عبد الحكم بلحيا - مُكاشَفات جَمال.. عيُون رامْبُو

(ما تزال اللّغة تَنهمِر.. ومازال الظمَأ..!!
من مُفردات آرثور رامبو ومن عِباراته المُتَفرّقة في نُصوصه؛ صغتُ وطعّمتُ هذه التَّوْليفة النصّية أو التناصّية.. في مسعًى للتعافي ممّا يُشَرّش بنا من أثَر الواقعة بأبعادها المتعدّدة... هي تجرِبة.. وتبقى مُحاولة)
................
-طائرٌ فِي الغَابَةِ يَسْتَوْقِفُك شَدْوُه، يَنُطّ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ، مُتَنَزّهًا فِي اللَّيْلِ نِصْفِ الْمُقْمِر، لَيْلٍ مُوارِب، وَحْشِيّ وَيُظْهِرُ الوَداعة.. هَدِيرُ أَمْواجٍ وصَفِيرُ جُوقات، هَجْسٌ ونَأمات.. الطَّائِر مُسْتَمِرٌّ فِي غِنائِه وزَهْوِه؛ أَراغِنُ تَتَصَاعَد، رُعُودٌ وَبُرُوق، فَيَضَانَات تَنْدَلِع، الْمَاءُ يَعْلُو، وَالنَّارُ تَغْشَى.. -اللَّوْحَةُ تَتَشَكَّلُ وتَتَنامَى، الْأَلْوَانُ تَغْمُق، وَالْأَصْوَاتُ تَتَعَالَى، وتَدْنُو شَيْئًا فَشَيْئًا.. نُجُومٌ تَتفَرْقَع، وكواكِبُ تَهْوِي، وحقُول مُشْتَعِلةٌ تتَوَاثَب.. يَا لَلضَّوضاءاتِ وَالصَّخَبِ والفَوْضَى...
نقْرَة وَاحِدَةٌ مِنْ إصْبَعِكَ عَلَى القِيثار؛ تَنْعَتِقُ الْأَصْوَات، وَيَبْدَأُ التَّناغُم.. خُطَوةٌ مِنْك؛ وَيَنْهَض الْبَلَدُ عَلَى أَطْرَافِ أقْدَامِه، وتنْطَلِقُ الحُشُودُ فِي السَّيْرِ.. مَدَدْتَ جَسُورًا مِنْ قُطْر إلَى قُطْر، ورَبَطْتَ سَلاَسِلَ مِنْ قِمَّةِ إلَى أُخْرَى، أَوقَدْت مَنَائِر، رَفَعْتَ مَآذِن، وقرَعْتَ نَوَاقِيس...
آه ، يَا طَيِّـبَنا ، وَيَا جَمِيلَنا.. مَرْحَى للصَّنِيع غَيْرِ الْمَسْبُوقِ، وَالْجَسَدِ الْمَنْذُورِ لِلتّلاشِي، وَإِذْ نَحْنُ فِي تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِكُلّ تِلْكَ العَذَابات.. فَلْنَقِفْ بِحَماسَة، لِلْوَعْدِ الْمَقْطُوع عَلَيْنَا، يَا لَرَوْعةِ الْأَشْيَاء، وَيَا لَرُعْبِ الصُّوَر؛ بَدَأَ ذَلِكَ بِكَامِلِ الفَظاظة، وَهَا هُوَ يُخْتَمُ بفِرْدَوْسٍ مِنْ لَهَبٍ وضَبَاب...
أَنَا عَطْشَان، وَأَيُّ عَطَش! الْمُوسِيقَى، الطُّفُولَة، النَّاسُ البُسَطاء، الْبَحْر، الرِّيف، الْحَيَوَانَات الْوَدِيعَة، وَحَتَّى الضاريَة؛ تِلْك الْمُفْرِطَةُ الْبَرَاءَة.. لَقَد تخَيّرُونِي بَيْنَ الْقَتْلَى حَرْقًا، حَسَنًا، سَيَكُون مَوْتِي باهِظا.. تَرَكْتُ أَطْفَالًا سيَيْتَمُون، وَنِسَاءً سيَثْكَلْنَ ويَتَرَمّلْن، وَرِجَالًا سيَتَفاقَمُ ألَمُهُم بِرَحِيلي.. لَقَدْ رَأَيْتُ مَا فِيهِ
الْكِفَايَة، وقُوبِلَت رُؤْيَتي بِجَمِيع الْأشْكَال: الرَّفْض، التّسْفِيه، المُحاصَرَة، الجُحُود، الطَّعْن وَالرَّجْم.. إنَّمَا أَنَا مُوَاطِنٌ عَابِر، وَغَيْرُ مُفْرِطِ الاسْتِيَاءِ مِنْ مَدِينَةٍ تَزْعُمُ الحَضَارَة، وَلَا شَدِيدُ الْإِشْفَاقِ عَلَى صَحْرَاءَ تَتَمَسَّكُ بِبَرْبَرِيّـتِها. أَنْهَيْتُ رِحْلَتِي عَلَى الْأقْدَامِ، وَمَا قَضَيْتُ حَاجَةً فِي النَّفْسِ، أَسْمَرُ أَنَا، وَلَكِنّ دَمِي
مُلَوَّن، سَأَتْرُك الْبَابَ مَفْتُوحًا، عَسَى أن أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْجَحِيم مُنْتَصِرًا عَلَى انْقِسَاماتي، فَأقْبِضَ عَلَى الْحَقِيقَة، وَأُمْسَكَ بِالْمِفْتَاح، لَكِنْ مَا مِنْ يَدٍ صَدِيقَةٍ مُدَّتْ إلَيَّ! مِمَّن أَطْلُب الْعَوْن؟..
الْقُوَّة مُتْعَةُ الْبَيَاطِرَة، الْعَدَالَةُ زَهْوُ السِّياسِيّ، وَالثَّرْوَةُ مِلْكُ الْعُمُوم.. وأَنَا فائِقُ التّشَتُّت، غَيْرَ أنّي الأجْذَلُ والأَثْرَى، حَيَاتِي لَيْسَتْ ثَقِيلَةً مِثْلَكُم، خَفِيفَةً ومُتَقَشِّفَةً كَانَتْ، ها هِيَ تَطْفُو وَتُحَلِّق، سَوْفَ تَبْكِينِي بَرَاءَتِي، وتَلْعَنُكُم مَهازِلُكُم وَكُلُّ تِلْك
الدَّنَاءَات.. سأنْجَذِبُ مِثْلَ طِفْلٍ كَيْ أَلْهُوَ فِي شُعاعاتِ الْفِرْدَوْس، نَاسِيًا الشَّقَاء كُلَّه، فَلْتُطْلِقُوا النَّارَ عَلَيَّ، أَيُّهَا الجُبَنَاء، أَوْ اصْمُتُوا، مِنَ الحُمَّى والسَّرَطَانِ والطّاعُونِ الكَرْبُونِيّ؛ يَتَلَقَّى هَذَا الشّعْبُ وَحْيَه.. نَحْنُ لَمْ نَفْقِدْ شَرَفَنا، اصْمُتُوا، إنَّهُ الْعَارُ هُنَا.. مَرْكَبِي يَنْعَطِفُ إلى المِينَاء، شَاهِدُوا الآنَ سُقُوطِي، إنّنِي أَهَبُ نَفْسِي لِلشّمْسِ؛ إِلَاهَةِ النارِ، لِتُوقِعْنِي أرْضًا، يا عُمْدَةَ المَكَان...
حُزْتُ فَضَاءاتٍ فارِهَةً لِتَمْثِيلِ الرَّوائِعِ الدَّرامِيّة، حَلُمْتُ بِحَمَلاتٍ ورِحْلاتٍ اسْتِكْشَافِيَّة، وجُمْهُوريّات، بِفِتَنٍ وثَورَاتٍ وهِجْرات، لَكِنَّ أُغْنِيَتي مُزْدَرَاة، كَمِثْلِ التُّرَّهَاتِ الّتِي تَمْلَأُ آذانَكُمْ وعيُونَكُمْ صَبَاحَ مَسَاء، بِسُلْطَةِ الصَّوْتِ وَالصُّورَة، وَهَا أَنَا مَاضٍ، وسَأَدْخُلُ في الصَّمْت، سأَمْتَلِئُ بالْحِكْمَة، مَاذَا سَيَكُونُ مَوْتِي بِالْقِيَاسِ إلَى مَا يَنْتَظِرُكُم مِن فَظاظاتٍ وشَدَائِد..؟ سَأَتْرُك لَكُم مَجْدًا جَمِيلًا تَذْرُوهُ الرِّيَاح، وَحِينَ أَصْمُتُ سيَغَارُ مِنِّي الرَّاؤُونَ وَالشُّعَرَاء، فَيَا أَيُّهَا الْفُقَرَاءُ أَمْثَالِي، أَبْنَاءَ الصَّحَارَى، وَالْيُتْمِ وَالْعَطَشِ وَالسَّأَم، كُنْتُ لِأَدُلّكُم عَلَى ثرَوَاتٍ عَجِيبَة، كُنُوزٍ وَأسْرَار، فَرادِيسَ وأكْوَان، أحْسَبُ أنّني أَمْلِكُ المَقالِيد، ذَلِكَ السِّحْرُ بَدَّدَ الجَسَد، وأَخَذَ الجُهُودَ كُلَّهَا، أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِف الرُّؤْيَة، إلَّا أَنْ أَجْوَاءَ الْجَحِيمِ لَدَيْكُم؛ لَا تَحْتَمِلُ التّرَاتِيل. وَمَعَ ذَلِكَ عَلَيَّ أَنْ أَمْضِيَ بَعِيدًا، عَلَيَّ أَنْ أُسَاعِدَكُم بِمَا أَسْتَطِيع، هَذَا فَرْضٌ عَلَيّ.. يَا إخْوَتِي الْفُقَرَاء، سأتَطَوَّعُ لِتَجْرِبَتي، لَقَد عرَفْتُكُم كُلَّكُم، وأَحْبَبْتُكُم كُلَّكُم، لَا أُرِيدُ صَلَاةً مِنْكُم، بِثِقَتِكُمْ وَحْدَهَا سأَكُونُ سَعِيدا...
وَأَنْتِ أيَّتُهَا السَّعَادَة.. أَيُّهَا الْقَلْب، وَالرُّوحُ، وَالْفِكْر؛ أَنْتُم أَيُّهَا الْمَجُوسُ الثَّلَاثة، يَا مُلُوكَ الْحَيَاة، إنَّنِي أَرَى، وَلَكِنَّنِي لَمْ أعُدْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ.. أَكُنْتُ مُنْخَدِعًا أَنَا؟ آلطِّيبَةُ شَقِيقَةُ الْمَوْت؟..
وَطَنٌ هَذَا.. أَمْ نَقّالَةُ مَوْتَى ؟!
أَمْ بَيْتُ رَاعٍ.. مُخَلَّعٌ.. لِلرِّيحِ وَالْغُبَار
هُنَا تُمَغْنَطُ الصَّوَاعِق، وَيُصْفَرُ لِلعاصِفَة
ويُغْطَسُ أَبْنَاءُ الْفَاقَةِ -حتّى العَيْنَيْنِ-
فِي الْمَجَارِي العَفِنَة
مُجَرَّحِينَ بِأظافِرِ السِّبَاع
ونُبَاح المَسْؤُولِين
مَعَ ذَلِكَ ؛ تَرَاهُم
بِانْتِشاءِ يَوْمٍ وَاحِدٍ
يتَغاضَوْنَ عَنْ عَارِ كُلّ الغَشاماتِ السَّابِقَة
آه يَا شَجَر،
آه يَا حَجَر..
وَيَا لَيْلُ، وَيَا نُجُوم؛
أَعْتَى مِنْ كُلِّ جَهامَة،
وأَسْمَى مِنْ كُلِّ عَدَالَة ؛
رَأْفَةُ هَذَا الْكَائِن !!
آه.. يَا لَلمُحَيَّا الَّذِي اسْتَحَالَ رَمَادًا
يَا للْأَصَابِع الَّتِي لَهَتْ بِهَا الزَّوْبَعَة !!
"بغْمَاليُونْ" يُخْفِقُ مِنْ جَدِيد
الكائِنُ الجَمِيلُ مَوْعُودٌ بِالخَرَاب
بَيْدَ أَنَّ التَّجْرِبَةَ تَظَلُّ تُغْرِي بِالتَّكْرَار
زَهْرَةٌ باحَتْ لَهُ بِاسْمِها
بِضْعُ سَمَاوَاتٍ أَرْهَفْتْ ناظِرَيْهِ
أَمْزِجَةُ مُتَصادِمَةٌ لَوَّنَتْ مَرْآهُ
هُوَ الَّذِي تَلْتَفُّ حَوْلَهُ الطفُولاتُ الْعَذْبَة
والحُنُوّاتُ العُظْمَى
وَلَعَلَّهُ يُفَكِّرُ فِي مَلْحَمَة
مَلْحَمَةٍ.. بِبَساطَةِ جُمْلَةٍ مُوسِيقِيَّة
يَا سَهْمًا سَمَاوِيًّا فِي السُّمِّ غُمِس
يَا كَلِمَةً حُرَّةً وَقَعَتْ فِي مُسْتَنْقَع
وَيَا قِيثارَةً رُجِمَتْ بالبَنْزِين؛
يَا لهَذَا الْكَشْفِ الْخَائِبِ لِمَساعي جِيلٍ بِأَكْمَلِه
هِي ذِي الْأَلْحَانُ وَالْأَشْجَارُ تُحْتَضَر
أَ يَكُونُ جُرْمًا ؛ أَنْ تَجِدَ الشَّجَرَةُ نَفْسَهَا كَمَنْجَة؟!
وَأنْ تَجِد الْكَمَنْجَةُ نَفْسَهَا فِي النَّارِ؟!
لَا يَزَالُ الْوَاقِعُ مُفْرِطَ الْخُشُونَة!
وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَكَانٌ لِشَخْصٍ مِثْلِه
يَا لحَيْرَةِ الضّئِيلِ أمَامَ عُرُوضِ الإمْبِرْيالِيّة الْبَلْهَاء!
وَيَا لطِيبَةِ ابْنِ الشَّمْسِ إِزَاءَ هَذِه الشَّعْوَذَةِ البُرْجُوَازِيّة!
يَا لَهَا مِنْ مَسْرَحِيَّة؛ هَذِهِ الْحَيَاة !
أَكَانَ لِزَامًا عَلَى الْجَمِيعِ أنْ يُمَثِّلَهَا!؟
يَا لَلْفَتَى الْإِلَـهِيّ؛ وَاقِفًا قَرُبَ عامُودِ السَّمَاء
يَتَمَلَّى أَبْنَاءَ الْخَطِيئَة
وَالشَّيْطَانُ يَمُدّ فِي كَلِمَاتِهِمْ لِسَانَه
ويَتَهانَفُ، نَاطِقًا بالنُّكْران!...
مَسارٌ كَثِيفٌ وَامِض
لِتَجْرِبَةٍ بَلَغَتْ مُنْتَهَاهَا..
لَقَد أَتَمّ صَنِيعَهُ الشَّاسِع،
وَقَضَى غُرْبَتَه العَصْمَاء..
أَيْقَظَ بِصَوْتِهِ الْعَالَم..
وَهَا هُوَ يَنْسَحِبُ مِن البَوّابَةِ الْكُبْرَى
تَارِكًا هَذِهِ الأَنانِيَّة العَالَمِيَّة تَتَحَطَم..
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ
وَإِذْ لَا مَفَرَّ مِن هُبُوطِ السَّمَاء
فَإِنَّنَا نَحْسَبُهُ الْآنَ فِي الْفِرْدَوْسِ؛
- إذَنْ هُوَ فِيهَا...
إنَّهَا النَّارُ الدّافِئَةُ الْمُضِيئَة ؛ لَا حَمِيمَ وَلَا رَمَاد
إنَّهَا الْغَابَةُ المُخْضَوْضِرَةُ الوَارِفَة؛ لَا هَشِيْمَ وَلَا حَصَاد
الْمَدِينَةُ الْحَيَّةُ الهانِئَة ؛ لَا مَرْضَى وَلَا مَفْقُودِين
البَدَاوَةُ الْوَحْشِيَّةُ البَرِيئَة ؛ لَا نِظَامَ وَلَا طُغْيَان
الطَّبِيعَةُ الْحُرَّةُ الْعَذْرَاء ؛ لَا أقْفَاصَ وَلَا حُدُود...
...
2021/ 08/ 23




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى