- رسالتان من ايتالو كالفينو إلى إيسا بيزيرا

1-
إلى إيسا بيزيرا ـ ميلانو
سان ريمو في 16 يوليو 1950

عزيزتي إيسا
أكتب إليك من بيت أبويّ، مستندا إلى المكتب الذي كم عملت عليه الواجب وأنا ولد صغير. مكان لم يزل على حاله، جالسا ها هنا (كدت أقول على غرار ليوباردي "جالسا هنا، شاخصا")، أسمع من جديد الأصوات القديمة التي لم تزل عالقة في الزمن مثل الديكور القديم في الغرفة: صياح الديكة والديكة الرومية في قفص الجارة (قد تكون جارة مختلفة لكن الديكة والديكة الرومية هي نفسها، وربما الطاووس نفسه الذي كم قضيت من وقت ناظرا إليه؟)، طيور الحديقة، قطرات الصنبور، كبار السن الراجعين مشيا من سان بييرو إلى البلدة، والبنات الصغيرات يلعبن "فتحي يا وردة" في حديقة الراهبات. رخيصة هي لعبة "البحث عن الزمن المفقود"، لا تحتاجين من أجلها غير بيت ومدينة ولدتِ فيهما، تعيشين بعيدا عنهما ثم ترجعين كل حين. وربما لا يكون الأمر كذلك، لعلها رياضة للموسرين، فلو أنني ولدت في حارة أو منطقة عمالية، لاختلفت المؤثرات الشعرية كل الاختلاف، لو لم يكن بروست نشأ في قصور، فإنه يقينا ما كان ليخترع البروستية. عندما كنا صغارا جدا، كنا نطلق على هذه الغرفة اسم "الغرفة الزائدة"، على ما أتذكر، لم يكن فيها تقريبا أي شيء، ربما خزانة وسرير مخيمات. كنا ندخل لنلعب فيها فيبدو ذلك رائعا لنا، لكن ربما كنا نمل بسرعة. ثم أصبحت "مكتب الأولاد". وها هي مرة أخرى "الغرفة الزائدة" لا أكثر ولا أقل، بقطع أثاثها التافه، ومختلف الأشياء التي انتهت إليها اعتباطا كما تنتهي الأشياء إلى مخزن. ومن هنا يمكن للواحد أن يتأمل كيف يتغير العالم في مرورنا به: تترك الغرف، ومن نلتقي بهم من الناس، آثارا فينا، وفي الغرف والناس نترك آثارنا. وكفانا من هذا. إنه الصباح. ولم أذهب بعد إلى البحر. وصلت إلى هنا ليلة أمس بالقطار بعدما وصلت إلى فاريجوتي بالسيارة، وهناك أخذت حماما دافئا في الظلام قرابة التاسعة مساء في بحر كان من أرق ما يمكن. سقت السيارة حتى موندوفي. وكنت قد حصلت على الرخصة يوم السبت الذي سافرت أنت فيه. أنا سعيد أنك تحبين تشيخوف. إنه كانت شديد العظمة، هائل. يستطيع استخلاص الغطرسة البشرية ببراعة لكنه واثق ثقة لا تتزعزع في مستقبل الإنسانية. وهو يروي قصصه بنبرة لا تضاهى، هي من القصة، لكنها أيضا منفصلة ومتحفظة وحساسة ولامبالية في وقت واحد. أنت دائما على بالي. أحيانا أصعد التل لآكل ولا تكونين هناك. أنا الآن خارج إلى البحر. والليلة أرجع إلى تورين. تشاو

*****

2-

إلى إيزا بيزيرا ـ ميلانو
تورين في 3 سبتمبر 1950
عزيزتي إيزا
أعتقد أن رسالتي هذه سوف تصلك في إنجلترا وأنت سعيدة وعاقدة العزم على الوصول ـ كدأبك ـ إلى اكتشافات رائعة. الأيام القليلة الماضية مرت عليّ وأنا في حزن بالغ، فلم أستطع إلا الآن أن أكتب إليك. كنت أود لو كنت كتبت لك من سان ريمو، حيث قضيت ثلاثة أسابيع في إجازة لطيفة: إجازة صامتة بحرية بيتية مثلما أردتها بالضبط، تمكنت فيها من تجنب أعداد البشر الهائلة على الشط أو في الرقصات. ولكن عنوانك لم يكن عندي. عندما رجعت إلى تورين منذ أسبوع بالضبط، ليل 27-28 أغسطس، وجدت بانتظاري على الخزانة بطاقة بريدية منك مرسلة من لاهاي، ورسالة منك مرسلة من هارلم [في هولندا أيضا]. بدأت أقرأ وأنا في غاية السعادة، ويمكنني أن أقول لك إنها كانت آخر لحظات عرفتها من السعادة. بينما كنت أقرأ جاء من قال لي إن شيئا رهيبا وقع وإنني لا بد أن أذهب إلى بيت صديق. وهناك عرفت بانتحار تشيزاري بافيز.
لا أعرف إن كانت الجرائد الإيطالية تصل إليك، لكن لعل الخبر لم يصلك، ولعل بافيز بالنسبة لك لا يزال أكثر من مجرد اسم. ولكن بافيز كان يعني لي أنا الكثير: هو لم يكن فقط واحدا من كتابي المفضلين، وواحدا من أقرب الأصدقاء، وزميلا في العمل لسنوات كثيرة، وشخصا كنت أتكلم معه كل يوم، ولكنه كان واحدا من أهم الناس في حياتي. كان شخصا أدين له بكل ما أنا إياه تقريبا، كان دوره حاسما في تحولي إلى كاتب، كان دائم التوجيه والتشجيع والمتابعة لعملي، ترك أثرا على طريقتي في التفكير والتذوق وحتى في عاداتي الحياتية العادية ومواقفي. لقد احتجت بحق إلى بعض الوقت لأتعافى من الصدمة وأنظر النظرة المناسبة إلى الأحياء والموتى. كل الأماكن وقصاصات الورق والعمل التي أعيش بينها، كلها مشبعة بحضوره، وأنا الآن، مثل كل الأصدقاء والزملاء الذين كانوا مقربين إليه، أحاول أن أملأ هذا الخواء الرهيب. كان أسبوعا حزينا، كما قلت لك، ولكن بوسعنا الآن أن نقول إننا تجاوزنا الأسوأ، وإننا وضعنا أقدامنا على طريق التعافي. كانت الأيام القليلة الأولى أليمة إلى أقصى حد، كلنا استغرقنا في الاستعداد للجنازة بينما عقولنا منهمكة في جميع ما استطعنا حصره من تفاصيل أيامه الأخيرة، وفي استقبال الأصدقاء الذين توافدوا من شتى أرجاء إيطاليا، فكان كل لقاء مع كل واحد فيهما مدعاة لتجديد الحزن. ثم كان الرجوع الجسيم بعد الجنازة إلى دار النشر بغير صحبته، والمرور على جميع المخطوطات غير المنشورة التي تركها، ثم محاولة التغلب على الفزع الذي كان يمكن لاختفائه أن يرمي بنا إليه، ثم البدء من جديد في العمل ووضع الخطط.
ستسألين، وغيرُكِ: "ولكن لماذا قتل نفسه؟ الذين يعرفونه مفزوعون لكنهم غير مندهشين: بافيز كان يحمل الانتحار في نفسه منذ أن كان طفلا، بوحدته وصرخات يأسه، بسخطه على الحياة، كل ذلك كان كامنا وراء قناع الامتعاض الذي كان يرتديه. لكنني كنت أعتقد، برغم ذلك كله، أنه كان صلبا غير قابل للانكسار، محميا بخنادقه، كان الشخص الذي تفكرين فيه في محاولتك لزرع اليأس في نفسك، أو لبث الشجاعة فيها، تقولين "ولكن بافيز متماسك" ... ولذلك كان موته ضربة قوية. في الوقت الذي وصل فيه إلى ذروة شهرته الأدبية (ولم أكن واثقا بالمرة في حالة البهجة الجذلة التي عاشها في الشهور القليلة الماضية)، أصابته نوبات اكتئاب ولم يستطع جهازه العصبي ـ على ما به من قوة ـ أن يدعمه فانهار. هذا أقصى ما نفهمه: كل ما يمكن أن تقرئيه أو تسمعيه عدا هذا نميمة وتخمين. كان قراره نهائيا، مسجلا في قصيدة من ابريل الماضي، وفي كثير مما قاله لنا في الشهور القليلة الماضية، ولم ندركه إلا الآن. ولكن حياته كلها ونتاجه الأدبي كله، اللذين يكتسبان الآن دلالة جديدة، جديدة لنا على الأقل، يقولان إنه ربما كان يعرف منذ البداية.
عزيزتي إيزا، آسف أني كتبت لك رسالة مقبضة كهذه، ولكني لم أعرف بعد كيف أكتب بطريقة أخرى، وكان ضروريا أن أكتب لك. ومع ذلك، أشعر أن مرحلة من تجدد الاهتمام بالحياة قد بدأت بالنسبة لي. ولا يزال صديقي الشقي هو الذي يدفعني في هذا الاتجاه، ويعلمني يأس أولئك الذين لا يملكون الفرار من وحدتهم ليرتبطوا بالعالم المحيط بهم، وبالحياة. رسالتك الحبيبة المبعوثة من هارلم، والتي قرأتها مرتين أو ثلاثا خلال الأيام الأخيرة، ساعدتني كثيرا. أنت نقيض بافيز، عندك هذه المقدرة على الشعور بالارتياح في أي مكان بالعالم، وأن تقيمي علاقة عفوية مع أي أحد، وأن تتعلمي بالغريزة أقسى دروس الحياة. أنا ربما أشبهه قليلا، وأشبهك قليلا. ولزام علينا جميعا أن نرضى بالقليل من كل شيء، معا.
تشاو

ــــــــــــــــــــــــــــ
* عن مدونة احمد شافعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى