أيمن دراوشة - الترجمة والثقافة

تمهيد

تُعبِّر الترجمة عن حالة التواصل بين الشعوب، وعبر تاريخيها كانت الترجمة في العالم العربي تعكس أوضاع الأمة من حيث النهوض الحضاري أو الخمول والكسل.

وشهد الوطن العربي خلال القرن الماضي نهضة كبيرة، كان للترجمة دورًا مهما فيها، وبعد أعوام من اليباب في مجالات التفاعل الثقافي والعلمي، فأننا نشهد إنشاء وتأسيس منظمات ومراكز عملت على ترجمة الكثير عن اللغات الأجنبية، وهذا لا ريب يدل على أن الوطن العربي يسير صوب النهوض.

فحركة الترجمة أصبحت في وقتنا الحالي ظاهرة لغوية عالمية، ويرجع ذلك إلى التقارب الثقافي والعلمي الحاصل بفعل التقدم الهائل في تقنيات المواصلات والاتصالات.

فما هي الترجمة؟

يعرفها محمود الحبيب، بأنها: عملية نقل "من لغة أجنبية إلى ما يقابل النص أو المصطلح العلمي باللغة العربية، وهي عمل ميكانيكي يتوقف حسنه وقوته على مدى استيعاب المترجمين من اللغة المترجمة عنها إلى اللغة المترجمة إليها ثم مدى إجادته لفن الترجمة"[1].

والترجمة لا تكون بنقل نص من لغة إلى أخرى وحسب، فالترجمة هي امتلاك الإرادة والتصميم في محاولة الوصول "بالنص الأصلي إلى نصّ جديد شبيه-مطابق للنصّ الأصلي. إنها محاولة مضطرية وإشكالية، لأن مواقف وقيم المترجمين تتسرب إلى النصّ الأصلي، المترجم إلى نصّ جديد شبيه-مطابق"[2].

فالترجمة عبارة عن حوار حضاري يشمل جميع المجالات المعرفية، ويقول الدكتور عماد أبو الرب، أنها: "أداة اكتساب وأداة تعبير عن عزم الإنسان أو المجتمع على استيعاب أكبر قدر يعنيه باختياره وإرادته، من حصاد المعارف الإنسانية التي هي سلاح الإنسان في التطور والمنافسة والارتقاء"[3]. والتأثر والتأثير من أجل تعزيز الوجود الحضاري. فهي ليست تبعية ثقافية، بل هي عنصر من عناصر المثاقفة التي تؤدي إلى رفد الثقافة الوطنية والارتقاء بها.

الحاجة إلى الترجمة

إن الترجمة ستبقى موجودة ما دام هناك لغات عديدة في العالم، وما اقتنع الكثير من البشر أن هناك ما يمكن أن يتعلموه ويستفيدوا منه من كتابات الآخرين. فما ازدهرت العلوم والفنون في الإمبراطوريات القديمة إلا بالحوار الحضاري، كما حصل مع الحضارة العربية الإسلامية /الحضارة الإغريقية.

فالترجمة فعل ثقافي ضروري، سواء من أجل الإثراء الثقافي والأدبي أو بسبب المتعة الثقافية المتولدة عنها. فدافعها ثقافي ومعرفي وجمالي.

فهي تفتح الآفاق الواعدة نحو الغد، وهي طريقه إلى الانتساب إلى الحضارة الكونية المليئة بالتنوع، وبها نفهم الآخر ونتواصل معه، والتعرف على انتاجاته الثقافية والحضارية.

فمن فوائدها الجلية أنها أزالت التصورات الخاطئة التي يحملها البعض عن الآخر سواء بوعي أو غير وعي، وأذابت حالة التغريب بين المجتمعات والثقافات.

فالفكر الإنساني يجب أن يكون كالهواء، مشاعا دون حواجز وعوائق سياسية أو جغرافية وغيرها. والترجمة تتيح فرصة تحطيم العوائق والاختلافات وكسر حاجز اللغة ليصبح ما ينتجه العقل الإنساني ملكا لكل البشر يستفدوا منه على اختلاف عقائدهم ولغاتهم...

أما لماذا نترجم ثقافة الآخرين؟ تقول الدكتورة غونفور ميدل[4] : إن ذلك يعود إلى:

- الاستجابة النفعية من أجل فهم الآخر وطريقة تفكيره ومعرفة قيمه، وهذا يعود إلى الفضول والتعاطف أي الرغبة في الاقتراب أو الخوف وتأكيد مواقف سلبية ضد الآخر.

فالترجمة تعزز الفهم، إلا أنها لا تكون معزولة عن الحوارات الثقافية التي تتضمن علاقات القوة والأيديولوجيا، وهذا ما ناقشة المفكر إدوارد سعيد في مؤلفاته وخاصة "الاستشراق" و "الثقافة والإمبرالية".

- والدافع الجمالي والإغناء الثقافي والشخصيّ، فالرغبة في ثقافة أخرى يدفع إلى الإبداع ويحفز المتعة، فالثقافة المنغلقة والتي تكتفي بذاتها هي ثقافة ميتة أو في طريقها إلى الموت.

كما أن الترجمة تعتبر أداة مهما لتفاعل المجتمعات مع كل جديد في مختلف العلوم والفنون، وعامل من عوامل النهوض الحضاري، وازدادت الحاجة إليها مع التقدم العلمي والتقني الكبير الذي جعل العالم قرية صغيرة. فهي تعبر عن المجتمع وتحولاته الإنسانية على مختلف الأصعدة. وتشير إلى درجة الوعي بالذات في إطار الصراع الحضاري على الوجود، والترجمة بشكل عام تدل "على موقف وهدف اجتماعي استراتيجي، ودالة على صدق العزم ومصداقية الجهد قياسا إلى عناصر التحدي"[5]، فحسب شهادة التاريخ فأن الاهتمام بالترجمة وازدهارها رافقه النهوض الاجتماعي وتقدم المجتمعات.



شروط الترجمة الجيدة

تحتاج عملية الترجمة إلى المهارة وقوة الملاحظة، لذا على المترجم أن يكون متقنا للغته الأم وللغة الهدف، ولا بد أن يتعامل بصدق وأمانة مع النص المترجم.

فالترجمة غير الجيدة تعطي نصا سيئا، وبالتالي لن تثير الاهتمام، ويمكن أن تعطي انطباعا سلبيا عن ثقافة الآخر.

وتشير الدكتورة غونفور إلى فكرة المساواة وتقول أنها الفكرة الأكثر مركزية في الدراسات حول الترجمة، والمساواة تعمل على مستويات عدة:

- مساواة على مستوى المفردة ومستوى الجملة ومستوى النص.

- مساواة في المعنى: "المعنى المرجعي = يجب أن تكون له المرجعية ذاتها (ملموسة أو مجرّدة) دلاليا، والمعنى الدلالي والتعبيري = يجب أن يستحضر النوع ذاته من المترابطات أو المشاعر، والنوع نفسه من الأسلوب في المعايير الشكلية"[6].

وفي عملية الترجمة لا يمكن للمترجم أن يعبر بلغته تماما كما عبر المؤلف الأصلي في لغته، فلا بد أن يخسر النص شيئا بالضرورة، وهذا الأمر بات مقبولا.

فالمترجم سواء بوعي أو دون وعي، يستخدم استراتيجيات متنوعة لردم الفجوة التي تحصل في عملية النقل، أو لتعويض النقص في المساواة الثقافية، ومن أشهر الاستراتيجيات المستخدمة كما توردها غونفور: التعميم ويعني استخدام كلمة معجمية عامة المعنى وأوسع، إذا لم يكن لها مرادف في لغة الهدف. والإضافة أي إضافة معلومات عن عنصر ما ليس موجودا في لغة الهدف، مثل: sayal bushes ("غابات السيال"). وأيضا إعادة الصياغة وذلك بقولها بكلمات أخرى. والحذف الذي يمكن اللجوء إليه لحذف كلمات أو معلومات لا ضرورة لها، ولا تفيد البعد الجمالي وتبدو سيئة من ناحية أسلوبية في لغة الهدف.

ولا يوجد قواعد ثابتة ونهائية في الترجمة، ولكن بالتأكيد أن الوعي باستراتيجيات التعامل مع تقليل الفجوة في النقل، ونقص المساواة الثقافية سيكون إيجابيا، فاستيعاب الاستراتيجيات والتمكن منها يمكن أن يصل إلى دقة في الترجمة، مع الاهتمام بالمعنى الدلالي والتعبيري الموجود في النص الأصلي، فأن النص يمكن اعتباره قد حقق الأفضل.

عوائق الترجمة الأدبية

هناك عوائق وصعوبات تعترض عملية الترجمة، صعوبات تواجه المترجم نفسه من حيث امتلاكه الكفاءة اللغوية والمهارات الخاصة بالترجمة، وعوائق تتعلق باللغة المترجم إليها ومدى قدرتها على استيعاب النص المترجم، وسلاستها في التعامل معه.

ولا ريب أن ترجمة النص الأدبي بشكل خاص، لها صعوباتها ومشاكلها التي تميزها عن الترجمات الأخرى. فالنص الأدبي يمتاز بخصائص تختلف عن النصوص الأخرى.

فالعقبات نابعة بفهم دلالات النص، وقد تفطن الأوائل الذين اهتموا بالترجمة مثل الجاحظ والجرجاني وحتى النظرية التفكيكية أن الترجمة الدقيقة والأمنية تكاد تكون مستحيلة.

فالأبحاث والدراسات المتعلقة باللغة، دلت على إن المفردات تخسر جزءا من قوتها عند ترجمتها إلى لغة ثانية. فالكل لغة لون وصوت يميزها. ومهما بلغ المترجم من مهارة إتقان اللغة الأخرى، فأن المعنى الكامل والوافي لا تحمله غير اللغة الأم.

ويقول الناقد وليد أبو بكر: هناك" فصل جذري بين الكلمة والشيء في اللغة/ المنفى، لا يفقد العالم وضوحه وحسب، بل ألوانه وخطوطه وفروقه الدقيقة أيضا، أي أن اللغة الأخرى تفقده وجوده الحقيقيّ، لأن اللغة مرتبطة بالثقافة التي يصعب أن يعبّر عنها بدقة من خلال لغة أخرى"[7].

وكما أسلفنا فهناك فروق في الدلالات، والتي تعبر عن خصائص كل لغة، ويوجد لبعض المفردات معاني عدة مما يجبر المترجم على الاختيار المعنى الأقرب إلى السياق اللغوي والمضموني.

فبعض المترجمين الذين حاولوا القفز فوق عائق اتصال النصوص بالثقافة وصعوبة الترجمة بشكل دقيق، أخذوا يبحثوا عن تحليل النص على مستوى سياقي رغم غموض هذا الخيار، "التي تعتبره مجموع الدلائل أو القرائن التي توضح أحد أجزاء النص، مفهوم مجازيّ، تتعدد مجالات اتساعه"[8].

ومن عوائق الترجمة الحرفية الدقيقة، وجود بعض المفردات في النص التي لا يمكن قبولها في ثقافات معينة، كبعض التعابير الجنسية أو الدينية.

مهارة الترجمة الأدبية

لا شك أن ترجمة الأعمال الأدبية هي أصعب أنواع الترجمة، فالنص الأدبي أبدعه شخص مميز، واصبغ عليه من وجدانه، وزينه بالصور والاستعارات لتحقيق وظيفته الجمالية.

وقد عدّها بعض المترجمين والنقاد أصعب من الكتابة، فالكاتب يكتب بلغته ويقولبها حسب أفكاره، وبالتالي يعبر بها بطريقة سلسة، بينما المترجم يقوم بالتعبير عن أفكار ومشاعر غيره، لذا عليه أن يلجأ إلى البحث عن مفردات وصيغ تكون متوافقة وقريبة من لغة الهدف. بما تحتويه من مجاز وصور جمالية.

إن ترجمة الأعمال الأدبية، تلزم المترجم بمعرفة الثقافة التي نبع منها العمل، ومعرفة عميقة بالمجتمع المترجم عنه، "فالصور التي تتسرّب من خلاله أية لغة، والأفكار، جزء من ثقافة هذه اللغة، تشكّل أساسا في قدرة الكاتب على التعبير بها، حتى دون أن يعي ذلك"[9].

وتحدثت الكثير من الأبحاث والدراسات أن بعض التعبيرات في لغة ما لا وجود لها في لغة أخرى، ويمكننا إضافة الاختلافات الثقافية والحضارية الشاسعة بين بعض اللغات.

ويقول أبو بكر: أنه من الضروري أن يكون المترجم على دراية بثقافة المجتمع الذي يترجم عنه، لكي يستوعب المادة ويعمل على ترجمتها بمهارة ودقة، وهذه الثقافة لا تكون محصورة في مجتمع اللغة التي يترجم منها وحسب، فالمجتمعات تتصل مع بعضها البعض بوشائج وعرى كثيرة، كما أن ثقافات العالم في زماننا في علاقات عميقة ومتشابكة، وفي الكثير من الحالات تكون إحالات المؤلف ترجع إلى الثقافة العالمية، لا على مجتمعه فقط.

وقد أدرجها الخبراء والدارسون كعلم تحت ظل العلوم الإنسانية الأدبية والإبداعية، لما تحققه من بعد إمتاعي جمالي، فهي عملية يرتبط بها المترجم عاطفيا مع العمل الذي يقوم بترجمته.

وفي النهاية ستظل الترجمة وسيلة لا غنى عنها في التبادل والتفاعل الحضاري، ونقل المعارف والعلوم المختلفة، وأداة للتواصل الحضاري والثقافي بين شعوب الأرض، والنافذة التي ينظر من خلالها مجتمع على المجتمعات الأخرى وعلى ثقافتها وانجازاتها الحضارية.

وسوف لا يقف في دربها عوائق جغرافية ولا سياسية، فنحن نعيش ثورة تكنولوجية تقنية تمثل الترجمة أداة رئيسية فيها، أما المجتمعات التي تنكمش على ذاتها وتتقوقع على نفسها فأن مصيرها الزوال والموت.

المراجع


[1] - محمود الحبيب. "عملية التعريب- الأساليب- المشاكل- الحلول"، في : مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، العدد الثاني، السنة السابعة، 1979م، ص 156-175.
[2] - أحمد أشقر. "عقبات ترجمة "التناخ" إلى العربية". في مؤتمر دور الترجمة في حوار الحضارات، جامعة النجاح الوطنية، 2007م، ص 115-135.

[3] - عماد أبو الرب."الترجمة العلمية والتواصل العلمي العالمي"، في مؤتمر دور الترجمة في حوار الحضارات، مرجع سابق. ص 241-253.
[4] - غونفور ميدل. "الترجمة والتواصل الحضاري". في: الترجمة وحوار الحضارات. رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، 2008م، ص 7-24.

[5] - عماد أبو الرب، مرجع سابق
[6] - غونفور ميدل. مرجع سابق.
[7] - وليد أبو بكر. "عقبات في طريق الترجمة". في: الترجمة وحوار الحضارات. مرجع سابق. ص 115-133.
[8] - المرجع السابق.
[9] - المرجع السابق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى