جان فرانسوا دورتييه - مناظرة دافوس كاسيرر ضد هيديغر.. ترجمة: الحسن علاج

في فترة من الفترات عندما كان [فندق] دافوس ، في الجبال السويسرية ، معروفا بشيء آخر غير ندوته العظيمة العالمية ، الذي يستضيف في كافة الأعوام ” عظماء هذا العالم ” . ففي دافوس قام طوماس مان بكتابة [رواية] الجبل السحري . ألبيرت إينشتاين ، عازف كمان موهوب أدى به حفلة موسيقية . كما استضاف فندق دافوس الكبير مواجهة شهيرة عامة بين علمين كبيرين من أعلام الفلسفة الألمانية لذلك العهد : إرنست كاسيرر ومارتن هيديغر .

كانت الصحافة بإسرها حاضرة لمتابعة المناظرة المخصصة ل” ميتافيزيقا كانط ” ، موضوع المجابهة بين قطبين فكريين في ذلك الوقت .

في ذلك الوقت كان كاسيرر (1874 ـ 1945) واحدا من الرموز الراقية للطبقة المثقفة الألمانية . رجل ذو ثقافة كبيرة ، عقل موسوعي ، تتعامل أعماله في الفيزياء المعاصرة مثاما تتامل مع فلسفة التاريخ ، الفنون والأساطير . ترتكز فلسفته كلها على رؤية الإنسان كعقل مبتكر للرموز . يعتبر كاسيرر واحدا من رواد مدرسة ماربورغ ، تيار فلسفي يطلق عليه ” الكانتية الجديدة ” . وقد تم منح تلك التسمية في ذلك الحين لأولئك الذين يحيلون على إيمانويل كانط ونظريته النقدية ، التي تؤكد بأن العقل يكون عاجزا على فهم العالم كما هو . ومن هنا جاءت هذه النتيجة الثورية : الحقيقة النهائية حول العالم سوف تكون متعذرة على الفكر على الدوام . وبالفعل ، فإن [كتاب] نقد العقل الخالص يثبت أن المعرفة حول العالم تكون محددة بواسطة ” مقولات قبلية للإدراك ” . وبعبارة أخرى ، فإن معارفنا يتم وضعها في قوالب ذهنية سابقة للوجود تشكل معرفتنا . إن إدراك الزمن (الخطي) ، الفضاء ( بأبعاده الثلاثة ) والسببية ( لكل شيء سبب سابق عليه ) لا يعكس ربما الطبيعة العميقة للعالم ، بل يعبر بالأحرى عن بنية ذهنيتنا .

اقترح كاسيرر بالدفع بعيدا بالمسعى الكانطي . فإذا كان كانط قد أفرد اهتماما بالغا لاسيما بقدرات وحدود ال” عقل الخالص ” فإن معرفتنا تمر أيضا عبر أشكال أخرى من المعرفة : اللغة ، الأسطورة والفن … الذي قام كاسيرر بجمعه تحت عبارة ” أشكال رمزية ” . عند مجيئه إلى دافوس ، سوف يقوم كاسيرر تماما بإنهاء نشر [كتاب] فلسفة الأشكال الرمزية . تقدم اللغة ، يشرح كاسيرر ، منفذا إلى العالم من خلال رموز . فعلى خلاف صراخ الحيوان الذي لا يمتلك إلا دلالة وحيدة ، فإن رموز اللغة تعتبر حاملة لدلالات لا حصر لها . لا يرى الحيوان في الماء إلا سائلا يستطيع شربه . أما الماء ، فهو بالنسبة للإنسان فكرة ، عبارة ، تحيل إلى عبارات أخرى ، أفكار أخرى : الطراوة ، الصفاء ، البحر ، الحياة … فعن طريق لعب التطابقات هذا ، تشتغل الأساطير أو الشعر . إن وظيفة الرمز هي جعل الفكر الإنساني منفتحا على إبداع وحرية بدون نهاية .

معرفة وخيال

في [كتاب] دراسة حول الإنسان الذي نشر عام 1944 ، سيلخص كاسيرر فلسفته التي تجعل من الإنسان ” حيوانا رمزيا ” . ” في حين أن الحيوان يظل ملتصقا بالأشياء والأحاسيس بانعدام تأمل اللغة بينه وبين العالم ، فإن الإنسان يسمو على العالم وعلى نفسه بواسطة التعيين الرمزي . ”

حل هيديغر ( 1889 ـ 1976) بدافوس بنية التشطيب على كل هذه الفلسفة بجرة قلم . ” لقد أتى لتدميرنا “ ، تم الهمس بذلك في محيط كاسيرر . لأن هايديغر مثير للإعجاب . لا يزال الفيلسوف يافعا . ( عمره 40 سنة ) ، يعتبر وريثا للفينومينولوجيا التي أسسها إدموند هوسرل ، الذي اعتبره كخلف له . عمل هايديغر قبل ذلك بعامين على نشر كتاب الكينونة والزمان ، وهو عمل غامض وتجريدي بشكل فظيع ، لكن الجميع يتحدث عنه . فهو يقدم الإنسان مثل ” وجود ـ هنا ” dasein) ( مقذوف به في الزمن ، في صراع مع حريته وتناهيه ، في مواجهة قوته وموته . الشخصية ساحرة . فحينما يتكلم ن العدم ، فهو لا يرغب في التصدي له من الناحية الميتافيزيقية ، إنه يستحضره عبر قلق (الموت) ، الخوف ( من الاندثار) ، السأم ( الإحساس بالفراغ ) . ثم إن هايديغر توصل إلى إبهار حضوره .

حينما أخذ الكلمة بدافوس ، بصوت حازم ، كل واحد كان ينتظر كشفا . فلا أحد فهم حقيقة كانط حتى هذا الحين ، أعلن هايديغر دفعة واحدة ( لنذكر بأنه كان على المناظرة التركيز على ميتافيزيقا كانط ، التي يعتبر كاسيرر إلى حد ما ممثلا لها ) . بالنسبة لكانط ، يؤكد هايديغر ، فإن المعرفة لا تصدر بالنسبة لكانط ، عن العقل ، ناهيك عن اللغة ، بل تصدر عن الخيال . لم يستطع كانط بحسبه استخلاص كل نتائج مسلماته . يتقدم الخيال العقل ويشيده ، ثم إن مقدرة الخيال تكون في المقام الأول خاصية الإنسان .

هذا هو ما يبلبل رؤية الطبيعة البشرية . فإذا كان الخيال سابقا على العقل ، إذن فالإنسان يكون شاعرا قبل أن يكون عالما ، حالما قبل أن يكون مفكرا . علاوة على ذلك ، فإن هايديغر لا يأخذ بعين الاعتبار العقل الخالص ، العلم والتقنية . بعد ذلك ، سوف يربط هايديغر قدرة الخيال البشري بإدراكه للزمن . إن الإنسان بحسب هايديغر ، ليس فقط كائنا يخضع للزمن ، بمعنى حيث أن كل حيوان ، يولد ، يعيش ثم يموت . إن الإنسان ، بوصفه كائنا خياليا ، يستطيع أن يتطلع إلى المستقبل . وهناك ، يصبح حاملا لمشاريع . فليس المستقبل بالنسبة إليه إلا مستقبلا سيحدث . يقدم المستقبل نفسه للإنسان على شكل مجال ممكنات . وفي الواقع فإن مقدرة خياله ” تمنح شكلا للعالم “ في حين أن الحيوان ، يعتبر ” فقيرا في العالم “ .

مصائر متعارضة

يتم تعريف الإنسان بواسطة خياله وبعلاقته المتميزة بالزمن . على شرط ، يضيف ، أن يتحمل شرطه الإنساني كليا ، أن يمتلك الجرأة على مواجهة مستقبله وأن يصطدم مع تناهيه الخاص . لما أتى هايديغر على إنهاء كلامه ، كل واحد راوده الإحساس بان رياح الفكر بدأت تهب .

المناظرة التي تلي تشكل صدمة لفكرين ، لكن أيضا لأسلوبين . يشرع كاسيرر في المناظرة على طريقته : منفتح ، متساهل ، تساؤلي . ظل هايديغر متساويا له : صارم ، حازم ، متغطرس . خلف هذه المناظرة ثمة رهانات متعددة . يعتبر كاسيرر إنسانويا منتصرا لسلطة العقل واللغة . يستند هايديغر إلى قوى أكثر إبهاما : ” انهيار سيادة المنطق ” وقوة الخيال . يخبرنا التاريخ بأن المواجهة دارت بشكل واسع لصالح هايديغر . يبوح إيمانويل ليفيناس ، الذي تابع المناظرة ، بكونه كان مفتونا بشكل فعلي بهايديغر . بعد ذلك بكثير ، سيتساءل حول حماسته الخاصة . ثلاث سنوات بعد دافوس ، سيلتحق هايديغر بالحزب النازي ، وأقصي اليهودي كاسيرر ، من الجامعة الألمانية ، ليسلك سبيل المنفى …

ــ




جان فرانسوا دورتييه Jean – fraçois Dortier) ( عالم اجتماع فرنسي . مؤسس ومدير نشر مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية .

مصدر النص : المجلة الفصلية الفرنسية : Sciences Humaines عدد 57 دجنبر 2019 . يناير ـ فبراير 2020 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى