إيمان السيد - رؤية إنطباعية لنص القصة القصيرة للقاص ياسر جمعة.. البحث عن وجه الجارة

البحث عن وجه الجارة


أُعدُّ قهوة الصباح فأسمع صوت القرآن، يصطخب رأسي بمشاهد العذاب وأتساءل: هل مصدر الصوت شقة الجارة، التي لم أستطع منع نفسي من إمعان النظر في مفرق ثديَيْها البضين وإبطها النظيف، عندما كانت تنشر غسيلها زاهي الألوان في بلكونتها منذ أيامٍ؟
ينتقل صوت المقرئ إلى وصف النعيم، أبتسم وأحمل قهوتي وأخرج، أجلس في مقعد البلكونة، يتهلَّل عجوز البلكونة المقابلة ويرفع كوب قهوته مبتسماً، كما هي العادة منذ بدأ الوباء، أشرب القليل من زجاجة المياه فتحضرني لمعة عينَيْ خديجة وهي تخبرني، ذات لقاءٍ خاطفٍ جمعنا هنا الصيف الماضي، أنها تحب الماء، أشاكسها:
"تقصدين البلل؟".
تضحك، وقد فهمتْ تلميحي، وتقول:
"لأ".
وتمسك بكوب الماء الزجاجي، ترتشف منه القليل، وما تلبث أن ترفعه عاليًا لينسكبَ على وجهها والصدر، فيشفَّ ثوبها ما تحته، أضحك، كما أضحك الآن، وآتي على ما تبقَّى من زجاجة المياه الصغيرة وأنا أفكر أن أتصل بها، غير أني أُرجئ هذا وآخذ ثلاث رشفاتٍ من كوب القهوة، بعد أن أستنشقها كما العادة، ثم أُشعل سيجارةً وأفتح رواية "أن ترى الآن" لمنتصر القفاش، أقرأ الفصل الرابع عشر والذي يليه وأتوقف، رغم رغبتي في الاستمرار، كي أطيلَ قدر المستطاع من جرعات جمال هذا السرد الهادئ، وهكذا أُنهي قهوتي وأُشعل سيجارةً ثانيةً، يتبدل صوت القرآن بصوت أغانٍ صاخبةٍ، أبتسم وأنا أتساءل للمرة الثانية في اهتمامٍ يثير دهشتي، عمَّ إذا كانت هي ذات الجارة التي تشغل معظم ليلنا، منذ بدأ الحظر، بحكاياتها المتشعِّبة، في هاتفها، بهذا الصوت الذي يتلوَّن على حسب ما تحكي.. يحزن ويرق ويضحك، فنضحك- نعم أسمع كذلك ضحكات بعض الجيران المكتومة وتحركاتهم الحذرة- ولكنها، عندما تركن أحياناً إلى الهمس، ويستحيل صوتها إلى همهماتٍ غامضةٍ، ويأكلني الفضول، أغمض عينَيَّ مستعيداً كلَّ وجوه الجارات اللاتي لم أكن ألاحظهنَّ أبداً قبل ذلك، أستبعد هذا لغِلظة ملامحه، وهذا لأن صاحبته عندها زوجٌ وأبناءٌ، وهذه للأسباب نفسها، وأيضاً تلك، وهذه لأنها عجوزٌ.. مع أنها تسكن أيضاً وحدها، غير أني، قبل أنْ أستقرَّ على وجهٍ كي أحدِّدَ أين تسكن، يعلو صوتها بضحكةٍ دسمةٍ بالبهجة المفاجئة، دون أنْ يخلوَ تماماً من الشجن، أو يعلوَ بجملةٍ غالبًا ما تكون إعتراضيةً، تعيدنا بها إلى حكاياتها، أو بالأحرى تعود لنا بها، وهكذا ينقضي معظم الليل.. ليلنا الطويل، حتى تقول لمحدثها:
"تصبح على خير".
وتدخل شقتها، أدخل أنا كذلك وقد نسيتُ فضولي في معرفة وجهها تماماً، وأبدأ في تسلق جبال الوقت- هل يفعل هذا أيضاً كل الجيران؟- حتى أسقطَ في حفرة النوم المخيفة، أو أبقى هكذا إلى أن يفاجأني الصباح.


----------------------------


رؤيتي الإنطباعية

يستحضرالنص شخصياتٍ مختلفةً عبر أزمنةٍ متباينةٍ في مكانٍ واحد
(البلكونة)وتقوم على ركحه كل المشاهد:
الآخروية
جحيم و نعيم
يصطخب رأسي بمشاهد العذاب/ ينتقل صوت المقرئ إلى وصف النعيم
وبين الجحيم والنعيم
مشاهد دنيوية:
حياةٌ ملأى بالمشاهد
الدنيوية الحية:
المسموعة/أتساءل هل مصدر الصوت شقة الجارة؟!
المرئية/"التي لم أستطع منع نفسي من (إمعان النظر) في مفرق ثدييها البضيين وإبطها النظيف عندما كانت تنشر غسيلها زاهي الألوان"
لينقلنا إلى زمن الوباء عبر رؤيته (لجاره عجوز البلكونة) "أيام الحظر"
والاسترجاعية/ "فتحضرني لمعة عينَي خديجة وهي تخبرني ذات لقاءٍ خاطفٍ جمعنا (هنا) الصيف الماضي أنها تحب الماء"
ليعود بنا عبر ذاكرته منقلباً من أحداث الحاضر إلى أحداث الماضي -وهو يمشي متوازن الخطا فوق حبلٍ غليظ الملمس رقيق المنسَج-
محورها ذلك اللقاء عبر مشاهدَ وصفيةٍ شفَّتْ عن زجاجة المياه التي
قسَّمها بين ظمأين:
ظمأ معنوي/ تجسّد في اشتهاء محبوبته عبر انسكاب كأس الماء فوق جسدها فشفّ ثوبها عما تحته فرقَّ السارد وثار في ذاكرته الوجدانية الغائبة الحاضرة /"وتمسك بكوب الماء الزجاجي ترتشف منه القليل، وما تلبث أن ترفعه عالياً لينسكب على وجهها والصدر فيشف ثوبها ما تحته"
وظمأ معنوي/"آتي على ما تبقى من زجاجة المياه الصغيرة"
لينتقل بنا إلى حكايةٍ ثانيةٍ تختبئ في خفايا الحكاية الأولى عبر قراءته رواية
(أن ترى الآن)
/لمنتصر القفاش/ ليقفز بنا من استمتاعه بالسرد( الهادئ)
إلى (صخب) أغانٍ عاليةٍ تبدَّل بها صوت القرآن
ليعود -متحكماً بخيط سرده الشفيف- إلى مكان الأحداث
"البلكونة" وإمكانية صدور كل تلك الأصوات -على تباينها- من شقة (الجارة) التي هي محور النص والتي تدور حولها كل الأحداث والصراعات
المرئية والمسموعة والاستكشافية والاسترجاعية والخيالية
ليترك لنا القاص بينها عيوناً ترى وآذاناً تسمع ونفوساً تتمنى وذاكرةً تبتسم بنسيجٍ محكمٍ لنصٍ جميلٍ جُلَّ أحداثه جرت في البلكونة!

(البلكونة)مكانٌ مزدحمٌ بأحداثٍ وشخصياتٍ عدةٍ، بدأ الصباح وانتهى فيها
مكاناً وزماناً
ذلك (الصباح) الذي بدأ بعد دورته الزمنية والاستذكارية والبحثية العارمة عبر خياله المبدع وكانت نافذته فيه حكايات الجارة المتعددة عبر هاتفها وطبقات صوتها المسموع والذي من خلاله طاف حول كل وجوه وملامح الجارات عله يعرف وجه صاحبة هذا الصوت الذي كان يستمتع بطبقاته المتلونة وهي تتكلم بهاتفها الجوال "ليلاً"
"أغمض عيني مستعيداً كل وجوه الجارات اللاتي لم أكن ألاحظهن أبداً قبل ذلك"
ومطابقته- لملامح الجارات مع صاحبة ذلك الصوت الذي أسرَه- عبثاً!
لينقضي نهاره وليله دون أن يعرف من هي تلك الجارة صاحبة الصوت الأثير لديه!

غالباً تكون قوة النص فيما لم يقله الكاتب.

إيمان فجر السيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى