د. كاميليا عبد الفتاح - العَنُود...! - قصة قصيرة

-1-
رقصتْ في عُرس زوجها " سلطان " بكل أشواقها إليه .. بكل ما تحملُ الأنثى من الوجدِ المقهور و الغيرة العاجزة .. كانت تتلَّوى أمام ( الطقاقات ) بلوعةٍ ، كأنَّ أحدا ينزعُ أحشاءها..ترقص .. لا تتوقف . بدا الرقصُ كأنه حيلتُها الوحيدة وحروفُها الفصيحة ، أمّا حين شَدَتْ المغنية : " الأماكن كلها مُشتاقة لك " فقد ارتعش جسدُ " العنود " بجنونٍ غجريٍ .. انفجرت ملامحُ وجهها الجميل بمكبوتٍ معتّقٍ من الحزن والأسى واللوعة .. خلعتْ حذاءها ..أطاحتْ به في استهانةٍ ؛ فكاد يقعَ في مرمى العروس التي تكوَّرت حول نفسها من التوجّس حتى أوشكت على الاختفاء في مقعدها . فكّت العنودُ شعرهَا الفاحم من عقاله - وشعرُها لا يشبهه في السواد إلَّا ليلُ المعرّي ولا يُشبهه في الطولِ إلَّا ليلُ امرئ القيس - تناثرت الدبابيسُ منه في وجه زوجها وعروسه وكثير من المدعوين .. كانت تهزُّ كتفيها في ارتعاشةٍ عجيبةٍ حادةٍ كأنها تحاولُ أنْ تُسقطَ شيئًا يُصرُّ على البقاءِ فوقهما .. تدور حول نفسِها ..تتثنى كأنها بلا عظام ، شديدةَ الشبه بتلك الشاة المذبوحة التي أوثق الرجالُ قدميها الأماميتين والخلفيتين وغرزوا فيها سيخًا حديديًّا ، شقَّها من منتصفها وأداروها فوق النَّار المشتعلة في الخيمة القريبة من قاعة العرس، فاقتحم دخانُ شوائها صدورَنا .
أشعل رقصُها قلوبَ ( الطقاقات ) ، فوثبن حولها ينفضن الدفوف التي شُدَّتْ عليها جلودُ الشِّياةِ والحملانِ ، كأنهن يُحَرضْنَها على أقصى ما تستطيع الوصول إليه من بوحٍ ..من بكاء .
• كان " سلطانُ " مَشدوهًا يحدقُ في وجه " العَنُودِ " الفاتن كَمن يراه و يراها للمرة الأولى .. كانت عيناه تنتقلانِ في افتتانٍ ما بين خصرها وشعرها الذي التفّ حول وجهها كأنه هودجٌ عرسٍ بديع . وحين تساندتْ " العنودُ " علىَّ ، وتقدمتْ نحو العروس تُهديها طاقما ثمينًا من الذهب - كما تقتضي التقاليدُ - تركتْ عينيها في عينيه ، قال متهدجًا : " فديتِك .. " ، وكأنه حين قالها قد تقدَّم لطلب الزواجِ منها لأول مرة ، ارتعشت شفتاها في ولهٍ ..صارت وجنتاها في لون الشموع الوردية التي تناثرتْ في أرجاء القاعة .. سكنها وجدُ الدراويش فحملتْ إحدى المباخر القريبة التي تفوح بروائح عبد الصمد القرشي ، دارت بها سبع دوراتٍ حول رأسه تتمتمُ بما لم يسمعه أحد منّا ، لكن ابتهالاتها وبخورها اختطفا " سلطان " ، أوقفاهُ بعد منتصف الليل على بابِها يدقّهُ ، يرجُوها أن تكون هذه الليلةُ ليلةَ زفافه عليها لا على عروسه الجديدة التي جلستْ تنتظره في غرفة الفندق ، وقد ظنّت أنه يُبدل عباءته التي تساقطَ عليها بخورُ " العَنُود " .
كانت الجارات والقريبات ينصتن إلىَّ بينما استغرقت العنودُ في ربطِ شعرها بإحكامٍ وتغطيته بطرحة حريرية سوداء .
أخت سلطان وهي تُلقي بعض البخور في المبخرة : ما ننسى هاذي الليلة...كنا نجلس قريبين من سلطان .. فانتبهتْ له وهو يناظر في العنود ورقصها ، ويسألني : مين هاذي؟ أقول له : هاذي العنود .. يقول : أي عَنُود ؟! أقول : العنود زوجتك ..! يقول : لا تسخرين مني.. الله يرحم والديكِ .. !
قالت أم سلطان : زَهَمْني سلطان ..قال لي : يمَّي ، مين هاذي الحُرْمَة الجميلة اللي ترقص ؟ أقول له : بسم الله عليك .. ما تعرف زوجتك يا سلطان ..الله يهديك ؟!. يقول : يمّي : ما تخرَبِطِين عقلي .. هاذي ما هي العنود .
نبشتْ عجوزُ الدَّيرة الأرض بعودَ شجرة يابسة كأنها تفتشُ في قلبها عن شيء ضائع : مساكين هادُول الرجال .. ما يتذكرون .. !
تجرعت أم سلطان ثمالةَ فنجان قهوتها المرة : والله إنِّك صاادقة . قلت له في حسرة : والله مَنَّكْ عاقل يا سلطان ..تستدين وتتزوج حُرمة جديدة كل شِوَي ومعك العَنُود زينة الدّيرة ..؟! إيش تسوي إنت ؟! تظن إنهم يقولون عليك فَحل الرجال ؟! أبوك الله يرحمه كان يظن هذا مثلك .. كان يجيني بالحرمة ورا الحرمة لِين مات وخلَّى وراه أربع حريمات وعشرين ولد وبنت يَبُون التربية والصحة والمال . والله إنك مِلَسْلِس وعقلك مِخَرْبِط يا ولدي .. الله يُستر بس .
قالت خالةُ العَنُود في تردد وهي تنظر للعنود التي كانت تحدقُ بشرودٍ في مبخرتها : لمَّا اتزوج الثالثة وهُو بَعدْ مديون من زيجته الثانية ، قلت له : إيش السالفة ؟! عن إيش تدوّر يا سلطان ، مين هِي الحُرمة اللي تبِغْاَها وما وِصِلت لها للحِين ؟ ! يقول : ما آبي إلَّا العنود .. العنود اللي رقصتْ لي ذيَّاك الليلة وبخّرتني ..أَبِيها والله ..ما آبي العنود اللي كانت في الأول تجلس في البيت صامتة تستحي مني ..ما تناظر فيني ..ما تلبس لي ..ما تتزيّن لي مثل ما تسوّي لضيفاتها ..حتى لما خَدنا شهر العسل في باريس.
صحت فيه : كنت تخليها وحدها يا سلطان في جدران الفندق وتروح تسهر مع إخوانك في المطاعم والكافيهات . يقول :
لأنها تجلس صامتة ما تسوّي شي ..ما تنفعل بشي ..أقول له : بس إنت يا ولدي بتضيّع العنود منك كل ما تتزوج حُرمة جديدة .. يقول : ما حسِّتْ فيني لين تزوجت عليها ..كنت بتوقع إنها بترقص لي وتبخرني كل ما اتزوج ...ترى إني أحبها والله .. وين العنود اللي رقصت وغنّت مع الطقاقات ..؟ وينها يا الخالة ؟
-2-
بلغَ جمالُ " العنودِ " أقصاهُ حين سُجن " سلطان " لعجزه عن سداد ديونه التي تراكمت عليه بسبب زيجاته المتوالية و تطليقه لكلّ من تزوج بهنّ بعد شهر أو شهرين من الزواج .
كانت العنودُ تستعدّ في كل زيارة له استعدادَ العروس ليلة زفافها ..تسافرُ من ( ديرتِها ) إلى الرياض ، حيثُ أمهرُ الماشطات و ( الكوافيرات ) الإندونيسيات اللَّائي لم يكن أمامهنَّ إلَّا فراق أزواجهنّ ليفزنَ بفرص العمل في المملكة .. التفَفنَ حولها كأنها في ساعة مخاض ..نقعنَ جسدها في منقوع الكادي .. أنعشْنَ وجهها بالحمامات المرطبة.. أجرينَ خيولَ شَعرِها في حمامات الزيوت والكريمات ، بدت العنودُ عروسا مجلوة ، ارتدتْ ثوبًا زُهريًّا مكشوفًا ، أرسلتْ شعرَها عراجينَ نخلٍ على كتفيها العاجيَّتين ، وضعت مكياجا أبرزَ مفاتن وجهها ، صبغتْ شفتيها باللون الأحمر القاني الذي يحبه سلطان لأنه يبرزُ جمال فمها الممتلئ المستدير كقبلةٍ ثائرة ، ارتدت عباءتها السوداء ، حملت حقيبتَها التي خبّأت فيها مبخرتَها وبخورَها ، هرولتْ حتى لا تُضيّع دقيقة واحدة من الساعات الثلاث المسموح بها في خلوتها الشرعية بسلطان .
كنَّا ننصتُ لأم العنود ونحن نحتسي القهوة المرَّة التي سُكبت في فناجيننا بعد غليانها ، أبعدت خالة سلطان صينية الحَلا التي بدتْ كأنها مُحرّمة علينا :
ما قِدِرنا نشوف سلطان في السجن مع الغارمين ، كل رجل في القبيلة ساهم على قدر سعته ، حملنا المال للدائنين ، اترجّينا فيهم ليِن قبلوا وصفحوا عنه ، واليوم بمشيئة الرحمن يخرج سلطان من السجن ويعود لديرته وقبيلته وداره . غمزتْ بعينها للعنود :
ويعود للعنود الغالية . ..
قفزت العنودُ من مكانها كالملدوغ ..دقَّت صدرها في فزعٍ : إيش تقولين يا خالة ؟ تقولين سلطان بيخرج اليوم ؟
- قول لي إن شالله يا بنيتي .
صرخت ..دارت حول نفسِها : كيف بيخرج يا خالة ؟ ما هو من العدل إنه يخرج يمِّي .. ما تخليه يخرج يا عمّتي ، سلطان كان لي وحدي لمّن كان سجين .. ذا الحين بيضيع مني .. ما تطلقون سراحه ..
دُرنَ حول رأسها بالبخور والرُّقى ، تلوّتْ بلوعةٍ كأنَّ أحدا ينزعُ أحشاءها .. دارتْ.. ترنّحت لاهثةً ، لا تجدُ أنفاسها ..كأنها سُرقت منها .. انفجرت ملامحُ وجهها الجميل بمكبوتٍ معتّقٍ من الحزن والأسى واللوعة .. كانت تهتزّ في ارتعاشةٍ عجيبةٍ حادةٍ كأنها تتبخّر وتتلاشى .. شديدةُ الشبه هي بتلك القهوة الصفراء التي كانت تغلي أمام أعيننا فوق جمراتِ الفحم وقد أثقلَ جوفَها ما حملتْ من لذعة القرنفل ومرارة الهيل ...

..................................................
من المجموعة القصصية " جبال الكحل " ، اتحاد كتّاب مصر 2020م .






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى