- رسالتان من ايتالو كالفينو إلى إلزا مورانتي

إلى إلزا مورانتي ـ روما
تورين ـ 2 مارس 1950
عزيزتي إلزا
أنا سعيد فعلا برسالتك. عادةٌ أود فعلا لو أنميها في نفسي، فهي مفقودة عندي بالمطلق ـ ولعلها كذلك عند جيلنا كله، خلافا للأقدمين ـ عادة أن تأتي لحظة معينة، وبفعل السحر ربما، تخطر لك فكرة فتودين على الفور أن تكتبي عنها إلى صديق، ثم تكتبينها بعد ذلك. رسائلك أسعدتني حقا، لا سيما وأنها تأتي من واحدة من قلة قليلة من الناس يمكنني معهم أن أقول شيئا [...]
لم أرسل لك "السفينة الشراعية البيضاء" Il Bianco Veliero بعد لأنني لم أزل ممتلئا بالشكوك تجاهها وربما لا أقرر نشرها بالمرة، وأنا لست ماهرا في التصحيح وإعادة الكتابة. إنها تمثل في كتابتي حركة قسرية باتجاه الحدوتة والكاريكاتير، ولكنها كتبت في ظل معرفة تامة بهذا التوجيه القسري، ومن هنا فهي بالغة الميكانيكية والبرود. وهذا كله واضح في شخصية البطلة: فهي مختزلة في صفر من الدهشة والبراءة، عاجزة عن امتلاك لحم ودم، أي عاجزة ـ بعبارة أخرى ـ عن أن يكون لها استقلالها فتتحرك بحريتها بدون أن تكون بحاجة طول الوقت إلى أن يحدث لها شيء. واللغة دقيقة ولكنها تبدو فالصو falsetto بعض الشيء. إجمالا، أظن أنه كتاب مسل، كأنه نسخة معاصرة من جيرين ميشينو Guerrin Meschino مليء ربما بأشياء جيدة، ولكنها لا تكون جيدة إلا لو أخذت واحدةً واحدة، كأنها مجموعة قصص قصيرة، ومثل كل مجموعات القصص القصيرة، فيها قدر معقول من الأشياء التي يمكن استبعادها. الحقيقة أنني أشعر بالفعل أنني حبيس أسلوب من نوع معين من الضروري أن أهرب منه مهما كلفني الهروب: أنا الآن أحاول أن أكتب كتابا مختلفا كل الاختلاف، لكنه أمر فاجر الصعوبة؛ أحاول أن أكسر الإيقاعات، والأصداء التي أستشعر أن الجمل التي أكتبها تنزلق إليها في نهاية المطاف، كأنها نماذج سابقة التجهيز، أحاول أن أرى الحقائق والأشياء والناس مجسمة بدلا من أن أراها ملونة بألوان لا ظلال لها. ولهذا السبب فإن الكتاب الذي أفكر في كتابته يثيرني أكثر بما لا يمكن تصوره من الكتاب الآخر.
لعلك لا تحبين أن تنصتي لكاتب يناقش كتابا له بمثل هذا الانفصال العدائي، أنت التي ترتبطين في الضراء قبل السراء بكل ما تفعلينه، موشكة أن تتماهي معه. ولكن كما ترين، أنت موهوبة بالمقدرة على التوحيد بين أشد العناصر افتراقا، ودائما ينجح كل شيء معك، وعندك مقدرة كبيرة على توليف الأشياء، وهي قدرة نادرة بين النساء (نادرة؟ يعني، حسن، ربما التوليف هبة نسائية بامتياز). على أية حال، أنت تولفين بطريقة لا تجيدها نتاليا مثلا، فالمشكلة بالنسبة لها غير قائمة أصلا، إذ أنها تعيش وترى وتعبر عن نفسها بطريقة قوية مباشرة وواحدة، برغم أنها تعيش في نفس العالم الممزق الذي نعيش فيه. تشعرين أن العالم ممزق إربا، أن الأشياء التي ينبغي لك الإمساك بها كثيرة وغير متناغمة فعلا فيما بينها، ولكنك بعنادك الرقيق الوضاء دائما ما تجعلين الأشياء تثمر. أما أنا في المقابل فالكتابة بالنسبة لي طالما كانت تعني الانطلاق في اتجاه واحد، والمراهنة بكل شيء على ورقة واحدة، ولكن مع الوعي بأن هناك أوراقا أخرى، الوعي بالمخاطرة وبعدم القدرة على إنهاك ما أريد أن أقوله. ولذلك السبب كتابتي دائما إشكالية.
سأرسل إليك "السفينة الشراعية البيضاء" كما هي . وأريد منك حكما صارما تفصيليا بلا قلب وسوف أعلق على ذلك أملا كبيرا. [...]
اكتبي لي كثيرا، وكلميني كثيرا عن نفسك، ولك أحر تحياتي

*****

- رسالة من ايتالو كالفينو إلى إلزا مورانتي

إلى إلزا مورانتي ـ كابري
سان ريمو في 9 أغسطس 1950
عزيزتي إلزا
أستفيد من إيقاع الإجازات الوديع لأرد على رسالتك. رسائلك، كم هي قلية ومتباعدة، لكنها موضع ترحاب دائما، حتى إذا حدث، وقد حدث في الرسالة الأخيرة، أن احتوت على نقد عنيف. نقد كما تعرفين كنت أتوقعه، وأتفق معه. البناء "البارد" الذي تجدينه في "السفينة الشراعية البيضاء" منشؤه أن حرارة الإلهام ـ وهي بالغة الوهن على أية حال ـ التي بدأت الكتابة بها قد فترت مع الوقت، ولكنني قررت أن أنهي الكتاب انطلاقا من العناد والرغبة في عدم تركه ناقصا وليس انطلاقا من شغف حقيقي به. وبعيدا عن الفصل النافر، أو المشهد الذي فيه أبعاد قصة قصيرة، أعتقد أن الشيء الوحيد القابل للإنقاذ من هذه الرواية هو الأفق، أعني، بعبارة أخرى، بعض الحواشي المتزنة. ولكنها على حالها هذا، فيها "رحلة سان ريمو ـ تورين"، ولم تزل تعجبني.
كتابي الجديد، الذي تظنين أنه صدر أو على وشك الصدور، إنما هو في مرحلة التوسع المسهب. ولو وصلت إلى ما أريد، فسوف يكون أول كتاب لي. لكنها ولت، تلك الأيام التي كنت أكتب فيها بلا توقف، "مثلما تثمر شجرة التفاح تفاحها" على رأي موباسان (الذي أقرأ أعماله لأكتب مقالة في مئوية ميلاده). تراجعت قدراتي، أو أن مزيدا من المشكلات في رأسي تبقى مشكلات بدون أن تتحول إلى صور أو إيقاع سردي، وعليّ أن أنقّب فيها قليلا قليلا. ستفهمين من ثم كم أنا متفق معك وأشاركك في مخاوفك. إنني أدرك أن ضغط التاريخ هو الذي دفعني قدما ثم ألقى بي وتركني. والآن صرنا نستشعر ضرورة أن يفعلها الكتاب بدورهم ويمارسوا ضغطهم على التاريخ!
جئت إلى سان ريمو لقضاء الإجازة، فهي المكان الوحيد الذي لي فيه بيت، وبوسعي فيه أن أقيم عزلة حول نفسي. وكم أنا بحاجة إليها بعد ما شهدته تلك الشهور الأخيرة في دار النشر من اضطرابات وإزعاجات، ورحلات، وسياحة، وحمامات شمسية، ورفقة هانئة: شهور سعيدة لكنها فارغة بصورة خطرة. وها أنا هنا أحاول إعادة استكشاف آفاق طفولتي وذكرياتها، وما أعزها عليّ، وأجتنب ما استطعت ذكريات مراهقتي التي لم ابرأ بعد من بقايا ضغينة تجاهها.
أرجو لك صيفا حافلا بالصفحات الممتلئة والنهارات المشمسة. سلّمي لي على ألبرتو. أعتقد أنه سوف تسنح لي فرصة في الخريف لزيارة روما فنلتقي. أحرّ تحياتي.
تشاو
كالفينو.
-



ــــــــــــــــــــــــــــ
* عن مدونة احمد شافعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى