د. زهير سعود - تقديم لكتاب "عزف المداخن" في فنّ القصّة القصيرة جداً، للكاتب الجزائري عبد الحكيم قويدر: القصّة القصيرة جداً من مونتريسو إلى قويدر

تقديمي لكتاب "عزف المداخن" في فنّ القصّة القصيرة جداً، للكاتب الجزائري الصديق: عبد الحكيم قويدر:
القصّة القصيرة جداً من مونتريسو إلى قويدر:
..... .. .... (...١...).... .. ... ....
لم أقرأ بعد اهتمامي بفن القصة القصيرة جداً، كاتباً عربياً أبدع في مضاهاة أعمال مونتريسو ومبدعي هذا الفن الآول، كما قرأت في نصوص الكاتب الجزائري عبد الحكيم قويدر. لقد ذهب بعيداً اليوم الذي بدأت فيه الأقلام العربية تحذو حذو الغرب في امتلاك شروط هذا الفن الصعب، صحيح أن البدايات كانت متعثرة لكنها نبّهت لهذا الفن الحداثي، وأطلقت اهتماماً عربياً مشرقي ومغاربي، وفي مستويات النقد والكتابة. لتنتج أقلاماً نعتدّ بها، وتثبت بأن المخيال العربي حاضر حيال التبدلات العميقة للفنون المعاصرة...
لقد نالت من الفن بعض أقلام النقّاد، بمبررات لم نجد فيها ما يثبت مشروعيتها الجريئة على الفن، فتلك النزعة أرساها الغرور، وأثبتت الجهل بثورة أدب القرن العشرين بأنساقه المتعددة، كلغة الإيحاء، ومفهوم الكثافة، والنزعة السريالية، وما قاله بوتور في الأدب بأنه خرق للحواجز الكلاسيكية في عملية صياغة الفنّ، حتى يناغم الخروقات الشاملة في أنماط التفكير الإنساني، والملازم للتغيرات الصميمية في البنى الاجتماعية الحاضنة...
مع الكاتب "قويدر" وفي أغلب قصصه تستطيع أن تحقق أنموذجاً أسلوبياً تطبيقياً سلساً، لا تعيبه الألفاظ الفظّة المنقطعة عن التداول، فذلك منهج أسلوبي استخدمه البعض في تحقيق خروقات وهمية لبنية النصّ القصصي القصير جداً. كما إن وحدة النصّ، بابتعاده عن التشتت، ومراكمة الأفعال المنفصلة عن سياق السرد.. حاضرة في كتابات قويدر. ليطبع الكاتب أسلوبه بالنماذج الحيّة المتدفقة في هذا النمط السردي، فقصصه تشعّ بخصائص ومكونات الفن، من ثنائيات لغوية، وكثافة شعرية، لفظية ومشهدية ونفسية، وتمرّد على الأساليب القديمة للكتابة عبر مستويين متلازمين، أولهما الغايات، وثانيهما حبكة السرد وعناصره التضمينية. ففي سياق القراءة التطبيقية ذهبت لقصّة من مجموعة نصوص قويدر "عزف المداخن" هي قصّة بعنوان: "أقنعة وكشوف" لتأمّل أسلوب الكاتب وانتزاع الخصائص البنائية الكامنة في النصّ، عبر إرجاع التشكيلة السردية للقواعد الإجناسية في بناء القصّة القصيرة جداً ، فانجلت لنا أول سمة لأسلوب الكاتب، وهي تغاضيه عن الألفاظ المقعّرة، والتي تأخذ من القارئ زمناً بحثياً طويلاً للكشف عنها، وتحقيق معناها، واكتشاف مقصد الكاتب من استخدامها. وللإيضاح نعرض النصّ كما هو: "أقنعة وكشوف: ساروا بي على أكتافهم. نسي المغسّل ذراعي اليمنى!. لمّا ابتدأ التسبيح.. أخرستهم ببطاقات مختلفة". فالكاتب كما بيّن النصّ استخدم صيغة تعبيرية سهلة التناول، سلسة بألفاظها الشائعة، ونسقها اللغوي المتعاضد لإتمام التفريغ، ولو تأملنا صلة النصّ بخانة المجموعة التي جدول فيها الكاتب نصوصه فسوف يتضح حالاً التناسق بين عزف المدخنة وسلوك جثّة الراوي، وتلك ميزة أولى لمجموعة الكاتب فرضت الإقرار بانسجامها الداخلي، ولو ذهبنا إلى معادلات السرد الخاصّة لتبيّن لنا ومنذ قراءة النصّ الأولى توفر المسننات المتناغمة، والتي علّق عليها الكاتب عبارات السرد، لتظهر لنا تلك الموسيقى الجنائزية في تأكيد تيمة النصّ، دون إحداث شروخ تفقد الرصف اللفظي جرسه الموسيقي الخاص، فالقارئ لم يشترطه الكاتب من ذوي الكفاءات العالية في عملية تفكيك الأنساق اللغوية، حتى يتبين له المعنى الكامن في خطاب الحكاية، ولن يرى الأمر ابتذالاً إلا من بحث في النصّ القصصي عن "الومضة الشعرية" ملتبساً بذلك عليه الفروق بين الملمح القصصي والملمح الشعري. كذا هي حال نصوص "عزف المداخن" البالغة "إثنان وتسعون" نصّاً قصصياً. فلو أخذنا نصّاً آخراً من نصوص المجموعة وليكن نصّ "نزول" فلسوف تثبت لدينا صفات الكتاب السردية بخصاله المعنوية والرمزية، ومدى انسجامه مع نسقية المجموعة في تناغمها مع العنوان الجامع: "حملناهم جنائز على أكتافنا مليّاً... لمّا أحييناهم؛ كفّنونا وأسمعونا صليل الفؤوس والمجارف!."...
لقد تناولت في عملي التقويمي ظروف نجاح المجموعة القصصية في هذا الفنّ، وقدّمت لنا مجموعة الكاتب نموذجاً حيّاً في هذا السياق، فتلك قضيّة هامّة في إنتاجية المجموعات القصصية وتحدّي كبير لكل كاتب، فمن مهام القارئ بعد إنهاء كل نص من المجموعة السعي به لتعليقه على بكرة العنوان الأصلي الجامع، حتى لا تبدو القصّة معزولة عن فضاء سردي منسجم ومتماسك، وتحقيق هذه الغاية ميزة ارتقت بمجموعة الكاتب قويدر. أضف لذلك ما أضفاه من خصائص عامّة لأسلوبه في دعم حماس المتلقي للقراءة، بسبب سهولة الرمز وعدم غلوّه في التعقيد، والذهاب به خارج البيئة اللغوية المحيطة بالكاتب والقارئ، فالكثافة في طيّاتها نظام إحالي داخلي وخارجي، والداخلي تكفله نسقية الكتابة، أما الخارجي فبقدر ارتكازه على المفاهيم الاجتماعية المحيطة والمألوفة فهو تمكين للمتلقي من المتابعة وعدم كسر عصاه، حين يقوم بواجب ملاحقة الحدث لالتقاط الغايات الجزئية في كلّ قصّة،تابع.. ٢
ثم إدراك الغاية الشاملة لأهداف ومرامي المجموعة القصصية، فغاية الفن رافع أساسي لصيغه الشكلية المتنوعة، ومع القصّة الوامضة تصبح القيمة الجمالية للشكل مندمجة بقيمته المعنوية، فكل لفظة نصيّة تسهم إسهاماً بليغاً في عملية بناء السرد وتحقيق مراميه.
.... .... ..... ... ...
(...٢...)
تحت مظلة عنوان المجموعة القصصية "عزف المداخن" تنوعت مشارب النصوص في غاياتها القريبة، وهي بمجملها تنقل لنا نقداً لاذعاً لصفات وخصائص البيئة الاجتماعية التي تحرّك بها شاهد الكاتب الرئيسي وبطله الراوي، وفي كثير من الأحيان لا يعزل الكاتب نفسه عن البيئة عبر تقمّصه شخصية الراوي، ليثبت لنا رغم حياديته بأنه داخل السطر الفضائي للسرد، وهو بذلك نجح في تحقيق العديد من صفات الفنّ الذي كتب بلغته في مستويات أساسية وتقانية عدّة، كالتكثيف والجرأة والسخرية والدهشة وإنطاق الأموات والجماد، فاحتوى منجزه السردي انتحاءات متنوعة لفظت منها ذاته البلاغية بقايا بيئة محترقة بكل عناصرها الأديولوجية والتربوية والنفسية مما تستره المداخن، فيصف لنا حالة التشتت والضياع والأثر الكولونيالي لتلك البيئة، والنصوص صيغ تعبيرية قصصية لمعنى ومضة أدونيس الشعرية "المئذنة: صارت مدخنه". أكثر ما عبّر عن الأمر نصوص المجموعة التي حملتها العناوين: "تهافت، سامري، روهينغا، غرس الشيطان، كروموسوم" حيث لا أمل يرتجى في وجهات شمالية أوجنوبية، وكل الطرق مآلها الضياع والانحدار. حيث أنماط التفكير الأديولوجي مرتهنة لفعل السامري، وعكست خلاصتها بقية النصوص.
التكثيف سمة بارزة في جميع نصوص الكاتب قويدر، وهو مدرك تماماً بأن التكثيف ليس مادّة مضافة للحركة السردية، بل هو فعل السرد ذاته، مع ذلك فالكاتب حريص على سلاسة تركيبه اللفظي الجملي، دون إغفال المتلقي الابستمي الخاص أثناء فعل القراءة، فيراعي الكاتب في بعض قصصه حالة الوعي لدى الشريحة الواسعة من جمهور القراء كما نجد في نصّ "سوفيتيس" لكنه لا يغفل عن القارئ الذي استهوى التأليف في تفكيك بعض النصوص، كما في النصوص "غرور" و"منحى" و "هيمنة" و"أفول" فمن خصائص الأدب الحداثي مشاركة المتلقي بصناعة القصّة وليس النصّ، وكلّ نصّ سردي في هذا الفنّ الذي اعتمد الثنائية مفتوح على أكثر من حكاية، حتى بلغت حركته التفكيكية فعلاً لولبياً في بعض النصوص المشار إليها، ومع هذا المنجز تنجلي متعة القارئ الابستمي في إمتاع الكاتب "المتلقي" وجمهرة القراء.
السخرية اللاذعة بوجهاتها المتنوعة واضحة في نصوص "قويدر" حتى بلغت أقصى مداها في نصّ "وقص" وهي سخرية لم يتم التعبير عنها بحركات سردية افتعالية بل أصدرها جريان ماء الحدث في ساقية النصّ، ولنأخذ مثالاً على ذلك من النصّ "وقص" وفي عبارته الختامية: "عدت إليه معزّزاً، بعدما تخلّصت من زوائدي الدودية".
لا تغفل الكثافة السردية لنصوص "عزف المداخن" فعل الإزاحة الذي يشغل مخيال المتلقي في بيئة مترعة بثقافة ما بعد الحداثة والتي أثبتت واقعها العدمي وظاهرة "موت الإنسان" واختراقها لكل ماهو مألوف في ثقافة العصر الحديث الرائجة والقائمة على الحروب والويلات والتلاعب بالأثر الأديولوجي، فالمداخن لا تقف على مآذن أدونيس بل تعدتها لكل فعل سياسي واقتصادي ونفسي تماهى مع بيئة اجتماعية غارقة بالتفاهة، فلا يخرج فعل التلقي لنصوص قويدر عن أنظمة الإحالات الخارجية والداخلية، وبذلك تكتمل رصانة النصوص ويحسن انتمائها لجنس أدبي مازال يعاني من رداءة استخدامه لدى المتحمسين العرب، والذين مازالت تعبث في أفئدتهم أنماط السرديات القديمة فلا يبرحونها إلا فيما ندر.
إن مجموعة الكاتب عبد الحكيم قويدر "عزف المداخن" هي عزف منفرد داخل سلسلة الإصدارات العديدة في مكتبتنا العربية، وهي جديرة بالتنافس على مركز الصدارة في صياغة هذا الفنّ الصعب.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى