د. عبدالجبار العلمي - في التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب :

صدر عن دار العين للنشر بالقاهرة كتاب "النقد والإبداع والواقع نموذج سيد البحراوي" من إنجاز مجموعة من الباحثين المغاربة، وبتقديم د. محمد مشبال أستاذ البلاغة والنقد وتحليل الخطاب بكلية الآداب بتطوان المغرب. والكتاب يكسر طوق العزلة التي سادت زمناُ طويلا بين المشرق والمغرب، ويحتفي بناقد ومبدع مصري وباحث أكاديمي عرف بجديته وجهوده في التأليف، واختصاصه في دراسة البنية الإيقاعية في الشعر العربي، كما عرف في الوسط الجامعي بتشجيعه لطلابه والأخذ بيدهم للانخراط في عالم الكتابة والإبداع. وفي اعتباري أنه من الكتاب المشارقة الذين عملوا علي مد جسور التواصل بين المشرق والمغرب في مجال النقد والأدب، حيث شارك في العديد من الملتقيات التي نظمتها كلية الآداب بمدينة تطوان التي تقع في أقصي المغرب.
والكتاب كما يتضح من عنوانه، يعني بدراسة أعمال المحتفي به النقدية والإبداعية، ورؤيته للواقع الأدبي والاجتماعي من خلال حوارات أجريت معه لدي زياراته المتعددة للمغرب.
يشتمل هذا الكتاب علي مقدمة وأربعة فصول: الفصل الأول عن النقد، والفصل الثاني عن الرواية، والفصل الثالث عن القصة، أما الفصل الرابع، فقد خصص لأنشطة الكاتب لدي زياراته للمغرب بعنوان: "سيد البحراوي في تطوان".
يري د.محمد مشبال في المقدمة التي رصدها للحديث عن الدافع إلي هذا الكتاب، أن الممارسة النقدية في العقود الثلاثة الأخيرة تبنت العديد من المناهج والنظريات الأدبية واللسانية الغربية، وذلك قصد تطبيقها علي الأدب والثقافة العربيين. ويلاحظ بهذا الخصوص أن هذه الظاهرة برزت في وقت وجيز، تجاورت فيه مناهج متعددة ومتناقضة، ويري أن الإقبال علي هذه المناهج والنظريات أدي إلي الاهتمام بدرس مبادئ النقد، والإعراض عن التعامل مع النصوص الأدبية نفسها. وهكذا أصبحت أسماء النقاد والمنظرين الغربيين أكثر رواجاً من أسماء المبدعين العرب شعراء وروائيين. كما يشير إلي ظاهرة خطيرة في واقعنا الثقافي هي اختفاء مفهوم الناقد باعتباره أحد الفاعلين في الحركة الأدبية، وابتعاده عن مهمته الأساس المتمثلة في"الإسهام في تشكيل الوعي الأدبي والجمالي، بل والاجتماعي للقراء"، فكانت النتيجة هي انعزال الناقد عن الحركة الأدبية ومواكبتها والنهوض لحل مشكلات النصوص الأدبية حتي يكون صلة وصل بينها وبين القراء والمتلقين. ثم يوجه نقده إلي النقاد والدارسين الذين تبنوا تلك المناهج الغربية، لأنهم يعتبرون أن"النقد صناعة مجردة عن أي أهداف إنسانية واجتماعية" فالتعامل مع النصوص الشواهد عندهم وسيلة لإثبات صحة النظريات وفاعليتها. وهكذا تم إفراغ مفهوم الناقد من وظيفته الاجتماعية.
ويري د.محمد مشبال أن النقد الحقيقي ينبغي أن يكون نابعاً مما تطرحه الأعمال الأدبية العربية من قضايا وظواهر فنية، أوعلي الأقل نابعاً من معايشة حقيقية للأعمال الأدبية الإنسانية. ويشير الباحث في مقدمته إلي أن معظم الباحثين المغاربة المساهمين في هذا الكتاب التكريمي، ينتمون إلي هذا الاتجاه النقدي العربي الأصيل الذي كان يمثله محمد مندور وشكري عياد ومحمود أمين العالم وغالي شكري، وهذا يعني أن ثمة تراجعاً عن إقبال الدارسين علي النظريات الأوروبية، وإعراضاً ملموساً عن التصورات التي تؤمن بالنص المغلق، لاسيما وأن بعض المنظرين البنيويين الغربيين أنفسهم طفقوا يدعون إلي التخلي عن النقد الأدبي التقني، وممارسة نقد منفتح كما فعل تودوروف في كتابه "الأدب في خطر".
ويثير الباحث في مقدمته المركزة انتباهنا إلي تجربة سيد البحراوي النقدية المتميزة، لأنها تعلمنا دروساً في النقد والأدب والحياة، فضلاً عن أن لها أواصر متينة بالبلاغة باعتبارها أقدم ممارسة نقدية في التاريخ الإنساني.
1 الفصل الأول: عن النقد، ويضم خمس دراسات تناولت بالدرس والتحليل مجموعة الأبحاث والدراسات النقدية التي أنجزها سيد البحراوي، سواء منها المتصلة بدراسة نظرية الأدب والمناهج الأدبية، أوالمتعلقة بدراسة الإيقاع وموسيقي الشعر العربي، وهذه الدراسات هي كما يلي: "مساهمة عربية في النظرية النقدية" لمحمد الأمين المؤدب "النقد والتواصل"لمحمد مشبال "النقد بين العلمية والخصوصية الأدبية" لعبدالفضيل إدواري "سيد البحراوي ودراسة الإيقاع الشعري" للإمام العزوزي "الصراع داخل النظام الإيقاعي في شعر بدر شاكر السياب" قراءة في كتاب"الإيقاع في شعر السياب"لعبدالجبار العلمي.
وقد تناولت هذه الأبحاث بالدرس والتحليل المؤلفات التي أنجزها سيد البحراوي طيلة مسيرته العلمية الأكاديمية، وقد لاحظ الباحثون أثناء دراساتهم هذا المتن النقدي، أن الباحث يجمع في معظم أعماله بين التنظير والتطبيق. أما الأفكار والقضايا التي انصب الاهتمام عليها في دراسة تجربة سيد البحراوي النقدية، فيمكن أن نذكر أهمها كما يلي: سؤال المنهج منذ أن طرح في بداية القرن الماضي إلي ظهور المناهج النقدية الحديثة المتنوعة الوافدة من الغرب/ أزمة النقد التي تتمثل في عدم قدرة النقاد العرب علي إنتاج منهج علمي ذي أصول نظرية واضحة، وأدوات إجرائية منسجمة مع هذه الأصول/ عدم تلاؤم المناهج النقدية الغربية الحديثة مع خصوصية النص الأدبي العربي، واستجابات المتلقي العربي الجمالية والاجتماعية/ وظيفة النقد في تصور الباحث تتمثل في مساعدة القارئ علي فهم الحياة والإنسان/ الحاجة إلي ممارسة نقد ثقافي اجتماعي يقوم علي دراسة الواقع ومعرفة قضاياه، لا إلي فرض نظريات قادمة من مجتمعات أخري بمشكلات أخري/ مصطلح "محتوي الشكل" يعني في تصور الكاتب النظر إلي الشكل باعتباره حاملاً لمضمون/ الابتعاد عن الاستسلام للذوق الخاص للناقد، وتحاشي الانطباعية السلبية/ اعتماد التفسير في دراسة العمل الأدبي بشكل رئيس، لا الاكتفاء بوصفه/ الانفتاح علي مناهج وأدوات إجرائية متنوعة،
2 الفصل الثاني: عن الرواية، ويشتمل علي أربع دراسات خصصها أصحابها لرصد الإبداع الروائي عند سيد البحراوي، وتحمل العناوين الآتية: "سؤال الموت والكتابة الروائية في رواية"شجرة أمي"لعبدالرحيم جيران "أزمة الموت والمجتمع في رواية "ليل مدريد" لهشام مشبال "اللذة والألم في رواية" ليل مدريد"لعماد الورداني "سرد الحياة وحياة السرد في روايات سيد البحراوي القصيرة، لمحمد مشبال.
وتتناول هذه الدراسات مجموعة من القضايا التي طرحها الكاتب في تجربته الروائية يمكن أن نجملها فيما يلي: موضوعة الموت الدلالية في رواية "شجرة أمي"، تعتبر"(العقدة النصية) التي يتحقق عبرها التجديل بين العام والخاص، والكل والجزء"/ التضامن مع البشر، وتعني انحياز سيد البحراوي في كتاباته إلي الإنسان بكل معاناته ومشاكله الاجتماعية والوجودية/ افتقاد القيم النبيلة في الواقع المصري والعربي علي السواء، ومغامرة البحث عنها لإعادة التوازن إلي مجتمع يعاني الانهيار علي مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والروحية/ الصراع بين الجسد والروح، وهذه القضية كانت مجالاً للمعالجة في كثير من الأعمال الروائية العربية. إنها معركة الإنسان الأبدية بين لذة الجسد، ولذة الروح، بين الانغمار في حياة مادية، والتطلع إلي رحاب عالم الإيمان والسكينة الروحية/ غياب الحرية في مجتمع قاهر، محافظ محافظة زائفة، يفتقد فيه الإنسان إلي الحب والسعادة والحرية الفردية، وكل ما يجعله حيزاً صالحاً للحياة الإنسانية الكريمة/ تحدي الواقع محلياً وإنسانياً، بكل قبحه وترديه وإحباطاته بالكتابة والإبداع.
الفصل الثالث:عن القصة، ويتضمن أربع دراسات رصدها أصحابها لمقاربة مجاميع سيد البحراوي القصصية وهي:"سردية الذات والعالم من اليومي إلي التكثيف الشاعري، قراءة في"طرق متقاطعة"و"صباح وشتاء"لمحمد المسعودي/ السمات السردية وبلاغة الإيجاز، قراءة في نصوص"صباح وشتاء"السردية لخالد أقلعي/ العالم القصصي لسيد البحراوي في نصوص"صباح وشتاء"وحدة الرؤيتين الفكرية والفنية"لعبداللطيف الزكري/ سور الجنون، قراءة في نص مجنون لنوال الغنم.
تتناول هذه الدراسات ثلاث مجموعات قصصية، بينما تتناول إحداها نصاً قصصياً واحداً من مجموعة"صباح وشتاء"هوقصة"مجنون"؛ وهكذا تراوحت الأبحاث بين دراسة مجموعتين قصصيتين (محمد المسعودي)، ودراسة مجموعة واحدة (خالد أقلعي عبد اللطيف الزكري)، والاقتصار علي مقاربة نص قصصي واحد (نوال الغنم).
ويمكن أن نقدم أهم التيمات والمقومات الفنية التي عالجتها هذه الدراسات كما يلي:
أ التيمات الرئيسة:الانشغال بهموم الذات المأزومة المهزومة في واقع تردت فيه القيم الأصيلة، دون إغفال قضايا المجتمع، وقضايا الأمة العربية المصيرية بصفة عامة، وأهمها القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي/ الكتابة عن الطفولة باعتبارها تجسد معاني الطهر والبراءة والحب والأمل في مقابل عالم الكبار الذي يمتلئ بالشر/ ترسيخ مبادئ المحبة والطهر والبراءة والصفاء، وذلك من خلال أمرين:الانتصار للطفولة رمز البراءة والطهر استرجاع الزمن الجميل، وذكريات الحب الأولي المضمخة بعبق البراءة، في مقابل عالم الزيف والنفاق والكراهية والأنانية التي استشرت في عالم الكبار في واقعنا الراهن/ سيادة قيم الاستهلاك والجري وراء المال في المجتمع المصري،غير آبه بقيمه الأصيلة التي عرف بالتشبث بها، وقد طال هذا التحول حتي القري والأرياف/ تيمة الموت حاضرة حضوراً واضحاً في القصة القصيرة كما كانت حاضرة في الرواية، مما يجعلها هماً وجودياً يؤرق الكاتب.
ب المقومات الفنية: بلاغة الإيجاز والتكثيف، وتوظيف اللمحة والإشارة، والتقاط جزءيات الحياة اليومية الدقيقة، واللحظات الشديدة الحساسية المؤثرة في وجدان الإنسان/ الاعتماد علي أساليب فنية متعددة في عملية السرد منها:التوليف والتوتر والمفارقة/ الانزياح عن طرائق السرد القصصي المألوفة، والانفتاح علي الجدة والجديد. والكاتب بذلك ينحاز إلي الحداثة في الكتابة والرؤية إلي العالم/ الدقة في صنع الحدث القصصي، والترابط المحكم بين القصص التي تتناول موضوعة واحدة. والملاحظ أن المنظور السردي المهيمن علي المتن القصصي عند سيد البحراوي هي"الرؤية من الخارج كما حددها جون بويون وتزفيطان تودوروف. إن السارد في قصصه غالباً ما يكون"شاهداً محايداً ينقل ما يراه".
الفصل الرابع: سيد البحراوي في تطوان، من إعداد: د. عبدالواحد التهامي العلمي.
خصص هذا الفصل للتعريف بأعمال سيد البحراوي الأكاديمية والنقدية والإبداعية، وبمشاركاته في العديد من الأنشطة الثقافية والمؤتمرات الأدبية التي كانت تنظم علي المستوي الجامعي بكلية الآداب بتطوان، أوبمناسبة بعض التظاهرات الثقافية مثل عيد الكتاب التي دأبت علي تنظيمه فعاليات هذه المدينة كل سنة. وأشار معد الملف إلي الزيارات المتعددة التي قام بها الكاتب إلي المغرب، وما كان يتخللها من ملتقيات أدبية، قدم خلالها دروساً ومحاضرات، كما قدمت حول أعماله النقدية والإبداعية أبحاث وعروض من لدن العديد من الأساتذة والباحثين. ويعتبر هذا الملف الذي سهر علي إنجازه الباحث عبدالواحد العلمي، تجميعاً لمجموعة من الحوارات التي أجريت مع الكاتب، والمقالات التي كتبت عنه..وقد تم نشرها في الملحق الثقافي لجريدة "العَلم" المغربية، وجريدة "روافد" التي تصدر بتطوان.
وختم الكتاب بيبلوغرافيا مختصرة بإنتاجات الكاتب النقدية والإبداعية والمترجمة، وبورقة تعريفية بالباحثين المساهمين في الكتاب.
إن كتاب "النقد والإبداع والواقع، نموذج سيد البحراوي"، عني بدراسة مختلف جوانب اهتمامات الكاتب المتنوعة من نقد وإبداع روائي وقصصي، بيد، أن جانب الترجمة لم يحظ فيه بالدراسة. وربما كان إدراج فصل خاص بترجمة كتابي "المكان" لآني إرنو، و"الأشياء" لجورج بيريك، قميناً بأن يجعل الكتاب أكثر تكاملاً، وإحاطة بكل اهتمامات الكاتب.




د. عبدالجبار العلمي - مجلة أخبار الأدب




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى