د. خديجة زتيلى - كتاب (فنّ الشِعــر) لأرسطو.. عن أهميّة الترجمة في الحضارة الإنسانيّة – الجزء الاول

مقدمة
نظراً لما يتميّز به من عمق الوجـدان وقوّة الملاحظة ونفاذ البصيرة وطرافة الطرح في سياقاته التاريخيّة، وفي مختلف الحضارات اللاحقة التي استضافتْ في نصوصها مفاهيـم الشعر الأرسطي وأُسُسه ومختلف دلالاته لكي تُقَعِّـدَ مبادئ جديدة لهذا الفنّ على غرار ما فَعلهُ سلفهم أرسطو في الحضارة اليونانيّة القديمة.

فقد هاجـر فنّ الشعـر من لغته الأصليّة اليونانيّة إلى اللغة العربيّة مُبكّـرا، وتعاطى معه مترجمون عدّة في نقول وعصور مختلفة في محاولة منهم لتيسيره للقارئ وفكّ رموزه وكشف معانيه العميقة. وتروم هذه الدراسة استحضار محتوياته ومضامينه العلميّة، وسيخلـع تحليلنا لهذا الموضوع مزيداً من الأهميّة على الدور التاريخي والحضاري الهامّ الذي مارسته الحضارة الإسلاميّة في أبهـى عصورها وفي العصر الذهبيّ للترجمة تحديداً، هذه الحضارة التي اتّسـع صدرها للوافد إليها والأجنبي ولم تدّخر جهداً في الانفتاح على الآخر المختلف عنها لغويّا وجغرافيّا وعقائديّا وإيديولوجيّا، بعيداً عن أيّ تعصّب أو تطرّف أو مغالاة، فضربتْ بذلك أروع الأمثلة في العلم والتسامح والرقيّ والثراء والنضج والنفاذ إلى جواهر الأمور، والقدرة على مقارعة النصّ بالنص والحجّة بالحجّة، فذاع صيتها وملئت الآفاق بمنجزاتها العظيمة التي صمدتْ وظلّت مَعيناً لا ينضب للمنتمين إليها أو لغيرها من الشعوب في ديار أخرى.

وغنيّ عن البيان أنّ الرجوع للمصنّفات التي طرحها ذلك العصر البهيّ في أشواط تطوّره المختلفة، لَيُوَضِّحُ بجلاء مقدرة الحضارة الإسلامية على تعاطيها مع الفلسفة ومع مختلف العلوم والفنون والمعارف برحابة أفق، ودونما تشنّج أو تعصّب للرأي أو استخدام انتهازي للدينيّ والسياسيّ. ولعلّ النقـول العديدة التي تمّ إنجازها بشغف فريد وبجهد كبير متواصل وبمحبّة بالغة لهيّ الصياغة الأخلاقية، في أرفع تجليّاتها، لتوطين الثقافة الأجنبيّة أو الدخيلة في متون الثقافة والحضارة العربيّة الإسلاميّة بشكل قلّ نظيـره. لقد تبوّأت الفلسفة اليونانية منزلة رفيعـة عند المسلمين فاستعادوها في نقولهم لها إلى لغة الضـاد، وكانت تلك سابقة في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، فقد تعاظـم الدور الهامّ لمصنّفات الأولين/ اليونان مع تقـدّم الدولة الإسلاميّة واتّساع رقعتها وانفتاحها على الأمم الأخرى، وتشهدُ حلقات ومجالس العلم وكذا منابر الدرس على الملامـح الجماليّة والأخلاقية والمنطقيّة والعلميّة والروحية التي تميّز بها ثلّة من النقلة المُقْتَدِرِين المبدعين. فكيف يحْضرُ كتاب فنّ الشعر لأرسطو في النقـول العربيّة المبكّرة، وماهي أشهـر النقـول له، ماهي الأهميّة العلميّة التي اكتساها هذا الكتاب في زمانه، ثمّ في الثقافة العربيّة المبكّرة وفي مختلف الحضارات والأزمنة اللاحقة؟ ولئن كان لابدّ من مدخل موضوعي ووظيفي لهذه الدراسة فهو أن تُستهلَّ بالحديث عن حركة الترجمة في العصر الذهبيّ لها، ولعلّ أهميّة النقل من لغات أخرى إلى اللغة العربيّة أو من أية لغة وإليها، هو أحد المقاصد التي يهدف إليها هذا المقال.

1 - حركة الترجمة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة:

ـ لمحة عن العصر الذهبي لهـا ـ

بدأت حركة النقـل من اللغة اليونانيّة والسريانيّة إلى اللغة العربيّة بشكل محتشمٍ جدّا في عهد الدولة الأمويّة أثناء ولاية خالد بن يزيد بن معاوية، ولم تكن علـوم اليونان وقتئذ محـطّ اهتمام المسلمين، بل كانت مقصورة على بعض الكتب العلميّة كالمصنّفات المتعلّقة بالكيمياء مثلاً دون سواها، والتي كانت محلّ شغف خالد بن يزيد بن معاوية، وظلّت حركة النقل بطيئة جدّا تُرَاوِح مكانها إلى أن انتقلت الدولة الإسلاميّة إلى الخلفـاء العبّاسييـن، وتحديداً مع بدأ ولاية الخليفة العبّاسي الثاني أبو جعفر المنصور (1) الذي أسّس مدينة بغداد وجعلها عاصمة الخلافة العبّاسيّة، والتي ستتحوّل لاحقاً إلى قِبلة العالم الثقافية. لقد عُرفَ عن ثاني خلفاء بني العباس شغفـه الكبير بالعلوم والآداب والفلسفة، وشهدت حركة الترجمة أثناء ولايته نهضة مشهودة لم تعرفها من قبـل.

لكن العصر البهيّ والخالد للترجمة ولكبار المترجمين هو القرن الثالث الهجري الموافق للتاسع ميلادي، حيث كان النقلة يجيدون أكثر من لغـة: كاليونانيّة والسريانيّة والفارسيّة والهنديّة وغيرها من اللغات الأخرى، و قد مكّنهم إتقـان مختلف اللغات من سهولة النقل منها وإلى اللغة العربيّة، والأمر الملفت للانتباه أنّ جـلّ التراجـم إليها كانت تتمّ من اليونانيّة أو السريانيّة على وجه التحديد، ولعلّ من بين أهـمّ المترجمين كما تُجمع على ذلك الكتب والقواميس و المعاجم القديمة حنين بن اسحاق (2) (194 هجريّ – 810 ميلادي/ 260 هجري – 873 ميلادي) الذي كان حجّة في الترجمة، وقد ذاع صيته بسبب موهبته الفريدة في النقل وسلاسته اللغويّة وسرعته في التنفيذ، أجاد من اللغات العربيّة و السريانيّة والفارسية و اليونانيّة وقد ساهمتْ الجهود التي بذلها في الترجمة في الحفاظ على الآثار الفكريّة الهامّة والنادرة و النفيسة، والمشاركة في بناء الحضارة العربيّة الإسلامية، وقد ألقت جهوده العلميّة وجهود ثلة من المترجمين الكبار في زمانه، التي لا تقدّر بثمن، بظلالها على عصر برمّته.

في دراسته الموسومة بـ ((من الإسكندرية إلى بغداد: بحث في تاريخ التعليم الفلسفي والطبّي عند العرب)) (3)، خاض المستشرق ماكس مايرهوف في موضوع النقـل وأشهـر النقلة السريان، ولاغرو أنّه أفرد مكانة متميّزة لحنين بن إسحاق (4) الذي نزل إلى ميدان الترجمة شاباً صغيراً «ولمّا يتجاوز السابعة عشرة من عمره.. حتى أصبح من بعد زعيم المترجمين العرب والسريان، وقد ترجم حتى موته.. من كتب جالينوس مائة إلى السريانيّة ونصفها إلى العربيّة» (5). لقد كان حنين بن إسحاق موفور الثقافة واسع الاطلاع على علوم الأوّلين وآدابهم وفنونهم، وكان محلّ ثقة كبيـرة جرّاء شخصيّته تلك. ولا تكفّ المراجع القديمة والحديثة، التي تتحدّث عن تاريخ التراث اليوناني في الحضارة السلاميّة، عن ذكره وتثمين جهوده والإشادة بعظيم صنيعه.

أما في باب (( ذكر السبب الذي من أجله كَثُرت كتب الفلسفة وغيـرها من العلـوم القديمة في هذه البلاد)) (6) فيقول ابن النديم (7) في كتابه الفهرست: « أحد الأسباب في ذلك أنّ المأمون رأى في منامه كأنّ رجلا أبيض اللون مشرّبا حمرة واسع الجبهة مقـرون الحاجب أصلع الرأس أشهـل العينين حسن الشمائل جالس على سريره قال المأمون و كأنّي بين يديه قد ملئتُ له هيبة فقلتُ من أنت قال أنا أرسطاليس (8) فسررتُ به وقلت أيها الحكم أسألك قال: سلْ قلتُ: ما الحسن قال ما حسن في العقل قلتُ ثم ماذا قال ما حسن في الشرع قلتُ ثمّ ماذا قال ما حسن عن الجمهور قلتُ ثم ماذا قال ثم لا ثمّ.. فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب فإنّ المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهـر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم مسألة الإذن في إنفاذ ما من مختار من العلوم القديمة المخزونة المدّخرة ببلد الروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق وسلّما صاحب بيت الحكمة وغيرهم فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا فلمّا حملوه إليه أمرهـم بنقله فنقـلَ» (9).

لن نخوض في صحّة هذا المنام من عدمه، فلن يقدّم هذا الجدال أو يؤخرّ في الأمر شيئا، لكنّ الأمر التاريخي الأكيد هو أنّ الفضل الكبير إنّما يرجع بشكل فعليّ إلى الخليفة العباسي المأمون في الاعتناء بحركة الترجمة والنهوض بها والسهـر الدؤوب على نجاحها وازدهارها، وإرسال المترجمين إلى بلاد الروم لاستجلاب المصنّفات العلميّة والأدبية في مختلف التخصّصات: كالطبّ، الهندسة، الموسيقى، الفلسفة، الكيمياء، والفلك، لكي يتمّ الاستفـادة منها في الحياة اليوميّة «من ضرورة معرفة مواقيت الصلاة وبداية الأشهر القمريّة للصوم و الحج » (10). وأغـدق المأمون بعطاياه الثمينة على النقلة وقدّر جهودهـم ورفعَ من منزلتهـم الاجتماعيّة ووضعهم في مكانة رفيعة في دولته وفي بلاطـه. ويذكر ابن النديم أنّ النقلة كانوا يُرزقـون مالاً «منهم حنين ابن اسحاق وحبيش بن الحسن وثابت بن قرّة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقـل» (11)

ومن الأهميّة بمكان التَذْكير في هذه العجالة أنّ المأمون قد أنشأ ببغداد مدرسة للترجمة في عام 315 هجري الموافق لعام 830 ميلادي و أطلق عليها ((بيت الحكمة)) ووضع على رأسها يوحنّا بن ماسويه، وكان حنين الشاب أنشط أعضائها وهو الذي سَيُصْبح رئيساً لها بعد ربع قرن من الزمن، ويصفُ ماكس مايرهوف في مقاله الآنف الذكر حركيّة الترجمة في ذلك العهد قائلاً: « كانت الترجمة في النصف الأوّل من هذا القرن الثالث (التاسع الميلادي) غالبا إلى السريانيّة، وفي النصف الثاني ازدادت حركة الترجمة إلى العربيّة شيئا فشيئا، وقام المترجمون أيضا بإصلاح التراجم القديمة. وكان هناك بعض الأطبـاء ورجال الدين المسيحيين، وعلى الخصوص كان هناك من المسلمين الكبراء في قصور الخلفاء، من قاموا إلى جانب الخلفاء بمعونة حركة الترجمة وتشجيعها، بأن بذلوا المال من أجل الحصول على المخطوطات، وأجزوا الأرزاق على المترجمين وتكفّلـوا بمعاشهم، ومن أشهر هؤلاء الذين عاونوا الحركة أحمد ومحمّد بنو موسى بن شاكـر» (12).

وربمّا كان مفيداً التذكير، في هذا السياق، بأنّ أوّل العلوم التي تمّ نقلها من الثقافة اليونانية إلى الثقافة العربيّة هي الطبّ والفلك والرياضيّات والعلـوم، وبعدها تمّت ترجمة الكتب النظريّة وكذلك الفلسفيّة بشكل خاصّ. ويُلاحَـظُ أيضا أنّ بعض النقـول كانت تتمّ من اليونانيّة إلى السريانيّة ثمّ من السريانيّة إلى العربيّة، وبعضها الآخر كان يتمّ من اللغة اليونانيّة إلى اللغة العربيّة بشكل مباشر. والسُريانيون أو السُريان هم من النصارى الذين كانت لغتهم هي السريانيّة وهي تُعَدُّ إحدى اللغات الساميّة، أو لنقل إنّ السريان هم عرب ثقافيّا ونصارى دينيّاً. ووفقاً لهذا التوصيف فـ «المترجمون هم عرب مزدوجو الثقافة واللغة بين العربيّة واليونانيّة وربّما السريانيّة. ولاؤهم الثقافي للعرب والعلوم العربيّة. ويستخدمون اليونان ثقافة ولغة لصالح العرب القائمين الجدد» (13). ومن الواضح جدّا أنّ هؤلاء قد خدمـوا الثقافة العربيّة بإدخال المُكَـوِّن اليوناني إليها


د. خديجة زتيلى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى