د. زهير إبراهيم سعّود - الكثافة بين الحلم والأدب.. (٢)

(...٢...)
عندما تكلمت بوقائع حلمي للذين أصاخوا السمع بعناية فائقة لم أخش نعتي بالهلوسة والتجديف والمرض النفسي، فالحلم حقيقة متوارثة بالرغم من محتوياته غير المألوفة في أساليب الخطاب والتواصل بين البشر، بل إن جميع الذين وصلهم خطابي شغفوا على التأويل والإقرار بحقيقة المشاهدة، مستعينين على ذلك بذاكرتهم الحفظية وما مرّ على تلك الذاكرة من تفسيرات "ابن سيرين" وبعض النسّاخ والشيوخ وفلاسفة العقل والمنطق، فبعضهم عكس ثقافته الدينية الغيبية، وبعضهم عكس ثقافة عقلية رياضية لا تؤمن بغير المحسوسات وعلم الإدراك. لقد أتحفوني بتفنيدات كثيرة مختلفة للمروي، كما لو أنهم قرّاء حقيقيون لقصّة قصيرة جداً قابلة للتفكيك والتوليد، فكانت تطربني تفسيراتهم التي أخرجتني عن رهبة المرئي، للتنعّم بجمالية التأويل وتنوّعه حسب مشارب ثقافاتهم المتعددة. ها هنا تتضح العلاقة الخاصّة بين كاتب النصّ القصصي القصير جداً أو الحالم الراوي وجمهور المتلقين، الذين قبلوا الصورة التعبيرية وفسّروها من خلال وعيهم الخاص ومرجعياتهم الثقافية، أضف للأمر قبول الصيغة اللفظية الخاصّة (التعبير بالحكي) والتي دمجت عوالم
مختلفة، نطقت بدون تقييدات لغوية لمستويات النقل الخبري، والتسلسل الإنشائي، واعتماد البيئة اللغوية العادية، كمرجعية لغوية في الإبلاغ. بل وضح فيها الخروج عن طرق صناعة الرمز المألوفة، ليحلّ مكانها التجديد في صناعة الرمز الإنشائي، واعتماد بيئة لغوية خاصّة بالحلم أو النصّ ندعوها باللغة الأصلية، وهي أصلية لأنها مبتكرة للمعنى.
لقد حقّق انتقال الحلم من فراش الحالم لإدراك المتابعين عملية اقتصاد لفظي مبني على التداخلات الصوتية، والحدثية الزمكانية، وتوتير الأفعال السردية المتعالقة، والاستعاضة عن الحكي بالتعبير الإيمائي في الحلم، وعلامات الترقيم بالقصة.
فالكثافة الواسمة للحلم والقصّة القصيرة جداً تم الإعراب عنها بكثافة لفظية متخصّصة للإبلاغ، سواء تعلّق الأمر بنقل المشاهدة البصرية التخييلية أو التعبير عنها بالملفوظات الصوتية، فالمنطوق حركة كثافة لفظية رافقها انطباعات ذهنية تصويرية قائمة على كثافة المشهد، وذلك يجلي معنى الكثافة اللفظية في التعبير عن الحلم أو القصّة القصيرة جداً، والكثافة اللفظية أحد وجوه الكثافة في الحلم أوالقصّة...
لقد أبرزت لنا الكثافة وجهيها الظاهرين: المشهدي واللفظي، فما بقي هو وجهها الثالث "الباطني" والمركزي وهو الأهمّ، لأنه يمنحنا القدرة على فهم ما يحدث أمامنا من تعبيرات لفظية ومشهدية تمّ اعتمادها في الإبلاغ. إنها الكثافة "النفسية" القائمة على مبدأ "الإزاحة"، فهي نفسية لإن مصدرها علم النفس الفرويدي، كما أنها مركزية لأن جميع الكثافات التركيبية والابتكارات اللغوية في ميادين تطبيقاتها الحداثية على الفنون وإيصالها نشأت عنها، مثل لغة الإيحاء لهلمسليف، وتفكيكية جاك دريدا. إن مفهوم الكثافة النفسية بالخاصّة هو المفهوم الأكثر تعبيراً عن إنتاجية الحلم والقصّة في توليد المعاني، ذلك لأن الكثافة النفسية تقوم على الإزاحة بالحلم يقابلها الشطب والإرجاء في تفكيك النصّ أو إضافة معنى مبتكر في الإيحاء. فالإنتاجية التأويلية مداليل غير مألوفة للدوال اللغوية، تمّ الإفصاح عنها بانفعالات الراوي والمتلقي، وهي انفعالات شعورية "لا شاعرية" لأنها تقوم على السرد فلا تنشغل بالمحسّنات البلاغية والصور التنميقية. وحتى تتضح الفكرة نذهب لنماذج تطبيقية من حلمي وقصة للبيع للكاتب الأمريكي همنغواي "للبيع: حذاء طفل، لم يلبس قطّ". ففي كثافة الحلم تمّت إزاحة شكل العين المألوف ليحلّ مكانه "لفافة حلاوة الجبن" وفي نصّ همنغواي تمّت إزاحة المستقبل ليحلّ مكانه "الحذاء" والسؤال المطروح هنا: هل عملية الإزاحة كيفية أم أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظام إشاري إحالي يمكننا من تحقيق الدلالة والمعنى، فلنبدأ بالحلم لأن ظاهرته أصل الكثافة ومعه يبدأ المحلل النفسي بالاستفسار عن أصل تحوّل العين للفافة حلاوة الجبن؟.. وكيف أصبحت ثلاثة عيون؟.. إحداهما علوية فوق الرأس والأخريات على الجوانب؟. لقد أنهيت قبل حلمي بأسبوع كتاباً أردّ فيه على كاتبة مصرية تهجّمت على فئة إسلامية من أتباع الطرق الصوفية، والفئات الصوفية هم أصحاب "العين الثالثة" وهي العين الداخلية المدعوّة بعين القلب أو عين العقل، ومكانها أعلى من العيون الجانبية كما نراها في رأس "شيفا كمبودي" فهي عين التأمل والمرتبة العظيمة. فالدفاع عن الصوفية أظهر إحدى خصالها في حلمي بتنشيط الذاكرة العميقة لما ندعوه باللاوعي، واللاوعي هو نشر للمحفوظات الواعية المتراكمة بطريقة غير منسّقة وبدون تدّخل الوعي، إنها ملهم أصحاب "التناص" في الكتابة الإبداعية حيث كل كتاب هو إعادة ترتيب للمحفوظات الراسخة من فعل القراءة بفعل الكثافة. هكذا وضح لدينا مصدر العين الثالثة وسبب موقعها في الحلم، فما بقي هو تحول كرة العين للفافة حلاوة الجبن!. لقد تركني الأمر بحيرة من أمري ودأبت على التذكّر حتى وجدت الحلّ!.. فمنذ أيام خاطبتني صديقة عزيزة عبر وسيلة التواصل الاجتماعي وأعربت عن رغبتها في زيارة قريبة وطلبها تحضير حلاوة الجبن لاستقبالها، ثم أرسلت صورة لوعاء يحتوي قطعاً من الحلاوة لفتني فيه حينها كمية الحشوة البيضاء التي ظهرت في مقدمة إحدى القطع، وبعد تذكّري للحدث ذهبت للصورة التي احتفظت فيها، وقمت بعدّ القطع التي كانت ثلاثة!.. لم أنتبه لعددها وقت إرسال الصورة؟.. لقد مرّ عدد القطع على ساحة الرؤيا واحتفظت به الساحة البصرية الانطباعية دون تدبّر الوعي للأمر، وبذلك تمّت عملية الدمج بين العين "الصوفية" الثالثة والقطعة الثالثة من محتويات الوعاء، والبياض أمره راسخ في ذهني لمشاهدتي الأعصاب وعقدها والارتباط الصميمي بين العيون والدماغ الأبيض المتعرّج (المتشابك).
فمكونات الحلم سببها كثافة المرئيات والمحفوظات المترابطة، والتي أعادت ترتيبها وإخراجها شاشة اللاوعي بمبدأ الإزاحة، الذي قابله في التأويل تفكيك البيئة اللغوية الخاصّة للمشاهدة بآلية ارتجاعية حملت المبدأ ذاته، لبلوغ المعرفة بمقصد الحلم وآليات تشكيله...

يتبع



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى