أمل الكردفاني - آيدولوجيا المنطق واللا منطق

قبل سنوات شاركت إحداهن في مشروع ما، في الواقع سلمتها المال بالنقد الأجنبي ولم أهتم بالأمر بعد ذلك. وبعد سنة ونصف أعادت لي مبلغ المال بالعملة المحلية بسعر الصرف قبل سنة ونصف. وكان الدولار قد ارتفع حينها لعشرة أضعاف. طلبت منها تسليمي ذات البضاعة التي اشترتها بمبلغ النقود بسعر صرفه قبل سنة ونصف فقالت بأن اسعار البضاعة قد ارتفعت حينها قلت: ونقودي ألم ترتفع قيمتها أيضاً؟ ثم تركت لها كل شيء. فيكفي أن تعرف بأن الآخر لص لتتجنبه. هنا يتأسس (لا منطق) هذه المرأة على اللصوصية، ولكن هناك (لا منطق) يتأسس على الآيدولوجيا.
وفي قروبات الملحدين والمؤمنين، يقف المسيحيون مع الملحدين من خلفيات إسلامية ضد المسلمين، وتدور نقاشات حول التفسيرات الدينية التي يراها الملحدون مخالفة للمنطق مثل الإسراء والمعراج. وهنا يقف المسيحيون مع المسلمين مدافعين عن لا منطقية المعراج، ولكن ما أن يهاجمهم الملحدون من خلفيات مسيحية (لا منطقية) قيامة المسيح من الموت ترى المسيحيين وقد فقدوا المنطق بدورهم زاعمين بأن الملحدين لا يفهمون الكتاب المقدس.
الآيدولوجيات لا تحتكم إلى المنطق، بل إلى العاطفة، ولو احتكمت إلى المنطق لفقدَت قوتها كأيدولوجيا وتحولت إلى مجرد نظريات نسبية (مادية أو روحية).
هناك أيضا اللا منطق السياسي، فمثلاً أغلب من هم في الحكومة الآن كانوا يستخدمون المنطق في رفضهم لوضع أيديهم مع العسكر، ولكن بعد أن منحوهم المناصب أصبحوا هم أول المدافعين عن العسكر بل ويؤكدون ضرورة وجود العسكر، بل وبعضهم مثل ياسر عرمان بدأ تكسير الثلج للعسكر في كل لقاء ومحفل ومقام. فالمنطق لا محل له في السياسة، والسياسة لا ترتكز إلا على المصالح. والمصالح لا تتعرقل بالمنطق حتى لو كان ذلك لصوصية كما فعلت المرأة التي سرقتني نصيبي في المال.
الجدال الإنساني بشكل عام ينضوي تحت مساحتين للعمل: مساحة أكاديمية محضة ومجردة، ومساحة نفسية. المساحة الأكاديمية هي الأقرب لاستخدام قواعد المنطق كما هي. أما المساحة النفسية فهي عبارة عن ضبط الحِجاج مع الرغبات الذاتية. هنا يكون المنطق متذبذب الحضور بحسب إنحراف الجدل بعداً وقرباً عن المصلحة كنقطة ارتكاز في علاقة عكسية. فكلما ابتعد الجدل عن نقطة الارتكاز كلما اتسم بالمنطقية وكلما اقترب من نقطة الإرتكاز كلما توتر وانحرف عن مبادئ المنطق. إن اللصوصية ليست محتكرة لدى الحجاج المالي بل تمتد لكل شيء آخر كالسياسة والثقافة والرياضة...الخ.
فما الذي يفعله (الحَكَم=القاضي)؟
إن جل ما يفعله القاضي هو أنه يبتعد أكثر وأكثر بالحجج عن نقطة الإرتكاز، لتتجرد من كل النوازع التي تحرفها عن المنطق. لذلك هناك مبدأ أهم من مبدأ حيدة القاضي، وهو مبدأ (خلو ذهن القاضي). فهذا المبدأ يعني أن القاضي يتحرك باتجاه الوعي الأكاديمي مبتعداً عن الوعي النفسي، بلا أي نقطة إرتكاز مصلحية. وحين يتخلخل هذا المبدأ، يتوتر حكم القاضي، لذلك يلعب الإعلام دوراً كبيراً في التأثير على حكم القاضي.
قبل أيام حكى لي أحد الأصدقاء قصة وكيل نيابة جاءته قضية قتل ماشية، في إحد القرى بإقليم ما. وقد قام وكيل النيابة باتهام قاتل الماشية وفق المادة (١٣٠) أي جريمة القتل العمد والتي محلها قتل إنسان وليس حيوان. لست متأكداً من مصداقية القصة، لكنني لم أرَ أن وكيل النيابة كان غبياً، بل على العكس. ففي بعض الثقافات المحلية تكون الماشية أهم عند صاحبها من أبيه وأمه، ويمثل قتلها جريمة أكبر من قتله هو نفسه. ويبدو أن وكيل النيابة قد واجه غضب أصحاب الماشية المقتولة فقرر امتصاص غضبهم بتوجيه تهمة القتل العمد للجاني، وهو متأكد -في قرارة نفسه- بأن هذا الخطأ سيتم تصحيحه عند استئنافه.
وعقب الثورة، حيث كان الشعب في أوج غضبه بعد فض الاعتصام، احتشد الثوار حول وكيلة نيابة، فخاطبتهم وخطبت فيهم خطبة عصماء بأنها لن تقبل حتى من أهالي الشهداء التنازل عن القصاص. ففرح الثوار، وهم لا يعلمون أنها تمتص غضبتهم بعد الذي (حدس)، فهي لا تملك تلك السلطات ولا الصلاحيات التي تدعيها.
ولكننا سنجد أن القضاء حين يتأثر بالإعلام يقترب من نقطة الارتكاز مبتعداً عن المنطق وهذا ما حدث في قضايا كثيرة أخلت بمبادئ العدالة.
مع ملاحظة أن المنطق القانوني ليس هو المنطق العام ولكنه في مراحل تشكله الأولى ينطلق من ذات المنطق العام. فشنق المتهمين في ميدان عام هو طلب عاطفي تدعوا إليه الجماهير، وكان ذلك حاصلاً بالفعل حتى وقت قريب في أوروبا. فعندما كانت الجماهير في انجلترا تحتشد لمشاهدة إعدام (النشالين) كانوا ينفضُّون بعد تنفيذ الحكم ليجدوا جيوبهم خالية من النقود بعد نشلهم. وكانت العقوبات تتسم بالتشفي والانتقام والوحشية، أورد ميشيل فوكو قصص تلك العقوبات حينما كانوا -على سبيل المثال- يقطعون حلمات أثداء المدانين بالقتل، ويقطعوا أوصالهم قبل ربك أوصالهم بعربات تجرها الخيول لفصلها عن الجسد بقوة السحب، وذكر دكتور أحمد عكاشة (غَلْي) المدانين من السحرة والمجانين في الماء الحار أو الزيت. غير أن تطوراً أو نزعة إنسانية -أياً كانت دوافعها- انتهت إلى حظر شنق المجرمين في ميدان عام أو تعذيبهم، وهنا نحن أمام منطقين. منطق متطرف ومنطق إنسانوي، وكلاهما منطقان لم يتم تقنينهما. ولكن حين يختار المشرع أحدهما يصبح هناك منطق قانوني، يختلف أو يتفق مع المنطق العام. وهو منطق قابل للتغيير والتعديل ولكن بإجراءات صعبة.
إذاً فهناك مساحة ثالثة جديدة للمنطق وهو القانون، ولكنها أيضاً تنغمر في نطاق المنطق النفسي، إذ أن دوافع نفسية سابقة على النص هي التي انتصرت لتضع منطقها داخل القانون، وبالتالي يحصل منطقها على شرعية وقوة نفاذ.
غير أننا لو تتبعنا مسألة المنطق في القانون، وحقيقتها فسنجدها لا تقل لصوصية عن منطق تلك المرأة التي سرقتني (بمعنى سوسيولوجي للسرقة)، ففي النهاية؛ يتأسس المنطق القانوني على سرقة منطق قانوني مخالف له. فالشيوعيون عندما يصلوا للسلطة يقننون منطقهم، والرأسماليون كذلك، والعلمانيون والدينيون..الخ. وهكذا يبدو كما لو كانت الحياة مؤسسة في الواقع على الصراع لا على (المنطق) بمفهومنا المجرد عنه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى