ماذا يريد جبرا؟ أكتب لي ياعبد الرحمن ماذا تريد أنت . وهل تستطيع أن تقول لي ماذا أريد أنا؟
***
-2-
دمشق / 8/11/ 1985
بعد انقطاع ، لاأدري سببه أعود إلى الكتابة إليك، لقد انتهى معرضي في المركز الثقافي لألمانيا الفيدرالية بدمشق
بدمشق ( معهد غوتة ) كان بودي أن تكون موجوداً تلفنت للسيد ايشوع وحدثت سيدة في الهاتف ، لم يحضر المعرض.
زرت البارحة مع وزيرة الثقافة مدينة صغيرة جداً في جبل لبنان المتجه جنوباً" المختارة" واستقبلنا بحرارة السيد وليد جنبلاط ( وزير السياحة والأشغال) والتقيت بصديقي الشاعر طلال حيدرالذي ذكرته بأيام زمان في بيروت، بيروت العصر الذهبي ،كنا جماعة كبيرة في ضيافة السيد جنبلاط، منزل في القرى 18 على قبة ، ونبع ماء وقصر عتيق جميل ومنيع وهادىء ومفعم بالتاريخ، إنه إنسان متميز ومتواضع يرتدي أكثر الأوقات بنطلون جينز ، وجهه بعينين كالنسر، نسر حقيقي جميل ، بعد غداء عربي (حلبي) ذهبنا برتل كبير من السيارات والحرس، إلى بيت الدين وقال لي .. ها قد استعدت بيت الدين بعد 180 عام!! بيت الدين قصر المير بشير كما تعلم . إنه متحف الآن وبرعاية جنبلاط حيث بقام أول معرض للفن السوري في لبنان، عرضت فيه 3 لوحات ، كان بودي أن أحدثك كثيراً عن الشاعر طلال حيدر .. سأنتظر ريثما تعود لنزوره إنه مستشار السيد وليد جنبلاط
عزيزي عبد الرحمن:
ها قد رأيت كيف أن هذه الصفحة التي أكتبها إليك الآن تختلف عن الصفحة السابقة ، حيث كانت آخر عبارة " هل تستطيع أ، تقول لي ماذا أريد أنا ؟ " ياله سؤال يشبه كثيراً تفاحة سقطت لوحدها من على الشجرة.
إني أقوم الآن بتدريس مادة النقد والتحليل واللغة لطلاب الدراسات العليا ، إني بحاجة إلى كتاب صدر أخيراً للناقد الفرنسي (jean clair) يبدو أنه هام ، ويحتوي على بارقة صحو هامة ، حيث كشف بكل صراحة فن النفايات الأميركي وتأثيره على كل أوربا.
عزيزي عبد الرحمن أردت من هذه الصفحة أن أكتب إليك غير ما ذكرت هنا ، أكتب عن العالم العقلاني الذي يعذبني ، إن تدريس هذه المادة النقد والتحليل من علم الجمال من أقبح ما يحاول المنطق المسكين معالجته . وليس ثمة مريض!! فعلاً ياعبد الرحمن ماذا يريد النقد؟ المزيد من تعتيم التراب ؟ أنت تعرف أن التراب هو الكون !! كله.
انظر إلى ما أرسم الآن وأتصورك بجانبي تنظر إليّ وإلى اللون دون تحرك عينيك. وأتابع ما يجول بخاطرك وأخلط بين سهوب رمال الملح وبين صخرة عائمة في الفراغ لاتريد أن تقع من أي مكان أو زمان، لعل هم الرحيل الدائم والعيش في النهايات والنتائج أو بصراحة أكثر تقبيح ما تملك الطبيعة من قروش قليلة لايمكن لأن تصرف في أي بنك !!
لك قبلاتي وكل محبتي يارحمن يامنيف!
فاتح المدرس
.