"حَمَدّ عويشة"
تمادى الليلُ في ظلامه وقسوته على الأبرياء، فهو قد ارتبط عندهم بالنزوح المؤقت (للحقاف)* الموجودة بالجبال التي تحضن المدينة التعيسةالحائرة . ازداد سواده قتامةً وادْلَهَم ، فما بقي في خزَّان الفنارين* الوحيدين في الحقفة لا يكفي لبثِّ بعض ضوءٍ ينير العتمة ويُجلي هَمَّ وقلق هذه الأجساد المتراصة الخائفة فاستسلم الجميع للنوم الذي يعافر التوجس والأرق فينتصر حيناً ويُهزم أغلب الأحيان.
لا حائل بين هذه الأجساد إلا (عباتين )* تفصل بين المحتمين داخل المكان وتوفر بعض الخصوصية التي تحتاجها النساء. وكأن الحقفة أصبحت بيتاً بغرفتين يجمع سكانه الخوف بل الرعب ويحيّرهم السؤال الذي يدور في الرؤوس لماذا نحن وماذا فعلنا؟.
كانت ليلة هوجاء شديدة الجنون : يبدو أنه عراك بين الطائرات!! كما رأى أحد الخبراء الموجود بين الجموع ويدّعي أنه شارك في الحرب العالمية الأولى ويذكر التحاقه بالجيش الإيطالي في الحبشة كثيراً، وبالطبع لا يناقشه أحد فيما يقول، فالكل نيام ومن يستيقظ أصلاً ليستمع إلى الرجل الذي يهذي من الخوف على ما يبدو .
تتململ النساء وتتقرفص عويشة غير مصدقة ماتسمع ،أما الرجال فقد استيقظوا بالفعل مع خيوط الفجر الأولى وبدأوا يتحسسون طريقهم إلى خارج الحقفة ليستنشقوا الهواء العليل الشديد البرودة بعد ليلة ممطرة-فطقس فبراير على جبال المدينة لا يرحم هذه الأجساد المرتعشة-غير أن ما سمعوه جعلهم يتراجعون إلى الخلف ليتبيّنوا! .
الحقيقة أن إحداهن قد استيقظت مرحة وسعيدة فأطلقت زغرودة طويلة
وعندما انتبه من حولها متسائلين
عمّا حدث قالت: لاشيء! مازلت حيَّةً ففرحتُ واستبشرت وزغردت ولو كان المكان يسمح لرقصت !!،وانطلقت الضحكات تغمر المكان، وغمره النور أنحائه وتبدَّلَ لونه ،صار وردياً، ونبتتْ بين صخوره الناتئة الورود والزهر والياسمين فتحولت وسائد تغري بالجلوس أو النوم وساد المرح العظيم
.
ساعدتْ عويشة والدتها في النهوض
للخروج من المكان وتحسستْ قلبها
فوجدته متوجساً وبه قلق، (فرَمَتْ)* نظرة للمكان الخالي وأدركت أن حبيب القلب وخالته قد غادرا دونما وداع.
ماذا فعل حَمَدّ وكيف يجرؤ ؟ قالتها بصوتٍ عال فسمعتها أمها وردَّت بحنق:أخبرتك من زمان، لايصلح زمّار وأمه درباكة ليفتح بيتاً مابالك بحقفة وها قد هرب منها وتركك دون أن يُعلمك.
أسرّتها عويشة في نفسها ولم تناقش أمها فلا الروح الهائمة بقادرة على الكلام ولا القلب الفارغ بقادرٍ على الدفاع عن فعلة حَمَدّ
-كنت أدعو الله ليلة تلو أخرى ألا يتوقف المجانين عن قصفهم، فلا فرصة للقاء حَمَدّ إلا باستمرار هذه الحرب! بل كنت أرجو حرباً عالمية ثالثة ليستمر هذا الحب ولا ينقطع- !!قالت عائشة في حديثٍ داخلي مع قلبها الموجوع الذي يتقد ناراً وتواصل:ها هو يخرج متسللاً قبل استيقاظي،مم يهرب؟ إن لم يكن خائفاً من الغارات فلم المجيء أصلاً، وخالته التعيسة المسكينة التي لابد أنه قد أيقظها من عزِّ نومها ليخرجا معاً. ماذا يجري.
لم يكن حمد هارباً ! هكذا أخبرتها جارة الحقفة وشريكة المكان الذي تختاره دائماً بجوارها،-بنت جيرانهم مريم- (امرومة) كما تُنَادَى. انتبهت عويشة وردّت-ومازال الدمع ينهمر والمطر في الخارج يواسيها-ماذا تقولين؟ فأجابت مريم: ماسمعتِ، كنت نصف نائمة عندما اقتربت خالة حَمَدّ من والدتك وطلبت يدك منها فما كان من والدتك إلا أن ردّت بجفاء وسخرية:لمن للزمّار؟ وهل بَنَتْ بيتاً تلك الزمّارة،كم عرساً سيحضره مع فرقته حتى يجمع المال ويفتح بيتاً لابنة الحسب والنسب؟. لم ترد خالة حمد بكلمة واحدة ،وتراجعت إلى حيث يجلس ابن شقيقتها ثم وبعد همسٍ سريع غادرا المكان وكانت السماء تهطل مطراً وقنابل ولم يهتم الفتى بصياح الموجودين حوله فأخرج خالته ورحلا.
خالة حَمَدّ حُضْنُه الذي استلمه بعد زواج أمه من رجل من البادية المجاورة ورحيلها معه، أخذتْ معها الدربوكة وتركت لحمد الزمّارَة وخالة مُحِبَّة.
يُتم حمد زاد فداحةً بعد رحيل والدته. أخبرته أنها أدت ما عليها نحوه
وأنه آن الأوان لتعيش وأنها راحلة خلف قلبها وقد تهاوى على يد رجل بدوي يجيد عشق النساء، فلا يبقي على قلوبهن إلا وقد ضمها إلى ممتلكاته برضاهن الكامل ، وقد تناقل الناس عنها أنها غنّت في فرح خارج درنة:(مقْعَد يوم مع اللي غالي يسوى عشر اسنين اطوالي)*!! ،ثم شاركت في رقصة تؤديها النساء أمام الرجال هناك و جرى ما جرى ولم تعد أم حَمَدّ كما كانت. هكذا تناقل الناس القصة وربما أضافوا صوراً يحبونها من عندهم فاتسعت الرواية وضاقتْ على قلب حَمَدّ، فكَرِهَ صحبة أمه إلى حيث زوجها الجديد .
أخبرته وألحّتْ أن (درنة) صارت مدينة الخوف والموت، رجته أن يرحل معها. لكنه رفض فهو لا يعرف العيش خارج المدينة، ثم تساءل: كيف يرحل بلا قلبه
الذي سلبته عويشه، وهو لن يسترده على كل حال.
قلب عويشة الذي يشتعل الآن جمراً
يشبه جمر النيران التي تشعلها قنابل الطائرات في بيوت المدينة التي كانت آمنة مطمئنة.
قلبها الذي تمنى حرباً لا تنتهي لتجاور الحبيب في كهفٍ يقيهما هولها ويحمي حبهما ليبقى مابقيَ الوَنس الذي يضفيه حَمَدّ لروحها وكيانها كله.
عويشة التي ما أخفتْ وجيبه عن أحد. عويشة التي أخبرتْ عن كل نبضة تحسها كل من تعرفه، وكل من تعرفهم سردوا قصتها مع حَمَدّ وانتشر الخبر في المدينة وما جاورها وصارت قصتهما على كل لسان غرام عويشة وحَمَدّ
الذي لقّبه الناس (حَمَدّ عويشة) فصار هذا اسمه وكُنيته.
لم تنته الحكاية بعد
محبوبة خليفة.
*الحقاف:جمع حَقْفَة وهو الكهف أو المغارة.
*الفنار:يستعمل للإضاءة*
*عباتين:ومفردها :عباه وهي العباءة الشتوية ويلبسها الرجال عادة.
*رمَتْ:تعبير ليبي بمعنى ألقت نظرة يائسة
*(مقْعَد يوم …..)معنى الأغنية أن وجود الحبيبة يوم واحد مع من تحب يعادل عشر سنوات طويلة، وهي أغنية شهيرة في شرق ليبيا.
تمادى الليلُ في ظلامه وقسوته على الأبرياء، فهو قد ارتبط عندهم بالنزوح المؤقت (للحقاف)* الموجودة بالجبال التي تحضن المدينة التعيسةالحائرة . ازداد سواده قتامةً وادْلَهَم ، فما بقي في خزَّان الفنارين* الوحيدين في الحقفة لا يكفي لبثِّ بعض ضوءٍ ينير العتمة ويُجلي هَمَّ وقلق هذه الأجساد المتراصة الخائفة فاستسلم الجميع للنوم الذي يعافر التوجس والأرق فينتصر حيناً ويُهزم أغلب الأحيان.
لا حائل بين هذه الأجساد إلا (عباتين )* تفصل بين المحتمين داخل المكان وتوفر بعض الخصوصية التي تحتاجها النساء. وكأن الحقفة أصبحت بيتاً بغرفتين يجمع سكانه الخوف بل الرعب ويحيّرهم السؤال الذي يدور في الرؤوس لماذا نحن وماذا فعلنا؟.
كانت ليلة هوجاء شديدة الجنون : يبدو أنه عراك بين الطائرات!! كما رأى أحد الخبراء الموجود بين الجموع ويدّعي أنه شارك في الحرب العالمية الأولى ويذكر التحاقه بالجيش الإيطالي في الحبشة كثيراً، وبالطبع لا يناقشه أحد فيما يقول، فالكل نيام ومن يستيقظ أصلاً ليستمع إلى الرجل الذي يهذي من الخوف على ما يبدو .
تتململ النساء وتتقرفص عويشة غير مصدقة ماتسمع ،أما الرجال فقد استيقظوا بالفعل مع خيوط الفجر الأولى وبدأوا يتحسسون طريقهم إلى خارج الحقفة ليستنشقوا الهواء العليل الشديد البرودة بعد ليلة ممطرة-فطقس فبراير على جبال المدينة لا يرحم هذه الأجساد المرتعشة-غير أن ما سمعوه جعلهم يتراجعون إلى الخلف ليتبيّنوا! .
الحقيقة أن إحداهن قد استيقظت مرحة وسعيدة فأطلقت زغرودة طويلة
وعندما انتبه من حولها متسائلين
عمّا حدث قالت: لاشيء! مازلت حيَّةً ففرحتُ واستبشرت وزغردت ولو كان المكان يسمح لرقصت !!،وانطلقت الضحكات تغمر المكان، وغمره النور أنحائه وتبدَّلَ لونه ،صار وردياً، ونبتتْ بين صخوره الناتئة الورود والزهر والياسمين فتحولت وسائد تغري بالجلوس أو النوم وساد المرح العظيم
.
ساعدتْ عويشة والدتها في النهوض
للخروج من المكان وتحسستْ قلبها
فوجدته متوجساً وبه قلق، (فرَمَتْ)* نظرة للمكان الخالي وأدركت أن حبيب القلب وخالته قد غادرا دونما وداع.
ماذا فعل حَمَدّ وكيف يجرؤ ؟ قالتها بصوتٍ عال فسمعتها أمها وردَّت بحنق:أخبرتك من زمان، لايصلح زمّار وأمه درباكة ليفتح بيتاً مابالك بحقفة وها قد هرب منها وتركك دون أن يُعلمك.
أسرّتها عويشة في نفسها ولم تناقش أمها فلا الروح الهائمة بقادرة على الكلام ولا القلب الفارغ بقادرٍ على الدفاع عن فعلة حَمَدّ
-كنت أدعو الله ليلة تلو أخرى ألا يتوقف المجانين عن قصفهم، فلا فرصة للقاء حَمَدّ إلا باستمرار هذه الحرب! بل كنت أرجو حرباً عالمية ثالثة ليستمر هذا الحب ولا ينقطع- !!قالت عائشة في حديثٍ داخلي مع قلبها الموجوع الذي يتقد ناراً وتواصل:ها هو يخرج متسللاً قبل استيقاظي،مم يهرب؟ إن لم يكن خائفاً من الغارات فلم المجيء أصلاً، وخالته التعيسة المسكينة التي لابد أنه قد أيقظها من عزِّ نومها ليخرجا معاً. ماذا يجري.
لم يكن حمد هارباً ! هكذا أخبرتها جارة الحقفة وشريكة المكان الذي تختاره دائماً بجوارها،-بنت جيرانهم مريم- (امرومة) كما تُنَادَى. انتبهت عويشة وردّت-ومازال الدمع ينهمر والمطر في الخارج يواسيها-ماذا تقولين؟ فأجابت مريم: ماسمعتِ، كنت نصف نائمة عندما اقتربت خالة حَمَدّ من والدتك وطلبت يدك منها فما كان من والدتك إلا أن ردّت بجفاء وسخرية:لمن للزمّار؟ وهل بَنَتْ بيتاً تلك الزمّارة،كم عرساً سيحضره مع فرقته حتى يجمع المال ويفتح بيتاً لابنة الحسب والنسب؟. لم ترد خالة حمد بكلمة واحدة ،وتراجعت إلى حيث يجلس ابن شقيقتها ثم وبعد همسٍ سريع غادرا المكان وكانت السماء تهطل مطراً وقنابل ولم يهتم الفتى بصياح الموجودين حوله فأخرج خالته ورحلا.
خالة حَمَدّ حُضْنُه الذي استلمه بعد زواج أمه من رجل من البادية المجاورة ورحيلها معه، أخذتْ معها الدربوكة وتركت لحمد الزمّارَة وخالة مُحِبَّة.
يُتم حمد زاد فداحةً بعد رحيل والدته. أخبرته أنها أدت ما عليها نحوه
وأنه آن الأوان لتعيش وأنها راحلة خلف قلبها وقد تهاوى على يد رجل بدوي يجيد عشق النساء، فلا يبقي على قلوبهن إلا وقد ضمها إلى ممتلكاته برضاهن الكامل ، وقد تناقل الناس عنها أنها غنّت في فرح خارج درنة:(مقْعَد يوم مع اللي غالي يسوى عشر اسنين اطوالي)*!! ،ثم شاركت في رقصة تؤديها النساء أمام الرجال هناك و جرى ما جرى ولم تعد أم حَمَدّ كما كانت. هكذا تناقل الناس القصة وربما أضافوا صوراً يحبونها من عندهم فاتسعت الرواية وضاقتْ على قلب حَمَدّ، فكَرِهَ صحبة أمه إلى حيث زوجها الجديد .
أخبرته وألحّتْ أن (درنة) صارت مدينة الخوف والموت، رجته أن يرحل معها. لكنه رفض فهو لا يعرف العيش خارج المدينة، ثم تساءل: كيف يرحل بلا قلبه
الذي سلبته عويشه، وهو لن يسترده على كل حال.
قلب عويشة الذي يشتعل الآن جمراً
يشبه جمر النيران التي تشعلها قنابل الطائرات في بيوت المدينة التي كانت آمنة مطمئنة.
قلبها الذي تمنى حرباً لا تنتهي لتجاور الحبيب في كهفٍ يقيهما هولها ويحمي حبهما ليبقى مابقيَ الوَنس الذي يضفيه حَمَدّ لروحها وكيانها كله.
عويشة التي ما أخفتْ وجيبه عن أحد. عويشة التي أخبرتْ عن كل نبضة تحسها كل من تعرفه، وكل من تعرفهم سردوا قصتها مع حَمَدّ وانتشر الخبر في المدينة وما جاورها وصارت قصتهما على كل لسان غرام عويشة وحَمَدّ
الذي لقّبه الناس (حَمَدّ عويشة) فصار هذا اسمه وكُنيته.
لم تنته الحكاية بعد
محبوبة خليفة.
*الحقاف:جمع حَقْفَة وهو الكهف أو المغارة.
*الفنار:يستعمل للإضاءة*
*عباتين:ومفردها :عباه وهي العباءة الشتوية ويلبسها الرجال عادة.
*رمَتْ:تعبير ليبي بمعنى ألقت نظرة يائسة
*(مقْعَد يوم …..)معنى الأغنية أن وجود الحبيبة يوم واحد مع من تحب يعادل عشر سنوات طويلة، وهي أغنية شهيرة في شرق ليبيا.