د. محمد سعيد شحاتة - مشهدية الواقع وعبثيات الرؤى.. التشكيل السردي في قصيدة (ثرثرة) للدكتور عيد صالح (الجزء الثالث)

(الجزء الثالث)

الفجوات السردية وتنوع الضمائر:
تعدُّ ظاهرة تنوع الضمائر/الالتفات من الظواهر الجديرة بالدراسة، ويرى بعض الباحثين أن تحولات الضمائر يمكن أن تتخذ مفاتيح لتقسيم النصوص الشعرية المدروسة، وهي ما يمكن أن تسمى باسم "المفاتيح الظاهرة" والتي تقوم برصد نقاط التحول وهي في جوهرها علامات مادية تكون منطوقة أو مسموعة أو مرئية، ويناط بها الكشف عن التحولات، وقد تحدث البلاغيون القدماء عن قضية الالتفات/تنوع الضمائر، وجعلوه من نعوت المعاني، يقول نجم الدين بن الأثير: "وحده – الالتفات – أن يكون المتكلم آخذا في معنى من المعاني فيعرض فيه شك أو يظن أن سائلا يسأله عن سببه فكأنه يلتفت إليه فيذكر السبب أو يبطل الإيراد بكلام غير ما هو آخذ فيه" ويسوق البلاغيون أمثلة كثيرة على ذلك، ولكن الملاحظ أن أمثلة البلاغيين العرب القدماء قد توقفت عند الشاهد والمثال، ولم تتعدَّ إلى دراسة تحولات الضمائر في النص كاملا، مما يكشف عن بناء النص ودور تحولات الضمائر في إنتاج المعنى، وسوف نتوقف هنا عند تحولات الضمائر في النص كاملا؛ لنرى إلى أي مدى ساعدت في الكشف عن مكنون النص، وتضافرت مع غيرها من آليات إنتاج المعنى في الكشف عن الرسالة التي أراد النص/ الشاعر إرسالها إلى المتلقي مغلفة بمجموعة من الآليات، ومحفوظة بمجموعة من الشفرات التي يؤدي تفكيكها إلى فهم الرسالة ودلالات رموزها، وتكمن أهمية تنوع الضمائر في أنها تكسر حالات الملل التي قد تصيب المتلقي نتيجة أحادية الصوت في النص الشعري غالبا، وتتضافر ظاهرة تنوع الضمائر مع ما يسمى بالفجوة السردية؛ للكشف عن الدلالات المتخفية بين أنسجة اللغة وصياغاتها المتقنة؛ فالفجوة السردية هي التي يلجأ المبدع/الشاعر فيها إلى تغييب بعض العناصر في النص؛ ليتفاعل المتلقي مع النص في إنتاجها من خلال خياله القادر على الغوص في النص، واكتشاف دلالاته، واستكناه معانيه، وسبر أغواره، وهذا الأسلوب يعطي للنص حيوية، وقدرة على التشويق مما يخلق حالة من الرغبة في إكمال النص، والتعرف على رؤيته الفكرية، فيقوم المتلقي بملء هذه الفجوات السردية التي تركها الكاتب عمدا، أو أخفاها عن النظرة السطحية.
نلاحظ أن النص يبدأ بالخطاب، فالشاعر يوجِّه الحديث إلى مخاطَب مجهول الهوية، وسواء كان هذا المخاطب هو الشاعر نفسه أو كان مخاطبا آخر فإن السمة الواضحة هي أن هذا المخاطب مجهول الهوية، يقول (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك وأنت تضع رأسك علي وسادة مملوءة بالهواء) وطرفا الخطاب هما الشاعر/المتكلم، والآخر/المخاطب، ومن ثم فإن الضمير السائد هنا هو ضمير الخطاب المعبر عن حالة المواجهة المباشرة في الكلام، وقد جاء هذا الضمير مستترا مرة وظاهرا متصلا ومنفصلا مرة أخرى، أما كونه مستترا ففي قوله (لا تخبر) فالفاعل/ المخاطب ضمير مستتر تقديره (أنت) وأما وروده ظاهرا متصلا ومنفصلا ففي قوله (لك/ وأنت) فالكاف في الكلمة الأولى (لك) ضمير يعود على المخاطب، والكلمة الثاني (أنت) دالة أيضا على المخاطب، وإذا كان المخاطب هنا مجهول الهوية فهذا يعني أن النص/ الشاعر لا يعنيه المخاطب بقدر ما يعنيه الخطاب نفسه، وبمعنى آخر فإن مفردات الخطاب الحاملة للفكر والمتضمنة للرؤية هي المهمة بالنسبة للنص/ الشاعر، وليس المهم من يوجَّه إليهم هذا الخطاب، وهذا يعني أيضا أن مفردات الخطاب معروفة ومتداولة وليست مجهولة، فالنص/ الشاعر لم يأتِ بألغاز أو خفايا حتى يختار لها أشخاصا محددين؛ ليوجه إليهم الرسالة، فالرسالة معروفة المضامين والدلالات، وهنا تكمن المشكلة؛ لأن رؤية النص/ الشاعر تشير بطريق غير مباشرة إلى أن المعاناة التي يعاني منها المجتمع بكافة مفرداته ليست ناتجة عن جهل وسوء تصرف، ولكنها قد تكون ناتجة عن تعمد، ولذلك فإن توجُّه النص/ الشاعر لأشخاص محددين سوف يفقد الرسالة دلالاتها؛ لأن هؤلاء الأشخاص قد يكونون أحد أسباب هذه المعاناة، ومن ثم يصبح التوجُّه إليهم بالحديث، أو ذكرهم نوعا من العبث؛ لأنه يذكر للشخص ما قام به عن تعمد، وهنا يكمن العبث؛ لأن هذا الشخص يعرف ما قام به ويتعمده، فما الفائدة – إذن – أن يذكر له الأشياء التي قام بها، وكانت سببا في المعاناة؟ ولكن النص ما يلبث أن يتحول من حالة الخطاب إلى حالة الغياب، فتتحول الضمائر بعد ذلك في النص إلى ضمائر غياب، فالنص/الشاعر يتحدث عن أشخاص أو أحداث بصيغة الغائب، وسواء كان هذا الغائب حاضرا بالضمير الدال عليه، أو باسمه الدال عليه فهو في حكم الغائب، أما بالنسبة لحضوره في النص تحت صيغة ضمير الغائب ففي يقوله (ماتت بدون كرونا/ كانت تريد مبيتا/ ولم يجد علاجا للتعرُّق الشديد صيفا وشتاء) وأما ذكر الغائب باسمه ففي قوله (فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة/ والقمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين/ ثمة مخمور طوَّح عشاءه من النافذة/ ليلتقطه بعض السيارة/ وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني/ والغجر لم يكونوا سعداء/ تقلبت البكر في نومتها/ وتجمدت نظرات الفتي في النافذة) والغياب هنا ليس ناتجا عن عدم اهتمام النص/ الشاعر بعناصر هذا الغائب ومفرداته، ولكنه ناتج عن تحوُّل هذه العناصر إلى قيم دالة، بمعنى أنها تخلت عن طبيعتها الفيزيائية لتتلبس بالطبيعة التجريدية، مما يحوِّل طبيعتها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين كل الشخوص والعناصر التي تندرج تحت إطارها العام، وتوصيفها المحدد، وقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل في أثناء حديثنا عن الشخصيات في النص، ثم يتحوَّل بعد ذلك النص إلى ضمير الخطاب في قوله (لا تعبث بعيدان الثقاب) ومع عودته إلى الخطاب يعود إلى المخاطب المجهول، وهذا يؤكِّد تعمد النص/ الشاعر أن يكون المخاطب مجهولا – كما أشرنا سابقا – وطبيعة الجملة الواردة في الخطاب تحمل معنى خفيا؛ فهي تتكون من عنصرين مهمين: الأول العبث (لا تعبث) والثاني وسيلة التخريب والتدمير (عيدان الثقاب) أما العنصر الأول/ تعبث فهو شديد الدلالة على أن ما حدث للمجتمع ومعاناة أفراده، كان نوعا من العبث، وهو ما أشرنا إليه سابقا من أن المخاطب قد يكون أحد الذين يتحملون نتيجة ما حدث إذا افترضنا أن هذا المخاطب ليس الشاعر نفسه، وهنا يأتي تحذير النص/ الشاعر بعدم العبث، ثم يأتي العنصر الثاني/ أعواد الثقاب؛ ليدل أولا على إشعال النيران، والنار هنا ذات دلالة مجازية قد تكون الفتنة، وقد تكون المعاناة، وقد تكون أي شيء آخر له دلالة سلبية، كما يدل ثانيا على أن الظروف تتغير، وأن الذين تحملوا بالأمس لن يستطيعوا اليوم التحمل، وهنا يأتي التحول إلى ضمير المتكلم في قول النص/ الشاعر (لم نتعوَّد انقطاع الكهرباء) ليبرز التعليل لما سبق، وهو التحذير من العبث بأعواد الثقاب، ومعروف أن لفظ الكهرباء هنا ذو دلالة غير مباشرة، وليس مستخدما بدلالته المباشرة، ومن ثم فإن الإشارة واضحة إلى أن الجميع لن يستطيعوا تحمل ما تحمله غيرهم في الماضي؛ لأنهم لم يتعودوا على ذلك نتيجة تغيُّر الزمن، وهذا التغير هو الذي أشار إليه النص/ الشاعر في البداية بلفظ (القمر الصناعي) في إشارة واضحة إلى التطور الذي أصاب المجتمعات، وقد يستنتج من ذلك أن ما نشأ عن ظهور الأقمار الصناعية، مثل وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، قد أنتج نوعا من الوعي جعل تحمُّل ما تحمَّله غيرهم في الماضي غير مقبول، ومن ثم فإن التحول من الخطاب إلى التكلم أحدث تطورا في الدلالة، وتتواصل حالة التكلم في قوله (لا أحب المفاجآت ولا جارتي العقور ولا الكلاب الضالة والساسة المتأنقين في الشاشات) لترصد المفردات المرفوضة، وقد تكون هذه المفردات هي التي استخدمت في الماضي لإنتاج المعاناة إذا أخذنا هذه المفردات (جارتي العقور/ الكلاب الضالة/ الساسة المتأنقين في الشاشات) بدلالاتها المجازية، وليس بالدلالة المباشرة، فتصبح الجارة العقور دالة على الجار الذي يستخدم في إيذاء جاره، أو التجسس عليه، وتصبح الكلاب الضالة دالة على كل فكر منحرف يأخذ المجتمع وأفراده إلى متاهات لا نهاية لها، ويصبح الساسة المتأنقون وجها لتزييف الحقائق، وفي هذه الحالة تخرج هذه المفردات (جارتي العقور/ الكلاب الضالة/ الساسة المتأنقين في الشاشات) من صفاتها الفيزيائية لتتلبس بالطبيعة التجريدية، مما يحوِّل طبيعتها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين كل الشخوص الذين يندرجون تحت إطارها العام، وتوصيفها المحدد، ثم يعود الشاعر إلى حالة الخطاب مرة أخرى في قوله (قلت له: ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟! وتحتل الطرق الرئيسية ومحاور المدن واختناقات المرور ؟! لم يكن يسمعني) ليعبر عن أن المشكلة تكمن في تفاصيل الأشياء وليس في الأطر العامة؛ فالأطر العامة قد تكون خادعة نتيجة كونها أطرا عامة تتسم بالمرونة والعمومية، ولكن التفاصيل التي تعانق تفاصيل الحياة هي المشكلة بالنسبة للمعاناة الإنسانية، ويبدو هذا الخطاب ردًّا على حديث الطرف الآخر المجهول من خلال القول (ومن أدراك ...) ثم يختم الشاعر النص بحالة التكلم حين يقول (ولم أنشغل بالردِّ وأنا أضع طوابير النمل في رأسي وأغلق باب فكرة مجنونة تتحرش بي في اضطجاعتي التي طالت وأنا لم أر أحفادي منذ كرونا) لقد عبر استخدام ضمير المتكلم عن حالة التمزق والمعاناة واليأس من خلال استخدام الألفاظ الدالة، فعدم الانشغال بالرد يعبر عن اليأس من وجود تغيير يمكن انتظاره من الرد، ووضع طوابير النمل وإغلاق أبواب الأفكار المجنونة دال على اليأس؛ لأن الأفكار المجنونة هي التي تنتج التحرر والتطور، فإذا أغلقت أبواب الأفكار المجنونة فهذا يعني إغلاق أبواب الأمل في النجاة مما يحدث من معاناة، وأنا الانتظار الذي عبَّر عنه النص/ الشاعر هو الحالة الوحيدة المتاحة الآن. لقد نجحت الضمائر وتحولاتها في الكشف عن مخبوء الدلالات، وتضامنت مع غيرها من آليات التحليل في إبراز الرؤية المتخفية في الرسالة الشعرية.
النص بين الخبرية والإنشائية:
يهيمن الأسلوب الخبري على النص هيمنة كاملة بحيث نستطيع أن نرصد ثلاثة أساليب إنشائية فقط عبر النص بأكمله (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك – ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟! – لا تعبث بعيدان الثقاب) مما يوحي بأن النص/الشاعر في حاجة ملحة إلى البوح والإخبار؛ ذلك أن الأسلوب الخبري هدفه الأساسي الإخبار مع احتمالية الصدق والكذب للكلام في ذاته بصرف النظر عن قائله، ومن ثم فإن الضغط النفسي الذي يتعرض له المبدع/الشاعر نتيجة طغيان الحالة المعبَّر عنها يمثل سببا كافيا للجوء المبدع/الشاعر إلى استخدام الأسلوب الخبري، وهيمنته على مفاصل النص، وإذا كان الأسلوب الخبري أسلوبا بلاغيا يحتمل الصدق والكذب في ذاته بصرف النظر عن مصدره فإن هيمنة هذا الأسلوب على النص توحي بأن الشاعر يؤمن منذ البداية أن ما يتحدث عنه مختلف فيه، وأن الإجماع عليه غير وارد، وأن التصديق والتكذيب لما يقول شيء عادي، ولا يقدح فيه من حيث كونه منشيء هذا النص، ومبدعه، وذلك نتيجة الاختلاف في توجهات الناس، وانحيازاتهم الفكرية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية، وغير ذلك من الانحيازات التي تجعل كل واحد يفضل توجها معينا، إما لاعتقاد راسخ فيه، أو لحاجة آنية تجعله ينحاز دون قناعة، ومن ثم فإن الإخبار عن الحالة الضاغطة بقوة على الروح الشاعرة هو نوع من التنفيس عن هذه الروح، وبخاصة إذا ربطنا ذلك بالعنوان/ثرثرة الذي يعدُّ – كما أشرنا سابقا – فعلا تنفيسيا، وليس فعل تغيير؛ لأن الثرثرة تلجأ إلى الحكي من أجل التخلص من المعاناة، وفعلها الضاغط على النفس، كما أن الثرثرة لا تلتزم بالموضوع الواحد، ولكنها تتنقل بين موضوعات متعددة، وإن ربط بينها خط درامي واحد يكشف عن طبيعة النفس الإنسانية، وما تعانيه من خلال هذه الثرثرة.
ومن الملاحظ أن بناء الجمل الخبرية في النص قد جاء متسقا مع دلالة العنوان؛ فإذا كان العنوان/ثرثرة دالا في المعاجم اللغوية على الكلام المختلط، وغير المتوازن فإن صياغة الجمل على المستوى البنائي قد جاء متسقا تماما مع هذه الدلالة؛ فجاءت الجمل مفككة شكليا، وإن كانت مترابطة دلاليا، ومن ذلك (القمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين/ وامرأة وحيدة/ وقطة تبحث في صندوق نفايات/ ثمة مخمور طوَّح عشاءه من النافذة ليلتقطه بعض السيارة/ المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا/ وماركيز أصرَّ علي فتاة بكر في عيد ميلاد عجوزه التسعيني/ المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا/ والولد كان ضائعا في حجرة بالبدروم ولم يجد علاجا للتعرُّق الشديد صيفا وشتاء/ لم تكن المناديل الورقية قد انتشرت) ونلاحظ أن المشهد يتكون من عناصر متعددة ومتنوعة، ولا رابط بينها من الناحية المنطقية المباشرة، وإن كان الرابط ملحوظا من الدلالة غير المباشرة لهذه العناصر، فالعنصر الأول (كلبين ملتحمين) والثاني (امرأة وحيدة) والثالث (قطة تبحث في صندوق نفايات) والرابع (مخمور طوَّح عشاءه من النافذة) والخامس (بعض السيارة يلتقط العشاء المطوَّح من النافذة) والسادس (المرأة التي تستند لعامود إنارة في الستينات) والسابع (ماركيز الذي أصرَّ في روايته أن يمنح عجوزه التسعيني فتاة بكرا) والثامن (الولد الضائع في حجرة بالبدروم) وإذا دققنا النظر فسوف نجد تنوع الزمان والمكان بين هذه العناصر مما يجعل الربط المنطقي بينها مستحيلا، فلا رابط بين ماركيز وعجوزه التسعيني والمرأة التي استندت إلى عامود الإنارة في الستينات، وكذلك لا رابط بين ذلك والمخمور الذي طوَّح عشاءه من النافذة، أو بين الولد الضائع في البدروم ولا يجد علاجا للتعرق الشديد صيفا وشتاء، وإذا كان البعض يرى أن الرابط لعناصر الجزء الأول من المشهد كونها واقعة تحت تجسس القمر الصناعي (القمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين/ وامرأة وحيدة/ وقطة تبحث في صندوق نفايات/ ثمة مخمور طوَّح عشاءه من النافذة ليلتقطه بعض السيارة) ويستند في ذلك على أن العطف الدال على مطلق الجمع باستخدام حرف العطف الواو جعل الربط بينها منطقيا فإن عناصر بقية المشهد لا رابط بينها وبين عناصر الجزء الأول، كما أنه لا رابط بينها وبين بعضها البعض من الناحية المنطقية، والتسلسل التتابعي والمنطقي للأحداث، كما أن حرف العطف الواو قد اختفى مع الجملة الأخير (ثمة مخمور طوَّح عشاءه من النافذة ليلتقطه بعض السيارة) ومن ذلك أيضا ما جاء في قوله (فيلم الأمس كان كئيبا والغجر لم يكونوا سعداء/ تقلبت البكر في نومتها/ وتجمدت نظرات الفتي في النافذة/ القيظ عُرْيٌ ورغبات لا تتجاوز المسافات) فمن الملاحظ أن الصياغة أيضا مفككة من الناحية الشكلية، وإن كانت مترابطة من الناحية الدلالية، فالعنصر الأول (فيلم الأمس كان كئيبا) والعنصر الثاني (والغجر لم يكونوا سعداء) والعنصر الثالث (تقلبت البكر في نومتها) والعنصر الرابع (وتجمدت نظرات الفتي في النافذة) والعنصر الخامس (القيظ عُرْيٌ ورغبات لا تتجاوز المسافات ) وهي عناصر غير مترابطة شكليا، ولكنها مترابطة دلاليا، كما أشرنا مع المشهد السابق وعناصره المختلفة، وهذا النوع من الصياغة يتوافق تماما مع دلالة العنوان/ثرثرة؛ فالثرثرة لا رابط بين عناصرها؛ لأنها مجرد حديث لما يرد على الذهن، ولكن المحمولات الدلالية لهذه الجمل المفككة من الناحية الشكلية معبِّرة بعمق عن الحالة النفسية والفكرية التي يعاني منها المبدع/الشاعر، لقد عبَّرت خبرية الجمل في هذا المشهد وهيمنتها – كما سنرى لاحقا – عن فكر الشاعر الذي تشكَّل في ذهنه قبل صياغة النص، وتحرَّك منسربا بين الألفاظ والجمل، وشكَّل شبكة من العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية، وكان بمقتضاها للنص حقوله الدلالية، على أننا يمكن أن نلحظ بعض المشاهد في النص مترابطة ترابطا منطقيا من ناحية الشكل والدلالة وكذلك، ومن ذلك قوله (لا أحب المفاجآت ولا جارتي العقور ولا الكلاب الضالة والساسة المتأنقين في الشاشات) فالعناصر في هذا المشهد مرتبطة جميعا بالفعل (لا أحب) فهي مترابطة منطقيا ودلاليا من حيث كونها مرتبطة بالنفس الشاعرة التي عبَّرت عما تميل إليه وتحبه، وإن كانت كل جملة مختلفة في توجهها الدلالي، كما أشرنا سابقا؛ فالجارة العقور تدل على الصفات الاجتماعية السلبية، والكلاب الضالة قد تدل على الفكر المنحرف إذا أخذنا كلمة الكلاب بمدلولها الفكري، وليس بمعناها المباشر، وجملة الساسة المتأنقين في الشاشات تدل على انحراف السياسة عن مسارها الطبيعي في خدمة المجتمع بعناصره المختلفة، ومن ثم فإن الترابط الدلالي ناشيء من كونها جميعا ترصد الجانب السلبي في الحياة بجوانبها المجتلفة، وإن كانت كل جملة ترصد ملمحا مختلفا عن الجملة الأخرى.
فإذا انتقلنا إلى عناصر المشهد نجد أن النص/الشاعر استخدم الأسلوب الخبري الابتدائي، وهو الذي تكون فيه الجمل الخبرية خالية من التوكيد، ومن ثم فإن الشاعر اعتبر المتلقي خالي الذهن لا يحتاج إلى توكيد المعاني التي يسوقها، وكأنه اعتبر هذه المعاني مسلمات لا تحتاج إلى توكيد؛ فهي تعبر عن واقع صارخ لا يحتاج أدلة عليه، وهذا لا يتنافى مع قولنا سابقا إن الأسلوب الخبري يحتمل الصدق والكذب في ذاته، وقد فسَّر الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح في علوم البلاغة) الصدق والكذب للخبر بقوله (صدقه – أي الخبر – مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه للواقع، وقال بعض الناس: صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبِر – أي المتكلم – صوابا كان أو خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له) (ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 25) وفي جميع الأحوال فإن الخبر دال على فكر المخبِر به/المبدع/الشاعر، ثم يبين الخطيب القزويني أنواع الخبر بقوله (فإن كان المخاطب خالي الذهن بحكم أحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغني عن مؤكدات الحكم ..... وإن كان متصوّر الطرفين مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر حسن تقويته بمؤكد، وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار...... ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًّا، والثاني طلبيًّا والثالث إنكاريًّا) (ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 28، 29) ومن هنا قلنا إن النص/الشاعر استخدم الخبر الابتدائي الذي يكون فيه الكلام خاليا من التوكيد، وهو ما يدل على أن المتلقي خالي الذهن متقبل للخبر دون شك أو إنكار، وقد ينظر النص/الشاعر إلى المتلقي الشاك أو المنكر على أنه خالي الذهن، أي ينزله منزلة خالي الذهن؛ لكون الخبر المسوق إليه من الوضوح بحيث يعدُّ الشك فيه أو إنكاره نوعا من المحال، وهو ما نراه هنا في النص، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الخبرية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي لدلالة الأساليب من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (ينظر: شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6) فقوله (القمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين/ وامرأة وحيدة/ وقطة تبحث في صندوق نفايات) جمل خبرية الغرض منها التقرير، أي أن النص/الشاعر يقرِّر واقعا عمليا، وهو أن التجسس صار حالة واقعية في حياتنا حتى على الأشياء التي لا خطر منها، وقد يرى البعض أن الغرض من الخبر في الأساليب الخبرية السابقة هو السخرية والاستهزاء؛ وذلك لكون الأقمار الصناعية تتجسس على هذه العناصر، وتهتم برصد حركتها (القمر الصناعي يتجسس علي كلبين ملتحمين/ وامرأة وحيدة/ وقطة تبحث في صندوق نفايات) وهي لا تأثير لها، ومن ثم فإن التجسس عليها يعدُّ نوعا من المبالغة في متابعة كل شيء، وهو ما يثير السخرية والاستهزاء، وقد يرى البعض أن الغرض من الخبر في الجمل السابقة هو الشمول، ويعني أن التجسس قد صار شاملا لكل شيء حتى الحيوانات، وما لا تأثير له، ولا خوف منه، وقد يرى البعض أن المعاني السابقة كلها متضمَّنة في الخبر بحيث تصبح كلها غرضا للخبر، وفي جميع الأحوال فإن الدلالة العامة للجمل الخبرية السابقة تحمل السلبية، فإذا كان الغرض التقرير فإنه يقرر الواقع السلبي الذي آلت إليه الحياة، وإذا كان الغرض السخرية والاستهزاء فلا شك أن السخرية لا تكون إلا من شيء سلبي يستدعي السخرية منه، أما الخبر في قوله (ثمة مخمور طوَّح عشاءه من النافذة ليلتقطه بعض السيارة) فإن الذي يتبادر إلى الذهن أنه خبر عادي؛ فالنص/الشاعر يخبر أن مخمورًا طوَّح عشاءه من النافذة، والتقطه بعض السيارة، ولكن تأمل الجملة، وما فيها من إحالة يدفعنا إلى القول بأن الغرض من الخبر هنا هو التحسر لما آل إليه حال هذا الإنسان/المخمور، فالسياق يحيلنا على قصة يوسف – عليه السلام – من خلال قوله (ليلتقطه بعض السيارة) فلا شك أن هذه الجملة هي التي استعملها القرآن (فالتقطه بعض السيارة) وهنا تكمن الدلالة؛ فهذا المخمور ليس مخمورا بفعل إرادي ناتج عن قناعة بالخمر بقدر ما هو مخمور بفعل غير إرادي ناتج عما تعرَّض له في حياته مما دفعه إلى الغياب عن الحياة غيابا إراديا، ومعنى هذا أن المخمور واقع تحت الإرادة وعدم الإرادة، فالضغوطات التي تعرض لها لم يكن له إرادة فيها، ولكنها كانت نتيجة عوامل خارجية، وقد فهمنا ذلك من خلال الإحالة في قوله (ليلتقطه بعض السيارة) وهي إحالة إلى قصة يوسف بطريق غير مباشرة، وما تعرض له من إخوته، وقد كان ما تعرض له خارجا عن إرادته، أما قرار اللجوء إلى الخمر من المخمور فهو قرار إرادي للهروب من واقعه، وهذا يعني أن النص/الشاعر يتحسر على ما آلت إليه حال هذا الإنسان التي دفعته إلى التخلص من عشائه، والتحسر هنا واقع على عدم إدراك هذا المخمور حقيقة وقيمة ما يتخلص منه، وهو العشاء، وكذلك التحسر على فقدان المجتمع عنصرا فاعلا من عناصره، وتحوله إلى قوة معطلة، ويأتي في السياق نفسه الخبر الوارد في الجملة التالية (المرأة التي كانت تستند لعامود إنارة في الستينات ماتت بدون كرونا) وقد أشرنا سابقا إلى أن إيراد لفظ الستينات له دلالتان، الأولى متوافقة مع أبيات إبراهيم ناجي التي استشهدنا بها الدالة على ما تتعرض له الأنثى من اعتداء وتهميش وقهر، فصورة المرأة التي تداولها شعراء الرومانسية هي صورة المرأة المقهورة الباحثة عن مصدر رزق لها، أما الدلالة الثانية فهي أن استدعاء الستينات يستدعي معها كل الملامح المرتبطة بها، فهي فترة انكسار الحلم/هزيمة 67 بما يمثله ذلك من انكسار في الشخصية بصفة عامة، والأنثوية بصفة خاصة، وفي جميع الأحوال فإن الخبر هنا يحمل معنى التحسر والحزن على هذه المرأة أو ما تدل عليه، فالتحسر هنا على ما آلت إليه أحوال الأنثى، وما تتعرض له من قهر/الدلالة الأولى، أو التحسر على ما حدث من انكسار وهزيمة أدت إلى شرخ في ملامح الحلم الذي هيمن على نفوس الناس بعد التخلص من الاستعمار/الدلالة الثانية، ومن هنا قلنا إن الغرض من الخبر التحسر والحزن، أما الغرض من الخبر في الجمل الخبرية التالية (المرأة لم تكن غانية كانت تريد مبيتا/ والولد كان ضائعا في حجرة بالبدروم ولم يجد علاجا للتعرُّق الشديد صيفا وشتاء/ لم تكن المناديل الورقية قد انتشرت) فلا يختلف عن الغرض من الجمل السابقة، وإن كان يضيف إلى ذلك معنى آخر وهو المفارقة التي تؤدي إلى التحسر والحزن؛ فالمرأة لم تكن غانية، أي لم تكن تتاجر بنفسها، ولكنها كانت تبحث عن أبسط حقوقها وهو المأوى الذي يسترها ويحميها من عيون الآخرين واعتداءاتهم، وهنا يأتي معنى التحسر والحزن وقد يدل الخبر على التعاطف؛ ذلك أن هذه المرأة كانت تبحث عن شيء مشروع وهو حقها في الحياة والمأوى، ومن ثم يكون التعاطف واردا هنا إلى جانب التحسر والحزن، فالتعاطف يكون مع المرأة، والتحسر والحزن يكون على حالها، وكذلك على ما وصل إليه المجتمع وقيمه الأخلاقية، ومنظوماته الحاكمة لحركته، والمتحكمة في سيرورة الأحداث فيه، وفي مشهد آخر يتكون من عناصر مختلفة، وإن اتفقت في الدلالة أحيانا في قوله (فيلم الأمس كان كئيبا والغجر لم يكونوا سعداء تقلبت البكر في نومتها وتجمدت نظرات الفتي في النافذة القيظ عُرْيٌ ورغبات لا تتجاوز المسافات ) نجد دلالات الأسلوب الخبري لا تكاد تخرج عن الدلالات السابقة،
أما المشهد الأخير في النص (قلت له: ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟! وتحتل الطرق الرئيسية ومحاور المدن واختناقات المرور ؟! لم يكن يسمعني ولم أنشغل بالردِّ وأنا أضع طوابير النمل في رأسي وأغلق باب فكرة مجنونة تتحرش بي في اضطجاعتي التي طالت وأنا لم أر أحفادي منذ كرونا) فإن الجمل الخبرية فيه تختلف في أغراضها عن الجمل الخبرية، ففي قوله (لم يكن يسمعني ولم أنشغل بالرد) يمكن أن يكون الغرض منها اليأس؛ لأنه لم يعد ينشغل بالرد إما لأنه يائس من الخلاص من هذه الحالات التي تحدث عنها النص/الشاعر سابقا، أو أنه لا يرى أن الرد سوف يجدي نفعا، أو يغير واقعا، أو أنه يائس من هؤلاء الذين تحدث عنهم سابقا، وهم الجارة العقور، والكلاب الضالة، والساسة الذين يتأنقون في الشاشات، فقد أصبحوا آفة مزمنة للمجتمع، ولا أمل في الخلاص منهم؛ فقد كانوا موجودين في الماضي/الستينات، وما زالوا مستمرين في الحاضر، فما الذي يجعلهم يزولون في المستقبل وكل المؤشرات توحي أن زوالهم غير وارد؛ لأن البيئة التي أدت إلى وجودهم لم تتغير، ومن هنا كان اليأس هو الغرض المرجَّح لهذا الأسلوب، وقد ازداد هذا الغرض/اليأس تأكُّدا في الجمل الخبرية التالية (أضع طوابير النمل في رأسي وأغلق باب فكرة مجنونة تتحرش بي في اضطجاعتي التي طالت وأنا لم أر أحفادي منذ كرونا) فوجود طوابير النمل يدل على أن الخلاص مستحيل، وأن الأمر سيستمر إلى أمد غير محدد، وفي النهاية نستطيع إعادة التأكيد على القول بأن خبرية الجمل، وهيمنتها على النص عبَّرت عن فكر الشاعر الذي تشكَّل في ذهنه قبل صياغة النص، وتحرَّك منسربا بين الألفاظ والجمل، وشكَّل شبكة من العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية، وكان بمقتضاها للنص حقوله الدلالية.
أما الأساليب الإنشائية في النص، فقد اشتمل على ثلاثة أساليب فقط (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك – ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟! وتحتل الطرق الرئيسية ومحاور المدن واختناقات المرور؟! – لا تعبث بعيدان الثقاب) وإذا اعتبرنا الجملة (وتحتل الطرق الرئيسية ومحاور المدن واختناقات المرور؟!) استفهاما مختلفا عن الاستفهام السابق عليه (ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟!) فإن النص يشتمل على أربعة أساليب إنشائية، وفي كل الأحوال هو عدد قليل جدا بالقياس للأساليب الخبرية التي هيمنت على النص، وتحكمت في إنتاج الدلالة، أما الأسلوب الإنشائي الأول (لا تخبر أحدا بما قد يعنُّ لك) فهو أسلوب نهي، وإذا أخذناه على دلالته المباشرة فإن غرضه طلب عدم الإخبار؛ لأن النهي طلب بعدم فعل الشيء، ففي النهي يطلب المتكلم من الشخص المُخاطب أن يتوقف عن فعل أمر محدد، وهو دائمًا ما يأتي بصيغة التكليف والإلزام، فالشاعر يطلب ممن يتحدث إليه عدم إخبار أحد بما يتراءى له، وفي هذه الحالة يكون الشاعر سلطة أعلى فعليًّا ممن يتحدث إليه؛ لأن النهي يتوجه من الأعلى إلى الأدنى بصيغة التكليف والإلزام، أما إذا خرج النهي في الجملة السابقة عن معناه الحقيقي/الطلب – ونراه كذلك – إلى أداء معنى بلاغي فإن الغرض منه النصح والإرشاد؛ فالشاعر يتوجَّه بالنصح لمن يتحدث إليه ألا يخبر أحدا بما قد يتراءى له، وهنا يكون الشاعر ممثلا لسلطة أعلى ثقافيا وفكريا وخبرة جعلته مؤهلا للنصح والإرشاد، وهو ما يُعْلي من قيمة الفكر والثقافة، ويبرز دورهما الفاعل والمؤثر في الحياة، واستخلاص العبر من مجريات الأحداث، ولكنه – أي الأسلوب الإنشائي/النهي – في الوقت نفسه قد يدل على الشك والتوجس إلى جانب النصح والإرشاد؛ لأن الجمل التالية له مباشرة لا تدل على أي معنى إيجابي، بل تدل على ضرورة الخوف والتوجس (فالمتلصصون في الكوابيس يصنعون أحداثا كثيرة) فالتلصص يجعل الإنسان في توجس دائم، ونحن نعلم أن السياق حاكم للدلالة، ومتحكم فهمها، وقد يرى البعض أن الخوف والتوجس هو الذي دفع النص/الشاعر إلى هذه النصيحة، وبالتالي يكون الغرض النصح والإرشاد، وأن هذا النصح ناتج عن التوجس والخوف الناتجين عن الخبرة الحياتية، أما الأسلوب الإنشائي الثاني فهو (ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟!) المفروض أن يكون هذا الأسلوب/الاستفهام بعد حديث من الطرف الآخر للشاعر حتى يكون الاستفهام تعقيبًّا على الكلام الذي قيل، ولكننا نلاحظ أن النص/الشاعر لو يورد كلام الآخر، بل أورد قوله مباشرة (قلت له: ومن أدراك أن الشياطين لا تكمن في التفاصيل؟!) وإذا نظرنا إلى الكلام السابق على الاستفهام فسوف نجده كلام الشاعر أيضا، ومن ثم كان المفروض أن تكون الجملة خبرية مؤكدة، كأن يقول (قلت له: إن الشياطين تكمن في التفاصيل) ليكون ذلك تأكيدا للكلام السابق، ولكن الانحراف الأسلوبي الذي جعل النص/الشاعر يلجأ إلى الاستفهام بدلا من الخبر يجعلنا نستنتج أن الآخر المجهول في النص كان له رأي مغاير لرأي الشاعر؛ لكي يكون الاستفهام تعقيبا من الشاعر عليه، ومن هنا يمكن استنتاج الغرض من الاستفهام وهو الاعتراض، إن السياق الذي ورد فيه الاستفهام هو الذي دفعنا إلى تحديد الغرض/الاعتراض، وقد يكون الغرض السخرية، ولكن ذلك مرهون بمعرفة ما قاله الآخر المجهول فكان تعقيب الشاعر عليه من خلال الاستفهام، والأسلوب الإنشائي الثالث هو (لا تعبث بعيدان الثقاب) وهو أسلوب نهي الغرض منه التحذير، وقد استنبطنا التحذير من خلال السياق الوارد فيه الأسلوب/النهي؛ لأن الجمل السابقة له تحمل كل معاني المعاني (فيلم الأمس كان كئيبا والغجر لم يكونوا سعداء تقلبت البكر في نومتها وتجمدت نظرات الفتي في النافذة القيظ عُرْيٌ ورغبات لا تتجاوز المسافات) والجمل التالية له تحمل أيضا تبريرا لهذا التحذير (لم نتعود انقطاع الكهرباء لا أحب المفاجآت) فإذا نظرنا للسياق الوارد فيه النهي نجد أن النص/الشاعر يحذر متحدثه من العبث بعيدان الثقاب التي قد تشعل الحياة وتحوِّلها إلى جحيم؛ فالناس لم يتعودوا على انقطاع الكهرباء، أي الظلام الذي يحمل دلالة بلاغية أيضا، وقد أشرنا إليها سابقا عند حديثنا أساليب السرد في النص، ومن هنا نستطيع القول بأن أساليب الإنشاء رغم قلتها ساعدت في الكشف عن الرؤية الفكرية للنص، وأبرزت بعض الجوانب، وشاركت مع الأساليب الخبرية في تشكيل شبكة العلاقات البلاغية التي قامت موازية لشبكة العلاقات اللغوية في كشف الرؤية المتخفية في النص.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى