د. محمد عبدالله القواسمة - صفية حمدان... أمي

تمر السنون، أتذكرها صفية حمدان أمي، كأنها أمامي الآن، بثيابها الفلاحية المطرزة البسيطة، وغدفتها البيضاء، ومنديلها الأحمر العريض. أتذكرها وهي تطرز في ذلك الثوب الذي أهلك من عمرها الأيام، وهو بين يديها تتنقل به وبمواده من كرات حرير، وإبر، وماركات في غرف البيت، والحوش، أو عند جاراتها: أم العبد، أو الحاجة تركية، أو أم طارق. كانت هؤلاء الجارات اللائي غيبهن الموت يشبهنها في اللطف والدماثة والطيبة وحسن الطوية؛ لهذا كن يستمتعن بجلوس بعضهن إلى بعض يطرزن ويتحدثن عن أيام ماضيات قمن فيها بأعمال الحصيدة، والخبز على الطابون، وسقي الغنم، والانتباه إلى الدجاج والعناية بالحظيرة. كن يبتعدن عن النميمة والغيبة وثرثرة النساء المنعمات، إنهن اخترعن هذا النوع من العمل اليومي في أواخر أيامهن؛ من أجل المحافظة على عفة الكلام وعدم الانزلاق في القول أكثر منه للحصول على ثياب مطرزة وجميلة.

أتذكرها أمي صفية حمدان تلك المرأة الأمية التي لم تدخل مدرسة ولا جامعة؛ لضيق الحال، وفقر الزمان في مطلع القرن الماضي. كانت رغم أمّيتها تدرك قيمة التعليم والتعلم، وتحرص على أن يتلقى أولادها العلم الذي حرمت منه؛ كي يكون لهم شأن في الحياة. أذكر أنها كانت أيام المدرسة لا تنام وابنها مستيقظ. كانت تساهره تارة بتقديم أكواب الشاي أو إعداد وجبات من الطعام المتوافر؛ كانت تعرف أن وجودها بجانبه يؤنسه، ويزيد من نشاطه وحيويته، وحبه للمعرفة والحياة.

أتذكرها أمي صفية حمدان، وهي تحتمل عذابات الحياة في مخيم الفوار الذي التجأنا إليه في النكبة الأولى عام 1948م. كانت توقظني في الليل، بوصفي رجلها الصغير، وتصحبني عندما لا تجد من الجارات من تذهب معها. نخرج معًا لنجمع الخبيزة والزعتر واللوف. كانت تطبخ الخبيزة وتشرح لنا فوائدها في إمداد الجسم بالقوة، كما أنها أي الخبيزة مفيدة للمرضعات في إكثار لبنهن. والزعتر كانت تعمل منه الدقة والفطائر، وكانت تطبخ من اللوف الذي يمتاز بالحرقة طبخة تسمى الجعاجيل التي تتكون فضلًا عن اللوف من الدقيق والبيض واللبن. كانت بهذه النباتات البرية تبعد عنا غائلة الجوع. كنت أحس بألمها الشديد حين كنا نتعرض للطرد من أبناء جلدتنا أصحاب الأرض التي كانت تنمو فيها تلك النباتات البرية. وكان يشتد حزنها عندما تتذكر أن أمثال هذه النباتات وغيرها من الفواكه والحبوب كانت مشاعًا لجميع سكان القرية التي كانت تسمى تل الصافي.

كما كانت أمي تصحبني معها منذ الفجر لجمع الحطب وقرامي النتش من الجبال القريبة، وتجعل منها حزمة كبيرة تحملها على رأسها إلى المخيم. كانت تبيع ما جمعته من أجل أن تسد جزءًا من ثمنه أجرة الفران، وديون الدكان والمرابي. كانت أمي تقدم هذه التضحيات بروح سمحة، وقلب سعيد في ظل مرض الزوج، وطفولة الأبناء.

أتحدث عن أمي بكل فخر واعتزاز، وأعترف بأنها الإنسانة الوحيدة التي ما زالت ترافقني في إبداعاتي كلها، كما أنها فكانت بطلة روايتي "أصوات في المخيم"، وأنفاسها تتردد في رواياتي الأخرى: "شارع الثلاثين" و"وجع الفراشة" و"حبيباتي الثلاث"، وكانت أولى أعمالي وقصصي القصيرة مهداة إليها وإلى أبي.

جعلتني أمي أحب كل الأمهات؛ لأنهن ببساطة فيهن شيء من أمي في طيبتها، ورقتها، وحنانها، وتضحيتها من أجل الزوج والأبناء، وفي حبها للحياة والناس جميعًا.

كانت صفية حمدان.. أمي يرحمها الله! أشبه بالقديسة التي تحدثت عنها الديانات والأساطير. ما زلت أحس مذ غيبها الموت قبل ثلاثة وثلاثين عامًا بأني أفتقدها، وأغرق في الحزن حين أتذكرها، وأغدو كأني طفل صغير فقد كل شيء. يا الله كم نحن أطفال عندما نتذكر أمهاتنا!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى