خديجة مسروق - رواية "الساق فوق الساق" أنموذجاً.. المحظور الجنسي في أعمال الروائي أمين الزاوي

كان الشعر في العصر الجاهلي أداة للتعبير عن التجارب الإنسانية المختلفة، وفسحة يجول فيها الشاعر بكل جوارحه، ملامساً بعض الموضوعات الحساسة، مستعيراً كل الألفاظ التي من شأنها أن توصل رسالته إلى الطرف المقصود.
فتغنى الشاعر العربي بالمحبوبة، ووصف حبه لها وصفاً دقيقاً، وتغزل بها حتى وصل في ذلك إلى أقصى درجات المجون في بعض أشعاره، إلى أن تهذب الشعر بمجيء الإسلام، وفي عصر النهضة ظهر جنس أدبي جديد وفد من الغرب، وشهد بذلك الأدب العربي ميلاد الرواية، فتبناها العرب واختاروها جنساً أدبياً يستوعب كل الموضوعات والتجارب الإنسانية.
ومع الحداثة، خلع الروائي العربي عباءة العمومي في معالجته للواقع، ودخلت الرواية العربية مرحلة أخرى عرفت فيها أنماطاً جديدة من الكتابات تختلف عن المرحلة الكلاسيكية.
عمل الروائي العربي على بناء آفاق معرفية تتطلع إلى المستقبل، وترفض التقليد في صورته الكلاسيكية، التي تتعارض مع روح العصر، إيماناً منه (الروائي) أن الإبداع يجب أن ينطلق من المخالف للسائد والمستهلك.
فما هي أبرز الموضوعات المطروحة في الرواية العربية الحديثة والمعاصرة؟
وهل تجد هذه الموضوعات إقبالاً من طرف القراء؟
ولماذا يقتحم الروائي العربي اليوم الموضوعات الساخنة؛ هل لضرورة فنية أم لغاية ترويجية؟
كان للمد الحداثي (الغربي) أثره الواضح على الكتابة السردية العربية، حيث انتقل الروائي العري من النمط الروائي الكلاسيكي الذي يلتزم بالواقعية المحافظة، إلى النمط الأدبي الحديث الذي يجنح إلى غير المألوف.
امتزج الخيالي بالواقعي ضمن المشروع الروائي التجريبي، وأصبح التجريب الروائي ضرورياً، وعاد الروائي العربي من جديد إلى الكتابة في مختلف الموضوعات التي كانت متداولة سابقاً (في المرحلة الكلاسيكية) كالتراث التاريخي والديني والأسطوري ...، وتوظيفها توظيفاً حداثياً.
وظل (الروائي) بعيداً عن الكتابة في الموضوعات المحرمة في العرف الأدبي، على اعتبار أنها تخدش الذائقة الأدبية لدى القارئ، كالمحظورات الأخلاقية، إضافة إلى المحظورات السياسية والدينية التي استبعدها الروائي من إبداعاته، لخلفيات تتعدد أسبابها ومرجعياتها.
غير أن هناك من الكتاب العرب من أحدث ثورة في الكتابة الروائية، بالتمرد على العرف الأدبي والاجتماعي وحتى الديني، باختراق "التابوهات" الممنوعة؛ فنجد الروائي القدير رشيد بوجدرة، على سبيل المثال لا الحصر، يعترف أنه كان أكثر الروائيين جرأة بإدخال الجنس للرواية (الجزائرية) بعمق وتفصيل.
وعلى الوتيرة نفسها سار على نحوه عديد من الروائيين العرب)، ممن اعتنقوا المذهب نفسه، فوظفوا المحظور الجنسي في كتاباتهم الإبداعية، لعل من أبرزهم الروائي الجزائري أمين الزاوي، الذي راهن على موضوع الجنس في أعماله الروائية.
فكيف كان توظيف الزاوي للمحظور الجنسي في أدبه؟ وكيف تمّ التعامل معه؟
تجاوز الروائي أمين الزاوي السائد في الثقافة العربية في أدبه، باختراقه "تابو" الجنس الذي كان ولا يزال من الموضوعات الحساسة في الأدب العربي، لا يقترب منه إلا من امتلك الجرأة الأدبية في الكتابة.
فإذا كانت ممارسة الجنس تتم في الخفاء لا في العلن، فالزاوي عمل على كشف هذه الممارسة في كتاباته، وتعرية ما يحدث في عوالم الجنس الذي ينتمي إلى الثقافة المكبوتة حسب التعريف "الفرويدي"، زاعماً أن ذلك يعزز من العملية الإبداعية، ويحقق التنوع الموضوعاتي الذي يأمله القارئ، وعلى اعتبار أن الجنس أيضاً موجود في حياة الإنسان يمارسه بصورة تخضع للسياق الديني والاجتماعي والثقافي الذي ينتمي إليه الفرد.
وإذ كان نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما وظّفا الجنس في أدبهم توظيفاً دلالياً، فالروائي أمين الزاوي وظّفه في صورته المباشرة من دون تحرّج في ذلك.
من بين أعمال الروائي أمين الزاوي نتناول رواية "الساق فوق الساق" أنموذجاً تخطّى فيها المحظور الأخلاقي بالوقوف على ما يحدث في عالم الجنس من تجاوزات سكتت عنها الثقافة العربية.
يحتفي الروائي أمين الزاوي في روايته هذه مثلما عُرف في أغلب رواياته بالجسد "باعتباره بؤرة للتجلي العملي والغريزي والوظيفي والثقافي، يعيش بشكل دائم تحت التهديد المستمر للاسعمالات"(1)، فالجسد أداة للإثارة ووسيلة لتحقيق المتعة الغريزية.
(ميمونة)؛ الشخصية المحورية في الرواية، أطلق عليها الروائي عدة أسماء (زليخا اليهودية. فاطمة الزهراء. ميمونة). عُرفت بلسانها السليط، وتبرجها حدّ السفور. زوّجها والدها من دون مشورتها في سن مبكرة. لا تشعر نحو زوجها بأية عاطفة، فـ"كانت ترى فيه منذ الليلة الأولى الرجل الذي تنتهي علاقتها به مباشرة بعد مفارقته فراش الجنس... كان إله السرير، فقد كان غزير الشهية الجنسية"(2). كانت (ميمونة) بالنسبة لزوجها مجرد جسد يحقق من ورائه متعته الجنسية لا أكثر.
عاشت (ميمونة) في قرية (قصر المورو) الواقعة ضواحي تلمسان. كانت تمارس حريتها في البيت وفي الشارع ضاربة عرض الحائط بقواعد العرف الاجتماعي "بخلخالها الفضي. برنينه المثير وهو يرتجف حول قدميها، وساقها المكشوفة قليلاً بإغراء أنثوي"(3).
لم تمتثل (ميمونة) يوماً لأوامر العائلة (الأب والإخوة). اتخذت بعد وفاة زوجها من تحت شجرة التين الموجودة أمام بيت والدها مكاناً لإغراء الرجال، وإثارة غرائزهم برنة خلخالها، التي تصل إلى الطريق فينتبه المارة، فيجيئون عندها جماعات وفرادى.
(عياش) الملقب بـ(عويشة)، كان يرتدي عباءة نسوية، والسبب أن أحد العساكر الفرنسيين خطف زوجته، واعترافاً منه بفقدان رجولته، وأمام هذه الحادثة عدَّ نفسه ضمن خانة الإناث يقلدهن في كل شيء ويلبس لباسهن.
تزوجت (ميمونة) (عياش)، وفي أول ليلة من زواجهما اختفى (عياش) حيث لا رجعة، ودخلت (ميمونة) في حالة جنون متعمد، تخلع عنها ملابسها، وتسيح في أرض الله، متخذة من النهر المحاذي لقريتها ككوثر تطهر فيه جسدها من الخطايا والذنوب.
عرفت ميمونة البغاء لفظاً وممارسة، وأغرت عشرات الرجال. أحبها ابن أخيها (بوطشل العريان، سمي بهذا الاسم نسبة إلى الحلزون العريان) إلى درجة العشق. وصف الروائي (بوطشل) عاشق عمّته.
بهذا يقفز (الروائي) على القيم التي جاءت بها الأديان السماوية والأعراف. فـ(بوطشل) متيّم عاشق لعمّته؛ "أحب عمتي ميمونة، أعشقها، أريدها زوجة حين أصير رجلاً"(4).
العشق شعور يقتحم قلب الشاب (الرجل) فيحب امرأة من غير محارمه. فكيف لـ(بوطشل) أن يعشق عمته، وهو الناضج الذي يبلغ الرابعة عشرة من العمر كما جاء في الرواية؟! والعشق كما هو معروف لا يحدث إلا بين رجل وامرأة أجنبيين. وقد عرّفته القواميس اللغوية بأنه الغرام، ويقال شاب عاشق أو ولهان يحب امرأة غير زوجته (يمكن له أن يتزوجها).
الشذوذ السردي الذي عمد الروائي على الاشتغال عليه يتقاطع فيه مع عقدة أوديب، تمثل في الشبق الأوديبي الذي تجسد في اللازميتين (بوطشل عاشق عمته) و(أنا عاشق عمتي).
(سكينة) شخصية أخرى نسوية جاءت في الرواية، تزوجها (إدريس) قبل أن يهاجر خلف الضفة ويعيش حياة عبثية متردداً على الحانات ودور الدعارة، يشتغل قناصاً يغوي زوجات وعشيقات المسؤولين العرب، حتى يقعن في شباكه. تكبره (سكينة) بثمانية أعوام، "من ليلة وصولها إلى السرير تقمصت صورة الأم. تطلب منه ما يجب القيام به وما لا يجب، من طريقة وممارسة الجنس إلى ساعة سقي الماء..."(5).
في "الساق فوق الساق" يخترق الزاوي الخصوصيات الشخصية للعائلات، ويقتحم جدران الغرف الزوجية ليكشف ما يقع خلفها ليخلق منها موضوعاً روائياً، يؤكد على الجرأة في الكتابة والشجاعة في الطرح في توظيفه المحظور الأخلاقي (الجنس) في الرواية بحرية، بالتمرد على المفاهيم والقيم التي تقوم عليها الثقافة العربية.
(اليامنة) أو (كوليت) من شخصيات رواية "الساق فوق الساق"، سارت هي الأخرى في طريق الرذيلة، وعرفت أصنافاً عدة من الرجال. كانت تعيش في قرية (قصر المورو)، وبعد أن حملت بطريقة غير شرعية سافرت إلى المغرب ثم إلى بلاد الغرب. وظفت جسدها سلعة تسترزق من ورائه، فالجسد تعده (اليامنة) نعمة وإثارة تعيش منه، ولا بد من الاعتناء به، فتختزل الكيان الأنثوي في مفهوم واحد هو الجسد الحامل للذة، وتلغي الوظيفة السامية للمرأة (الأنثى) في علاقتها بالرجل (زوجة وأيضاً أماً لأولاد يحملون اسمها).
ثلاثة أشكال للمرأة قدّمها الزاوي في الرواية، جسدت ثلاثة مفاهيم لا تخرج عن القاموس الجنسي (المتعة، العشق، الجسد)، فكانت المرأة بؤرة لتحقيق المتعة واللذة للرجل (الذكر)، وكما كانت رمزاً للعشق الذي عدته بعض الثقافات محظوراً أخلاقياً، والمرأة كجسد (سلعة) للاسترزاق.
تعد رواية "الساق فوق الساق" ضمن كتابة التعرية، باشتغالها على تقنية المحظور الجنسي بشكله المباشر، الذي أصبح ضرورة فنية وترويجية ضمن مغامرة الكتابة السردية، تستلزم الخروج عن القيم الأدبية السائدة، والتخلص من الضغوطات الخارجية (المجتمع) التي باتت تعرقل العملية الإبداعية.
فهل حقاً هذه الكتابات (الموضوعات) تساهم في تطور المنظومة الثقافية الخاصة بالإبداع الروائي، أم تؤدي إلى تقهقره وتراجع مستوى الكتابة الروائية العربية؟

خديجة مسروق (الجزائر)

المصادر والمراجع:
1- سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتقنياتها، منشورات الزمن مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط1،2003، ص 128.
2- أمين الزاوي، الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق، منشورات الضفاف، بيروت لبنان / منشورات الاختلاف الجزائر، ط1، 20016، صص 59-60.
3ــ الرواية، ص 79.
4ــ الرواية، ص100.
5 ــ الرواية، ص 24.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى