محمد السلاموني - فى البحث عن سرد آخر، عن رواية أخرى: < سرد النسيان >

[... وجسد كالأجساد التي انزلقت تحت جسدي
دون أن تخلّف وراءها أي ذكرى. ].
بابلو نيرودا


فى هذا البيت الشعرى المستعار من "نيرودا"، تتحول "دون أن تخلّف وراءها أي ذكرى." إلى ذكرى؛ [ذكرى عدم وجود ذكرى] .
تلك المفارقة، تنطوى على إمكانية هائلة لإعادة تعريف "العالم الروائى"؛ بانتقاله من "الأحداث التى تنحت وجودها فى صخرة الذاكرة"، ويستعيدها السرد المتمحور دوما حول "الماضى"، إلى السرد الذى وإن تمحور حول ماض مستعاد، إلاَّ إنه يتجاوزه بقفزة هائلة نحو سؤال متعلق بالحاضر- بما هو المستقبل الذى آل إليه ذلك الماضى .
ومن ناحية أخرى، سيبدو أن [النسيان] لا [التذكر] هو ما يمكن أن يتمحور حوله السرد ، مما يتغير معه السرد نفسه كتقنيات صانعة لعالم الحكاية.
هذا التأمُّل بحاجة إلى استقصاء...
// أشرت فى مقالات عديدة سابقة إلى أننا غارقون فى "بنية حكائية" استحوذت لنفسها على "سِر الميتافيزيقا"، وأنها تلعب الآن دور الثُّقب الذى ينهمر منه ضباب "الماورائى" ليغمر العقل، ومن ثم حياتنا...
تكمن إشكالية السرد الروائى المتمحور حول "استعادة الماضى"، فى أنه يموضع نفسه فى القلب من تصور معين عن التاريخ؛ التاريخ بأشكاله العديدة. وفى تحول التاريخ إلى حكاية- وعادة ما يتحول إلى حكاية- سرعان ما يلحق بالقطار الهيجلى، دون أن يعنى هذا أن التصور الهيجلى عن التاريخ ولِد مع هيجل، فعند أرسطو توجد فكرة [سعى الأشكال لإكتمالها]، وهو ما يعنى أن الفلسفة الهيجلية "التى أكتملت عندها الميتافيزيقا"، كانت بلورة ساطعة لكل ما جاد به الفكر الميتافيزيقى السابق عليها.
وطالما أن للتاريخ "غاية"- كما يفترض هيجل- فهناك "أصل"/ ذلك أن كل غاية إنما تفترض وجود أصل ما انحدرت منه الأشياء والأفعال والأفكار، هذا والأصل هنا يصير هو "البذرة التى يكمن فيها تاريخ الشجرة".
وهو ما يعنى أن الإستعادة التى هى قوام كل حكاية، إنما هى استعادة للمسار التاريخى الذى تقطعه الظاهرة - موضوع السرد- من الأصل إلى الإكتمال الغائى .
// يبدو أن إقامة الحكاية فى أفق كل معرفة، يشى بكونها لعبت دور "حادى" القافلة المعرفية البشرية على طول التاريخ .
وهو ما يعنى أن علينا إذا ما أردنا تجاوز الميتافيزيقا أن ننتبه للدور الذى تلعبه الحكاية فى تأسيساتنا المعرفية؛ وقد أشار "نيتشه" إلى هذا بطريق غير مباشر فى حديثه عن "الإستعارات فى علاقتها بالحقائق التى انتهى إليها الفلاسفة"؛ ذلك أن الحكاية استعارة.
// السؤال المتعلق بالحاضر- الذى هو المستقبل الذى آل إليه الماضى- هو نفسه ما تتمركز حوله السرود الروائية قاطبة. نعم، لكن الحكاية كعالم رمزى، أو كشبكة من الرموز، سرعان ما تخطف السؤال، لتدمجه فى السِّر الميتافيزيقى، دون أن يعى "السارد" هذا الإنخطاف !.
