د. عبدالجبار العلمي - ملامح التجربة الشعرية عند الشاعر أحمد بنميمون

ينتمي الشاعر أحمد بنميمون إلى كوكبة من الشعراء المغاربة الذين أثبتوا حضورهم المتميز في سنوات السبعينيات ، ومارسوا كتابة الشعر بإحساس عميق بمسؤوليتهم إزاء هذا الفن الصعب المراس. لقد أدركوا ، كما أدرك غيرهم من شعراء الجيل السابق ، أن فن الشعر له طقوس وقواعد مرعية ، بدونها لا يمكن القبض على لهبه المقدس. انطلاقاً من هذا التصور للشعر ، يرى الشاعر أحمد بنميمون الذي عانق الكلمة الشعرية منذ أواسط الستينيات ، أن الشعر الحقيقي هو الذي ينبثق من نار الشعر الحق ومن الشعور بالمسؤولية إزاء ما ينشر على الملأ . وكان هذا صنيع الشعراء المجيدين المجوِّدين لشعرهم ، نذكر منهم هنا على سبيل المثال لا الحصر الشاعر المجيد أحمد المجاطي ، وهو القائل : " تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة " ، ومثل هذه المقولة نجدها عند شاعر قديم حين قال " أهون علي قلع ضرس من قول بيت من الشعر. وهذا يعني أن الشعر ليس أي كلام ، وليس بالسهولة التي يتصورها البعض . فالشعر صعب وطويل سلمه .. الشعر تجربة ومعاناة ، ومعرفة عميقة باللغة و بأسرار البلاغة وأسرار الإيقاع . لكن بعض الذين يقتحمون معبد الشعر ، يتسرعون في نشر كتاباتهم ولا يتركونها تنضج على نار هادئة . ليس لأحد الحق في إقصاء أحد من الاقتراب من معبد الشعر ، فالعالم يتسع للجميع ، لكن على من يتصدى للاقتراب منه أن يتزود بالقرابين التي من شأنها أن تيسر له الدخول إلى عالمه المهيب.
للشاعر أحمد بنميمون تجربة شعرية طويلة تمتد من أواسط الستينيات كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه ، حيث بدأ مسيره الإبداعي بالنشر في صفحة " أصوات" بجريدة " العلم"، ثم في ملحقها الثقافي بعد أن أخذ عوده الشعري يشتد. وفي بدايات سنوات السبعين ، سينشر ديوانه الأول " تخطيطات حديثة في هندسة الفقر " سنة 1974 م. عن دار النشر المغربية التي طفقت تنشر دواوين شعرية لشعراء يعتبرون من مؤسسي القصيدة المغربية المعاصرة مثل " الأشياء المنكسرة " لعبدالكريم الطبال ، ومثل " آخر أعوام العقم " لمحمد الميموني. وبعد سنة سيفاجئنا الشاعر بمسرحيته الشعرية " نار تحت الجلد " سنة 1976م . وأذكر أنها أثارت غضب البعض ممن يحسبون على التيار التقليدي في الرؤية والفكر بسبب سوء فهمهم لما ورد فيها من حوار رأوا فيه إساءة إلى المقدس. وبعدها كتب مسرحيات شعرية منها : " حتى يستريح الأب" و " رقصة الدفن" ثم توالت مجموعاته الشعرية ابتداء من الألفية الثالثة : " أصوات الولد الضال" ( منشور في مجلة "الكلمة " الإليكترونية التي كان يصدرها بلندن الناقد المعروف صبري حافظ ) –
" مباهج ممكنة " سنة 2008 م. - " تأتي بقبض الجمر " سنة 2012 م. - " لؤلؤ وهباء " سنة 2014م . - " بالضوء أبعث ظلي" سنة 2014 م. و ها هو ذا يضيف إضافة جديدة إلى رصيده الشعري المتنوع الغزير وإلى المكتبة الشعرية المغربية، ديوانَه الجديد الموسوم ب" نداء ليس مني" ثم ديوانه الصادر أخيراً " أمضي إليها .. "
وإذا كان الشاعر أحمد بنميمون قد هاجر إلى السرد في السنوات القليلة الماضية من حياته الإبداعية ، شأنه شأن بعض شعرائنا الذين استهوتهم عوالم السرد في زمن أشيع عنه بأنه زمن الرواية والسرد، إلا أنه ظل قابضا على جمر الشعر ، متمسكا به كحبيب غال عزيز يصعب عليه فراقه إلا بين الحين والحين ، ثم يعود إليه بكل لهفة وشوق وحنين . وذلك ما يؤكده واقع إبداعه ، فالشاعر أثناء كتاباته السردية الغزيرة التي تضمها مجاميعه القصصية " حكايات ريف الأندلس " و " حومة الشوك" و " شهود الساحة" و " يد من حديد " ثم روايته " طرقات منتصف الليل" ، نقرأ له في الصحف أو في مواقع التواصل الاجتماعي قصائد جديدة جيدة تحوز إعجاب متلقي شعره ورقيا وإليكترونيا. سنحاول في هذه الدراسة مقاربة تجربته الشعرية الغنية من خلال بعض النماذج التي أتيح لي قراءتها متفرقة إما في أحد دواوينه أو في منبر من المنابر التي كان ينشر بها قراءة عاشقة ، لا تدعي الإحاطة بدراسة كل شعره الغزير، فذلك ـ كما لا يخفى ـ يقتضي دراسة ، بل دراسات أكاديمية موسعة تتناول بالدراسة والتحليل دواوينه الشعرية ومسرحه الشعري . ويمكن أن يوجه أساتذة الجامعة في كليات آدابنا المنتشرة في ربوع الوطن طلبتهم إلى دراستها في مختلف المستويات الجامعية. وهذا عمل علمي جليل ينبغي أن يدخل في إطار برامج البحوث الجامعية من الإجازة فالمستر ثم الدكتوراه.
نجتزئ في هذه المقاربة بمتن شعري يتكون من خمس قصائد هي التالية: 1 ـ " رؤى أولى" ؛ 2 ـ "كأي شتاء آت" ؛ 3 ـ " أمشي على نور" ( من ديوان " بالضوء أبعث ظلي " ) ؛ 4 ـ البطل ، 5 ـ حيرة العاشق ( من ديوان " نداء ليس مني " .
الشاعر يكتب جزءً من سيرته الذاتية شعراً
1 ـ رؤى أولى
*** ***
سلاماً أيُّها المعْهدْ
وأولَ دفْعةٍ من خافقي امْتدُّت،
ورفرف بالجناح النبضُ جارَى الضوءَ نحو الغدْ
يزيحُ ثِقالَ صخْر السـَّــــدِّ
عن عيْنِي وعن شفَتِي
لأبصرَ نورَ صبح ِجمالِ هذا الكون ِ
أُمسِكَ سرَّه في يَدْ
بها قلمي يَخُطُّ الحرفَ أصعدُ
أركبُ الأحلامَ عَبْرَ عناق ِظِلِّ الوردْ
وأقرأ في فضاءاتٍ ستَدفعُني الرياحُ بها
شراعَ سفينةٍ تمشي
بما تهْوَى ولا تَحْتدّْ
سلامَ القلب يَنزِع نحوَ ضوءِ طفولةٍ فيها
تلوَّنتِ الرُّؤى بالوعدِ
مِنْ ألوانِ أخيلة ٍ،
تَطيرُ برعشتي الأُولى
على لغتين حلَّقتا بإشعاع ٍ
إلى الآفاق بالإبــــــــــــداع ِ
ـ يا لوركا....
وماشَّادو.......ويا ميجيل
وها هو ذا منار الوحي في:
جُبران ينهض رائياً في المهدْ
بالكلمات مازجها بسحر رؤاه ، إذ تمتدّْ
فمن لي بانفجار الخلق من ذاتي
وما ذهبَتْ خطاي إليهِ:
ـ يوما ما سأمضي في سمواتي
تحتفي القصيدة الأولى بفضاء المعهد الذي تلقى فيه الشاعر دروسه الأولى في مدينته الأثيرة شفشاون :
ففي هذا الفضاء ،تعلم فيه أبجديات العلم والمعرفة ، فأضحى يبصر بجلاء جمال العالم ، ويمسك سره في يده. ففيه أخذت يده تخط حروف الإبداع الأولى. إنه فضاء الطفولة البريئة التي تجري في ربوعها الرياح بما تشتهيه سفن الأحلام . لقد تلقن في معهده لغتين ، واطلع على شعر لوركا وماتشادو وميجيل دي أونامونو ، وكلهم من الشعراء الإسبان الذين كانت نصوصهم الشعرية الرائعة تدرس في معهده العتيد ، كما أعجب بكتابات جبران لأنه وجده مثله ، ينشد البراءة والصفاء والطهر وجمال الطبيعة ، ويمتلئ أدبه بالخيال وسحر الكلمات. لذلك اتخذه مَثَلَه وقُدوته ، وهو يلثغ بكلماته الأولى ، ويستشرف أفاقاً أخرى للخلق الشعري حين يرشد ويشتد عوده:
سلاماً أيها الشاعرْ
ستلثغ أحرفاً أولى
وترفع شعلةً بالنبض ممهورهْ ِ
وداعة خافقي فيها،إلى أكوان أسطورهْ
أناشيد الصبا في وعدْ
سلاماً نظرةَ الآمالِ
ترقُبُ ما الذي يأتِي
إذا أرشُد ْ
2 ـ كأيِّ شتاء آتٍ
عروسٌ ثوبها أبيضْ
وكل بهائها المنداح منها نحونا
يمتدُّ في أمواجْ
إلى من يفتحُ الأحضانَ للنجوى
بشوق العاشق المهتاجْ
ليالي الثلج في شِفْشاونَ البيضاءِ
إذ تخضرُّ بيضاءُ بها قد كانت الأيامُ
في طُهري البريء، وفي
خطىً صُغرىَ إلى
الأحباب،تذهبُ بي
فيبهر صوتيَ الماءُ
و أهربُ إذ تولولُ ريحُ ليل ٍفي الدروبِ
إلى ملاذي دافئا في
حضن جدَّتي الرءوم
تركتُ ورائيَ الأبوين في الحيِّ القريبِ وَقَدْ
شُدِدْـتُ بسردها المفتون في أمراس سردْ:
(بأن بنت الجار تسقط في حديقة بيتها في بئر ،
إليه جحا رمى يوماً برأس مؤذن في فجر... )
فأُغمض في يديها متعباً جفنِي لأنعس في وداعة هِرّْ
جبالي دفقها أبيضْ يغطيني
بثوب ليس يُنسج مثله في أرضْ
بهاؤك يا جبالي أبيض ٌ ...أبيض
في قصيدة " كأي شتاء آت " ، يعود الشاعر إلى ذكرياته في مدينته في مرحلة الطفولة : يتذكر الشاعر شفشاون في ذلك الزمن الغابر أيام كانت تتسربل بفستان الثلج الأبيض ، فكأنها عروس في ثياب عرسها ، كما يتذكرها أيام كانت تخضر جبالها وأوديتها ، فتغمر السعادة قلبَه البريء ، لكنَّ أسعدَ اللحظات التي كان يحياها ، هي التي كان يلوذ فيها إلى حضن جدته ، هارباً من الأمطار والزمهرير في دروب المدينة ، لكي يصغي بافتتان إلى حكاياتها العجيبة التي كانت تسردها بطريقة مشوقة ، تجعله مشدوداً إليها بأمراس الحكي الفاتن إلى أن تغمض جفونه وينام في وداعة.
إننا بإزاء جزء من سيرة ذاتية للشاعر تمثل مرحلة الطفولة، يمكن أن تكون بداية كتابة سيرة ذاتية شعرية يسجل فيها الشاعر جميع أطوار حياته شعراً. والمعروف أن للشاعر تجربة لا يُستهان بها في مجال كتابة المسرح الشعري ذي النفس الطويل.
المعجم الشعري في النصين يمتح من حقول دلالية متعددة : الأمل والنور والإبداع والبراءة واللون والماء. والملاحظ من خلال إحصاء الألفاظ المنتمية إلى الحقول الدلالية المنوه إليها ، أن الحقل الدلالي المهيمن على النص هو حقل الإبداع والكتابة ( قلمي ـ يخط ـ الحرف أحرف ـ الكلمات ـ الإبداع ـ الخلق ـ أخيلة ـ الشاعر ـ الفنان ـ موقعة ـ منثورة ـ أسطورة ـ أناشيد ـ الناي ـ يغنيني ) .هل يعني ذلك أن هاجس الإبداع كان يسكن الشاعر منذ طفولته ومرحلة تلمذته ؟ ثمة إشارات عديدة في القصيدتين تؤكد دلالة المعجم المهيمن : إعجابه بالشعر لدى كبار شعراء الأدب الإسباني وبكتابات جبران التي تتميز بالخيال المجنح ـ كتابة محاولات على غرار ما يكتبه جبران ـ شغفه بفن الحكي الذي يتلقاه من جدته ـ إعجابه بصاحبه الفنان ـ حبه للغناء والأناشيد. إن المعجم الشعري المهيمن يوحي إلينا بأن الروح التي كانت تسكن الطفل هي روح الفن والخلق والإبداع.
تقوم القصيدة في بنائها على ما يسميه باوند وإيليوت بالصورية ، وتعني التعبير عن الفكرة بالصورة دون أن يسوق الشاعر تقريراً ( انظر مدائن الوهم ، عبدالواحد لؤلؤة ، رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت ، 2002 ، ص : 95 ) ، فالقصيدتان غنيتان بالصور الشعرية الماتحة من خيال خصب ، نذكر منها على سبيل المثال الصور الشعرية التالية : " ورفرف بالجناح النبض جارى الضوء نحو الغد " / " يزيح ثقال صخر السد عن عيني وعن شفتي " / أبصر نور صبح جمال الكون ..أمسك سره في يد " / " أركب الأحلام عبر عناق ظل الورد " ـ " شددت بسردها المفتون في أمراس سرد " .
تتسربل القصيدتان بنفس قصصي ، حيث يسرد الشاعر فترة من حياته في معهده وفي مدينته ، ونجد فيهما شخصيات محورية : الطفل والجدة ، وثانوية : الأبوان القاطنان في الحي القريب من بيت الجدة ، وننصت إلى الحوار الداخلي عند الشخصية الرئيسة ـ الطفل : " ـ يوماً ما سأمضي في سماواتي " ، وتتلو هذه الجملة ثلاثة أسطر فارغة يمكن ملؤها بما يمور بداخل الطفل من خواطر داخلية تعبر عن طموحاته وأحلامه وتطلعه إلى الأبعد في مجال الفن والإبداع الشعري .
هذا هو الشعر القريب إلى النفس ، لأنه يصدر عن الذات ، ويعبر عن أحاسيسها العميقة بأسلوب التصوير لا التقرير ، سهل المأخذ ، ولكنه سهل ممتنع ، لا يجيد صياغته إلا المتمرس باللغة ، السابر لأغوارها ، العارف بأسرار بلاغتها ، والمتمثل لجمالها وموسيقاها ، القابض أبدأ على جمر الإبداع.
3 ـ أمشي على نور ديوان " بالضوء أبعث ظلي " ،( ص : 66 وما بعدها )
أمشي على نور
الليلُ أرهصَ بانهمارِ الشعْرِ مشبوباً
كما رَجْعُ البدايةِ رجَّ أعماقي
هتاف بامتداد الحبِّ ضوءاً أشعل الآهاتِ
هدأتُها استراحةُ مَنْ يعيشُ الحُلْمَ آمالَ انتظار
هلالِ إرواءٍ متى هاج العطاشْ،
إن شبَّتِ النيرانُ في النظَراتِ والأرحامِ
ـ يا حُبِّي!
نداءٌ ماد َ بي، وأهاج في عينيَّ ألوانَ اندهاشْ،
يتجمَّعُ النظَرُ البَرِيءُ وغفوة ُالأحلام
يا صحوَ البدايات، الهواتفُ أومأت مثلِي إليها
ـ ما ضلِلْتُ وإنني أمشي على نُور ٍ،
ألستُ أرى هدىً، وأُحِبُّ فاتنتي؟
حثَثْتُ الخطو نحوَ سعادتي في ظلِّها؟
ستغرِّد الأطيارُ في نبضي ومن ثغْرِ الأقاحْ
ستُهِلُّ أنوارُ الصباحْ
من لون هذا الفَجْر يبدأُ صحْوة َ الأفراحْ ...
قصيدة محكمة البناء ، متينة اللغة ، زاخرة بالصور الشعرية المعبرة عن هواجس الذات الشاعرة ، والموسيقى النابعة من بحر الكامل ومن الروي الموحد الذي يأتي عفو الخاطر كما في روي الحاء المتتابع في ثلاث قوافي متتابعة ( الأقاحْ - الصباحْ - الأفراح )، ولا ينبغي أن نُغفل ظاهرةً إيقاعيةً بارزةً في النص، هي التدوير كوسيلة لاستمرار تدفق ما في ذات الشاعر من انفعالات ومشاعر تحتاج إلى طول نفَس ، هذا فضلا عن تسربل النص بسرد قصصي يعضد الغناء في القصيدة . ومن الجدير بالملاحظة هنا ، أن ما نجده دائما في أعمال الشاعر أحمد بنميمون ، سواء كانت شعرية أم نثرية ، هو الصدق في الكتابة، والإحساس بالمسؤولية إزاءها وإزاء القراء ، فكأنها قبضٌ على الجمر على حد تعبيره، لا تخرج إلى الناس إلا بعد معاناة ومكابدة . ولعمري إن كتابة تتخذ هذا النهجَ طريقَها إلى القارئ ، لابد أن تنفذ إلى الشغاف وترتفع به إلى عوالم أخرى مفعمة بالصفاء والجمال والحب .
4 ـ قصيدة " البطل ": من معلقات الشاعر أحمد بنميمون " ، المنشورة بجريدة المحرر سنة 1979 بعد ديوانه الأول " تخطيطات حديثة في هندسة الفقر " الصادر سنة 1974 عن دار النشر المغربية، وهي مصدرة بنص موازي للأستاذ عبدالرحيم بوعبيد، يشيد فيه بأحد الشباب الذي ينبغي أن يتخذ قدوة في الثبات على المبادئ والتحلي بروح المسؤولية من أجل خدمة الوطن والأوطان الرازحة تحت نير الاحتلال ، ومن أهمها فلسطين. وقد كتبت بخط اليد لا بالحروف المطبعية من تخطيط الخطاط الرسام
عبد الرحمن اليقين ، أضفت علبها جمالية خاصة ، كما أوحى رسم الفتى الملقى أرضاً، النازف دماً بالعالم المأساوي الذي سنصادفه داخل القصيدة. وهي من بحر المتدارك، قسمها الشاعر إلى أربعة مقاطع : الأول يتكون من أحد عشر بيتا. أما المقاطع الثلاثة الأخرى، فيتشكل كل منها من خمسة أبيات.
نمثل لكل مقطع بأبيات نرصد من خلالها بنية القصيدة المتضافرة إيقاعاً ومعجماً وتركيباً ودلالة :
المقطع الأول :
دَمُ مَنْ سَالَ في صَرْخَةٍ مِنْ شِفَاهِ بِلادِي عَلَى شَفَتِي غَضَبَا
فَالتُّرَابُ هُتَافٌ، وَصَمْتُ الْجَمَاهِير بَحْرٌ بِآلَامِهِ اصْطَخَبـَـا
إِنَّـهُ الْقْـتْلُ تُــومِضُ شَــامِتَةً أَعْيُنٌ، حِقْدُهَــــا شَعَّ مُلْتَهِبــَـــــا
هذه الأرض ثكلى، عليها اشتداد من القمع من جرحنا انسكبا
......................................................................
يتحدثُ في شَفتِي صَوْتُهُ حِينَ يَسْتَنكِــرُ الْوَاقِــعَ الْمُجْدِبَــــــا
وفي ختام المقطع ، نقرأ :
ترفض القيدَ أجنحتي ـ قفصاً كان أو ركعة ـ ترفض الهربا
وانطلاقي إلى أفق أصنع المعجزات به مبدأ كان لي أربـا ...
المقطع الثاني :
في الدواخل تنهضُ ، خطو الجريمة يتبعك الآن محتجبَــا
في ثياب الخفافيش يغتال ما ادخر الشعبُ فيك وما طلبَــا
يقتلونَ انتظارَ النهارِ، ويستبعدونَ الشروقَ إذا اقتربَـــــا ...
المقطع الثالث :
أَيُّها الطَّارقونَ بحارَ الرَّدى ولَظى القَمعِ يَخْترقُ الأُهبـَــا
أنتمُ المُـبْدعونَ لأْبنائِنـــا قُدوةً َ يهتدونَ بهـــا حــقَبَـــــا
أنتمُ الحامِلونَ العذابَ عنِ الكلِّ حينَ غدا الْعَزمُ مُضطربَا...
فَجروا اليومَ وجهَ نهارٍ ، عليهِ ستار دُجىً قَدْ طَغى مُرْعِبا
المقطع الرابع :
ينهضُ الآنَ موتك ، نبصِرُ فيه الشهادةَ، مَجْداً ومُكتسَبـَـا
تولدُ اليَومَ مِن رَحِمِ الفجرِ نَجْماً وَشِعْراً على شفتي انْسكَبَا
وتسيلُ دماً، صرخةً في ضَمير المَلايينِ، تَفتحُ لي مَذهَبَـا
فنسيرُ معاً، واحدٌ نَبْعُنا انْسابَ بالأُعْطياتِ ومـا نضَبَــــا
وَغداً يزهرُ الجُرْحُ مِلْء فلسطينَ يَرْجِعُ ما كانَ مُسْتَلَبـَــا
من الجدير بالملاحظة ، أن الذات الشاعرة تتماهى مع "البطل" ، هذا الأخير يتحدث بلسان الشاعر ، ويعبر عن أحلامه وآلامه واستنكاره لواقع قاس اصطُلِح على تسمية أيامه بزمن الرصاص. فكأنَّ البطل والشاعر ذات واحدة تتوق إلى الحرية والانطلاق إلى آفاق تتحقق فيها المعجزات والآمال الغالية التي كان تحقيقها غاية الذات الشاعرة نفسها.
إن صدر الشاعر مثقل بهموم لا قِبل للمرء بتَحملها، ويريد أن يبثها ليخفف من آلامه وأوجاعه ، فالذات الشاعرة مهمومة بقضايا عديدة: قضايا الوطن وقضايا الإنسان العربي وقضايا قيم العدالة والحق والخير والكرامة. ونستشف مدى الآلام التي تعانيها هذه الذات المأزومة من خلال إيقاع النهاية المتمثل في القافية المطلقة الموصولة بمد، رويها الباء الموحد في كل مقاطع النص، كأنها آهاتٌ صادرة عن قلب مكلوم معذب لا تنقضي دواعي عذاباته وآلامه. لذلك نلاحظ أن أبيات النص وردت في جمل طويلة متدفقة مدمجة الأشطر لا تتوقف إلا في القافية الموصولة بمد وهي تتناغم وحالة الذات الشاعرة الغاضبة المهمومة التي تريد أن تنفث ما بدواخلها من أوجاع وأحزان وغضب. ولا يخفى أن الإيقاع نظام إشاري دال ( سيد البحراوي ، في البحث عن لؤلؤة المستحيل ، ص : 51 ) ، وهو مكون من مكونات الخطاب الشعري الذي يمكن أن يعبر من خلاله الشاعر عن ما يعتمل في دواخله من أحاسيس عميقة . يتآزر معجم النص مع مكون الإيقاع للانتهاء إلى نفس الدلالات المنوه إليها سابقاً. فـ" كل خطاب بنية عناصرها: أصواتُ + معجم + تركيب+ معنى + تداول متضافرة " ( انظر: تحليل الخطاب الشعري/ استراتيجية التناص ، د. محمد مفتاح ، ص : 59 ) والملاحظ أن الحقول الدلالية التي يتشكل منها معجم النص هي التالية : القمع ، وألفاظه : القتل ـ الجريمة ـ الردى ـ يغتال ـ يقتلون ـ الدم ـ / الغضب ، وألفاظه : ملتهبا ـ اشتداد ـ يستنكر ـ صرخة ـ ترفض/ التضحية ، وألفاظها: الشهادة ـ الأعطيات ـ العذاب ـ الجرح ـ الموت / الأمل ، وألفاظه : انطلاقي ـ أفق ـ نهار ـ الفجْر ـ نَجْماً ـ يزهرُ. ويبدو أن الحقل الدلالي المهيمن على النص ، هو حقل القمع الذي يوحي بما يسود واقع الزمن الذي يتحدث عنه النص من أجواء القهر والظلم وانعدام الحريات. إنه زمن الشهادة والتضحيات والغضب واستنكار واقع أليم غير مقبول، إلا أننا نلاحظ أن ثمة صراعاً بين هذا الحقل الدلالي وحقل آخر في النص هو الأمل واستشراف مستقبل يسوده النور والحرية والانطلاق إلى عالم أجمل وأفضل.
نفس الصراع نصادفه في المستوى التركيبي القائم على " التباين " حسب المصطلح الذي استخدمه د. محمد مفتاح ( انظر تحليل الخطاب الشعري ، ص : 71 ) ، فنلاحظ أن الشاعر يستخدم في النص : الأسلوب الخبري ، والأسلوب الإنشائي والجمل الاسمية والجمل الفعلية ، وأسلوب الخطاب ( النداء والأمر ) وأسلوب الغيبة . فهو لا يستقر على أسلوب واحد. إن ذات الشاعر التي تضطرم بأنواع الهموم والآلام والأحزان والغضب وعدم الرضى وعدم الارتياح، تقتضي ذلك الانتقال في الخطاب من نوع إلى نوع من أنواع الأساليب التعبيرية . وإذا عدنا إلى تأمل المقاطع الأربعة للقصيدة ، يتبين لنا بالملموس أن التركيب النحوي يخضع لهذا التنويع الأسلوبي من مقطع إلى آخر . وبذلك يجعل الشاعر قصيدته بعيدة عن الرتابة التي تصيب الكلام سواء كان شعراً أم نثراً إذا ما سار على وتيرة واحدة، ولون تعبيري واحد.
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه القصيدة رغم انحيازها إلى هموم تتعلق بالواقع الوطني والقومي المأزوم إلا أن الشاعر يسمو بها إلى آفاق شعرية بعيدة عن الخطابة والمباشرة.
5 ـ قصيدة (حيرة العاشق ) من ديوان " نداء ليس مني " :
لمن يهذي بما يسميه أدونيس “القصيدة الكلية ” أي هي “نص ” أو ” كتابة ” لا تتقيد بالأشكال التقليدية للنصوص ولا بالقوانين الفنية ، بل تقيم قطيعة مع التراث ، وأن قصيدة النثر هي البديل للأشكال الشعرية الأخرى ، أقول : فلنتأمل هذه القصيدة التي تستخدم وزن الوافر الذي يتكرر المد في تفعيلته مفاعلتن، مما يتناغم وجو الألم والمعاناة والشوق والحيرة بين الوصول إلى الحبيب المعشوق المتاق إليه ، وبين عدم تحقيق المنى رغم مكابدات الذات الشاعرة في سبيل ذلك : " فيرفع شادياً أوراقَهُ ، أغرودةً ناياتُها تهتزُّ في الأجواءِ ترسل وحيَها في الروح تنزلُ في شراييني " . أضف إلى ذلك إيقاع النهاية بروي مطلق ( حرف النون المجرور بياء الإطلاق) الذي يتضافر مع المدود المنتشرة في النص للدلالة على تلك الآلام التي تعاني منها الذات الشاعرة من جراء تلك الحيرة الممضة. إن للإيقاع الشعري في النص وظيفة دلالية ، فالإيقاع يمكن أن يعبر عن ما يعجز الكلام عن التعبير عنه . ويمكننا القول هنا إنه يتآزر مع التركيب النحوي والبلاغي في بنية متكاملة توصل إلينا المدلول. إن القصيدة تضج بالموسيقى التي هي من أهم مكونات الشعر ، وجماله لا يكتمل إلا بها. فحاجتنا إلى الشعر الذي يطرب ويمتع ويتغلغل بكل مكوناته إلى النفس البشرية يرتفع بها إلى الأعالي السامقة ناشدا قمم الجمال والإبداع الحق الخالد. ما أجمل ما أنهى به الشاعر المبدع أحمد بنميمون رائعته
” حيرة العاشق ” المتمثل في التساؤل الدال على الحيرة : ” هل هي الأزهار ؟ “
يسأل طائر :
" دفق انطلاق شذى تناديني؟ " ...
لأسأل كيف غابت عن جبين حبيبتي الأطياف والألوان تبعثها ورود من بساتيني. ”
أختم ، فأقول : إن القصيدة تعتمد الوزن الشعري والقافية الموحدة ، مما يؤكد ما نقوله دائما ، وكان يؤمن به بعض أساتذتنا الشعراء وأغلب نقادنا من أن الشعر الحقيقي هو الذي ينبغي أن تتوفر فيه الشعرية بغض النظر عن اعتماده على أي شكل من الأشكال ، فقد نجد الشعر في القصيدة العمودية ، ولا نجده في قصيدة تدعي الحداثة والتجريب)..
يمكنا في الأخير أن نستخلص من قراءتنا العاشقة للقصائد الخمس السابقة بعض ملامح التجربة الشعرية للشاعر أحمد بنميمون متمثلة فيما يلي :
ـ النفس القصصي الذي نجده في بعض قصائده / اعتماد الجمل الشعرية الطويلة في السطر الشعري / التزام الوزن الشعري والإيقاع الداخلي ، واستخدام القافية والروي الموحد في بعض سطور قصائده / استخدام كل الأشكال الشعرية بمعرفة ومقدرة ناتجة عن ممارسته الكتابة الشعرية منذ صباه ( القصيدة العمودية ـ التفعيلية ـ قصيدة النثر ) لا يهمه في كل ذلك إلا توفر قصائده على "الشعرية" Poética / الحرص على هذه الشعرية حتى في قصائد ذات طبيعة مرتبطة بقضايا وطنية أو قومية / تنويع الأساليب في شعره ما يجعله بعيداً عن الرتابة والإملال ، متناغماً مع ما يعتمل في الذات الشاعرة من مشاعر متقدة متنوعة.


1631752792234.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى