مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - علقة ساخنة للمدير

قال لي صديقي عادل يوسف ، هذا المدير مجنون وسيصيبنا جميعا مثله بالجنون؟!
نظرت إليه، في دهشة، ثم قلت له :
صلى على النبي، واهدأ.
لم يبتسم عادل ، أو يضحك كعادته، بل غرق في تفكير عميق، ثم شرد بفكره بعيدا، حتى أنه لم يلحظ انصرافي من أمامه، وعودتي لحجرة مكتبي القريبة من مكتبه.
، بعد برهة تبينت، أن ثمة تحركات غير عادية ، تحدث من حولي، ثم أدركت أن هناك اجتماعا سريا لمعظم موظفين الشركة في مكتب عادل .
وعندما توجهت إليهم، التزموا جميعا الصمت ، وكأن لا شيء يحدث.
ثم انصرفوا تباعا ، ولم يتبق إلا عادل الذي جعل ينظر إلى في ريبة .
قلت له في قلق :

ماذا تنوي أن تفعل؟!
قال لي في هدوء : سأضربه.
لم أتمالك نفسي من الضحك، قلت له:
أكيد أنت تمزح.
قال بسرعة : بل أنا جاد جدا .
ارتسمت على وجهي علامات التعجب، قلت له :
كيف عقدت العزم على أن تفعل هذا الفعل الأحمق، وأنت أكثرنا عقلا وحكمة، أنا لا أصدق أن فعلا كهذا ممكن أن يصدر منك، هل أنت مقدر لعاقبة هذا الأمر ؟!
قال:

لقد اتفقت مع كل موظفين الشركة أن نقوم بضربه، معا،كضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بيننا جميعا، وهو سيكون وحيدا في مكتبة، ولن يستطيع أن يفعل أي شيء، بل سيكون موقفه شديد السوء إذا علمت الإدارة العليا، أن جميع موظفي الفرع قد اجتمعوا، عليه، وليس من المنطقي، على الإطلاق، أن يستغنوا عنا كلنا ويبقون عليه هو وحده.
قلت له في قلق، بعد أن أدركت أن الموضوع حقيقي، بل ومخطط له منذ فترة :
ولكنني ألست واحدا منكم، فلماذا لم أعلم بنواياكم هذه إلا الآن ؟!
قال :

لأننا نعلم أنك صديقه، فلم نشأ أن، نضعك في موقف حرج.
قلت :

بل خشيتم، أن تخبروني، فافضح له مخططكم، فإذا كنت ترى أنني صديقه، فهل نسيت أنني صديقك أنت أيضا؟!
قال، في مكر :

ولهذا أخبرتك، فهل حقا ستوشي بنا؟!
قلت :

بل أخبرتني، الآن ويبدو أن هذا ، قبل موعد التنفيذ بلحظات، حتى لا أتمكن فعلا من إبلاغه بمخططكم، أرجو منك أن تراجع نفسك، ولو قليلا قبل أن تقدم أنت وبعضهم ، على حماقة كبيرة، لا يعقل أن تأتي منك وأنت كبيرنا، و خير مثال لرجاحة العقل واتزانه.
ابتسم عادل ابتسامة باهتة، وهو يصحح لي كلماتي قائلا، في إصرار غريب :

تقصد أنني سأفعل ومعي كل موظفي الفرع، وليس بعضهم عداك أنت ، فقط.



***


عين الأستاذ حسين كامل كمدير لفرع الاسكندرية خلفا لسامي عسكر...
وهو رجل أنيق وسيم يشبه نجوم السينما.
كان حادا ذا شخصية قوية، ويمتلك، ذكاء ،وعقلية إدارية جبارة..
ولأنه الخليفة الأول لسامي عسكر، فقد جاء محملا بتوصيات وتعليمات مشددة، إذ اعتبر أن كل الموجودين في الفرع هم في الأساس شركاء سابقين لسامي عسكر في كل عملياته وممارساته المشبوهة، لحين يثبت العكس..
كان، حسين، يتسم
بالحذر الشديد في كل تعاملاته، ولا يوقع على ورقة إلا بعد أن يتفحصها بعناية فائقة.
عرف ،بالحزم والشدة مع الجميع، دون أي تفرقة، وقد بلغ به من الدقة ، حين راجع مصروفات بوفيه الموظفين، أنه لاحظ إفراط البعض في شرب عصير الليمون،فما كان منه إلا أن يقوم، بإحصاء، عدد حبات الليمون الواجب استخدامها في صنع الكوب الواحد،ثم في نهاية اليوم يأمر بحفظ المتبقي في خزانة الشركة، بل وقام بعمل إحصائية لعدد ملاعق الشاي في العبوة الواحدة، لمعرفة متوسط عدد أكواب الشاي الناتجة عنها.

في أول يوم عمل له، في الفرع، قام بعمل تغييرات لأماكن الموظفين، و مكاتبهم.
عامل عادل يوسف، بحدة شديدة ثم أمر بنقل مكتبه إلى حجرة ضيقة،بدون نوافذ، بدلا من حجرة مكتبه الواسعة.
إمعانا في التضييق عليه، باعتبار أنه الصندوق الأسود لسامي عسكر.، كما أشيع عنه ، بين قيادات الشركة كلها
ثم قام حسين كامل، بجمع كل الموظفين الباقيين وأجلسهم إلى جوار بعض، ليمارسوا عملهم، وهم متكدسون، كمثل طلبة المدارس، في إحدى قاعات الشركة الداخلية ، و أمر بغلق جميع المكاتب الأخرى وتركها فارغة.
، وقد بلغ ببعضهم أن يتعمد في الخفاء،أن يثير حفيظته، كأن ينقل كل أخباره واجتماعاته التفصيلية للإدارة بالقاهرة.
حتى وصل بهم الأمر يوما أن جعلوا مدير عام الشركة ، رباح بك، يتصل به، من القاهرة وهو في اجتماع مغلق مع بعض العملاء، في مكتبه بالإسكندرية ، ثم يقوم باخباره بالحوار الدائر، بينه وبينهم بالكلمة والحرف، بل ويذكر له أسماء كل الموجودين معه، مع وصف تفصيلي لملابسهم، و أشكالهم.
الأمر الذي جعله يثور ثورة عارمة، ويظن أن ثمة كاميرات مراقبة قد ركبت له خلسة في حجرة مكتبه من قبل أحد الموظفين.
لم يخل الأمر من دعابات ومقالب كثيرة، كانت تحدث بينه وبين البعض.

الأمر العجيب : أنني حين اقتربت من هذا الرجل ، أبصرت الجانب الخفي في شخصيته، إذ تبين لي، أنه يتمتع بخفة ظل غير عادية، وبينما جعل الموظفون يظنون أنه جاء لقطع عيشهم، كان هو يحارب في عدة جبهات، لعدم المساس بأي واحد منهم.
وقد رأيته كثيرا وهو يساعد البعض ، كما كان يقوم بحل العديد من مشاكلهم،من دون حتى أن يخبرهم.


حسين كامل، رغم وجاهته الشديدة، قام ،بدعوتي عدة مرات للقائه على أحد المقاهي الشعبية،
أو مرافقه، لتناول بعض سندوتشات الكبدة في محطة الرمل.
كنت أتعامل معه من منطلق أنه ضيفنا في الإسكندرية، وقد كان يعيش وحيدا بدون أسرته القاطنة في القاهرة،مما جعله يعاني بعد فترة قصيرة، من الوحدة والغربة.


***



في نهاية اليوم وقبل أن ينفذ عادل يوسف خطته ومعه موظفي الفرع، تعال الصياح من داخل مكتب الأستاذ حسين كامل، فاندفعنا جميعا إلى غرفة مكتبه، وإذا بمشاجرة حامية قد نشبت بينه وبين بعض العملاء، ممن لهم بعض التعويضات في الشركة ومعهم بعض السماسرة ممن عرفوا بعدم الأمانة والتلاعب وشبهة التزوير في المستندات، وكان هو، لأمانته ودقته الشديدة ،قد وصل بهم إلى حائط سد منيع، بعد أن كشف جميع ألاعيبهم ، فما كان منهم إلا أن ثاورا، وحاولوا الاعتداء عليه.

وبمجرد أن ارتفع صياحه، حتى اقتحم جميع الموظفين المكتب، وقاموا بتلقين هؤلاء المشبوهين درسا لا ينسى، وقد كان عادل يوسف هو أول من يقوم بالدفاع عن حسين كامل، الأمر الذي جعله حتى يتلقى، عنه بعض الضربات الموجعة.

ثم قام بإخراج، حسين كامل، من الحجرة على عجل دون أن تمس منه شعره واحدة.

بعد أن انتهت تلك المعركة، نظرت إلى عادل يوسف، وقد امتلأ وجهه بالكدمات، وضحكت.

التفت الأستاذ حسين إلى في دهشة قائلا :

ما الذي يضحكك؟!

تدخل عادل يوسف بسرعة في الحديث ثم قال لي :

هل فيما فعلناه خطأ ما؟!

قلت في جدية، وأنا أنظر إلى الأستاذ حسين كامل :

بل إنكم لم تفعلوا إلا الصواب.

في نهاية اليوم قام الأستاذ حسين كامل بإعطاء جميع العاملين لفت نظر. عندما سألته في دهشة:

لماذا؟!

قال لي:

لأنكم جميعا السبب في وقوعي ، بهذا الموقف الحرج!!

.......................................

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى