د. زهير إبراهيم سعّود - الكثافة بين الحلم و الأدب (١)

(١)


جوابي للذين سألوا عن مكونات الكثافة في الأدب...

أول من طرق مفهوم الكثافة هو عالم النفس سيغموند فرويد وذلك في دراسته للحلم، حيث ربط الظاهرة بمفهوم الإزاحة، فعنده لا تكثيف من دون إزاحة، وتلك العناصر اعتمد عليها في تفسيره للأحلام الناجمة عن تداخلات الوعي واللاوعي.
اليوم 28/9/2021 حدث معي أمر غريب، ولولا قراءتي المركّزة للكثافة لم أهتد إلى راحة بالي باقتناع تام. ففي صباح هذا اليوم استيقظت على حلم غريب، لم أعهد منذ أمد بعيد ما تركه من أثر في نفسي، لقد بقيت بحالة من الحيرة والتوجّس طيلة نهاري، فلم يفارقني حلمي وأنا أعاين المرضى وأكلّم الناس، حتى أنّي أكثرت الحديث فيه مسترهباً تعابيرهم وتعويذاتهم ودعواتهم، وللحقيقة أقول فإن مفهوم الكثافة الأدبي قد أحدث بلبلة وسجالات حادّة بين متابعي فنّ القصّة القصيرة جداً، وربّما كنت الوحيد بين أقراني العرب ممن طرق المفهوم ووضع له تصنيفاً خاصّاً يمنحه ثلاثة معاني مترابطة هي: الكثافة اللفظية، والكثافة المشهدية، والكثافة النفسية. فذلك يجعل المفهوم أكثر قدرة على الفهم والتمييز في عالمنا الأدبي، ولإن كتابي الذي فصّل كثيراً في شرح المفهوم ما زال بعيداً عن التداول بين القراء، فقد أزمعت كثيراً على إعداد دراسة مفصّلة بهذا الشأن، لتسهيل التعاطي مع الفكرة، وكنت أرجئ الأمر بسبب انشغالاتي الكثيرة حتى أيقظني حلمي على تأويله، ثم اعتباره نموذجاً واقعياً للتعاطي مع ظاهرة الكثافة وتطبيقاتها في الأدب. أمّا الحلم فقد "وجدتني جالساً على سريري وعيوني خارج محاجرها، وقد تحولت لثلاثة عيون تحيط برأسي، وهي تتصل بخيوط وعقد عصبية بيضاء معقودة ومتشابكة، فما كان منّي أنني أخرجت مقصّاً وقطعت تلك الأسلاك، لأحمل بيديّ عيوني التي بدت لي لفافات حلاوة الجبن، في داخلها كتل معجونة لحبّات الفستق التي بدت كما لو أنها قزحيات العيون، والغريب في الأمر تحقّقي من عيوني الغريبة وأنا أعتقد العمى رغم رؤياي الواضحة"...
في حقيقة الأمر لقد عانيت من إشكالات بصرية منذ أمد بعيد ومنذ محاولة خاطفين مارقين أن يطفئوا قدرتي على النظر، وأنا منذ أشهر عديدة أتردد على طبيب العيون وأتكاسل عن تلبية طلبه في إجراء صورة خاصّة لتشخيص حالة شبكية العين، فأمر تعرّض حلمي لخطر محيق بناظري بات مفروغاً منه، ولكن دخول حلاوة الجبن، والعين الثالثة، واستخدام أكفّي في تقطيع خيوطها، وحملها، تلك أمور أدخلت الخوف والتوجّس لقلبي، فما سرّ حضور هذه الأشياء على الحلم؟..
الحلم مشهد خاطف يمرّ على الذاكرة المنفلتة عن التقييد بالوعي، يحسبه الحالم دهراً وهو لحظة عابرة في واقع الحال، إنه أشبه بالقصّة القصيرة جداً بل هذا الفن هو حالة تطبيقية للحلم الذي ينتهي بلحظات، ليترك أثراً صادماً كبيراً بسبب مكوناته التركيبية القابلة للتفكيك والتوليد، وما من شيء في الحلم إلا وله ارتباط صميمي بالواقع، لكنه بحاجة خبير قادر على تطبيق الإزاحة في معطيات المشهد، المنفلت عن الضبط بالأعراف اللغوية المألوفة في أساليب الخطاب والتخاطر، وتلك الصورة الراسخة هي ما أطلقت عليه بالكثافة المشهدية كمكون هام للكثافة اللغوية (السيموطيقية) في فن القصّة القصيرة جداً، وما أدخل عليها من تقنيات الأسطرة والاقتصاد وإنطاق الجماد وخرق المألوف والإدهاش وغير ذلك من تقنيات يقيمها الحلم ولا يشترط حضورها بالتمام والكليّة، لكنها تسهم إسهاماً بليغاً في تحقيق الكثافة. فالخلاصة الأولى تأكيد الشبه بين حالة الحلم وكتابة القصة القصيرة جداً بتحقيق الكثافة المشهدية كأحد الوجوه المعبّرة عن الكثافة، وهي كثافة لا تقوم على قصر الزمن والمسافة فحسب، بل أضيف لها مكوناتها المشهدية المتداخلة والقائمة على تبئير المنظور الراهن لأحداث وأزمان وأشخاص عابرة على الذاكرة من خلال مركزية شخصية إنتاجية محدثة خلصت لمشهد الحلم أو القصة...

يتبع




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى