14 يونيو/حزيران، (1979)، طنجة، المغرب.
الصديق العزيز ميللر،
أبعث إليك تحايا متعددة وعناق.
ذهبت صباح يوم الخميس الرابع عشر من يونيو، لزيارة والدتي فأعطتني الرسالة التي بعثْتَها إلي. فغمرتني سعادة عارمة، سعادة دفعتني للجلوس للحظة اكتفيت فيها بالنظر إلى الرسالة، فقالت والدتي: "ماذا حدث؟ هل تحمل الرسالة أخباراً غير سارة؟" لا، يا والدتي. بل العكس من ذلك. إنها رسالة رائعة. من صديق كبير. لا يعرفني، ولا أعرفه، لكنه يكتب إلي، وأكتب إليه لأنه رجل طيب حقيقة.
قالت والدتي: طيب يا ولدي، إن الله يعينه ويعينك. ثم قرأت الرسالة. ليس من الضروري أن أكرر كم أسعدتني. وشكرتك عن كل ما ورد في الرسالة.
صديقي ميللر، عرضتُ رسالتك الأولى على بعض الأوربيين هنا في طنجة. لم يسبق لهؤلاء الناس أن أبدوا أي احترام تجاهي، لكن حين رأوا الرسالة تغيروا وأصبحوا أشخاصاً آخرين. وإذا ما عرضت عليهم رسالتك الثانية فإنهم سينفجرون. صديقي ميللر، إني أترجم رواية جديدة أعتقد أن عنوانها سيكون "ليلة عسل". وقد أنجزت بضعة رسوم. وسأرسم هذه الليلة الخاصة لوحة جديدة وأبعث بها إليك.
"
أمر مؤسف أن لا أستطيع اللقاء بك. ولا أستطيع الحصول على جواز
"
صديقي ميللر، سأحكي لك شيئاً سمعته من صديق لطيف، منذ وقت ليس ببعيد. قبل أربعة أيام أو خمس. هو رجل متقدّم في السن، وفقد بصره منذ عدة سنوات. كان صياد سمك ماهر. حكى فقال: ذهب رجل إلى بيت شخص آخر وطرق الباب. فخرج إليه الرجل الآخر. هل يمكن أن تعيرني قِدْرَتك؟ (وهي جرة كبيرة مصنوعة من طين.) قال الرجل الآخر: نعم، ولِمَ لا؟ وأعطاه تلك الجرة. شكراً. وأخذها الرجل واحتفظ بها شهراً كاملاً ببيته.
وعصر ذات يوم، عاد ليرى صديقه وهو يحمل جرة بالشكل ذاته، ولكنها أصغر حجماً. طرق الباب، ففتحه الآخر. عمت مساء، ومرحباً.
هذه جرة صغيرة وُلِدَتْ للتو، قال الرجل. حدق فيه الآخر.
ما تزال الأم ببيتي، وسأحضرها الأسبوع القادم، قال الرجل.
بعد أسبوع عاد يحمل جرة صغيرة أخرى. مرحبا صديقي، ما أحوالك؟ أحمد الله، نعم، نعم.
ما هذا؟ قال الآخر.
جرة أخرى صغيرة، تشبه الأولى.
وأين هي الأم؟
ما تزال معي بالبيت. سأحضرها غدا أو اليوم الذي بعده، قال له. إلى اللقاء، إلى اللقاء.
بعد يومين أو ثلاثة أيام عاد من جديد. طرق الباب ففتحه الرجل الآخر. أي حادث سوَّأَ يومك هذا؟ تبدو حزيناً.
أجل، قال الرجل. لقد ماتت الجرة.
بكى صاحب الجرة: ماذا تقصد بقولك ماتت؟
ماتت الجرة المسكينة لحظة الوضع.
صديقي ميللر، إنها مجرد نكتة. كنت أريد أن أراك وجها لوجه، رغبت في ذلك كثيراً. إنه أمر مؤسف أن لا أستطيع اللقاء بك. ولا أستطيع الحصول على جواز. لأن كل من يكتب كتباً يعتبر مجرماً. وكتبت كتباً.
لا يهم، شكراً لله إنني إنسان، ذلك أنه حين طردني الوالد خارج البيت، وكان عمري عشر سنوات، نمت في الشوارع ولم أخف من أي شيء أبدا. وذات ليلة، وكنت أجلس تحت شجرة وكانت السماء صافية الأديم ومليئة بالنجوم، وكنت أشعر بالبرد، وأنا أنظر إلى السماء، وأفكر في والدي ووالدتي، شرعت أبكي. كل شيء رائع. صديقي ميللر، إلى اللقاء، إلى أن يشاء الله. مع تمنياتي بعمر طويل وكثير من الحظ.
صديقي ميللر، أستميحك عذراً. كنت أحكي لك حكايات ونسيت أن أحدثك عن فرنسا. قبل سبع سنوات نشرت دار غاليمار روايتي "الحب ببضع شعيرات" واحتفت بها كثيراً الجرائد والمجلات. فكتب مغربي عني بجريدة "اللومند" يقول من الأرجح أن محمد المرابط غير موجود، وأن هذا الكتاب كتبه بول بولز ولو كان هذا الرجل موجوداً. ثم رفضت دار "غاليمار" أن تنشر أيا من كتبي.
وعندما علمت الجرائد المغربية بما كتب على صفحات "اللوموند"، نشرت المقالة ذاتها باللغة العربية وأضافت إليها شتائمها الخاصة. قالت هذه الجرائد لا يمكن أن ينشر كتاباً كل من لا يعرف الكتابة. لكنني أعرف أسماء الذين كتبوا تلك المقالات، وكلهم كتبوا كتبا ولم يستطيعوا نشرها. ولذلك أتفهم لماذا يناصبونني العداء.
في السنة الماضية، نشرت دار نشر صغيرة اسمها "Le Dernier Terrain Vague" كتاباً لي، وهو مجموعة قصصية عنوانها "محشش". كتبي الأخرى ليست باللغة الفرنسية إطلاقاً. وهو أمر طبيعي، فليس لي ناشر مغربي، لأنهم ناشرون لا قيمة لهم. وبطبيعة الحال، كنت أحب أن أعرف اسم الناشر الفرنسي المفترض.
أستميحك عذراً، صديقي ميللر. أود أن أضيف شيئين آخرين. الشخص المقيم بأوتا (Utah)، الذي بعث إليك بكتابي "انظر وامش" قال إنه يهيئ معرضا للوحاتك، ويرغب في بعض لوحاتي ليعرضها مع لوحاتك. أنا فرح جداً بهذا الاقتراح، وسأبعث له ببعض لوحاتي. أنا في انتظار أن أعرف كم لوحة يحتاج. والشيء الثاني يهم الصورة التي قلت إنك ستبعث بها إلي. شكراً لك، ولو أنني لم أتوصل بها بعد.
الصديق العزيز ميللر،
أبعث إليك تحايا متعددة وعناق.
ذهبت صباح يوم الخميس الرابع عشر من يونيو، لزيارة والدتي فأعطتني الرسالة التي بعثْتَها إلي. فغمرتني سعادة عارمة، سعادة دفعتني للجلوس للحظة اكتفيت فيها بالنظر إلى الرسالة، فقالت والدتي: "ماذا حدث؟ هل تحمل الرسالة أخباراً غير سارة؟" لا، يا والدتي. بل العكس من ذلك. إنها رسالة رائعة. من صديق كبير. لا يعرفني، ولا أعرفه، لكنه يكتب إلي، وأكتب إليه لأنه رجل طيب حقيقة.
قالت والدتي: طيب يا ولدي، إن الله يعينه ويعينك. ثم قرأت الرسالة. ليس من الضروري أن أكرر كم أسعدتني. وشكرتك عن كل ما ورد في الرسالة.
صديقي ميللر، عرضتُ رسالتك الأولى على بعض الأوربيين هنا في طنجة. لم يسبق لهؤلاء الناس أن أبدوا أي احترام تجاهي، لكن حين رأوا الرسالة تغيروا وأصبحوا أشخاصاً آخرين. وإذا ما عرضت عليهم رسالتك الثانية فإنهم سينفجرون. صديقي ميللر، إني أترجم رواية جديدة أعتقد أن عنوانها سيكون "ليلة عسل". وقد أنجزت بضعة رسوم. وسأرسم هذه الليلة الخاصة لوحة جديدة وأبعث بها إليك.
"
أمر مؤسف أن لا أستطيع اللقاء بك. ولا أستطيع الحصول على جواز
"
صديقي ميللر، سأحكي لك شيئاً سمعته من صديق لطيف، منذ وقت ليس ببعيد. قبل أربعة أيام أو خمس. هو رجل متقدّم في السن، وفقد بصره منذ عدة سنوات. كان صياد سمك ماهر. حكى فقال: ذهب رجل إلى بيت شخص آخر وطرق الباب. فخرج إليه الرجل الآخر. هل يمكن أن تعيرني قِدْرَتك؟ (وهي جرة كبيرة مصنوعة من طين.) قال الرجل الآخر: نعم، ولِمَ لا؟ وأعطاه تلك الجرة. شكراً. وأخذها الرجل واحتفظ بها شهراً كاملاً ببيته.
وعصر ذات يوم، عاد ليرى صديقه وهو يحمل جرة بالشكل ذاته، ولكنها أصغر حجماً. طرق الباب، ففتحه الآخر. عمت مساء، ومرحباً.
هذه جرة صغيرة وُلِدَتْ للتو، قال الرجل. حدق فيه الآخر.
ما تزال الأم ببيتي، وسأحضرها الأسبوع القادم، قال الرجل.
بعد أسبوع عاد يحمل جرة صغيرة أخرى. مرحبا صديقي، ما أحوالك؟ أحمد الله، نعم، نعم.
ما هذا؟ قال الآخر.
جرة أخرى صغيرة، تشبه الأولى.
وأين هي الأم؟
ما تزال معي بالبيت. سأحضرها غدا أو اليوم الذي بعده، قال له. إلى اللقاء، إلى اللقاء.
بعد يومين أو ثلاثة أيام عاد من جديد. طرق الباب ففتحه الرجل الآخر. أي حادث سوَّأَ يومك هذا؟ تبدو حزيناً.
أجل، قال الرجل. لقد ماتت الجرة.
بكى صاحب الجرة: ماذا تقصد بقولك ماتت؟
ماتت الجرة المسكينة لحظة الوضع.
صديقي ميللر، إنها مجرد نكتة. كنت أريد أن أراك وجها لوجه، رغبت في ذلك كثيراً. إنه أمر مؤسف أن لا أستطيع اللقاء بك. ولا أستطيع الحصول على جواز. لأن كل من يكتب كتباً يعتبر مجرماً. وكتبت كتباً.
لا يهم، شكراً لله إنني إنسان، ذلك أنه حين طردني الوالد خارج البيت، وكان عمري عشر سنوات، نمت في الشوارع ولم أخف من أي شيء أبدا. وذات ليلة، وكنت أجلس تحت شجرة وكانت السماء صافية الأديم ومليئة بالنجوم، وكنت أشعر بالبرد، وأنا أنظر إلى السماء، وأفكر في والدي ووالدتي، شرعت أبكي. كل شيء رائع. صديقي ميللر، إلى اللقاء، إلى أن يشاء الله. مع تمنياتي بعمر طويل وكثير من الحظ.
صديقي ميللر، أستميحك عذراً. كنت أحكي لك حكايات ونسيت أن أحدثك عن فرنسا. قبل سبع سنوات نشرت دار غاليمار روايتي "الحب ببضع شعيرات" واحتفت بها كثيراً الجرائد والمجلات. فكتب مغربي عني بجريدة "اللومند" يقول من الأرجح أن محمد المرابط غير موجود، وأن هذا الكتاب كتبه بول بولز ولو كان هذا الرجل موجوداً. ثم رفضت دار "غاليمار" أن تنشر أيا من كتبي.
وعندما علمت الجرائد المغربية بما كتب على صفحات "اللوموند"، نشرت المقالة ذاتها باللغة العربية وأضافت إليها شتائمها الخاصة. قالت هذه الجرائد لا يمكن أن ينشر كتاباً كل من لا يعرف الكتابة. لكنني أعرف أسماء الذين كتبوا تلك المقالات، وكلهم كتبوا كتبا ولم يستطيعوا نشرها. ولذلك أتفهم لماذا يناصبونني العداء.
في السنة الماضية، نشرت دار نشر صغيرة اسمها "Le Dernier Terrain Vague" كتاباً لي، وهو مجموعة قصصية عنوانها "محشش". كتبي الأخرى ليست باللغة الفرنسية إطلاقاً. وهو أمر طبيعي، فليس لي ناشر مغربي، لأنهم ناشرون لا قيمة لهم. وبطبيعة الحال، كنت أحب أن أعرف اسم الناشر الفرنسي المفترض.
أستميحك عذراً، صديقي ميللر. أود أن أضيف شيئين آخرين. الشخص المقيم بأوتا (Utah)، الذي بعث إليك بكتابي "انظر وامش" قال إنه يهيئ معرضا للوحاتك، ويرغب في بعض لوحاتي ليعرضها مع لوحاتك. أنا فرح جداً بهذا الاقتراح، وسأبعث له ببعض لوحاتي. أنا في انتظار أن أعرف كم لوحة يحتاج. والشيء الثاني يهم الصورة التي قلت إنك ستبعث بها إلي. شكراً لك، ولو أنني لم أتوصل بها بعد.