ذلك أن "السارد" هو نفسه، يتماهى مع ما يتصور أنه "الضرورة التاريخية" المرتدية قناع "الضرورة الدرامية"، التى أشار إليها أرسطو من قبل.
وكما نعلم، فـ [قانون الضرورة والإحتمال] هو القانون الحاكم للبناء الدرامى الحكائى .
لذا يظل السؤال "بماهو الحاضر" معلَّقا فى الفراغ "التخييلى" الخاص بالإمتداد الماضوى، أعنى فى تصوراتنا عن التاريخ الكامن فى قلب البذرة .
// من هنا تتأتى أهمية "النسيان".
"النسيان" هنا لا يعنى نسيان الحكاية ذاتها بقدر ما يعنى نسيان النسق الفلسفى والبنائى الذى تخضع له الحكاية؛ ذلك أن الحكاية نسق فلسفى، بنائى، وليست مجرد سلسلة من الأحداث.
فحين يقول "نيرودا":
[... وجسد كالأجساد التي انزلقت تحت جسدي
دون أن تخلّف وراءها أي ذكرى. ].
سنلاحظ أن "الماضى" هنا لم يعد يمثل "ذكرى"، فقد ذهب، تلاشى، انمحى، سقط فى النسيان... هذا النسيان، هو نفسه، ما تبقى منه.
النسيان "فراغ"، لذا فالسؤال "المتعلق بالحاضر" هنا يحوِّل ذلك الفراغ الناتئ إلى امتلاء، ليس بالماضى، وإنما بنسيانه الذى تحوَّل إلى موضوع للسرد .
هنا يصبح النسيان نفسه هو الحكاية؛ "حكاية عدم وجود حكاية"، نعم، هناك حكاية، منسية، لا يسعى السرد لتذكُّرها، بقدر ما يتخذ من غيابها ومن الفراغ الذى خلَّفته وراءها، موضوعا لنفسه...
الذاكرة- خزانة الأحداث الماضية- عادة ما يعاد ترتيبها بينما نمارس "العملية السردية"، أو أن هذه الأخيرة هى التى تُخضِع تلك الأحداث لتنظيم من نوع ما، يتوافق مع رؤانا وتصوراتنا عن العالم...
الفكرة هنا ترتكز على أن "التشابه" النسقى المتعلق بالحكاية، هو الذى يصنع لنا ما نعتقد بأنه "هويتنا" التاريخية، تلك الهوية هى التى نمارسها بالفعل تحت مسمَّى آخر هو "الهوية السردية"، وهو ما يمنحنا الشعور بالإستمرارية "إستمراريتنا فى عالم مستقر وثابت وبدهى"،
هكذا، كأنما القوانين الإجتماعية هى ذاتها القوانين الكونية ؟!.
التشابه- الذى تنبنى عليه "الهوية- بما هى التكرار"، فى "سرد النسيان" سيتحول إلى [أجساد انزلقت تحت جسدي دون أن تخلّف وراءها أي ذكرى]، أى سيتحول إلى "نسيان"؛ هذا النسيان هو "الإختلاف" بعينه، هذا الإختلاف هو ما سيكرره سرد النسيان، وبذا يمكن للسرد أن ينفتح بالهوية على "الآخر- بمعناه الواسع المتجاوز للغير"، وهو ما سيصب فى نهاية الأمر فى تحرير التاريخ الحكائى والحكاية التاريخية، من البذرة "الأصل"، ومن الإستمرارية ومن الترابطات المفترضة ومن الثنائيات المتعارضة ومن الوحدة...
// الخلاصة:
ليس "التذكر" حدثا طبيعيا "بيولوجيا" فقط ، بل استراتيجية ميتافيزيقية ناجزة، لها إملاءاتها وإرغاماتها التى خضع لها الفكر والإبداع طويلا... ويستحيل التحرر منه سوى بنقيضه "النسيان"...
وها أنا أتطلع إلى سرد روائى يتمحور حول جماليات النسيان بدلا من جماليات التذكر .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى