وقف أمام الباب متهيبًا. ثم دخل بخطى بطيئة. فاجأه عدد المنتظرين. همس بالتحية فصدح المكان برد مفعم بالود. جلس على أقرب مقعد يتأمل الجالسين في صفوف متوازية متقابلة. رأى أطفالًا وعجائز وشيوخًا وشبابًا وفتياتٍ. الصمت الذى صاحب دخوله تبدد سريعًا.. ودارت مطحنة الكلام فتطايرت الحروف والكلمات والهمسات والضحكات الخافتة واختلطت بحشرجات الصدور والكحة ورنات الهواتف. بعد قليل من التأمل ميَّز المرضى والمصاحبين لهم. المرضى صامتون.. يتحدثون باقتضاب ويكتفون بإيماءات رؤوسهم وإشارات أصابعهم. المصاحبون يضعون بين أرجلهم حقائبَ صغيرة وأكياسًا منبعجة. يهمهمون بصوت منخفض.. لكن عددهم الكبير يجعل الهمهمات طنينًا متصلًا. يراقبون أحباءهم بتركيز فيسارعون بإخراج زجاجات الماء وأكياس البسكويت وزجاجات الدواء مع كل إيماءة أو همسة من مريض. يسود صمت مفاجيء مع خرفشات الأكياس وصوت فتح الحقائب.. إلى أن يشرب المريض أو يأخذ جرعة الدواء أو يتناول سندوتش الإفطار. انتبه إلى يديه في جيب المعطف الثقيل.. فأخرجهما وشبكهما.. وبدا مُحرجًا فجاهد ليرسم البشاشة. الشاب الذى يجلس إلى جواره مال نحوه: كيماوي أو إشعاعي؟ فأجاب بسرعة كأنه ينفي تهمة: جئت لأرى أخي. سأله الجار عن اسم أخيه. تعجب: كيف يعرف المرضى أسماء بعضهم؟! انتبه إلى جاره يكرر السؤال: أخوك؟ وهو ساهم: محسن. زم الجار شفتيه وهمس: آه.. الدكتور محسن.. ربما جاء قبلي. ثم أشار إلى حجرة صغيرة مجاورة وهمس: اسأل السكرتيرة. فقام واقترب من الحجرة وسأل مترددًا: وصل أخي محسن؟ فأجابت بسرعة: الدكتور على الجهاز. عاد إلى مكانه فقال الجار كأنه يرد على سؤال لم ينطق به: الجلسة لا تزيد عن ربع ساعة.. الدكتور صار منا.. ربنا يشفي كل مريض. أمَّن على كلام الجار ثم غطس في بحيرة الصمت.
مال بجسده وهمس متعجبًا: سبحان الله! فتنهد جاره وتكوم في مقعده وهو يتمتم: جلسات الإشعاع قربت بيننا.. صرنا أصحابًا.. قلوبنا معلقة بجهاز الإشعاع.. نحضر كل صباح فنسأل عن صحته.. نستبشر إذا كان سليمًا.. ويركبنا الغم إذا تعطل.. ونعيش بأمل الشفاء.
آه.. أمل الشفاء.. تذكر أنه بدا متماسكًا عندما أخبره أخوه بحقيقة مرضه.. لكن فضحته عيناه. ابتسم أخوه قائلًا: لا تقلق كثيرًا.. الموت موعد مؤجل لا علاقة له بالمرض.. وأنا أتعامل مع الأمر بهذه القناعة.. وأعرف مرضى شفاهم الله شفاءً تامًا. هدأ قليلًا وظل داخله يفور: ماذا لو عرفت أمنا؟ وكيف نخفي عنها هذا الأمر؟ هي تقرأ متاعبنا من مجرد النظر في وجوهنا.. وملاحظة خطونا.. وارتعاشة الحروف فوق شفاهنا.. وضحكاتنا الزائفة. لم نصارحها.. لكنها أدركت. رأيناها تشارك في الحديث عن ميعاد الزيارة التالية للطبيب وتغيير أنواع الدواء. تتحدث بهدوء وصبر كأن الأمر يخص أحد الجيران. بعد أن قرر الأطباء الاستعانة بالعلاج الإشعاعي.. رأيت دموعها تسح وهي تجلس على سجادة الصلاة بعد المغرب.. فابتعدت مثقلًا بالألم.
انتبه على صوت السكرتيرة يعلو باسم المريض التالي. لكزه جاره منبهًا: جلسة الدكتور انتهت. قام ليلحق به فرآه يدخل الحجرة متفحصًا الوجوه.. ثم يتجه إلى عجوز لينتحى بها جانبًا وأخذا يهمسان. انتظر حتى انتهيا من الحديث الخافت واقترب منهما. رآه محسن مندهشًا فابتسم. استأذن من السيدة التي أخذت تدعو له وللناس جميعًا بالشفاء.. وأخذه من يده وهتف بالحاضرين: نشوفكم بكرة على خير. فردوا التحية جميعًا. أمام الباب الخارجي توقف ليشرح له: هم أهلي الجدد.. نتساند جميعًا لنقاوم الألم والفناء. شبك يده في ذراع أخيه.. ومضيا يتلمسان أشعة الشمس بعيدًا عن برودة المقاعد المعدنية ونظرات الفنيين المحايدة والوصلات اللامعة المتجهمة التي تخترق الحيطان. خطوات قليلة وسمعا صوتًا ينادي. توقفا والتفتا. هتف محسن: أهلًا يا عم لطفي. وانتظر أن يلحق بهما الرجل الذي أسرع واحتضن محسن بحرارة هامسًا: لا تؤاخذني يا دكتور.. اليوم آخر جلسة لي.. واللقا نصيب يا بني.. ربنا يحميك لشبابك. لاحظ أن وجه أخيه تجمد.. ثم همهم بما لم يسمعه.. فعالج لطفي الأمر بابتسامة رائقة أضاءت وجهه الشاحب.
مشيا متشابكي الأيدي.. يتطلعان إلى الشمس في شوق.. ما إن تظهر حتى تختفي خلف السحب، فيتسلل الهواء البارد إلى العظام.. ثم تطل من بين الغيوم فيتنشقان دفئًا مراوغًا. تتابعت خطواتهما في إيقاع بطيء منتظم.. وهما يغيبان وسط الزحام.
مال بجسده وهمس متعجبًا: سبحان الله! فتنهد جاره وتكوم في مقعده وهو يتمتم: جلسات الإشعاع قربت بيننا.. صرنا أصحابًا.. قلوبنا معلقة بجهاز الإشعاع.. نحضر كل صباح فنسأل عن صحته.. نستبشر إذا كان سليمًا.. ويركبنا الغم إذا تعطل.. ونعيش بأمل الشفاء.
آه.. أمل الشفاء.. تذكر أنه بدا متماسكًا عندما أخبره أخوه بحقيقة مرضه.. لكن فضحته عيناه. ابتسم أخوه قائلًا: لا تقلق كثيرًا.. الموت موعد مؤجل لا علاقة له بالمرض.. وأنا أتعامل مع الأمر بهذه القناعة.. وأعرف مرضى شفاهم الله شفاءً تامًا. هدأ قليلًا وظل داخله يفور: ماذا لو عرفت أمنا؟ وكيف نخفي عنها هذا الأمر؟ هي تقرأ متاعبنا من مجرد النظر في وجوهنا.. وملاحظة خطونا.. وارتعاشة الحروف فوق شفاهنا.. وضحكاتنا الزائفة. لم نصارحها.. لكنها أدركت. رأيناها تشارك في الحديث عن ميعاد الزيارة التالية للطبيب وتغيير أنواع الدواء. تتحدث بهدوء وصبر كأن الأمر يخص أحد الجيران. بعد أن قرر الأطباء الاستعانة بالعلاج الإشعاعي.. رأيت دموعها تسح وهي تجلس على سجادة الصلاة بعد المغرب.. فابتعدت مثقلًا بالألم.
انتبه على صوت السكرتيرة يعلو باسم المريض التالي. لكزه جاره منبهًا: جلسة الدكتور انتهت. قام ليلحق به فرآه يدخل الحجرة متفحصًا الوجوه.. ثم يتجه إلى عجوز لينتحى بها جانبًا وأخذا يهمسان. انتظر حتى انتهيا من الحديث الخافت واقترب منهما. رآه محسن مندهشًا فابتسم. استأذن من السيدة التي أخذت تدعو له وللناس جميعًا بالشفاء.. وأخذه من يده وهتف بالحاضرين: نشوفكم بكرة على خير. فردوا التحية جميعًا. أمام الباب الخارجي توقف ليشرح له: هم أهلي الجدد.. نتساند جميعًا لنقاوم الألم والفناء. شبك يده في ذراع أخيه.. ومضيا يتلمسان أشعة الشمس بعيدًا عن برودة المقاعد المعدنية ونظرات الفنيين المحايدة والوصلات اللامعة المتجهمة التي تخترق الحيطان. خطوات قليلة وسمعا صوتًا ينادي. توقفا والتفتا. هتف محسن: أهلًا يا عم لطفي. وانتظر أن يلحق بهما الرجل الذي أسرع واحتضن محسن بحرارة هامسًا: لا تؤاخذني يا دكتور.. اليوم آخر جلسة لي.. واللقا نصيب يا بني.. ربنا يحميك لشبابك. لاحظ أن وجه أخيه تجمد.. ثم همهم بما لم يسمعه.. فعالج لطفي الأمر بابتسامة رائقة أضاءت وجهه الشاحب.
مشيا متشابكي الأيدي.. يتطلعان إلى الشمس في شوق.. ما إن تظهر حتى تختفي خلف السحب، فيتسلل الهواء البارد إلى العظام.. ثم تطل من بين الغيوم فيتنشقان دفئًا مراوغًا. تتابعت خطواتهما في إيقاع بطيء منتظم.. وهما يغيبان وسط الزحام.