- رسالتان بين سركون بولص و مؤيد الراوي
* من مؤيد إلى سركون
منذ أكثر من شهر لم أستلم منك رسالة ضوئية أو مكالمة تلفونية. أمس الأول اتصلت بك فقالت لي" ايلكا" أنك بخير وذهبت في زيارة قصيرة إلى "مودستو"، مدينتك الآشورية التي تحبها وتكرهها في نفس الوقت، لكنك تختزن بها صورا وحكايات عن أحداث وشخوص اختلط لديهم الماضي والحاضر وتبعثر عندهم المكان. حسناً إنه ماء ضحل هذه العودة المقصودة إلى الماضي تريد أن تسبح فيه، وكلنا يفعل ذلك، لنعود إلى دهشته، إلى الشخوص التجريديين في مناطق "التبة" و"عرفة"، وما سماه الآشوريون بشارع تكساس ذلك الدرب الجميل في "صاري كهيه" الذي يقضي إلى محطة سكة حديد شركة النفط. ولكنني أعتقد بأن الإبحار في "موديستو" لا يمكن أن يقارن مع فيضان "خاصة صو" في ربيع كركوك. والواقع أن الجالية الآشورية في مدينتها الجديدة التي تجمعوا فيها مثل طيور طريدة أجبرت على مغادرة أعشاشها إلى المنافي لا يمكن أن تبني أعشاشها من الحديد والاسمنت. على أية حال يبدو الأمر بالنسبة لنا، نحن الذين نوغل أحيانا في الماضي، ضرباً من التشبث بفردوس مفقود لوّنته فترة اليفاعة والصبا مثل قوس قزح ينبثق من مطر شفيف. لكن الحقيقة هي أن تلك الفترة المتناغمة مع الذات قد رحلت إلى الأبد، مع أنها في لحظات ضعفنا تبدو وكأنها تركت فينا حفراً وأخاديد عميقة. مع ذلك سوف أنتظر لدى قدومك إلى برلين أحاديثك الشيقة عن العجوز خوشابا في "مول" المدينة وهو يقضي جل وقته من الصباح حتى المساء يراقب الأطفال في لعبهم فيما تثار حوله الشبهات من قبل العوائل الأمريكية. وسوف تجلب معك بالتأكيد حكايات من كنا نعرفهم خاصة أولئك الذين أصبحوا سوّاق شاحنات يقطعون المسافات الطويلة بين المدن. آمل أنك ستلتقي بعمانوئيل وورده خيو وعازف الترامبيت، الذي نسيت اسمه، حيث كان يعزف ليلاً على سطح بيتهم محدقاً في النجوم كي تسمعه ماركريت الحبيبة.
مها يكن، ودون أن أكرس هذه الرسالة عن الماضي، أود أن أحدثك عن برلين التي تحبها لكي أشحذ همتك وأدفع عنك الكسل لتسرع في المجيئ إلينا. وأود منك هنا أن تنسى الصور الثلاث التي أرسلتها لك عن شتاء برلين المغطاة بالثلوج لأن الربيع بدأ يتململ ليستيقظ كلياً.
في الحادية عشرة صباحا، والشمس تضج في نهاية شهر مارس بدأت أولى زهور أشجار الكرز الصيني وأشجار الفليدر بالتفتح، والبارك الذي أمام الشقة في غوبنر شتراسة بدأ يطلق براعم أشجاره الغضة فيما يمنح الضوء قدرة الرؤية إلى مسافات بعيدة. لقد فوجئت اليوم، وأنا أزمع الذهاب إلى مقهانا الأثير سوسيال، برقعة مثبتة على بوابة البناية التي نسكنها تقول: "هنا كان يسكن عمال السخرة الذين اعتقلتهم النازية واستقدمتهم إبان الحرب الثانية من شعوب مختلفة، ولم يتم حتى الآن تعويض الكثير منهم" وللحظة شعرت بأننا في شقتنا بغوبنر شتراسة نتحاور معهم بصمت ونحن أشبه بأولئك العمال المسخرين نقعى في غرفنا سنوات طوال بعيدا عن البلاد، نحفر في دواخلنا، نقرأ ونفحص الكلمات ونمسك بالأفكار، أو هي التي تمسك بنا، كأنما تحولنا إلى حيوان الخلد مسخرين انفسنا لكي نعرف مَن نحن، وقد طلقنا الحياة وأقصينا عنا البهجة. أية مصائر جعلتنا نشعر بهذا الغبن؟.على أية حال لا أريد أن اخوض هنا مجدداً وأتعمق في إرث العزلة بوساوسها و بمساوئها وحسناتها، وطالما تحدثنا طويلاً بألم وبمفارقات مضحكة عن محنة الكتابة والكتّاب.
ومع هذا أريد أن أشكرك على دفع بدل اشتراكي في مجلة " ذي أميركان بويتري ريفيو" وأشكر الشحاذ العجوز الغساني عن تسديد بدل اشتراكي في مجلة " بوييتز آند رايتيرز". وربما سنلتقي نحن الثلاثة في آب من هذا العام. وقد كتب لي أنور مؤكدا مجيئه، ولا أعتقد بأن يخلف هذا المبرمج العظيم مواعيده مطلقاً.
عزيزي الأفندي سركون، عثرت على قصائد روبرت كريلي، وأنا أقرأها بإمعان، بل ترجمت العديد من قصائده لكي أكتشف رؤاه ومقدرته في أن يقدم قصيدة مقتصدة بالكلمات، ذاتية بعيدة عن السرد المطوّل، وبتقطيع فريد من نوعه، قصيدة حالة تتسم بالتأمل من غير صخب وعويل، قصيدة الحوار مع الذات الموغلة في التباسها وهي ترى في الكتابة نوعاً من الخلاص. على خلاف قصائد كثيرة تعلن عن درامية توالف بين الذات والخارج، وتقوم بسرد الحالة المتأزمة التي تعيشها في العالم المحيط بها.
لقد عدت إلى قراءة غينزبيرغ وفيرلنكيتي وكورسو، وهم كما تعرف شعراء الاحتجاج والغضب، مرآة الجيل الستيني، لأجد الفرق الشاسع بين كتاباتهم وكتابة كريلي الذي عاصرهم لكنه أمتلك رؤية خاصة به في نفس الزمان. وإذا كانت المرارة المعلنة جلية في معظم قصائد الآخرين فإن كريلي تميّز بتجسيد مرارة من نوع آخر أكثر إيغالاً في العمق وملتصقة بذات فردية تختزل لامعقولية العالم والحياة في قول شعري يجسد الدراما في نفسه وفي توحده وفي معرفته بعزلة الآخرين دون اعلان السخط واطلاق الصراخ والضجيج المنعكس في النفس من أذى العالم الخارجي. ولابد هنا من التنويه بأن قصيدة عواء (التي ترجمتها انت ونشرت في الكرمل قبل سنوات طويلة) في صخبها وطريقة سردها الغاضب كانت بمثابة الطبعة الأولى لقصائد عدد من الشعراء الذين نعرفهم وقد نسخوا على منوالها ولكن بشكل رديء.
ويمكن أن نستشعر كل ذلك في هذه القصائد الثلاث التي ترجمتها لنفسي، وبالتأكيد سوف نتحدث عن عالم كريلي حديثا وافياً عندما سنلتقي، خصوصا وان ذاكرتك استثنائية. ودمت يا سركون بيك.
1 ـ صورة شخصيَّة
يريدُ أن يكونَ
عجوزاً قاسياً،
رجلاً عدوانياً طاعناً في السن،
متبلد الحس، جلفاً
مثل الفراغ الذي يحيطُ بهِ.
هو لا يريد المساومةَ،
ولا حتى أن يكون لطيفاً
مع أحد. مع ايٍّ كان،
فقط أن يكون ممعناً في قسوته،
ورفضهِ المطلق للكل ومن الكل.
حقاً جَرَّبَ الحلو،
والرقة وجرّب الـ " أُه،
دعنا نمسك أيادي بعضنا"
وكان ذلك فظيعاً،
مملاً، قاسياً بشكلٍ غير عادي.
والآنَ يريد أن يقفَ،
على ساقيهِ المرتعشتين.
ذراعاهُ، جلدهُ،
ينكمش يوماً بعد يوم. و
يحبُّ، لكنهُ يكرهُ بالتساوي.
2 ـ بعدَ روبرت فروست
الى شيرمان بول
هوَ يأتي إلى هنا
سالكاً أي طريق يستطيع،
لا يصل متأخراً جدا،ً
ولا مبكرا جداً.
يجلسُ، منتظراً.
لا يعرفُ
لماذا عليهِ
أن يملك كل هذا الصبر.
يجلس إلى منضدةٍ
على كرسي.ٍ
يجلس هناك
بارتياح.
لا أحد غيرهُ
في هذهِ الغرفة،
لا آخرينَ، ولا توقعات،
لا أصوات.
لو انهُ اتخذ
طريقاً أخر،
لوصل إلى هنا،
كما يقال.
3 ـ رثاء
ما مَضى قد مضى.
ما ضاعَ ضاعْْ.
ما الذي يُحَسُّ بهِ كالنَبْض ـ ـ
ما الرُشدُ، ما الوطن؟
مَنْ هنا، مَن هناك ـ ـ
ماذا تبقى من هدأة الروح.
لـِمَ التَفكيرُ بهذا كلّه،
لماذا رَجْع الصدى؟
أن تَبدأ الآنَ ـ ـ
لِمَ الخوفُ من الخاتمة.
***
* من سركون إلى مؤيد
متى يا ابن الأوادم؟ هل حان الوقت أم لا... أَسمع ماذا يقول بودلير: "أي مكان آخر سوى هذا ".
مؤيد، أشعر وكأن قرناً من الزمن مرّ، ساحباًً خيوله العرجاء على طرقات أيامنا تاركاً في ترابها أحشاءها الزرقاء مثل عناقيد من كرمة إله فاسد، سكران... رحلة لم تكن في عشوائية تعاريجها أكثر من تخطيطات أعمى. رحلة، من وجهة نظري، من فرط توغّلها في أحراش عوالم مجهولة لا قدرة لي على وصفها، تبدو شفافة، ضبابية مثل أطياف حائرة تهيم في مرآة. والآن. ويا لها من منقذة، تلك الآن! كلما ذكرتها، أردتها أن تكون معبودتي الأولى، تكرّ بعدها أسماء الآلهة الأخرى الجديرة بالتمجيد، مثل مسبحة في يد عابد صعقته لفحة برق. أنا، الآن، في تلك الحالة، ذلك الوضع، لا أنظر الى الوراء لأرى أية آثار تركتها في رمال الصحراء خلفي، ولا الى الأمام لأستشرف ما سيأتي من علامات. أطوف من محطة مهجورة في ذاكرتي إلى ميناء أبحرت منه آخر السفن... لكننا جئنا على تفاصيل هذه المواضيع الشيقة، كما تدري، في أحاديثنا بالتلفون، بحماسة وتفكّ-ه أكثر ليت أحدهم كان سجّل بعضها لتكون كتاب ألمعيّـتنا وفوضانا أكثر من أي كتاب قد نريد به تدمير نظام الكتابة - أو تشييده - في مستقبل ما، هذا إذا ما كان هناك "مستقبل" يمكنني أن آمل فيه، ما زلنا قادرين فيه على الإتيان بأشياء حقيقية.
بهذا التذبذب بين الأمل واليأس، كعقربي ساعة نسيها الزمن، أجد نفسي في هذه الأيام. أجد نفسي على مدخل كهف خرجت منه أخيراً، بعد أكثر من ستة أشهر، الى العالم الأليف. بدأت أسترجع العادات المزمنة التي هي مخدّرنا اليومي الذي يقينا، بشكل ما، من وحوش العالم الباطن التي تنتظر فجوة، أو شقّاً في جدار حصاناتنا، لتكتسح. هذا أخطر ما في الأمر: أن نكتشف أن الجسد، جسدنا الموثوق به هذا، قد يخوننا بطريقة ما، لا ندري متى أو كيف. أي شىْ يمكنه أن يتكفل بذلك. ومن هناك، كما اكتشفت، قد تؤدي الطريق الى أية أحراش، أية غابة. أو الى الجحيم، كما اكتشف دانتي، في بدء "الكوميديا الإلهية". ولا شكّ عندي أن الجحيم، والمطهر، والجنة موجودة كلها في كل واحد منّا - كل ما هناك أن عليك أن تجد المفتاح، وأن تديره، أو تترك لتلك اليد الخفية أن تديره، لتدخل بلا بطاقة، ولا رخصة من الكهنة والأئمّـة.
في تلك الليالي الطويلة، القاحلة، حيث النوم من أندر ما يكون، كان همّي أن أجد شيئاً أقرأه، شيئاً جديراً بالقراءة، ورغم أن مكتبتي تحتوي على كتب يمكنك أن تقول أنها عصارة الفكر الإنساني، وقلب الأدب، وجدت نفسي أقلب الصفحات ولا اكاد أتجاوز تلك الفعالية المحزنة: تقليب صفحات! كنت أبحث عن كتابة تجبرني على الوقوف. تفتح لي باباً مغرياً بالدخول. والحق أنني لم أكن اعرف تماماً عن أي شىْ أبحث بالضبط. لكنه كان وثوقي بقوة الكتابة وقدرتها على اختراق الحاضر، على إعلاء الواقع الى مستوى السحر. من القديس أوغسطين الى رابليه، من الإغريق الى الصينيين، من شكسبير الى بيكيت...تقليب صفحات؟ يا لبؤسي. هذه هي الطامة، فالقراءة بالنسبة الي تكاد تضاهي فعل العبادة. وكان خوفي أن يكون هذا الجيش الصغير، العظيم الذي لا يحارب سوى بقلم ودفتر، ولا يحتاج الى خيول ولا دبابات، قد فقد قدرته على امتلاك ولائي المطلق...
مع استثناء بضعة شعراء: فاييخو، أودن، مونتالي، تيد هيوز، بيسوا...أعمالهم، عندي، مقدسة. أفتح كتاباً كيفما اتفق لأي واحد منهم، فإذا العالم يستيقظ من نومة أهل الكهف، ويبدأ بأن يحيا. في أشدّ الساعات ظلاماً، ألجأ الى دائرة حضورهم المليئة بالأشعاع. أصواتهم - التي تركوا لنا فيها أسرار الوجود الأبدية، هذا إذا عرفت كيف تقرأهم - تنبع رأساً من قلب العالم. وبين حين وآخر أترجم قصيدة لهم، مأخوذاً بفكرة أن أتبلّـل برذاذ فيوضهم إذ تنبجس في الصيغة التي سأختارها لهم بالعربية. لديّ مئات القصائد من أفضالهم. أكاد أنتهي من مختارات ضخمة لأودن وهيوز خصوصاً. آخر ما شدّني من بيسوا قصيدة صغيرة لا حدّ لفتنتها، أريدك أن تستمتع بها أيضاً:
صليب؟ على باب دكان التبغ؟
صليب؟ على باب دكان التبغ؟
من ذا الذي مات؟ أيكونُ "ألفيز" يا تُرى؟
في هذا الصباح، اللعنة على معنويّاتي العالية.
منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
من تُراهُ كان؟ حسناً، هو الذي كنتُ أراه.
كنتُ أراهُ في كلّ يوم. والآن، ها أنا
فقدتُ منبعَ رتابتي اليوميّة ذاك.
منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
كان يملك دكانَ التبغ. لقد كان
بمثابة مرجع للأنا التي هي أنا.
عبر دكانه كنتُ أمرّ، في الليل والنهار.
منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
على الأقلّ، كان يلاحظه المارّة.
ركيزةً ما، كان. أمّا أنا، فجوّالٌ من مكان
الى آخر. إن أمُت، لن يفتقدني أحد. لا أحد
سيقول: منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
اكتب، خونا بريخا، ماذا بقي غير الكتابة؟ بها وحدها يمكن أن نغيّر المدينة. محبة. والى رسالة قادمة.
سركون
* ملاحظات
ـ مع الأسف سقط التاريخ الدقيق في الرسالتين لدى نقلهما ألى ملفي الخاص للحفظ، ولكنهما على الأرجح في نهاية العام 2003 أو بداية العام 2004
2 ـ "مودستو" مدينة صغيرة قي مقاطعة كاليفورنبا تضم أعدادا كبيرة من الآشوريين المهاجرين من العراق، وكان هؤلاء مع أعداد كبيرة من المسيحيين بدأوا الهجرة إلى أمريكا وأستراليا وغيرها من البلدان منذ أعوام الستينيات بسبب التمييز والقمع الديني. وتضم مندستو جالية كبيرة من مدينة كركوك والمناطق الشمالية من العراق.
3 ـ تختتم رسالة سركون بعبارة " خونا بريخا" الآشورية التي تعني الأخ العزيز أو الأخ المبارك.
4 ـ ايلكا رفيقة عمر سركون. ألمانية المولد هاجرت الى استراليا ثم الى امريكا، وتعرفت على سركون لتعيش معه حتى وفاته.
5 ـ " غوبينر شتراسه" اسم الشارع الذي تقع فيه شقة الراوي قبالة بارك "إيكومنيوس" وقد اعتاد سركون أن يقضي فيها فترات طويلة كل عام تقريباً، وكان يتجول في البارك في وقت متأخر من الليل وفق نصيحة الأطباء ليعينه المشي لتشيط الدورة الدموية بعد عملية اجريت له في القلب قبل سنوات.
.
* من مؤيد إلى سركون
منذ أكثر من شهر لم أستلم منك رسالة ضوئية أو مكالمة تلفونية. أمس الأول اتصلت بك فقالت لي" ايلكا" أنك بخير وذهبت في زيارة قصيرة إلى "مودستو"، مدينتك الآشورية التي تحبها وتكرهها في نفس الوقت، لكنك تختزن بها صورا وحكايات عن أحداث وشخوص اختلط لديهم الماضي والحاضر وتبعثر عندهم المكان. حسناً إنه ماء ضحل هذه العودة المقصودة إلى الماضي تريد أن تسبح فيه، وكلنا يفعل ذلك، لنعود إلى دهشته، إلى الشخوص التجريديين في مناطق "التبة" و"عرفة"، وما سماه الآشوريون بشارع تكساس ذلك الدرب الجميل في "صاري كهيه" الذي يقضي إلى محطة سكة حديد شركة النفط. ولكنني أعتقد بأن الإبحار في "موديستو" لا يمكن أن يقارن مع فيضان "خاصة صو" في ربيع كركوك. والواقع أن الجالية الآشورية في مدينتها الجديدة التي تجمعوا فيها مثل طيور طريدة أجبرت على مغادرة أعشاشها إلى المنافي لا يمكن أن تبني أعشاشها من الحديد والاسمنت. على أية حال يبدو الأمر بالنسبة لنا، نحن الذين نوغل أحيانا في الماضي، ضرباً من التشبث بفردوس مفقود لوّنته فترة اليفاعة والصبا مثل قوس قزح ينبثق من مطر شفيف. لكن الحقيقة هي أن تلك الفترة المتناغمة مع الذات قد رحلت إلى الأبد، مع أنها في لحظات ضعفنا تبدو وكأنها تركت فينا حفراً وأخاديد عميقة. مع ذلك سوف أنتظر لدى قدومك إلى برلين أحاديثك الشيقة عن العجوز خوشابا في "مول" المدينة وهو يقضي جل وقته من الصباح حتى المساء يراقب الأطفال في لعبهم فيما تثار حوله الشبهات من قبل العوائل الأمريكية. وسوف تجلب معك بالتأكيد حكايات من كنا نعرفهم خاصة أولئك الذين أصبحوا سوّاق شاحنات يقطعون المسافات الطويلة بين المدن. آمل أنك ستلتقي بعمانوئيل وورده خيو وعازف الترامبيت، الذي نسيت اسمه، حيث كان يعزف ليلاً على سطح بيتهم محدقاً في النجوم كي تسمعه ماركريت الحبيبة.
مها يكن، ودون أن أكرس هذه الرسالة عن الماضي، أود أن أحدثك عن برلين التي تحبها لكي أشحذ همتك وأدفع عنك الكسل لتسرع في المجيئ إلينا. وأود منك هنا أن تنسى الصور الثلاث التي أرسلتها لك عن شتاء برلين المغطاة بالثلوج لأن الربيع بدأ يتململ ليستيقظ كلياً.
في الحادية عشرة صباحا، والشمس تضج في نهاية شهر مارس بدأت أولى زهور أشجار الكرز الصيني وأشجار الفليدر بالتفتح، والبارك الذي أمام الشقة في غوبنر شتراسة بدأ يطلق براعم أشجاره الغضة فيما يمنح الضوء قدرة الرؤية إلى مسافات بعيدة. لقد فوجئت اليوم، وأنا أزمع الذهاب إلى مقهانا الأثير سوسيال، برقعة مثبتة على بوابة البناية التي نسكنها تقول: "هنا كان يسكن عمال السخرة الذين اعتقلتهم النازية واستقدمتهم إبان الحرب الثانية من شعوب مختلفة، ولم يتم حتى الآن تعويض الكثير منهم" وللحظة شعرت بأننا في شقتنا بغوبنر شتراسة نتحاور معهم بصمت ونحن أشبه بأولئك العمال المسخرين نقعى في غرفنا سنوات طوال بعيدا عن البلاد، نحفر في دواخلنا، نقرأ ونفحص الكلمات ونمسك بالأفكار، أو هي التي تمسك بنا، كأنما تحولنا إلى حيوان الخلد مسخرين انفسنا لكي نعرف مَن نحن، وقد طلقنا الحياة وأقصينا عنا البهجة. أية مصائر جعلتنا نشعر بهذا الغبن؟.على أية حال لا أريد أن اخوض هنا مجدداً وأتعمق في إرث العزلة بوساوسها و بمساوئها وحسناتها، وطالما تحدثنا طويلاً بألم وبمفارقات مضحكة عن محنة الكتابة والكتّاب.
ومع هذا أريد أن أشكرك على دفع بدل اشتراكي في مجلة " ذي أميركان بويتري ريفيو" وأشكر الشحاذ العجوز الغساني عن تسديد بدل اشتراكي في مجلة " بوييتز آند رايتيرز". وربما سنلتقي نحن الثلاثة في آب من هذا العام. وقد كتب لي أنور مؤكدا مجيئه، ولا أعتقد بأن يخلف هذا المبرمج العظيم مواعيده مطلقاً.
عزيزي الأفندي سركون، عثرت على قصائد روبرت كريلي، وأنا أقرأها بإمعان، بل ترجمت العديد من قصائده لكي أكتشف رؤاه ومقدرته في أن يقدم قصيدة مقتصدة بالكلمات، ذاتية بعيدة عن السرد المطوّل، وبتقطيع فريد من نوعه، قصيدة حالة تتسم بالتأمل من غير صخب وعويل، قصيدة الحوار مع الذات الموغلة في التباسها وهي ترى في الكتابة نوعاً من الخلاص. على خلاف قصائد كثيرة تعلن عن درامية توالف بين الذات والخارج، وتقوم بسرد الحالة المتأزمة التي تعيشها في العالم المحيط بها.
لقد عدت إلى قراءة غينزبيرغ وفيرلنكيتي وكورسو، وهم كما تعرف شعراء الاحتجاج والغضب، مرآة الجيل الستيني، لأجد الفرق الشاسع بين كتاباتهم وكتابة كريلي الذي عاصرهم لكنه أمتلك رؤية خاصة به في نفس الزمان. وإذا كانت المرارة المعلنة جلية في معظم قصائد الآخرين فإن كريلي تميّز بتجسيد مرارة من نوع آخر أكثر إيغالاً في العمق وملتصقة بذات فردية تختزل لامعقولية العالم والحياة في قول شعري يجسد الدراما في نفسه وفي توحده وفي معرفته بعزلة الآخرين دون اعلان السخط واطلاق الصراخ والضجيج المنعكس في النفس من أذى العالم الخارجي. ولابد هنا من التنويه بأن قصيدة عواء (التي ترجمتها انت ونشرت في الكرمل قبل سنوات طويلة) في صخبها وطريقة سردها الغاضب كانت بمثابة الطبعة الأولى لقصائد عدد من الشعراء الذين نعرفهم وقد نسخوا على منوالها ولكن بشكل رديء.
ويمكن أن نستشعر كل ذلك في هذه القصائد الثلاث التي ترجمتها لنفسي، وبالتأكيد سوف نتحدث عن عالم كريلي حديثا وافياً عندما سنلتقي، خصوصا وان ذاكرتك استثنائية. ودمت يا سركون بيك.
1 ـ صورة شخصيَّة
يريدُ أن يكونَ
عجوزاً قاسياً،
رجلاً عدوانياً طاعناً في السن،
متبلد الحس، جلفاً
مثل الفراغ الذي يحيطُ بهِ.
هو لا يريد المساومةَ،
ولا حتى أن يكون لطيفاً
مع أحد. مع ايٍّ كان،
فقط أن يكون ممعناً في قسوته،
ورفضهِ المطلق للكل ومن الكل.
حقاً جَرَّبَ الحلو،
والرقة وجرّب الـ " أُه،
دعنا نمسك أيادي بعضنا"
وكان ذلك فظيعاً،
مملاً، قاسياً بشكلٍ غير عادي.
والآنَ يريد أن يقفَ،
على ساقيهِ المرتعشتين.
ذراعاهُ، جلدهُ،
ينكمش يوماً بعد يوم. و
يحبُّ، لكنهُ يكرهُ بالتساوي.
2 ـ بعدَ روبرت فروست
الى شيرمان بول
هوَ يأتي إلى هنا
سالكاً أي طريق يستطيع،
لا يصل متأخراً جدا،ً
ولا مبكرا جداً.
يجلسُ، منتظراً.
لا يعرفُ
لماذا عليهِ
أن يملك كل هذا الصبر.
يجلس إلى منضدةٍ
على كرسي.ٍ
يجلس هناك
بارتياح.
لا أحد غيرهُ
في هذهِ الغرفة،
لا آخرينَ، ولا توقعات،
لا أصوات.
لو انهُ اتخذ
طريقاً أخر،
لوصل إلى هنا،
كما يقال.
3 ـ رثاء
ما مَضى قد مضى.
ما ضاعَ ضاعْْ.
ما الذي يُحَسُّ بهِ كالنَبْض ـ ـ
ما الرُشدُ، ما الوطن؟
مَنْ هنا، مَن هناك ـ ـ
ماذا تبقى من هدأة الروح.
لـِمَ التَفكيرُ بهذا كلّه،
لماذا رَجْع الصدى؟
أن تَبدأ الآنَ ـ ـ
لِمَ الخوفُ من الخاتمة.
***
* من سركون إلى مؤيد
متى يا ابن الأوادم؟ هل حان الوقت أم لا... أَسمع ماذا يقول بودلير: "أي مكان آخر سوى هذا ".
مؤيد، أشعر وكأن قرناً من الزمن مرّ، ساحباًً خيوله العرجاء على طرقات أيامنا تاركاً في ترابها أحشاءها الزرقاء مثل عناقيد من كرمة إله فاسد، سكران... رحلة لم تكن في عشوائية تعاريجها أكثر من تخطيطات أعمى. رحلة، من وجهة نظري، من فرط توغّلها في أحراش عوالم مجهولة لا قدرة لي على وصفها، تبدو شفافة، ضبابية مثل أطياف حائرة تهيم في مرآة. والآن. ويا لها من منقذة، تلك الآن! كلما ذكرتها، أردتها أن تكون معبودتي الأولى، تكرّ بعدها أسماء الآلهة الأخرى الجديرة بالتمجيد، مثل مسبحة في يد عابد صعقته لفحة برق. أنا، الآن، في تلك الحالة، ذلك الوضع، لا أنظر الى الوراء لأرى أية آثار تركتها في رمال الصحراء خلفي، ولا الى الأمام لأستشرف ما سيأتي من علامات. أطوف من محطة مهجورة في ذاكرتي إلى ميناء أبحرت منه آخر السفن... لكننا جئنا على تفاصيل هذه المواضيع الشيقة، كما تدري، في أحاديثنا بالتلفون، بحماسة وتفكّ-ه أكثر ليت أحدهم كان سجّل بعضها لتكون كتاب ألمعيّـتنا وفوضانا أكثر من أي كتاب قد نريد به تدمير نظام الكتابة - أو تشييده - في مستقبل ما، هذا إذا ما كان هناك "مستقبل" يمكنني أن آمل فيه، ما زلنا قادرين فيه على الإتيان بأشياء حقيقية.
بهذا التذبذب بين الأمل واليأس، كعقربي ساعة نسيها الزمن، أجد نفسي في هذه الأيام. أجد نفسي على مدخل كهف خرجت منه أخيراً، بعد أكثر من ستة أشهر، الى العالم الأليف. بدأت أسترجع العادات المزمنة التي هي مخدّرنا اليومي الذي يقينا، بشكل ما، من وحوش العالم الباطن التي تنتظر فجوة، أو شقّاً في جدار حصاناتنا، لتكتسح. هذا أخطر ما في الأمر: أن نكتشف أن الجسد، جسدنا الموثوق به هذا، قد يخوننا بطريقة ما، لا ندري متى أو كيف. أي شىْ يمكنه أن يتكفل بذلك. ومن هناك، كما اكتشفت، قد تؤدي الطريق الى أية أحراش، أية غابة. أو الى الجحيم، كما اكتشف دانتي، في بدء "الكوميديا الإلهية". ولا شكّ عندي أن الجحيم، والمطهر، والجنة موجودة كلها في كل واحد منّا - كل ما هناك أن عليك أن تجد المفتاح، وأن تديره، أو تترك لتلك اليد الخفية أن تديره، لتدخل بلا بطاقة، ولا رخصة من الكهنة والأئمّـة.
في تلك الليالي الطويلة، القاحلة، حيث النوم من أندر ما يكون، كان همّي أن أجد شيئاً أقرأه، شيئاً جديراً بالقراءة، ورغم أن مكتبتي تحتوي على كتب يمكنك أن تقول أنها عصارة الفكر الإنساني، وقلب الأدب، وجدت نفسي أقلب الصفحات ولا اكاد أتجاوز تلك الفعالية المحزنة: تقليب صفحات! كنت أبحث عن كتابة تجبرني على الوقوف. تفتح لي باباً مغرياً بالدخول. والحق أنني لم أكن اعرف تماماً عن أي شىْ أبحث بالضبط. لكنه كان وثوقي بقوة الكتابة وقدرتها على اختراق الحاضر، على إعلاء الواقع الى مستوى السحر. من القديس أوغسطين الى رابليه، من الإغريق الى الصينيين، من شكسبير الى بيكيت...تقليب صفحات؟ يا لبؤسي. هذه هي الطامة، فالقراءة بالنسبة الي تكاد تضاهي فعل العبادة. وكان خوفي أن يكون هذا الجيش الصغير، العظيم الذي لا يحارب سوى بقلم ودفتر، ولا يحتاج الى خيول ولا دبابات، قد فقد قدرته على امتلاك ولائي المطلق...
مع استثناء بضعة شعراء: فاييخو، أودن، مونتالي، تيد هيوز، بيسوا...أعمالهم، عندي، مقدسة. أفتح كتاباً كيفما اتفق لأي واحد منهم، فإذا العالم يستيقظ من نومة أهل الكهف، ويبدأ بأن يحيا. في أشدّ الساعات ظلاماً، ألجأ الى دائرة حضورهم المليئة بالأشعاع. أصواتهم - التي تركوا لنا فيها أسرار الوجود الأبدية، هذا إذا عرفت كيف تقرأهم - تنبع رأساً من قلب العالم. وبين حين وآخر أترجم قصيدة لهم، مأخوذاً بفكرة أن أتبلّـل برذاذ فيوضهم إذ تنبجس في الصيغة التي سأختارها لهم بالعربية. لديّ مئات القصائد من أفضالهم. أكاد أنتهي من مختارات ضخمة لأودن وهيوز خصوصاً. آخر ما شدّني من بيسوا قصيدة صغيرة لا حدّ لفتنتها، أريدك أن تستمتع بها أيضاً:
صليب؟ على باب دكان التبغ؟
صليب؟ على باب دكان التبغ؟
من ذا الذي مات؟ أيكونُ "ألفيز" يا تُرى؟
في هذا الصباح، اللعنة على معنويّاتي العالية.
منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
من تُراهُ كان؟ حسناً، هو الذي كنتُ أراه.
كنتُ أراهُ في كلّ يوم. والآن، ها أنا
فقدتُ منبعَ رتابتي اليوميّة ذاك.
منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
كان يملك دكانَ التبغ. لقد كان
بمثابة مرجع للأنا التي هي أنا.
عبر دكانه كنتُ أمرّ، في الليل والنهار.
منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
على الأقلّ، كان يلاحظه المارّة.
ركيزةً ما، كان. أمّا أنا، فجوّالٌ من مكان
الى آخر. إن أمُت، لن يفتقدني أحد. لا أحد
سيقول: منذ الأمس، تغيّرت المدينة.
اكتب، خونا بريخا، ماذا بقي غير الكتابة؟ بها وحدها يمكن أن نغيّر المدينة. محبة. والى رسالة قادمة.
سركون
* ملاحظات
ـ مع الأسف سقط التاريخ الدقيق في الرسالتين لدى نقلهما ألى ملفي الخاص للحفظ، ولكنهما على الأرجح في نهاية العام 2003 أو بداية العام 2004
2 ـ "مودستو" مدينة صغيرة قي مقاطعة كاليفورنبا تضم أعدادا كبيرة من الآشوريين المهاجرين من العراق، وكان هؤلاء مع أعداد كبيرة من المسيحيين بدأوا الهجرة إلى أمريكا وأستراليا وغيرها من البلدان منذ أعوام الستينيات بسبب التمييز والقمع الديني. وتضم مندستو جالية كبيرة من مدينة كركوك والمناطق الشمالية من العراق.
3 ـ تختتم رسالة سركون بعبارة " خونا بريخا" الآشورية التي تعني الأخ العزيز أو الأخ المبارك.
4 ـ ايلكا رفيقة عمر سركون. ألمانية المولد هاجرت الى استراليا ثم الى امريكا، وتعرفت على سركون لتعيش معه حتى وفاته.
5 ـ " غوبينر شتراسه" اسم الشارع الذي تقع فيه شقة الراوي قبالة بارك "إيكومنيوس" وقد اعتاد سركون أن يقضي فيها فترات طويلة كل عام تقريباً، وكان يتجول في البارك في وقت متأخر من الليل وفق نصيحة الأطباء ليعينه المشي لتشيط الدورة الدموية بعد عملية اجريت له في القلب قبل سنوات.
.