- رسالة من محمود أمين العالم الى أحمد عبدالمعطي حجازي
الصديق العزيز والشاعر الكبير احمد عبدالمعطي حجازي
اطيب تحيه.. وبعد
شكرا علي اشارتك الكريمه في مقالك الاخير, الي بعض كلام لي شاركت فيه بالراي, ردا علي سوال حول قصيده النثر, التي فجرت قضيتها في مقالاتك الاخيره, وكنت اعرف رايك في هذه القضيه في كتابات لك سابقه, واحترمه وان اختلفت معه.. وادرك انك كما تقول بحق في مقالك الاخير لا تنكر علي المدافعين عن قصيده النثر دفاعهم حول ظاهره شعريه اري انه قد استقر لها اليوم حق المواطنه في الشعر الانساني المعاصر, وفي شعرنا العربي كذلك باعتبارها امتدادا واضافه ابداعيه الي التراث الشعري عامه, علي اني كنت اري ان مستوياتها الذوقيه والجماليه ومعاييرها النقديه والنظريه, لم تستقر بعد, خاصه في ادبنا العربي المصري المعاصر, ولهذا اري ان جهدنا ينبغي ان يتوجه اساسا الي الاجتهاد في تفهمها واستيعابها نقديا, والمساهمه في تنميتها ابداعيا كفصل جديد في ديوان شعرنا العربي, ومازلت في الحقيقه عند رايي هذا, الذي اشترك فيه مع طائفه من نقادنا الذين يبادرون منذ فتره الي التعامل النقدي الجاد المتفتح مع هذه الظاهره الشعريه, واخص بالذكر د. محمد عبدالمطلب وابراهيم فتحي وادوار الخراط, ود. مصطفي ناصف, ود. جابر عصفور, فضلا عن فقيدتنا العزيزه الدكتوره الفت الروبي, التي حاولت في اشاره سريعه منذ بضع سنوات تاصيل قصيده النثر في بعض ظواهر تراثنا النثري القديم, علي ان اشارتك الي موقفي من قصيده النثر في مقالك الاخير, تفرض علي تقديرا لك وحرصا مشتركا بيننا علي الوضوح الفكري في حياتنا الثقافيه ان اناقش قضيه واحده اراها محور الخلاف معك حول قصيده النثر, هي قضيه الايقاع.
اتساءل: ما هو المصدر الذي استقيت منه او اوحي اليك في مقالك الاخير, بانني اقول ان الايقاع قيمه بدويه لا مكان لها في الحضاره الحديثه!! فهذا كلام لايقال بل خلط وتخليط, اما قولي الذي اقتنع به واوكده فهو ان الايقاع ليس قيمه ثابته مطلقه, وانما هو نسق يختلف باختلاف الاوضاع الاجتماعيه والثقافيه والحضاريه عامه, ولعلي ذكرت وكان حديثي تليفونيا مع احد الزملاء الصحفيين ان ايقاع الشعر العربي في بدايته الذي يغلب عليه الاطراد وتكرار الوحدات المتماثله, هو انعكاس ادبي او استلهام فني لايقاع حركه الابل في الصحراء, وهو في الحقيقه ليس رايي وحدي بل راي العديد من النقاد القدامي والمعاصرين, علي ان المساله عندي اكبر من مجرد حركه الابل في الصحراء, وانما هي طبيعه الحياه الصحراويه القبليه نفسها ذات الايقاع البطيء, الذي يغلب عليه الاطراد والنمطيه والجمود النسبي, وكان هذا مقدمه لقولي ان الايقاع قيمه نسقيه تتغير وتتطور بتغير وتطور اشكال الحياه الاجتماعيه وممارساتها ومعطياتها, ولهذا فايقاع الحياه البدويه القبليه يختلف عن ايقاع الحضاره الحديثه قطعا, بل اختلف بالفعل هذا الايقاع باختلاف الواقع الاجتماعي والتاريخي والادبي لهذه الحياه البدويه القبليه مع ظهور الدعوه الاسلاميه وانتشارها جغرافيا وتطورها حضاريا, وانعكس هذا الاختلاف الايقاعي في مختلف اساليب السلوك والتعابير, ونتبين هذا بوجه خاص في اختلاف وتنوع الاجتهادات الابداعيه الشعريه طوال مراحل التاريخ العربي في مشرقه ومغربه منذ العصر الجاهلي الي اليوم وما زعتقد ياصديقي انك تختلف معي في هذا, ولا مجال هنا لتفصيل, ولهذا اكتفي بالخلاصه العامه, وهي ان الايقاع قيمه شان القيم جميعا ذات عمق انساني ودلاله تاريخيه, وهنا يبرز ويتحدد الخلاف بينك وبين المدافعين عن قصيده النثر ومبدعيها, ذلك انك ايها الشاعر المبدع ويا للغرابه تجمد الايقاع داخل قالب محدد ثابت مطلق, بتوحيدك اليا بين الخبره الانسانيه, والحيه والطبيعه الماديه الثابته الجامده! اسمح لي ان استعيد معك فقره من فقرات مقالك السابق تقول فيها: ان الزمن موجود في كان مكان, وحركته المنتظمه تتمثل في الطبيعه والحياه العصريه, كما تتمثل في سير الابل, وتوالي الليل والنهار وتعاقب الفصول, ونبضات القلب وايقاعات العمل والراحه ثم لا تلبث ان تسالني: هل تعتقد ان ايقاع محركات الطائره مثلا اقل انتظاما من ايقاع خطي الابل في الصحراء؟ وترد علي قائلا: موكد انه اسرع واشد توترا لكنه ليس اقل انتظاما, ولهذا توكد في النهايه الانتظام شرط اساسي لوجود الايقاع.
نعم ياصديقي العزيز الانتظام شرط اساسي لوجود الايقاع, ولكن القضيه هي اي انتظام واي علاقه بينه وبين الايقاع, حقا, كل شيء متزمن بزمن كما تقول الفلسفه الوجوديه, ولكن هل تتساوي حركه الزمن المنتظمه والمطرده في الطبيعه كما تقول, مع حركته في الحياه العصريه؟ وهل يتساوي الزمن الالي النمطي في اجهزه الساعات الميكانيكيه مع معاناه الزمن الحي في الخبره الانسانيه, وهل يتساوي توالي الليل والنهار وتعاقب الفصول مع نبضات القلب في خضم حياه الانسان اليوميه, ومع ايقاعات العمل والراحه في تعقد العلاقات الاجتماعيه الحاليه؟ وهل يتوافق انتظام ايقاع خطي الابل في الصحراء مع ايقاع محركات الطائره؟! وعندما تستدرك ياصديقي العزيز وتقول موكد انه اسرع واشد توترا, فانك بهذا اخرجت الايقاع في الطائره عن النمطيه والنسقيه الاحاديه في حركه الابل, لانك بتاكيدك لاختلاف السرعه وتوترها في ايقاع الطائره قمت بربط هذا الايقاع بالخبره الانسانيه وطابعها غير النمطي, فما بالك ياصديقي لو اتسعت امثلتك هذه فاضفت اليها الايقاع في الابداع الادبي والشعري خاصه؟ هل ستساوي بينه وبين ايقاع حركه الافلاك* صدقني لست افتعل قولا حول العلاقه بين هذين الايقاعين
وانما اتذكر تاكيدا لهذا القول لاحد كبار الادباء في اجتماع قديم لعلك كنت حاضرا فيه في اتحاد الادباء في الخمسينيات, راح يسعي لتاييد الاوزان والبحور الشعريه العربيه, ويوكد هذا الاديب الفاضل ان الخروج عليها حتي في اطار شعر التفعيله هو خروج علي الايقاع الكوني الموحد, الذي يلتقي فيه الوزن الشعري ببحوره وقوافيه مع حركه الافلاك؟!
وفي تقديري ان جوهر القصور في مثل هذا القول او هذا المنطق, انما يرجع الي الخلط كما سبق ان اشرت بشكل سريع بين الزمن الالي والزمن الانساني الاجتماعي, اي الخلط بين الزمن والتاريخ, حقا, ان المقياس الالي للزمن هو المقياس النمطي للانتظام في حركه كل شيء, ولكننا عندما نخرج به من حدود القياس الي التقويم, خاصه في مجال الفعل الانساني, فاننا نفقد هذا الفعل انسانيته, بل نجمد امكانياته الابداعيه.
ولهذا اعود مره اخري فاقول: نعم ياصديقي العزيز, ان الانتظام شرط اساسي لوجود الايقاع في كل شيء, وبخاصه في الشعر موضوع حوارنا ولكن.. ماذا يعني الانتظام وماذا يعني الايقاع في هذا المجال الانساني الابداعي, اي الشعر,؟ هل هو مجرد تتابع المقاطع الصوتيه علي نحو معين كما تقول في مقالك او هو الحركه الموزونه بالذات او انتظام الزمن وتواليه كما تقول كذلك؟ اي بتعبير اخر هو اطراد ايقاعات متماثله او مختلفه اي تكرارها بشكل نمطي.
واتساءل: هل انغلق الانتظام والايقاع علي بحور الشعر التقليديه, ولا تجاوز عنها الا في حدود شعر التفعيله؟
الا يمكن ان يتحقق الانتظام والايقاع بغير وحدات رتيبه متكرره, وبغير نمطيه, وبغير زمنيه ممتده مستقره في امتدادها؟ الا يمكن ان يتحقق الانتظام والايقاع من عوامل ومصادر اكثر عمقا وخفاء, واكثر تعقيدا بل وتشتتا واختلالا مما يفتح افاقا اشد خصوبه وغني وتجددا وابداعا من الناحيه الجماليه, بل والمعرفيه؟ الا يتحقق هذا بالفعل اليوم بمستويات وانحاء مختلفه ومتنوعه في مجالات الابداع الادبي والموسيقي والفنون التشكيليه من رسم ونحت وتصوير وعماره, فضلا عن الفنون الحركيه كالرقص والسينما والمسرح؟ بل لعل هذا هو ما يتحقق كذلك في مجال الانسانيات والعلوم الطبيعيه والبيولوجيه, لا خروجا علي الدقه الموضوعيه, بل تعميقا لها؟ ان الايقاع هو مجرد عنصر من عناصر الخبره الانسانيه المعرفيه والجماليه, وليس هدفا في ذاته, الهدف هو الابداع, ففي البدء كان الابداع, والابداع بدء متجدد.
عذرا ايها الصديق العزيز, فما اريد ان احمل مقالاتك حول قصيده النثر وموقفك منها اساسا كل هذه الهموم البحثيه حول الايقاع في مختلف هذه الفنون والعلوم, وانما اردت ان اوكد لك ان البحث عن ايقاعات وانتظامات جديده غير نمطيه, وبالتالي عن قيم ومعارف جديده, في مجالات التعبير والتفكير والابداع, اصبح سمه عصرنا الراهن, اننا نعيش مرحله معرفيه وعلميه وادبيه وفنيه واجتماعيه وسياسيه من تاريخ العالم, تتفتح علي افاق جديده في مختلف هذه المجالات, لهذا كما قلت لك ايها الصديق العزيز في البدايه ما اجدرنا ان نعمق تاملاتنا واستيعابنا النقدي لمختلف الظواهر الجديده البازغه دون افكار وتقويمات مسبقه, قاطعه نهائيه.
مع اعمق تقدير واصفي موده.
محمود امين العالم
.
الصديق العزيز والشاعر الكبير احمد عبدالمعطي حجازي
اطيب تحيه.. وبعد
شكرا علي اشارتك الكريمه في مقالك الاخير, الي بعض كلام لي شاركت فيه بالراي, ردا علي سوال حول قصيده النثر, التي فجرت قضيتها في مقالاتك الاخيره, وكنت اعرف رايك في هذه القضيه في كتابات لك سابقه, واحترمه وان اختلفت معه.. وادرك انك كما تقول بحق في مقالك الاخير لا تنكر علي المدافعين عن قصيده النثر دفاعهم حول ظاهره شعريه اري انه قد استقر لها اليوم حق المواطنه في الشعر الانساني المعاصر, وفي شعرنا العربي كذلك باعتبارها امتدادا واضافه ابداعيه الي التراث الشعري عامه, علي اني كنت اري ان مستوياتها الذوقيه والجماليه ومعاييرها النقديه والنظريه, لم تستقر بعد, خاصه في ادبنا العربي المصري المعاصر, ولهذا اري ان جهدنا ينبغي ان يتوجه اساسا الي الاجتهاد في تفهمها واستيعابها نقديا, والمساهمه في تنميتها ابداعيا كفصل جديد في ديوان شعرنا العربي, ومازلت في الحقيقه عند رايي هذا, الذي اشترك فيه مع طائفه من نقادنا الذين يبادرون منذ فتره الي التعامل النقدي الجاد المتفتح مع هذه الظاهره الشعريه, واخص بالذكر د. محمد عبدالمطلب وابراهيم فتحي وادوار الخراط, ود. مصطفي ناصف, ود. جابر عصفور, فضلا عن فقيدتنا العزيزه الدكتوره الفت الروبي, التي حاولت في اشاره سريعه منذ بضع سنوات تاصيل قصيده النثر في بعض ظواهر تراثنا النثري القديم, علي ان اشارتك الي موقفي من قصيده النثر في مقالك الاخير, تفرض علي تقديرا لك وحرصا مشتركا بيننا علي الوضوح الفكري في حياتنا الثقافيه ان اناقش قضيه واحده اراها محور الخلاف معك حول قصيده النثر, هي قضيه الايقاع.
اتساءل: ما هو المصدر الذي استقيت منه او اوحي اليك في مقالك الاخير, بانني اقول ان الايقاع قيمه بدويه لا مكان لها في الحضاره الحديثه!! فهذا كلام لايقال بل خلط وتخليط, اما قولي الذي اقتنع به واوكده فهو ان الايقاع ليس قيمه ثابته مطلقه, وانما هو نسق يختلف باختلاف الاوضاع الاجتماعيه والثقافيه والحضاريه عامه, ولعلي ذكرت وكان حديثي تليفونيا مع احد الزملاء الصحفيين ان ايقاع الشعر العربي في بدايته الذي يغلب عليه الاطراد وتكرار الوحدات المتماثله, هو انعكاس ادبي او استلهام فني لايقاع حركه الابل في الصحراء, وهو في الحقيقه ليس رايي وحدي بل راي العديد من النقاد القدامي والمعاصرين, علي ان المساله عندي اكبر من مجرد حركه الابل في الصحراء, وانما هي طبيعه الحياه الصحراويه القبليه نفسها ذات الايقاع البطيء, الذي يغلب عليه الاطراد والنمطيه والجمود النسبي, وكان هذا مقدمه لقولي ان الايقاع قيمه نسقيه تتغير وتتطور بتغير وتطور اشكال الحياه الاجتماعيه وممارساتها ومعطياتها, ولهذا فايقاع الحياه البدويه القبليه يختلف عن ايقاع الحضاره الحديثه قطعا, بل اختلف بالفعل هذا الايقاع باختلاف الواقع الاجتماعي والتاريخي والادبي لهذه الحياه البدويه القبليه مع ظهور الدعوه الاسلاميه وانتشارها جغرافيا وتطورها حضاريا, وانعكس هذا الاختلاف الايقاعي في مختلف اساليب السلوك والتعابير, ونتبين هذا بوجه خاص في اختلاف وتنوع الاجتهادات الابداعيه الشعريه طوال مراحل التاريخ العربي في مشرقه ومغربه منذ العصر الجاهلي الي اليوم وما زعتقد ياصديقي انك تختلف معي في هذا, ولا مجال هنا لتفصيل, ولهذا اكتفي بالخلاصه العامه, وهي ان الايقاع قيمه شان القيم جميعا ذات عمق انساني ودلاله تاريخيه, وهنا يبرز ويتحدد الخلاف بينك وبين المدافعين عن قصيده النثر ومبدعيها, ذلك انك ايها الشاعر المبدع ويا للغرابه تجمد الايقاع داخل قالب محدد ثابت مطلق, بتوحيدك اليا بين الخبره الانسانيه, والحيه والطبيعه الماديه الثابته الجامده! اسمح لي ان استعيد معك فقره من فقرات مقالك السابق تقول فيها: ان الزمن موجود في كان مكان, وحركته المنتظمه تتمثل في الطبيعه والحياه العصريه, كما تتمثل في سير الابل, وتوالي الليل والنهار وتعاقب الفصول, ونبضات القلب وايقاعات العمل والراحه ثم لا تلبث ان تسالني: هل تعتقد ان ايقاع محركات الطائره مثلا اقل انتظاما من ايقاع خطي الابل في الصحراء؟ وترد علي قائلا: موكد انه اسرع واشد توترا لكنه ليس اقل انتظاما, ولهذا توكد في النهايه الانتظام شرط اساسي لوجود الايقاع.
نعم ياصديقي العزيز الانتظام شرط اساسي لوجود الايقاع, ولكن القضيه هي اي انتظام واي علاقه بينه وبين الايقاع, حقا, كل شيء متزمن بزمن كما تقول الفلسفه الوجوديه, ولكن هل تتساوي حركه الزمن المنتظمه والمطرده في الطبيعه كما تقول, مع حركته في الحياه العصريه؟ وهل يتساوي الزمن الالي النمطي في اجهزه الساعات الميكانيكيه مع معاناه الزمن الحي في الخبره الانسانيه, وهل يتساوي توالي الليل والنهار وتعاقب الفصول مع نبضات القلب في خضم حياه الانسان اليوميه, ومع ايقاعات العمل والراحه في تعقد العلاقات الاجتماعيه الحاليه؟ وهل يتوافق انتظام ايقاع خطي الابل في الصحراء مع ايقاع محركات الطائره؟! وعندما تستدرك ياصديقي العزيز وتقول موكد انه اسرع واشد توترا, فانك بهذا اخرجت الايقاع في الطائره عن النمطيه والنسقيه الاحاديه في حركه الابل, لانك بتاكيدك لاختلاف السرعه وتوترها في ايقاع الطائره قمت بربط هذا الايقاع بالخبره الانسانيه وطابعها غير النمطي, فما بالك ياصديقي لو اتسعت امثلتك هذه فاضفت اليها الايقاع في الابداع الادبي والشعري خاصه؟ هل ستساوي بينه وبين ايقاع حركه الافلاك* صدقني لست افتعل قولا حول العلاقه بين هذين الايقاعين
وانما اتذكر تاكيدا لهذا القول لاحد كبار الادباء في اجتماع قديم لعلك كنت حاضرا فيه في اتحاد الادباء في الخمسينيات, راح يسعي لتاييد الاوزان والبحور الشعريه العربيه, ويوكد هذا الاديب الفاضل ان الخروج عليها حتي في اطار شعر التفعيله هو خروج علي الايقاع الكوني الموحد, الذي يلتقي فيه الوزن الشعري ببحوره وقوافيه مع حركه الافلاك؟!
وفي تقديري ان جوهر القصور في مثل هذا القول او هذا المنطق, انما يرجع الي الخلط كما سبق ان اشرت بشكل سريع بين الزمن الالي والزمن الانساني الاجتماعي, اي الخلط بين الزمن والتاريخ, حقا, ان المقياس الالي للزمن هو المقياس النمطي للانتظام في حركه كل شيء, ولكننا عندما نخرج به من حدود القياس الي التقويم, خاصه في مجال الفعل الانساني, فاننا نفقد هذا الفعل انسانيته, بل نجمد امكانياته الابداعيه.
ولهذا اعود مره اخري فاقول: نعم ياصديقي العزيز, ان الانتظام شرط اساسي لوجود الايقاع في كل شيء, وبخاصه في الشعر موضوع حوارنا ولكن.. ماذا يعني الانتظام وماذا يعني الايقاع في هذا المجال الانساني الابداعي, اي الشعر,؟ هل هو مجرد تتابع المقاطع الصوتيه علي نحو معين كما تقول في مقالك او هو الحركه الموزونه بالذات او انتظام الزمن وتواليه كما تقول كذلك؟ اي بتعبير اخر هو اطراد ايقاعات متماثله او مختلفه اي تكرارها بشكل نمطي.
واتساءل: هل انغلق الانتظام والايقاع علي بحور الشعر التقليديه, ولا تجاوز عنها الا في حدود شعر التفعيله؟
الا يمكن ان يتحقق الانتظام والايقاع بغير وحدات رتيبه متكرره, وبغير نمطيه, وبغير زمنيه ممتده مستقره في امتدادها؟ الا يمكن ان يتحقق الانتظام والايقاع من عوامل ومصادر اكثر عمقا وخفاء, واكثر تعقيدا بل وتشتتا واختلالا مما يفتح افاقا اشد خصوبه وغني وتجددا وابداعا من الناحيه الجماليه, بل والمعرفيه؟ الا يتحقق هذا بالفعل اليوم بمستويات وانحاء مختلفه ومتنوعه في مجالات الابداع الادبي والموسيقي والفنون التشكيليه من رسم ونحت وتصوير وعماره, فضلا عن الفنون الحركيه كالرقص والسينما والمسرح؟ بل لعل هذا هو ما يتحقق كذلك في مجال الانسانيات والعلوم الطبيعيه والبيولوجيه, لا خروجا علي الدقه الموضوعيه, بل تعميقا لها؟ ان الايقاع هو مجرد عنصر من عناصر الخبره الانسانيه المعرفيه والجماليه, وليس هدفا في ذاته, الهدف هو الابداع, ففي البدء كان الابداع, والابداع بدء متجدد.
عذرا ايها الصديق العزيز, فما اريد ان احمل مقالاتك حول قصيده النثر وموقفك منها اساسا كل هذه الهموم البحثيه حول الايقاع في مختلف هذه الفنون والعلوم, وانما اردت ان اوكد لك ان البحث عن ايقاعات وانتظامات جديده غير نمطيه, وبالتالي عن قيم ومعارف جديده, في مجالات التعبير والتفكير والابداع, اصبح سمه عصرنا الراهن, اننا نعيش مرحله معرفيه وعلميه وادبيه وفنيه واجتماعيه وسياسيه من تاريخ العالم, تتفتح علي افاق جديده في مختلف هذه المجالات, لهذا كما قلت لك ايها الصديق العزيز في البدايه ما اجدرنا ان نعمق تاملاتنا واستيعابنا النقدي لمختلف الظواهر الجديده البازغه دون افكار وتقويمات مسبقه, قاطعه نهائيه.
مع اعمق تقدير واصفي موده.
محمود امين العالم
.