أربع رسائل إبراهيم أصلان الى محمد حافظ رجب

- أربع رسائل من إبراهيم أصلان الى محمد حافظ رجب

١

إمبابة 20/ مارس 66

أخي الحبيب حافظ
قبلاتي
وصلتني رسالتك التي هزتني شوقا. والحق أنني كنت قد تأهبت قبلا أن أقول لك الكثير بمجرد وصولها . ولكن- وهذا لسوء حظي- وصلتني الرسالة وأنا في حالة من حالات القلق المعتاد. لهذا تجدني تأخرت في الرد الذي أرجأته متمنيا فرصة ملائمة، ومرت الأيام، وخشية أن تطول، فآثرت أن أكتب لك هذه الكلمات القلائل، فأنا يهمني ألا تنقطع الرسائل بيننا مهما كانت العوائق.إن سفرك كان خسارة كبيرة بالنسبة لي، فالبرغم من أننا التقينا من زمن قريب نسبيا إلا أنني سأظل معتزا ما حييت بالإنسان والفنان الذي التقيت به وأحببته. ولولا أنني لا أجيد التعبير عن مثل هذه العواطف لقلت لك الكثير.لقد أسعدني للغاية أنك عدت للقراءة وأرجو أن تستمر وأن ترسل لي رأيك في (العالم سنة 1984) بالنسبة لطلب طبيبك منك أن تستمر في الكتابة ، أري أنه محق تماما في طلبه( خاصة من الوجهة العلاجية) وإن كنت أعتقد شخصيا أن هناك مرحلة جديدة بالنسبة لكتابتك لابد وأنها ستبدأ ، وفي اعتقادي أيضا انك قادر علي الانتقال إليها، وقد نتحدث عن ذلك سويا في مرات مقبلة، وعلي أي حال ما رأيك أنت؟

الحذاء أخذته من عز الدين نجيب الذي التقيت به في القاهرة. لا جديد في الوسط الأدبي بشكل عام . أما عني فأنا أواصل القراءة. مشغول هذه الأيام بإعادة قراءة (الدونكيخوته) ولكني للأسف لم أكتب كلمة واحدة من نوفمبر الماضي بالرغم من أنني متخم (ولكنه القلق يا عزيزي). في أوائل هذا الشهر (مارس) نشرت لي قصة (البحث عن عنوان) بمجلة (حوار) وقد أرسل لي مكافأة طيبة ذهبت في شراء أوراق للقراءة. وكان من نتيجة نشر هذه القصة أن أرسل ضياء الشرقاوي( لعلك تذكره) هذه الرسالة التي أرسلها لك بدوري لتقرأها وتعيدها إلي مرة أخري. إياك أن تغفل ذلك.

هل أنت بخير؟ وهل تسلمت عملك الجديد؟ وكيف حال الوالدة والبنتين؟ والدي ووالدتي وأخوتي يكلفونني أن أرسل إليك بتحياتهم. أكتب لي كل ما يمكنك يا حافظ، وسأعمل من جهتي علي أن أفعل ذلك. سلامي وحبي وقبلاتي وفي انتظار خطابك.

أخوك
إبراهيم اصلان

***************************************

٢
إمبابة في 26/8/1966

أخي الحبيب حافظ
قبلاتي وأشواقي الحارة لرؤياك
منذ دقائق وصلتني رسالتك الحانية، فشكرا لك. والواقع أن خطابي الأخير ـ الغاضب الذي طلبت أنت تفسيراً له، لم يكن المقصود به، كما جاء في آخر رسالتك أن المسألة (رياضية بيننا) بمعني (واحدة بواحدة) أو (رطل برطل) حسب تعبيرك، أبداً، أنا علي استعداد لإرسال أرطالي دون أن تصلني منك سوي دريهمات قليلة مثمرة تفيدني فقط بأنك في حالة جيدة. إن سبب ذعري من تأخيرك الطويل المدي عن الرد، يرجع إلي أن تاريخكم الحافل لا يطمئن، لذلك فأنا يهمني دائماً أن أعرف أنك بخير وكفي، علي أن يتم ذلك بوسيلة أو بأخري. والآن إلي خطابكم الأخير.

أنا مهتم جدا بنشاطك الذي تقوم به بالإسكندرية، وسيسعدني أن أظل متابعاً له، ولكن لي عليه ملاحظة أو اثنتان. أولا: أنا لا أريدك أن تدخل في منازعات علي الإطلاق، فليتم كل شيء بينك وبين الآخرين بهدوء وإلا فنحن في غني عن كل المنغصات والمعوقات. ولا تعتقد أن هذا الكلام من قبيل التثبيط لطاقتكم التي لن يثبطها شيء. ولكني ألاحظ أنك تقيم للآخرين أهمية غريبة. تأمل قولك: "وقد اقتضي مني ذلك تعبئة نفسية لمواجهة الآخرين" وذلك يصيبني بالدهشة. فنان كبير مثلك لا بد وأن يكون حريصا. يجب ألا نجازف بشيء، ولنا في التجارب العديدة خير هدي، وأرجو ألا تكون كلماتي هذه قد اكتسبت نبرة خاصة.

بالنسبة لقصتك (جولة ميم المملة) كان بودي أن أطلب منك إرسالها إلي "الجمهورية" لولا أني لاحظت أنها قد كفت أو قللت في الأيام الأخيرة من نشر القصص باستثناء الرديء منها: عبد الحليم عبد الله وفاروق منيب. كما أخذت تكثر من نشر ملخصات الكتب. لذلك خشيت أن تكون الفرصة أمام أي قصة تٌقدم ضعيفة إلي حد ما. خاصة والبساطي مثلاً ويحيي الطاهر لهما قصص موافق عليها منذ ما يقرب من عام. أما قصة أحمد هاشم الشريف فقد قال لي هو أن عبد المعطي حجازي هو الذي قام بنشرها وقال لي صبري حافظ إنه نجيب محفوظ، وقال آخرون إنه لويس عوض، ولا أستبعد أن نسمع في الأيام القادمة أن الذي قام بذلك هو "هوش منه" الفيتناميّ الشهير.

وأعود مرة أخري إلي موضوع "صباح الخير"، لقد ابتدأت في نشر القصص التي قدمت لها ترضية للشبان الغاضبين كما سموهم أثناء تقديمهم لأولي هذه القصص التي نشرت في العدد الذي صدر أول أمس، وهو كاتب جديد يدعي زكي هاشم علي ما أعتقد، وهي قصة متواضعة إلي أقصي حد.

وهناك رأي أحب أن أهمس لك به. أرسل القصة إلي "الجمهورية" في نفس الوقت الذي ترسلها فيه إلي "صباح الخير"، وفي نفس الوقت الذي تقوم إحدي الجهتين بنشرها، تكفي رسالة اعتذار إلي الجهة الأخري. كثيرون يفعلون ذلك، وأنا شخصيا لا أري أي ضير في أن نقوم به من فترة لأخري.

أما عن "روزاليوسف" فأنا لا أملك أية معلومات عنها. ولنحاول أن نستعرض معا المجلات التي يمكن أن نغزوها: صباح الخير، الجمهورية، المساء، المجلة (ولو أنها ستأخذ وقتا طويلا نسبيا)، روزاليوسف، الكاتب (لي قصة فيها في الانتظار)، الهلال (لك أن تتصور أنني أرسلت لهم قصة، وإن كنت أشك كثيرا في أنهم سينشرونها)، الآداب (وهي لا تدفع نقودا كما تعرف وقد ارسلت لهم آخر قصة كتبتها اسمها (التحرر من العطش) وأصدقك القول أنني أتمني ألا ينشروها حيث أريد نشر هذه القصة بالذات في مصر ولولا أن محيي الدين محمد ألح عليّ في أن أرسلها لما كنت فعلت، الحرية (ولمعلوماتك ارتفعت نسبة توزيعها بدرجة ملحوظة، الجميع يتحدثون عن ذلك)... وحاول يا أخي أن تتذكر معي.

لم أقرأ شيئاً في عدد المجلة باستثناء قصتك وقصة يحيي الطاهر عبد الله وضياء الشرقاوي، وأرجو أن أقرأ العدد كله، ولا أكتب لك عن قصتك وتعليق يحيي حقي فقط ولكن عن انطباعي عن العدد أيضا، وإن كان به ما يستأهل ذلك.

أزمة الحرية الذي تقرأه كتاب طيب فعلاً والبركة في عائلة الشاروني، وفي انتظار ايضاحاتك التي وعدت بها، وكذلك رأيك في بحيرة المساء.

منهك في هذه الأيام الحارة بقراءة كميات كبيرة من الكتب الحضارية. آخر عمل أدبي قرأته هو كتيب صغير يسمي (الانهيار التام) لكاتب إيطالي يسمي مالابارته. الكاتب يقدم فيه انطباعات شديدة الحدة عن الحرب العالمية الثانية التي اشترك فيها كمراسل صحفي. هذا الكتيب ممتلئ بالصور المذهلة، أرجو أن تطلب مني نسخة واحدة من هذه الصور في إحدي رسائلك القادمة. توجهت اليوم إلي مجلة "المجلة"، سيمنح المبلغ ابتداء من باكر، وهو عشرة جنيهات ويجب عليك (إذا ما أردت أن تحصل عليها أن تفعل الآتي: كتابة توكيل، ويتوجه حامل التوكيل إلي المجلة حيث يقوم يحيي حقي باعتماده، وعلي هذا يمكنه تسلم الشيك من (19ش سعد زغلول ـ أمام مطابع الشعب: الدور الثالث). ثم يقوم بتظهير الشيك. أي كتابة اسمك علي ظهره (باعتبار أنك الذي ظهرته يعني)، والتوجه به إلي بنك القاهرة (5 ش طلعت حرب ـ بجوار سينما راديو) ويتسلم المكافأة. ثم يقوم هو بتبديدها.

تحياتي لكم إذن وقبلاتي للبنتين وتحياتي للسيدة الوالدة وإلي لقاء قريب في رسالة قادمة وتقبّل أخلص الحب من أخيك
إبراهيم أصلان

***************************
٣

إمبابة 13 يوليو 1969

عزيزي حافظ
قبلاتي
أدرك أنني أغضبتك لعدم ردي علي رسالتيك الأخيرتين. لقد أسمعت في هاتين الرسالتين إلي صوتك القديم الملتهب ، يعود ويحرك في داخلي أكثر من شئ. ورحت أعد نفسي للكتابة إليك، وللرد _ ربما بصراحة مطلقة وجريئة- علي كل ما ألقيت عليّ من أسئلة. صدقني.

ما الذي حدث إذن؟ ولماذا لم أكتب إليك علي الرغم من أنها كانت فرصة حقيقية لإعادة الحوار- الذي صمت- والذي كان يدور بيننا في أيام عزيزة ماضية. لقد حدث، أيها العزيز، أن ازددت حزنا. إلي الحد الذي جعلني لا أستطيع كتابة تلك الرسالة التي كنت أعد نفسي لها؟ لماذا؟

خلال الأيام الماضية، ودعت صديقا عزيزا، تركني. سافر إلي قطر بلد المال والفرص المتاحة. هذا الصديق هو الأخ العزيز جدا، وأحد الآمال الصامتة (محيي الدين محمد) رفيق الأحزان المشتركة.

ولكل ما ينطوي عليه رحيله من دلالات ، ولكل ما كان يمثله محيي الدين محمد من معان وجدتني بحاجة إلي أن أنفرد بنفسي قليلا. وهكذا قضيت اياما قاسية خلال الفترة الماضية. وهأنذا أعود مرة أخري..فمعذرة.
إبراهيم أصلان

*********************

٤
إمبابة في 17 إبريل 1966

أخي الحبيب حافظ
تحياتي وقبلاتي
معذرة لتأخري في الكتابة إليك. لن أبدي هنا الأسباب، لأني أعرف أنك ستقدرها. فمعذرة مرة أخري.

المهم أن حصيلة الأيام القليلة الماضية كانت لابأس بها. غَيرت من اتجاه الريح قليلا. وكما أسهمت رسالتك التي حملت صوتك الدافئ ومحاولاتك في تبديد ما تبقي من غيوم. إنني أحتفظ بهذه الرسائل.

قضيت الأيام الأخيرة في تفكير متصل. وإنني ليدهشني ذلك التناقض العجيب في تكويني. جدية مؤرقة تهديني في بعض الأحيان قليلا من الحقائق التي تخلق فيّ إحساساً طيباً بالراحة والزهو. ولا تلبث الرغبة أن تشرد بي ـ هكذا بلا مناسبة ـ للضحك من هذه الحقائق ومن كل شيء آخر. فما هذا أيها الصديق العزيز. وكيف أنت؟

قديما قال أحد الرجال الذين فكروا كثيرا، ولعله (بنديتو كروتشه): (إن الحقائق تجري في الشوارع كما تجري النكتة).

حسن إذن أن تخرج في نهاية كل شوط بما يضحكك. إنه جزاء عادل . ولكن أشك في هذا كثيرا. فليست الأشياء مضحكة في ذاتها. ولكن الأمر موقوف علي تلك الطريقة التي ننظر بها إلي هذا الشيء أو ذاك. وإنني أجد ذلك محرجا للغاية.

لكم أود أن أغير كل شيء من حولي. لا تضحك. أكلمك جادا فأنا مقتحم ولا أشك في قدراتي، وإنما أشك في الطريقة التي تستغل بها هذه القدرات. إن قلقي الذي حدثتك عنه لم يكن تخاذلاً أو شيئاً من هذا القبيل. لقد علمتني سنوات الصمت شيئاً طيباً بلا شك. ولكن هل يعني هذا أنني أدفع تهمة القلق عن نفسي، لا بالتأكيد. فأنا حزين وأحزاني المضحكة أعمق من أن تشفيها أيه إجابات عابرة.

إن عالمنا المعاصر يصادر طاقات أبناء هذا الجيل، وقد نجم عن ذلك ما أحب أن اسميه (عنة نفسية). وأنا ـ ببساطة ـ أشعر تجاه ذلك، كذلك الرجل الذي يشعر بالإثم دون أن تلطخ يداه بأية جريمة!

فكيف أنت مرة أخري؟

إنني لا أبحث عن عالم يفوق عالمنا خلقيا كما يقال. ولكني أعرف أن ليس الرجل إلا ما يفعل. لذلك يجب أن نتأمل ما نفعله حتي نعرف أي رجال نحن. وأعتقد أن هذا هو كل شيء يمكنني قوله في الوقت الحالي، فأغفر لي هذه الخطبة المطولة.

اعيش هذه الأيام بلا أصدقاء. لذلك ارتفع منسوب القراءة إلي حوالي 12 ساعة يومياً. لذلك تجدني هذه الأيام أعيد قراءة معظم الأعمال الجيدة التي سبق أن قرأتها خلال السنوات الطويلة الماضية. وبالنسبة لضياء لا تعتقد أني غاضب منه. كنت قد كتبت له رسالة أقول فيها: (الأخ ضياء الشرقاوي، لقد أفلحت أخيرا في أن تجعلني أقرأ لك شيئا واحدا أكثر من مرة واحدة، ولكني مزقتها بعد وصول رسالتك. والحق أن خطابه كان قد اضحكني لفترة من الوقت ولكني أحبه. صدقني، أحب هؤلاء الناس الذين يجعلونني أحافظ علي مستواي. نعم قرأت الطاحونة التي قتلت المعداوي. هل تعرف من هو كاتبه أحمد رشدي حسين؟ إنه غالي شكري (دلالة جديرة بالتسجيل) هل قرأت مقال لويس عوض بالأهرام. الأعمال المسرحية مثلا تقول أشياء وأشياء هذه الأيام. أما آخر الأخبار فهو نقل الأخ عز الدين نجيب إلي القاهرة، يبدو أنه سعيد جدا بهذا النقل.

أعدك أن أكتب لك أشياء أفضل المرة القادمة. فأكتب لي أنت عن كل تطور يحدث بالنسبة لك: عملك، حياتك، بالإسكندرية. واجعلني دائما علي صلة بك ولا تقّصر في ذلك. من أيام قليلة اجتاحتني الرغبة في قراءة شيء لك، وأخرجت أعداد "المساء" وحتي أتحسسك عن قرب. ألا تنوي نشر شيء هذه الأيام. لماذا لا ترسل للأديب وحوار (مجلتان لبنانيتان) وغيرهما؟ وهل نراك قريبا بالقاهرة؟

تحياتي إلي السيدة الوالدة والابنتين العزيزتين وأرجو لهما كل التوفيق في دراستهما. وتقبل تحيات الوالدة والوالد والأخوة جميعا..وحبي وشوقي لرؤياك.

إبراهيم أصلان
22 شارع فضل الله عثمان- إمبابة

(معذرة لرداءة كل شيء ..لقد كتبت الخطاب وأنا موجود بالعمل وشكراً)

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى