1
كان في نيّة الحصرم أن يصبح نبيذًا.
حلم طويلاً بجرار عتيقة يتخمَّر عنبه فيها.
وكم طافت به تحت هجير الشمس وفي ليالي الوحدة خيالات المنتشين وصيحات السكارى.
كان صغيرًا ليعلم أن النوايا مصيرها بيد قاطف حامض الطبع والمزاج، أو ليخضع لآيات التحليل والتحريم.
آخر ما ذكر قلبه قولاً كريمًا... فيه يكون لكل امرئ ما نوى.
آخر ما رآه نهر من خمر يجري في الجنّة لذة للشاربين.
2
الرحيق أيضًا بيَّت نيَّة، وما كل ما ننويه بحاصل.
لطالما تمنّى أن تنجذب إليه يومًا نحلة.
بل أسرف في الحلم، فتوَّج النحلة بتاج الملك، ليكون شهدها الذي لا يضاهى.
قالوا له: "الرضا مفتاح الحلم" فرضي بل ماج عبيرًا، في حفل الفراشات الراقصات، وفاض رضابًا لثغورهنَّ العذبة.
الفراشات فتيات لاهيات، وقعن في فتنة اللحظة، لا يأبهن لنوايا الزهور، ولا يدَّخرن رحيقها لساعة عوز.
رشفن الرحيق ونيَّته، ثم ابتعدن برفيف جناح، لمحفل آخر يعجُّ بالحياة.
هل سمعتم يومًا عن فراشة ماتت على كم زهرة؟!
3
لم يكن في نيَّة دودة القز أن تموت اختناقًا.
أحاطت نفسها بشرنقتها، وكل ظنّها أنه حين تحين اللحظة ستمزق خيوط حبسها، وتطير فراشة حرّة.
لم يخطر ببالها قط، أن الإنسان يربيها، لا لأجلها بل لأجل خيوط حريرها.
الإنسان سيّد الأرض، بيده مصائر جميع الكائنات يسوسها كيفما أراد، ويسخرها لخدمته، رحيمًا حينًا... جبارًا أحايين كثيرة.
وقد اكتشف منذ أمد بعيد أن حريرها ينسج سرابيل لأيام القيظ... فتفنن في خنقها ليعيش رفاه الحياة.
في أنفاس نزعها الأخيرة، ترمق أختها في الشرنقة المجاورة، وتغبطها لأن لها حظ أن تكمل تطورها وتطير.
في نهاية النهاية كلتاهما تساقا بيد الموت، إلى ذات المصير.
4
للشجرة رؤية في النوايا، والرؤية بنت الخبرة وعين القلب، بينما الرأي فكر العقل. وقد يتطابق رأي ورؤية، في دروب الحياة الحقة.
تساررني الشجرة بخبرتها، وتسرُّ لي علنًا، أنها رأت النوايا تغير ألوانها عبر الزمن من فصل إلى آخر، ورغم ذلك تبقى صافية رائقة من عكر الغش ولوثة الأوهام والإيهام.
يرقُّ صوتها حين تذكر عهد الصبا، وتتداعى صور الأمس البعيد، مثقلة بالحنين:
في ذلك الزمان ، لم يكن في نيتي سوى أن أضحك لنور الشمس بأوراقي الصغيرة الغضة، بينما النسيم يراقصني في رواحه والإياب، غير آبهة لقدميَّ أسيرة المكان، ما دمت أنهل من ثغر التراب ماء الحياة.
أتنفس ملء توقي، وأسبِّح من وهبني نعمة الوجود من العدم، متماهية في أمدية اللحظة، فالغد مبهم بالنسبة لي، والأمس انقضى وانتسى لحظة شقَّ رشيمي بذرة الخلق ليكون فكان.
ثم ولى الربيع الغض وسنين اللهو والرغبات المتوقدة وشغف الشباب.
وأتى الصيف لتكتمل أنوثتي بنضج الأمومة.
فالنسيم الذي داعبني، أودع حمولة طلعه بي، كذلك فعلت فراشات ونحلات، زرن زهراتي يجذبهن رحيق البقاء.
أرى اليوم نيَّتي أن أقوى على حمل الأمانة، ففي كل ثمرة بذرة الديمومة والخلود، وكل التفاصيل الأخرى في جسدي إضافات ضرورية لرحم الحياة.
عمري الذي مضى، أتراه كان إلا لأجل تاج الأمومة هذا، وإن أتى الموت في صورة فأس تجتث وجودي وتلقيه في محرقة الكون، هل أجزع أو أحزن، ما دمت أودعت في التراب سري وسورتي، بذرة تنتظر شهقة الانبثاق؟!
وها أنا الآن حطبًا هرمًا في أتون النار، بعد خريف العري والتجرد.
نيَّتي أن أهب المقرور حرِّي ثم أتلاشى رمادًا، ولا أقول ضاع عمري هباء.
5
من يدري؟!
ربما كان في نيَّة هابيل أن يموت
ولم يكن في نيَّة قابيل أن يَقتل.
*** *** ***
كان في نيّة الحصرم أن يصبح نبيذًا.
حلم طويلاً بجرار عتيقة يتخمَّر عنبه فيها.
وكم طافت به تحت هجير الشمس وفي ليالي الوحدة خيالات المنتشين وصيحات السكارى.
كان صغيرًا ليعلم أن النوايا مصيرها بيد قاطف حامض الطبع والمزاج، أو ليخضع لآيات التحليل والتحريم.
آخر ما ذكر قلبه قولاً كريمًا... فيه يكون لكل امرئ ما نوى.
آخر ما رآه نهر من خمر يجري في الجنّة لذة للشاربين.
2
الرحيق أيضًا بيَّت نيَّة، وما كل ما ننويه بحاصل.
لطالما تمنّى أن تنجذب إليه يومًا نحلة.
بل أسرف في الحلم، فتوَّج النحلة بتاج الملك، ليكون شهدها الذي لا يضاهى.
قالوا له: "الرضا مفتاح الحلم" فرضي بل ماج عبيرًا، في حفل الفراشات الراقصات، وفاض رضابًا لثغورهنَّ العذبة.
الفراشات فتيات لاهيات، وقعن في فتنة اللحظة، لا يأبهن لنوايا الزهور، ولا يدَّخرن رحيقها لساعة عوز.
رشفن الرحيق ونيَّته، ثم ابتعدن برفيف جناح، لمحفل آخر يعجُّ بالحياة.
هل سمعتم يومًا عن فراشة ماتت على كم زهرة؟!
3
لم يكن في نيَّة دودة القز أن تموت اختناقًا.
أحاطت نفسها بشرنقتها، وكل ظنّها أنه حين تحين اللحظة ستمزق خيوط حبسها، وتطير فراشة حرّة.
لم يخطر ببالها قط، أن الإنسان يربيها، لا لأجلها بل لأجل خيوط حريرها.
الإنسان سيّد الأرض، بيده مصائر جميع الكائنات يسوسها كيفما أراد، ويسخرها لخدمته، رحيمًا حينًا... جبارًا أحايين كثيرة.
وقد اكتشف منذ أمد بعيد أن حريرها ينسج سرابيل لأيام القيظ... فتفنن في خنقها ليعيش رفاه الحياة.
في أنفاس نزعها الأخيرة، ترمق أختها في الشرنقة المجاورة، وتغبطها لأن لها حظ أن تكمل تطورها وتطير.
في نهاية النهاية كلتاهما تساقا بيد الموت، إلى ذات المصير.
4
للشجرة رؤية في النوايا، والرؤية بنت الخبرة وعين القلب، بينما الرأي فكر العقل. وقد يتطابق رأي ورؤية، في دروب الحياة الحقة.
تساررني الشجرة بخبرتها، وتسرُّ لي علنًا، أنها رأت النوايا تغير ألوانها عبر الزمن من فصل إلى آخر، ورغم ذلك تبقى صافية رائقة من عكر الغش ولوثة الأوهام والإيهام.
يرقُّ صوتها حين تذكر عهد الصبا، وتتداعى صور الأمس البعيد، مثقلة بالحنين:
في ذلك الزمان ، لم يكن في نيتي سوى أن أضحك لنور الشمس بأوراقي الصغيرة الغضة، بينما النسيم يراقصني في رواحه والإياب، غير آبهة لقدميَّ أسيرة المكان، ما دمت أنهل من ثغر التراب ماء الحياة.
أتنفس ملء توقي، وأسبِّح من وهبني نعمة الوجود من العدم، متماهية في أمدية اللحظة، فالغد مبهم بالنسبة لي، والأمس انقضى وانتسى لحظة شقَّ رشيمي بذرة الخلق ليكون فكان.
ثم ولى الربيع الغض وسنين اللهو والرغبات المتوقدة وشغف الشباب.
وأتى الصيف لتكتمل أنوثتي بنضج الأمومة.
فالنسيم الذي داعبني، أودع حمولة طلعه بي، كذلك فعلت فراشات ونحلات، زرن زهراتي يجذبهن رحيق البقاء.
أرى اليوم نيَّتي أن أقوى على حمل الأمانة، ففي كل ثمرة بذرة الديمومة والخلود، وكل التفاصيل الأخرى في جسدي إضافات ضرورية لرحم الحياة.
عمري الذي مضى، أتراه كان إلا لأجل تاج الأمومة هذا، وإن أتى الموت في صورة فأس تجتث وجودي وتلقيه في محرقة الكون، هل أجزع أو أحزن، ما دمت أودعت في التراب سري وسورتي، بذرة تنتظر شهقة الانبثاق؟!
وها أنا الآن حطبًا هرمًا في أتون النار، بعد خريف العري والتجرد.
نيَّتي أن أهب المقرور حرِّي ثم أتلاشى رمادًا، ولا أقول ضاع عمري هباء.
5
من يدري؟!
ربما كان في نيَّة هابيل أن يموت
ولم يكن في نيَّة قابيل أن يَقتل.
*** *** ***