د. محمد سعيد شحاتة - مشهدية الواقع وعبثية الرؤى.. التشكيل السردي في قصيدة (ثرثرة) للدكتور عيد صالح

يرى رولان بارت أن المسرودات في العالم لا تعد ولا تحصى، وهي تشكِّل تنوعا هائلا من الأجناس الموزَّعة على أنواع مختلفة، فالمسرود حاضر في الخرافة والأسطورة والحكاية ، وغير ذلك، كما أن المسرود موجود بكافة أشكاله، وفي جميع الأزمنة والأماكن والمجتمعات، فهو عالمي وعابر للتاريخ والثقافات، إن وجوده كوجود الحياة (رولان بارت: مدخل إلى التحليل البنيوي للمسرود، ضمن كتاب: شعرية المسرود، ص 9) وإذا كان الأدب أحد المظاهر التي يتجلى من خلالها الفكر الإنساني فإن السرد – كما يرى بول ريكور – فن من فنونه، إذ يقول: "السرد بوسائطه وأنواعه المتعددة أحد طرائق نقل الأفكار والقيم، ووسيلة من وسائل دورانها فيما بين أفراد المجموعة الثقافية واللغوية الواحدة، وفيما بينهم وبين غيرهم، وأداة من أدوات صنع الوعي العام" (الوجود والزمان والسرد، ص 31) ويرى الدكتور عبد الملك مرتاض أن علم السرد هو "دراسة النص، واستنباط الأسس التي يقوم عليها، وما يتعلق بها من نظم تحكم إنتاجه وتلقيه ... ويهدف علم السرد إلى استخراج القوانين والبنى الكلية التي تمنح النص ما يجده المفسّر من دلالات" (عبد الملك مرتاض، مدخل في قراءة البنيوية، مجلة علامات، النادي الأدبي بجدة، ج 29، ص 17) وسوف نتوقف أمام التشكيل السردي لقصيدة (ثرثرة) للدكتور عيد صالح محاولين اكتشاف الرؤية الفكرية للنص، والقوانين والبنى الكلية التي تمنح النص دلالاته، ونحن إذ نفعل ذلك نعتقد أن ما نقوم به مجرد قراءة قد تتفق أو تختلف مع قراءات أخرى؛ لأن هذه القراءة لاتدعي لنفسها العصمة، ولا تدعي أحادية الرؤية، ولا تتخذ من نفسها مقياسا للصواب والخطأ؛ فالتعدد التفسيري للنص الواحد يثريه، ويكشف عن آفاقه وأبعاده في سياق الثقافة المتغيّر.
جاء عنوان القصيدة جملة اسمية خبرية (ثرثرة) حذف أحد طرفيها، وهو المبتدأ، والتقدير (هذه ثرثرة) أراد الشاعر من خلالها إخبار المتلقي بمجموعة من الأشياء التي يعتبرها مجرد ثرثرة، ويدعو المتلقي إلى اعتبارها كذلك، ومن حيث التكييف النحوي فإن العنوان يتكون من ركنين أساسيين هما المبتدأ المحذوف/هذه، والخبر المذكور/ثرثرة، وهي جملة بسيطة في تكوينها النحوي؛ إذ لم تشتمل على أية زيادات في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى، وكأن الشاعر أراد منذ البداية أن يضع المتلقي في بؤرة تفكيره بأن يأخذ هذه الثرثرة مأخذا مباشرا، وأنه لا يريد أية زيادات في المعنى، أو أية إضافات معنوية تصف هذه الأفكار المذكورة، أو تعطيها توصيفا معينا سواء بالإيجاب أو السلب، ولكن ذكر لفظ (ثرثرة) في حد ذاته قد يطبع هذه الأفكار بطابع السلبية من خلال الدلالة اللغوية للكلمة/ثرثرة؛ فقد جاء لفظ ثرثرة في المعاجم اللغوية دالا على الكلام غير المفيد والمختلط، وغير المتوازن، ومن ذلك (ثرثر كلامَه ثرثر في كلامِه أكثر منه في تخليط وترديد بسرعة، وبلا فائدة، يثرثر بعض الناس في كلامهم–الثَّرْثار : الذي يكثر الكلامَ في تكلُّفٍ وخروج عن الحدّ، في الحديث: أَبْغَضُكم إليّ الثرثارون المُتَفَيْهِقون–الثرثرة صوت كثير الكلام المختلط– ثرثرة: 1 – مصدر ثرثر. 2 – كثرة الكلام في مبالغة –كُلُّ كَلاَمِهِ ثَرْثَرَةٌ: كثْرَةُ الكَلاَمِ فِي مُبالَغَةٍ مِنْ دُونِ جَدْوَى– ثرثر ثرثرة: 1 - ثرثر الشيء: فرقه. 2- ثرثر في الطعام: أكثر من الأكل وخلط 3- ثرثر : أكثر من الكلام وبالغ فيه– ثَرْثَرَ في الشيء: أكثر منه في تخليطٍ. يقال: ثرثر في الأكل وفي الكلام. فهو ثرثار. و ثَرْثَرَ الشيءَ: بدَّده وفرَّقه) ومن الملاحظ أن اللفظ/ثرثرة لم يحمل أية دلالة إيجابية، فهل كان الشاعر يقصد أن يصبغ كلامه منذ البداية بأنه غير مفيد، وأن يصف نفسه بأنه مجرد ثرثار متفيهق، وهو ما يسم نفسه وكلامه بعدم الاهتمام به؟ ومن ثم فإن اهتمامنا به وبكلامه يضع المتلقي أيضا في دائرة الاتهام؛ إذ إنه يهتم بما لا يجب الاهتمام به باعتراف الشاعر/صاحب الرسالة اللغوية نفسه، وهنا تأتي المفارقة التي يضعنا فيها الشاعر منذ البداية من خلال اختياره لهذا العنوان
أشكال السرد في النص:
من المعروف أن هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسرد بالنسبة لعنصر الزمن، وهي السرد المتسلسل (المتتابع) وهو سرد الأحداث وفق تسلسلها الزمني المنطقي، فينتقل المبدع من البداية إلى الوسط إلى النهاية، وهو الذي يتوافق مع منطق الأحداث في الزمن، والنوع الثاني هو السرد المتقطع، وهو عكس النوع الأول؛ إذ نجد المسرود لا يلتزم فيه المبدع بالتسلسل المنطقي للأحداث، فمن الممكن أن يبدأ من الذروة، أو منتصف الأحداث، أو نهايتها، ثم يعود إلى البداية، وهكذا لا يلتزم المبدع بالتسلسل المنطقي للأحداث في الزمن، ولكنه يخلق تسلسلا يرتضيه وفق رؤيته الفنية والفكرية للعمل الإبداعي، وأما النوع الثالث من السرد فهو السرد التناوبي، وهو الذي يعتمد فيه المبدع على تناوب الأحداث، فمن الممكن أن نجده يروي قصة معينة، أو يتحدث في موضوع معين، ثم نراه ينتقل إلى قصة أخرى، ثم يعود إلى القصة الأولى، أو ينتقل إلى قصة ثالثة، وهكذا، ولكننا نلاحظ أن هناك ترابطا دلاليا بين كل ما رواه المبدع، أو خطا دراميا مشتركا يربط بين ما رواه المبدع في البداية، وما ظننا فيه أنه خرج عن الموضوع إلى موضوع آخر، ومعنى ذلك أن المبدع في السرد التناوبي يصنع لنفسه خطا دراميا معينا يربط بين أجزاء النص، وإن ظنناه خرج عن الموضوع الذي يتحدث فيه، وإذا انتقلنا إلى النص/ثرثرة فإننا لا نجد السرد في النص متمحورًا حول خط واحد مستقيم ومتصاعد متجها من البداية إلى النهاية، ولكننا ننتقل بين مشاهد مختلفة، متداخلة أحيانا تداخلا كبيرًا، ومتباعدة أحيانا أخرى، فننتقل بين الفقرة والأخرى، وأحيانا بين الجملة والجملة من مشهد إلى مشهد مختلف تماما، وإن كان هناك خط درامي يربط النص من البداية إلى النهاية، ويربط المشاهد كلها، وإن اختلفت عن بعضها البعض، كما أننا لا نجد موضوعا واحدا يتحدث فيه الشاعر، فنستطيع أن نقول إنه بدأ من الذروة أو من وسط الأحداث، أو من نهايتها، ولكننا نجد الزمن في النص غير متسلسل؛ فالشاعر يستخدم في البداية الألفاظ الدالة على الحاضر من خلال استخدامه للفعل المضارع المسيطر على المقطع الأول (تخبر – يعنُّ – تضع – يصنعون – يحلمون) وكلها أفعال مضارعة دالة على الزمن الحاضر، وفي المقطع الثاني يواصل الشاعر استخدام اللفظ الدال على الحاضر (لا قصف هذا المساء) مما يدل على الوقت الراهن، ولكنه يعود في المقطع التالي ليقول (فيلم الأمس كان كئيبا) مما يدل على العودة للحديث عن الماضي، وهذا يعني أنه يستخدم السرد المتقطع، ولكنه يلجأ أيضا إلى السرد التناوبي، وهو ما يتناسب مع دلالة العنوان (ثرثرة)؛ فالثرثرة لا تلتزم بالتسلسل المنطقي للأحداث المسرودة، وإن كانت تربط بينها بخط درامي يكشف الترابط العميق بين أجزاء النص، وإن بدا ظاهره على غير ذلك، فالأحداث تقع في فترات زمنية بين الحاضر والماضي المطلق والماضي المحدد، كما أن الثرثرة لا تلتزم بالموضوع الواحد، ولكنها تتنقل بين موضوعات متعددة، وإن ربط بينها أيضا خط درامي واحد يكشف عن طبيعة النفس الإنسانية، وما تعانيه من خلال هذه الثرثرة، ومن هذا المنطلق يمكن تقسيم النص إلى ثلاثة مقاطع تمثل حركة المعنى، ورؤية الشاعر للأحداث، وتكشف في الوقت نفسه عن الرؤية الفكرية العميقة المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية التي نسجها الشاعر، مخفيا بين أنسجتها رؤيته للحياة والوجود، وما يشغل تفكيره لتموجات الرؤى، وانسياب الصراع وتدفقه بين عناصر المجتمع، وتناوب أشكال الهزائم والانكسارات التي يعانيها الإنسان المعاصر، وتتحكم في مصيره، وتحكم حركته صعودا وهبوطا بين تضاريس الحياة المختلفة، وشعابها وأوديتها ودروبها وسراديبها، ويبرز الشاعر في كل ذلك ما يعانيه الإنسان، من انكسار وهزيمة سواء أمام الزمن، أو أمام أحداث الحياة وتشابكاتها، وطبائع البشر الذين يقعون فريسة للقهر، وهم يظنون أنهم يمارسون القهر على غيرهم، ولكنهم – في الحقيقة – قاهرون ومقهورون في الوقت نفسه، إنها الحياة بصراعاتها وتشابكاتها، وعدوانيتها، وإذ يقف الشاعر متأملا يكتشف أن الخط الرابط بين الحياة – ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا – هو خط واحد، وإن اختلفت الوجوه، وتغيَّرت أشكال الصراع، وتبدلت عناصره.
إن النظر في الزمن السردي وأحداثه، ورصد حركته في العمل الإبداعي ذو أهمية كبرى؛ للكشف عن الأبعاد الدلالية المتعددة لهذا العمل، ورصد الانحياز الجمالي، والتشكيل اللغوي الذي تشكَّلت من خلاله أنسجة الرؤية الفكرية للمبدع في النص.
- 1 –
لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك
وأنت تضع رأسك علي وسادة مملوءة بالهواء
فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة
والأطفال في نومهم يحلمون بالحلويات
وملابس العيد
يبدأ الشاعر المقطع الأول بحوار بين طرفين، ولكننا لا نستطيع توصيف كل طرف من هذين الطرفين توصيفا يكشف عن ملامحه الجسدية، أو العمرية، فهل يحاور الشاعر نفسه؟ أو يحاور طرفا آخر خارج نفسه؟ وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، ويبدأ المقطع بالنهي (لا تخبر أحدا) ولم يحدد الشاعر أيضا الشيء الذي يجب إخفاؤه، وقد بدا ذلك من خلال استخدام الاسم الموصول (ما) والإتيان بصلة الموصول (يعنُّ لك) دالة على عدم التحديد، وهو فعل مضارع دال على التجدد والاستمرار، بمعنى أن الأشياء التي تعنُّ له متجددة ومستمرة، ومع تجددها واستمرارها يتجدد النهي ويستمر بعدم الإخبار عنها، فما الذي يعنُّ له ولا يخبر به أحدا؟! كما وجدنا الطرف الآخر الذي لا ينبغي إخباره غير محدد أيضا، وذلك باستخدام النكرة الدالة على العموم والشمول (أحدا) وهذا يعني أن الجميع في دائرة الاتهام؛ فالكل لا ينبغي إخبارهم دون استثناء لأحد، وأن الأشياء التي يجب إخفاؤها غير محددة؛ فكل شيء يجب إخفاؤه، ولكننا نلاحظ أن الشاعر استخدم اللفظ (قد) الدال على الاحتمال (قد يعنّ لك) وهذا يعني أنه حتى الأشياء المحتملة التي لم تحدث، ومن المحتمل حدوثها لا ينبغي إخبار أحد بها، وهنا نجد أن الدلالة كلها منصرفة إلى هذا المعنى، وهو اتهام الجميع بأنهم غير جديرين بمعرفة أي شيء، وهو ما يشير إلى الشك المتحكم في النفس في كل ما يحيط بها، وأن الجميع عناصر مرشَّحة للإضرار إذا عرفت أي شيء، وهو ما يكشف عن طبيعة النظرة للناس والمجتمع، ثم ينتقل الشاعر/النص إلى تبرير هذه النظرة السلبية فيقول (فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة والأطفال في نومهم يحلمون بالحلويات وملابس العيد) نجد هنا ثنائية ضدية طرفاها (الكوابيس – الحلويات وملابس العيد) وهذان الطرفان مرتبطان بطرفين آخرين متضادين (المتلصصون – الأطفال) وكلا الطرفين يعبران عن جانبين متضادين؛ فالكوابيس هي مجموعة من الأحلام المزعجة التي يراها الإنسان خلال فترة نومه، وهي تعبر عن القلق والتوتر والاضطرابات، مما يثير الرعب في النفس، وفي المقابل نجد الأحلام المشتملة على الحلويات وملابس العيد، وهي حالة من الانسجام النفسي والبهجة والرضا، مما يثير الراحة والطمأنينة في النفس، أما الثنائية الضدية الثانية (المتلصصون – الأطفال) وهي المتخفية وراء الثنائية الأولى، وتتحكم فيها فإنها تكشف عن الحالتين (القلق والتوتر – الانسجام النفسي) أيضا؛ فالتلصص حالة تثير القلق؛ لأنها تحاول معرفة الأشياء التي يخفيها الإنسان بهدف الإضرار به، ومن ثم يكون الإخفاء ضروريا، وأما الطفولة فهي رمز للبراءة، والانسجام مع النفس السويَّة، فإذا وضعنا هاتين الثنائيتين الضديتين– وهما تمثلان دائرتين دلاليتين متضادتين –في إطار ما ورد في بداية النص (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك) فإن هذا يعني أن إخبار الآخرين بما قد يعنّ للشخص سوف يحوِّل حالة الرضا والراحة النفسية/الأطفال يحلمون بالحلويات وملابس العيد، إلى حالة القلق والتوتر/ فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة، ومن الملاحظ أيضا أن الشاعر ما زال يستخدم الكلمات النكرة الدالة على العموم والشمول/أحداثا كثيرة، في قوله (فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة) فلم يحدد الشاعر هذه الأحداث، ولا ماهيتها وآثارها، ولكنه تركها عامة، وفي الوقت نفسه وصفها بأنها كثيرة؛ ليدل على الآثار السلبية المتنوعة لهذه الأحداث، فإذا أضفنا إلى ذلك اللفظين (المتلصصون – الكوابيس) وجدنا أن الروح المهيمنة على المقطع الأول هي روح السلبية والتشاؤم والشك في الجميع، فلا ثقة في أحد، ومن ثم لا إخبار لأحد بأي شيء، وهنا يرسم الشاعر الإطار العام الذي سيتحرك فيه النص، من خلال وضع رؤية فكرية عامة، وقد أشرنا سابقا إلى أن الشاعر اختار استخدام الدلالة على الحاضر من خلال استخدام الأفعال المضارعة الدالة على الزمن الحاضر، ولكننا نلاحظ أنه رغم طغيان الصيغ المضارعة فإن تطلع الذات الشاعرة/الراوي/السارد إلى المستقبل يبدو ضئيلا إن لم يكن منعدما؛ لأنه يعود في المقطع التالي إلى الحديث عن الماضي، كما أشرنا سابقا، في قوله (فيلم الأمس كان كئيبا)، فإذا انتقلنا إلى المقطع الثاني نجد النص أكثر انفتاحا من المقطع الأول الذي كان هدفه الأساسي تشكيل إطار عام تتحرك فيه الرؤية الفكرية، وتهيمن على بقية المقاطع؛ لتشكل الرؤية العامة للنص، وما يريد أن يبوح به.
- 2 –
لا قصف هذا المساء
والقمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين
وامرأة وحيدة
وقطة تبحث في صندوق نفايات
ثمة مخمور طوح عشاءه من النافذة
ليلتقطه بعض السيارة
المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات
ماتت بدون كرونا
وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني
المرأة لم تكن غانية
كانت تريد مبيتا
والولد كان ضائعا في حجرة بالبدروم
ولم يجد علاجا للتعرُّق الشديد صيفا وشتاء
لم تكن المناديل الورقية قد انتشرت
يبدأ المقطع بعبارة قد تبدو غريبة في موضعها (لا قصف هذا المساء) إن القصف يحمل معنى التدمير، ومن ثم فالمعنى المباشر (لا تدمير هذا المساء) ثم ينتقل الشاعر مباشرة إلى التلصص/التجسس، ولكن التجسس هنا يكتسي بظاهرة التطور التكنولوجي الذي وصل إليه الإنسان المعاصر (القمر الصناعي) الذي يرصد كل شاردة وواردة، ولا يترك شيئا إلا رصده وحلله، واستخرج منه البيانات المطلوبة، فالتجسس على البشر والحيوانات، وكل شيء، وهنا نعود إلى ما أورده الشاعر في المقطع الأول (فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة) ويرصد القمر الصناعي كلبين ملتحمين، وقطة تبحث في صندوق نفايات/حيوانات، وامرأة وحيدة،ومخمورًا طوَّح عشاءه من النافذة /إنسان،وهذه الأشكال المرصودة هي التي جعلت القصف متوقفا (لا قصف هذا المساء) وهذه العناصر من حيث التوصيف العام غير مهدِّدة، ومن ثم فلا حاجة لقصفها، فالإنسان لم يعد قادرا على الإنجاز، وقد فقد قدرته على منافسة المتلصصين، أو تهديد تفوقهم أو وجودهم؛ فالرجل صار مخمورًا، أي أنه غير واعٍ، ومن ثم فقد خرج من دائرة التهديد، أو صار من السيَّارة الذين يبحثون عن مأوى أو طعام، فالتقط ما طوَّحه المخمور من النافذة، والمرأة صارت وحيدة، ومن ثم فهي غير قادرة على العطاء، وفي الزاوية الأخرى نجد الحيوانات تمارس حياتها المعتادة؛ فالكلبان ملتصقان، وهي حالة عادية نشاهدها في الشوارع، والقطة تبحث عن طعامها في صندوق نفايات، وهي أيضا حالة معتادة، وقد يقرأ البعض هذه الجمل السردية في إطار تأويلي مختلف تماما، فيراها رموزا وإسقاطات على الحياة الإنسانية، فيرى الكلبين الملتصقين رمزا للتحرش الذي انتشر في المجتمع، ومن ثم يصبح إشارة سلبية للصورة المجتمعية، ويرى القطة التي تبحث عن طعامها في النفايات رمزا للفقر والمعاناة الإنسانية التي وصلت إلى حالة من البؤس جعلت الإنسان يبحث عن طعامه في النفايات، وهذا التأويل له ما يبرره عند البعض، وهو أن الروح العامة المهيمنة على المقطع هي روح السلبية، ومن ثم فإن هذا التأويل يتسق مع هذه الروح العامة، فيصور المجتمع منهارا أخلاقيا وماديا،وهنا نستدعي من المقطع الأول ما يفعله المتلصصون، إنهم يصنعون الكوابيس الكثيرة، ومادامت حياة الإنسان والحيوان قد فقدت ملامحها الحقيقية فإن القصف قد صار لا قيمة له، فهل أراد النص أن يشير إلى الصراع الذي يحكم حياة البشر، والتدمير الذي يمارسه الإنسان على الحياة والناس؛ ليقتل الأحلام، والبراءة الإنسانية، أو كما عبَّر المقطع الأول (الأطفال في نومهم يحلمون بالحلويات وملابس العيد) والإشارة الواردة (في نومهم) توحي بأن حالة البراءة والانسجام النفسي والروحي هي مجرد أحلام أطفال لا وجود لها على أرض الواقع، وهو ما يبرر إيراد الشاعر للثنائية الضدية في المقطع الأول من النص (المتلصصون – الأطفال) بكل محمولاتها الدلالية، ومن ثم فإن حالة الإحباط والسلبية التي هيمنت على المقطع الأول تصبح مبرَّرة، وكذلك تصبح العزلة التي يدعو إليها مبررة أيضا، ثم ينقلنا النص إلى مشهد آخر عبر الزمن، فيرتد إلى الماضي حين يقول (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كورونا) وهو ما يدعونا إلى التفكير فيما وراء هذا الاستدعاء، فكأن النص يحيلنا إلى الآثار السلبية للتطور الإنساني، وأن حضارة الإنسان تتآكل، ومنظومة القيم تتراجع؛ فالإنسان الذي تطور قد استخدم تطوره في تدمير حضارته، فأنتج الأوبئة والفيروسات التي قتلت الإنسان، وأصابته بالخلل النفسي، وكأن النص يشير بطريق غير مباشرة إلى أن كورونا التي انتشرت وأكلت الأخضر واليابس، ودمرت النفس الإنسانية، وأصابتها بالتشوهات النفسية، بعد أن قتلت الملايين من البشر، هي من إنتاج الإنسان، وهي نتيجة لتطوره، فهو لم ينتج إلا كل ما ينشر الفساد والدمار، ولكن النص في الوقت نفسه، يشير إلى أن أشكال التدمير التي يمارسها الإنسان تتغير بتغير الزمن والتطور الإنساني؛ فالمرأة التي كانت تستند إلى عامود إنارة في الستينات ماتت بدون كورونا، ولكنها أيضا لم تكن غانية، بل كانت تبحث عن مبيت آمن، إنها تعاني ولكن بشكل يتناسب مع عصرها وتطوره، ومن ثم فإن الإنسان يمارس قهره وتدميره للحياة بما يمتلك من أدوات، وما يتوصل إليه من تطور وتكنولوجيا، ويستمر النص في رصد مظاهر البؤس الناتج عن تدمير الإنسان للحياة والناس (والولد كان ضائعا في حجرة بالبدروم/ولم يجد علاجا للتعرُّق الشديد صيفا وشتاء/لم تكن المناديل الورقية قد انتشرت) ويقابل هذه الصورة في الستينات صورة أخرى في الحاضر (وامرأة وحيدة/وقطة تبحث في صندوق نفايات/ثمة مخمور طوح عشاءه من النافذة/ليلتقطه بعض السيارة) هاتان الصورتان تبرزان بوضوح المعاناة الإنسانية المستمرة عبر الزمن، ولكن الملاحظ أن الشاعر يحيلنا إلى الكاتب الكولومبي جابرييل غارسيا ماركيز في روايته (ذكريات غانياتي الحزينات) حين يقول (وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني) فبطل هذه الرواية، وهو صحفي مغمور، وعَزِب هرم، يقرر في عيد ميلاده التسعين أن يهب لنفسه هدية تتمثل في ليلة ماجنة مع عذراء مراهقة، فيتواصل مع صديقة قديمة قوَّادة من أجل تحقيق هدفه، وتقدِّم له فتاة شابة عذراء ذات جمال من نوع خاص، ولكن ليلته لم تكن ماجنة تماما كما خطَّط لها، والإحالة من الشاعر إلى هذه الرواية هنا لها أكثر من دلالة، ومن هذه الدلالات أن الأخلاق مسألة نسبية تتغير وتتبدل بتغير أزمان الإنسان وتبدلها، وهذا ما أشارت إليه روسا كباركاس القوَّادة صاحبة البيت السري التي اعتادت أن تتصل بزبائنها الجيدين عندما يكون لديها جديد من الفتيات الجميلات؛ لتعرضهن على هؤلاء الزبائن، فعندما كان البطل التسعيني لا يستسلم لإغراءات روسا الفاحشة لم تكن تؤمن بنقاء مبادئه، وكانت تبتسم ابتسامة خبيثة، وتقول: الأخلاق مسألة زمن أيضا، ولسوف ترى، وعندما اتصل بها البطل التسعيني؛ لتحقيق رغبته بعد زمن طويل، (فتنهدت قائلة: آه يا عالمي الحزين تختفي عشرين عاما وتعود؛ لتطلب مستحيلات فقط، وفورا) وهذا يدل على صدق ما قالته له بأن الأخلاق مسألة زمن، أي أنها نسبية، وأن نقاء المبادئ شيء وهميٌّ يطوِّعه الإنسان حسب رغباته، أما الدلالة الثانية لهذه الإحالة فهي أن استعادة الزمن مستحيل؛ فالتسعيني يظل ابن زمنه، وإن استدعى مراهقة عذراء قدَّمتها له قوَّادة قديمة، فإن اللقاء بالعذراء الشابة لن يعيد له الزمن المفقود، ولكنه سيجعله يستدعي ذكرياته المتدفقة، وتجاربه في بوح يوصِّله إلى حافة الموت، والوصول إلى حافة الموت هنا ليس بسبب كبر السن، وإنما بسبب أنه التقى بحب نقي خالص طال انتظاره، لقد جاء هذا الحب في وقت ضاع فيه الزمن، وتتحول الليلة الساخنة إلى تغيرات كبرى في حياة البطل، وإذا وضعنا الإحالة إلى رواية (ذكريات غانياتي الحزينات) وأحداثها في الإطار العام الواردة فيه في القصيدة سوف نجد أن النص يشير إلى أن المبادئ الإنسانية التي يتشدق بها المتشدقون ما هي إلا بوق لتبرير تصرفاتهم وأنهم غير أنقياء تماما، فيستدعون تلك المبادئ عند حاجتهم إليها، ويتركونها إذا تحققت رغباتهم، كما أن الإنسان عندما يكتشف حقيقة أفعاله المدمرة للحياة والنفس البشرية، وعندما يرى الصفاء والنقاء الذي كانت تبحث عنه البشرية سيكتشف هذا الإنسان أن الزمن قد فات، ولم تعد هناك فرصة لاستعادة ما فقده، وترميم أفعاله، وهو ما يعبر عن الإطار العام للنص من سلبية.
وهكذا وجدنا هذا المقطع الثاني من النص ينفتح أكثر على الدلالة التي وردت عامة ومغلقة في المقطع الأول، كما وجدنا الشاعر/الراوي/ السارد يتنقل بين الأزمنة، فيبدأ بالحاضر ثم ينتقل إلى الماضي، وهو ما أشرنا إليه في البداية عن السرد المتقطع، كما أنه يتحدث عن قصة، ثم ينتقل إلى قصة أخرى، مع الحفاظ على خط درامي يربط بين القصتين، وهو ما أشرنا إليه سابقا بالسرد التناوبي، وقد نجح النص في رصد ملامح الفكرة التي أرادها عن طريق دمج النوعين من السرد؛ ليكشف في النهاية عن جزء من الرؤية الفكرية المتخفية، ويعمِّق الإحساس بالبؤس الإنساني، وتراجع منظومة القيم، واستغلال الإنسان لنفسه ولغيره في صورة درامية مؤلمة ومدمرة للروح الإنسانية، ومفاهيمها العامة، وقيمها المشتركة، لننتقل بعد ذلك إلى المقطع الثالث من النص الذي يفتح زاوية المرآة على جانب آخر من الرؤية التي أرادها الشاعر، وسعى إلى تحقيقها، ونسج خيوطها عبر شبكة من العلاقات اللغوية، والإحالات المختلفة بمحمولاتها الدلالية.
- 3 –
فيلم الأمس كان كئيبا
والغجر لم يكونو سعداء
تقلبت البكر في نومتها
وتجمدت نظرات الفتي في النافذة
القيظ عُرْيٌ
ورغبات لا تتجاوز المسافات
لا تعبث بعيدان الثقاب
لم نتعود انقطاع الكهرباء
يبدأ المقطع الثالث من النص بالإحالة إلى الماضي من خلال قوله (فيلم الأمس كان كئيبا) فأي فيلم؟! وأي أمس؟! إن الاستخدام هنا استخدام مطلق بمعنى الماضي، فالماضي كان كئيبا، وإذا كان الضد يستدعي ضده من منطلق المقولة: وبضدها تتميز الأشياء، فإن الاستنتاج المنطقي لهذا القول (فيلم الأمس كان كئيبا) أن الحاضر أكثر نضارة وانسجاما؛ ليكون متضادا بذلك مع الأمس، ولكننا لاحظنا في المقطع السابق أن الحاضر لا يقل كآبة عن الأمس، إن لم يكن يزيد عليه نتيجة التطور التكنولوجي الذي أشار إليه النص، وبعد الإشارة إلى الأمس في بداية المقطع يحيلنا النص إلى الغجر (الغجر لم يكونوا سعداء) واستدعاء هذه الفئة من البشر تستدعي تلقائيا ملامح حياتهم التي شكَّلت تصرفاتهم ونظرتهم إلى الحياة، فقد عاش الغجر في مصر في تجمعات، وطابع الغجر المصريين الترحال، كما أن هناك بعض التجمعات المستقرة، أو شبه المستقرة التي تمارس التنقل الموسمي، وتكون لها أماكن عبور تستقر فيها بعد الترحال بين القرى، ويعمل الغجر في صناعة المناخل من شعر الخيل، وعمل المسامير والرقص الشعبي وتدريب القردة، ولا يتزوجون من خارجهم، وتدور الأغاني الكثيرة التي يغنيها الغجر في أفراحهم حول العشاق الذين أحبوا بنات الغجر ولم يستطيعوا الزواج منهن، وبذلك يكون الاستدعاء في النص دائرًا حول هذه الملامح، فلم يكن الغجر سعداء بحياتهم المليئة بالمآسي، وإن كانت مليئة بالمغامرات؛ فهي حياة بؤس وترحال، فعندما يقول الشاعر (فيلم الأمس كان كئيبا والغجر لم يكونوا سعداء) فإن فيه دلالتين، إما أنه يدل على أن الأقليات/الغجر يعيشون حياة بؤس وضياع، وإما أنه يشير إلى أن الحياة بصفة عامة لم تكن سعيدة، بل كانت بائسة، وذكر الغجر في الحالة هو مجرد إشارة لفئة للتدليل على الكل، وفي الحالتين فإن السلبية هي المهيمنة على الرؤية في هذا المقطع، وهو ما يتسق مع الإطار العام للرؤية العامة في النص، ثم تتوالى إشارات النص تدليلا على عدم السعادة، فيقول (تقلبت البكر في نومتها/وتجمدت نظرات الفتي في النافذة/القيظ عُرْيٌ/ورغبات لا تتجاوز المسافات) وإذا نظرنا إلى جملة (تقلبت البكر في نومتها) وربطناها بالجملة التالية (وتجمدت نظرات الفتى في النافذة) نجد الإشارة أن حياة الأنثى منتهكة، بمعنى أن المرأة لا تجد الخصوصية حتى في مأمنها، والجملتان مرتبطتان ارتباطا وثيقا من خلال حرف العطف الواو الدال على مطلق الجمع فلا فواصل بين جملة تقلُّب البكر في نومتها وجملة تجمُّد نظرات الفتى في النافذة، وإيراد لفظ النافذة هنا يوحي بالتلصص، وهو ما يرتبط بالمعنى الأول الوارد في المقطع الأول (فالمتلصصون) وفي المقطع الثاني (والقمر الصناعي يتجسس) وكأن النص يشير بطريق غير مباشرة إلى أن حياة الإنسان أصبحت مستباحة، وأن حياة الأنثى بصفة خاصة لم تعد لها خصوصية، رغم أنها لم ترتكب ما يؤدي إلى ذلك؛ فهي في مأمنها، وتتقلب وهي نائمة، ولكنها تتعرض للتلصص في غفلة منها، ثم تأتي الجملة (القيظ عري) لتمثل قفلا للمعنى ينتج عنه ما جاء في الجملة التالية (ورغبات لا تتجاوز المسافات) وكأنه يريد أن يشير إلى أنها رغبات آنية، تشبه تماما عندما نقول لإنسان: إنك تنظر تحت قدميك، ومن الملاحظ أن النص ربط بين الجملتين (القيظ عري - ورغبات لا تتجاوز المسافات) بحرف العطف الواو الدال على مطلق الجمع كما فعل في الجملتين السابقتين؛ ليدل على الترابط الوثيق بين الفعلين، فتجمُّد نظرات الفتى في النافذة هو رغبة لا تتجاوز المسافات، والقيظ جعل البكر تتقلب في نومتها، ومن ثم تتعرض لهذا الانتهاك، وإذا انتقلنا إلى مسافة تأويلية أبعد فإننا نجد أن النص يربط بين الحياة غير العادية والانتهاكات التي يتعرض لها أفراد المجتمع، وإذا ربطنا كل ذلك بما ورد من الحديث عن الغجر الذين لم يكونوا سعداء فإن الصورة المكتملة جزئيا ترى أن الحياة الماضية (فيلم الأمس كان كئيبا) لم تكن بالصورة المتخيلة في أذهان الناس، وهو ما يرتبط بما ورد في المقطع السابق من أن (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا) والإشارات الأخرى؛ كي يرسم النص بذلك صورة كاملة عن المعاناة الإنسانية في الماضي وفي الحاضر، وهو ما يرشحها للاستمرار في المستقبل، وهي الصورة السلبية التي أرادها النص مبررا لما أورده في البداية في قوله (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك وأنت تضع رأسك علي وسادة مملوءة بالهواء فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة) لقد جاءت الأحداث التالية كلها مبررة لهذا القول، وتدليلا على صدقه، وهو ما أشرنا إليه في بداية الدراسة من أن المقطع الأول ينشر أجنحته على النص، ويهيمن على حركته، ويرسم ملامحه، ليختم الشاعر هذا الجزء من المقطع بجملة لافتة (لا تعبث بعيدان الثقاب/لم نتعود انقطاع الكهرباء) كأنها ختام للدلالة في هذا الجزء، فلا ينبغي أن يعبث أحد بهذه المفردات من الحياة؛ لأن العبث بها سوف يؤدي إلى الانفجار، ومزيد من التخلف والظلام (لم نتعود انقطاع الكهرباء) فانقطاع الكهرباء هنا دلالة على التخلف الذي يصيب المجتمعات جراء العبث بهذه المفردات المشار إليها/انتهاك المرأة/الرغبات الآنية ....إلخ، ومن ثم فهو تشخيص لأسباب ما أشرنا إليه سابقا من انهيار الأخلاق، وتراجع منظومة القيم التي لم يختلف فيها الماضي عن الحاضر من وجهة نظر النص، ثم ينتقل النص إلى زاوية أخرى من زوايا الرؤية.
لا أحب المفاجآت
ولا جارتي العقور
ولا الكلاب الضالة
والساسة المتأنقين في الشاشات
هنا تبدأ الدلالة بالانفتاح كثيرا؛ إذ يصرِّح الشاعر/النص بالمكنون وراء هذه النظرة السوداوية لكل ما يحيط به، من خلال تحديد من لا يحبهم، فهو لا يحب المفاجآت؛ لأنها قد تحمل ما لا يحمد عقباه، والمفاجآت هنا هي الأفعال غير المتوقَّعة، وقد أشار الشاعر إلى وباء كورونا في أثناء النص، ويشير إليه في نهاية النص، وهو ما يفسر إيراده للفظ المفاجآت؛ فهي تحمل في مخيلته كل ما هو كارثي، ثم يورد النص بعد ذلك العنصر الثاني غير المحبوب (ولا جارتي العقور) وهو تعبير مثير للغاية؛ فكلمة (العقور) تطلق على الكلب، فيقال الكلب العقور، و(العَقُور): صيغة مبالغة على وزن (فَعُول) من الفعل (عقر) ويوصف الكلب بالعقور إذا كان متوحشا، جاء في المصباح المنير "والكلب العقُور، قال الأزهري: هو كلّ سبعٍ يَعقر من الأسد والفهد والنمر والذئب، يقال: عَقَرَ الناسَ عَقْراً: أي جَرَحهُم من باب (ضَرَبَ)، فهو عَقُور" وبذلك يتبيَّن لنا أن الكلب يُوْصَف بهذا الوصف إذا كان شرساً متوحَّشا؛ لأنَّ معنى الفعل (عَقَرَ) جَرَحَ، وفي الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خمسة لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحِل والحرم: العقرب والفأرة والغراب والحِدأَ والكلبُ العقور" وعندما يشير الشاعر/النص إلى أنه لا يحب الجارة العقور فهي يشير إلى أنها لم تلتزم بحقوق الجار، فالجار ينبغي أن يحافظ على جاره، ولكنها أصبحت مصدر إضرار للجار، ثم ينتقل الشاعر/النص إلى العنصر الثالث وهو الكلاب الضالة، وقد يراد به كل من خرج عن الطريق الصحيح في فكره ومعتقده وانحيازاته ورؤاه، وهي صورة كاشفة؛ لأن الكلب عندما يضل فإنه يصبح أكثر خطرا، وهذا العنصر يستدعي أيضا ما ورد في المقطع الثاني (والقمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين) وهو ما يشير إلى ملمح من ملامح الضلال، وزاوية من زوايا الخروج عن المألوف؛ فهو إلى جانب أنه منظر غير حضاري فإن ذكر لفظ (الضالة) إشارة إلى إمكانية تعرض الناس للخطر؛ لأن الكلاب الضالة في المخيلة مرتبطة بلفظ العقور، أي الإيذاء، أما العنصر الرابع (الساسة المتأنقين في الشاشات) فهو إشارة إلى الكذب والنفاق الذي يمارسه الساسة على الناس بهدف تضليلهم؛ لأنهم يظهرون متأنقين، أي على غير حقيقتهم؛ إيهاما لمن يراهم بصدقهم، وصدق ما يقولون، وبذلك تكتمل عناصر المشهد، ومن الملاحظ أن النص ربط بين كل هذه العناصر بحرف العطف الواو الدال على مطلق الجمع، وهو إشارة صريحة في أن العناصر الأربعة لا فرق بينها في الإيذاء للناس والمجتمع والحياة بصفة عامة، ثم يعود الشاعر/النص للحوار الذي بدأ في المقطع الأول، فيقول:
قلت له:
ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟!
وتحتل الطرق الرئيسية
ومحاور المدن
واختناقات المرور ؟!
لم يكن يسمعني
ولم أنشغل بالردِّ
وأنا أضع طوابير النمل في رأسي
وأغلق باب فكرة مجنونة
تتحرش بي في اضطجاعتي التي طالت
وأنا لم أر أحفادي منذ كرونا
يعود النص إلى الحوار كما بدأ في المقطع الأول، ولكن جهة التحدث هنا تتغير؛ ففي المقطع الأول قال (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك وأنت تضع رأسك علي وسادة مملوءة بالهواء) فكان المتحاور حاضرا من خلال اتخاذه موقف المخاطَب الذي يتوجَّه إليه الخطاب، ولكنه هنا يتحول إلى حالة الغياب (قلت له ...) وهو وإن كان غائبا فإن صورة المخاطب مازالت قائمة؛ إذ لمن كان يوجِّه الشاعر خطابه، ويبلغه بالذي قاله، فهنا ثلاثة عناصر، الأول المتكلم والثاني المخاطب، والثالث المتحدَّث عنه الغائب الذي قيل له (ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟!) فهل دخل عنصر ثالث للحوار أو أن الشاعر يتحدث مع نفسه؟ وسوف نناقش ذلك لاحقا، وفي جميع الأحوال فإن الإشارة هنا إلى أن الخلافات باتت تتحكم في كل شيء؛ لأن القول بأن الشياطين تكمن في التفاصيل قول يتداوله الكثيرون، وبخاصة الساسة الذين يتفقون ظاهريًّا في الأطر العامة، ويوقِّعون اتفاقيات، ويرسلون الوعود، ولكنهم يختلفون اختلافا كبيرا عند التفاصيل، وكل طرف يؤول المتفق عليه في الإطار العام تأويلا يتماشى مع رؤيته، ومن ثم فإن إيراد النص للقول (ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟! وتحتل الطرق الرئيسية ومحاور المدن واختناقات المرور؟!) إشارة إلى تحكم الخلافات والاختلافات في كل شيء، وإن بدا الجميع متفقين في الأطر العامة للأمور، ويورد النص تلك الإشارات للتدليل على ما يريد، وليس للتخصيص، فالشياطين/الاختلافات والخلافات في كل مكان، وفي كل شيء: في الطرق الرئيسية/القضايا الرئيسية، وفي محاور المدن/الأمور المفصلية التي تتحكم في المجتمع وتحكم حركته، وفي اختناقات المرور/القضايا التي تتداخل فيها المصالح والأهواء والخيارات والانحيازات، فإذا انتقلنا إلى مسافة تأويلية أبعد فإننا نرى النص يشير إلى أن التداخل بين الديني والثقافي والسياسي والتاريخي والتربوي هو السمة الغالبة، وأن الاختلافات في التوجهات والرؤى والانحيازات الفكرية والجمالية، والخيارات المصيرية، كل ذلك لا اتفاق عليه في التفاصيل، وإن اتفق الجميع على الإطار العام من حيث هو شعار عام؛ فالكل مختلف على كل شيء، إن الخيارات المتحكمة في المجتمع والحاكمة لمصائر أفراده مختلفة، كما أن معتنقي هذه الخيارات يختلفون في كل تفاصيلها، وحتى في الانحياز الفكري الواحد الذي يمثل إطارا عاما لكل أفراده، فإن هؤلاء الأفراد يختلفون في تفاصيل هذا الانحياز الفكري، وإن اتفقوا في الإطار العام، وهنا تكون النتيجة الطبيعية التي يشير إليها النص صراحة، أن لا أحد يسمع أحدا (لم يكن يسمعني ولم أنشغل بالردّ) لتنغلق بذلك فكرة التوافق المجتمعي بين أصحاب هذه الرؤى، وتصبح الفكرة/التوافق مجرد فكرة مجنونة تراود الشاعر/الإنسان لحظة اضطجاعه التي طالت، أي لحظة تأمله حين كان منفردا نتيجة غياب أحفاده الذين لم يرهم منذ انتشار الوباء.
لقد استطاع النص رصد الملامح التي حكمت كل شيء وأدت إلى الخلاصة التي توصل إليها الشاعر، ودوَّنها في البداية (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك وأنت تضع رأسك علي وسادة مملوءة بالهواء)؛ ليكون النص بأكمله تدليلا على هذا القول، وهنا يبدو السؤال منطقيا حين نقول: هل كانت كل هذه الأحداث في النص مجرد ثرثرة، أو أنها فعل تنفيس للنفس المكبوتة بكل ما تعاني منه؟ ليكون هذا الفعل التنفيسي بديلا عن فعل الانفجار؟! لقد أتقن النص/الشاعر اختيار اللحظات الفاصلة، والإشارات الدالة، والتلميحات المغلَّفة في الكشف عن معاناة الإنسان المحكوم بالخلافات المحيطة به، ولا أحد يريد التراجع عن قناعاته، وإن اتفق الجميع في الأطر العامة، واستطاع النص من خلال السرد التناوبي أن يكشف عن جوانب تلك المعاناة الإنسانية الطاحنة باختيار أحداث محددة ذات محمولات دلالية عميقة وكاشفة في النفس الإنسانية، لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن النص بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي، والحديث عن الشخصيات الواردة في النص بأنواعها الذكرية والأنثوية، وملامح كل نوع كما صوَّره النص، وكذلك الحديث عن الفجوات السردية، وأثرها في إنتاج الدلالة.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى